إدوارد سعيد.. رسالة غير منشورة إلى المثقفين الأميركيين اليهود [3/3]

(1-3)


كان المفكر والأكاديمي الفلسطيني الراحل، إدوارد سعيد، مثقفا مشتبكا. وقد تواجد في الغرب، وفي الولايات المتحدة بشكل أساسي، في فترة هيمن فيها السردان؛ الاستشراقي والصهيوني، على المشهد الفكري الغربي.

كان المثقفون المستشرقون الأميركيون، واليهود الصهاينة وأنصارهم من اليمين المسيحي الصهيوني، يحتكرون المنابر الإعلامية ومنصات الخطاب، ولا يفسحون أي مساحة لسرد بديل.

كما أسهمت المنظمات الصهيونية الكثيرة، باستخدام الأموال بسخاء، في كسب النفوذ على القرار السياسي الأميركي الرسمي، من خلال الإنفاق على الحملات الانتخابية لأعضاء مجلسي الكونغرس.

مع ذلك، تمكن إدوارد سعيد، من بين آخرين من ذوي الفكر المشابه، من فرض صوته باستخدام تميزه الأكاديمي وقوة حجته وعلو صوته كناقد أدبي وثقافي متعدد الاهتمامات.

وقدم أطروحات سارت في عكس الاتجاه السائد عن الشرق عموما وعن السرد الفلسطيني بشكل خاص. وكان عليه أن يفتح طريقا يديرها الصهاينة بالكامل، مليئة بالعوائق والألغام.

وبذلك، أسهم في التأسيس لخطاب بديل منافس ومزود بأدوات الدعم التاريخي والمنطقي واستدعاء الحقائق.

في هذه الرسالة، التي ظلت غير منشورة منذ كتبها سعيد في العام 1989 إلى أن نشرتها مجلة "تيارات يهودية"، التي تصدر في الولايات المتحدة، في أيلول من هذا العام، يدعو سعيد نظراءه اليهود إلى اتخاذ موقف ضد انتهاكات إسرائيل لحقوق الفلسطينيين.

وكان سعيد قد كتب هذه الرسالة المفتوحة لينشرها. لكن محيطين به أشاروا عليه بأن صيغتها أكثر حدة من أن يمكن نشرها، لأنه سيفتح عليه أبواب الجحيم.


وننشر ترجمة رسالة سعيد، التي نُشرت لأول مرة، في أربع حلقات.




بقلم: إدوارد سعيد


كثيرا ما سمعت‏‏ الحاخام آرثر هيرتزبرغ يقول، إن قضية إسرائيل بالنسبة لليهود الأميركيين هي نوع من دين علماني.

وليؤكد ذلك يوثق صحافي‏‏ "نيويورك تايمز"،‏‏ توماس فريدمان، الذي نشأ في مينيابوليس، في كتابه الأخير عن فترات عمله مراسلا صحافيا في بيروت والقدس، جوانب من الأهمية الاستثنائية التي احتلتها إسرائيل ما بعد العام 1967 في التكوين الفكري والثقافي للشباب اليهود من جيله: الفخر، والتماهي الفكري والثقافي مع إسرائيل كدولة قوية، والاهتمام المتجدد باللغة العبرية والماضي اليهودي.

ومع ذلك، منذ بداية الانتفاضة الفلسطينية‏، حدث تغيير في وضع إسرائيل بين اليهود الأميركيين: بالنسبة للعدد القليل من الفلسطينيين في الولايات المتحدة كان هذا التغيير واضحا تماما، على سبيل المثال، في التصوُّر الجديد المشوش لصعوبات إسرائيل التي لم تُحل في الأراضي المحتلة، والمعاملة التي يتلقاها الفلسطينيون من العسكريين والمستوطنين، والمفهوم الكامل لوجود دولة يهودية ديمقراطية في بيئة عربية وإسلامية غير مضيافة.

بطبيعة الحال، تعني مخاطبة المثقفين اليهود الأميركيين كمجموعة افتراض أن ثمة عددا كبيرا من الأفراد هم أكثر تجانسا وتماسكا مما هم عليه في الواقع.

موقف المماطلة الذي يتخذه أناس يريدون أن يتغير الوضع الراهن المروع بأقل قدر ممكن. ومع ذلك، أعتقد أنني محق في اعتقادي بأنه بالنسبة لليهود الأميركيين الأفراد، وكذلك مختلف المعسكرات التي ينقسمون إليها، فإن ‏‏حقيقة‏‏ إسرائيل في أواخر العام 1989 أصبحت ثيمة قوية وشاغلا مشتركا؛ وهو ما يسمح لي بمخاطبتكم بشكل جماعي في وقت تخوض فيه إسرائيل، باسم الشعب اليهودي، معركة مع الشعب الفلسطيني؛ وصراعا لدي قناعة بأنه يمكنكم بالتأكيد التأثير فيه، إن لم يكن إنهاؤه.

لم يحدث في أي وقت من الأوقات في الصراع المستمر منذ قرن بين الفلسطينيين واليهود أن كان الصراع على الأرض، والحقوق الوطنية والمصير السياسي، أكثر حدة أو جدية مما هي الآن.

بالنسبة للفلسطينيين - على الرغم من أنني لا أملك تفويضا للتحدث باسم أحد سوى نفسي، وسأحاول التعبير عن مشاعري ومشاعر العديد من الفلسطينيين الذين أعرفهم شخصيا - كانت هذه الفترة هي الأكثر أهمية في تاريخنا بعد الحرب.

كانت هناك المقاومة غير المميتة بشكل عام، والمبدئية، ضد الاحتلال؛ وكانت هناك التغيرات الزلزالية العديدة التي طرأت على الجسم الاجتماعي الفلسطيني منذ بدء الانتفاضة: التحسن الكبير في وضع المرأة، والقدر الأكبر من التماسك والرؤية السياسية؛ والزيادة الهائلة في منسوب احترام الذات التي صاحبت طرد الخوف، والتعبئة الملهمة للموارد الفلسطينية لمساعدة الانتفاضة، في وقت كاد فيه "الأصدقاء" (العرب، على رأسهم) والأعداء يعتادون اللامبالاة في التعامل مع قضية فلسطين؛ وقبل كل شيء، كان ذلك التنازل التاريخي الذي تم التوصل إليه في اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر العاصمة في منتصف تشرين الثاني.

في ذلك الاجتماع، تم رسم الأرضية السياسية لما تحقق بشكل أكثر وضوحا بعد ذلك - الاعتراف بإسرائيل، وتقسيم فلسطين الانتدابية إلى دولتين، وقبول قراري الأمم المتحدة 242 و338،‏ ونبذ الإرهاب، في مسعى رسمي إلى إنهاء الصراع عن طريق التفاوض السياسي، وليس عن طريق العنف.

يمكن تقديم بعض هذه الأشياء بطريقة ملموسة أكثر وشرح معناها الحاسم وبالغ الصعوبة بالنسبة للعديد من الفلسطينيين وإعطاؤها محتوى أكثر إنسانية، إذا قمتُ بترجمتها إلى مادة تجربتي الخاصة.

مثل معظم أبناء المجتمع المنفي، لستُ من الضفة الغربية أو غزة. لقد ولدت في القدس الغربية في منزل عائلي تحتله الآن عائلة يهودية أوروبية (أو عائلات)؛ ولدَت أمي في الناصرة وترعرعَت هناك وفي صفد، اللتين أصبحتا بلدات إسرائيلية منذ العام 1948.

وقد عشت حياة محظوظة للغاية، ولكن، حرفياً، كان كل فرد من أفراد عائلتي، من جهة الأم والأب، لاجئا متأثرا بشكل سلبي - وفي العديد من الحالات كارثي - بفقدان الممتلكات والمواطنة والحقوق السياسية، الذي صاحب تدمير المجتمع الفلسطيني في العام 1948؛ وفقَد أحد أفراد عائلتي الكبيرة حياته بطريقة عنيفة بسبب الصراع.

وأن يكون المجلس الوطني الفلسطيني، الذي كنت عضواً فيه، وياسر عرفات‏ قد استطاعا أن يقبلا معاً ورسمياً بدولة، ليس في أقل من 25% من فلسطين السابقة فحسب، ولكن أيضاً في ذلك الجزء من الأرض على وجه التحديد الذي ‏‏ليس‏‏ منطقتنا الأصلية، هو بالتالي تضحية كبيرة بأبعاد هائلة.

عندما يتحدث اليهود عن إسرائيل كمكان يعودون فيه إلى الوطن، فإنكم تسمحون بأن يكون لكلمتهم "الوطن" وقع على الآذان الفلسطينية يشبه الموت.

لا أقلل من شأن ما هو بالنسبة لليهود مشكلة قديمة العهد من التغريب والاضطهاد والمنفى، ولكن يجب عليكم أيضا أن تفهموا الفورية الجارحة بالنسبة لنا عندما نشاهد ‏‏وطننا‏‏، وهو يتحول - حرفيا - إلى وطن أحد آخر، وبلده، حتى بينما يستمر عدد القتلى الفلسطينيين - الذين يُقتلون بالرصاص والضرب والاختناق - على يد إسرائيل على مدى العقود الخمسة الماضية في الازدياد، بحيث أصبح الآن بالآلاف التي لا تعد ولا تحصى.

خلال الانتفاضة وحدها، تخطت الحصيلة حاجز الـ600 شخص. وهكذا، فإن ما تقرر في اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر العاصمة لا يقل كثيرا عن بتر الذات الوطنية، الذي يجري فعله بوعي، وكما أود أن أصر بشجاعة لصالح السلام وقدر صغير من العدالة لأمة محرومة، مهضومة الحق كثيرا وتعاني.

لقد عرف الفلسطينيون من جيلي فلسطين كبلد ذي أغلبية عربية، ولو أنه بلد يسيطر عليه البريطانيون، وبالنسبة لنا تسلل إليه واخترقه تدريجيا اليهود الأوروبيون، الذين بدا أنهم قادمون - على الرغم من كل احتجاجاتهم النظرية - إلى أرض عرفوها بشكل أساسي من خلال الدين والأيديولوجية. إن التمزق الكارثي المفاجئ الذي جلبه إعلان أرض ووطن كانا لنا ذات مرة ليكونا دولة إسرائيل اليهودية هو شيء لا يمكن تجاهله بازدراء، لأن حتميته أثرت على كل فلسطيني.

هذه حقائق، وهي تتطلب فهما لا يقل عن فهم ماضيكم الذي طالبتم به، أنتم كيهود، العالم. أنا لا أقول، إنه لا ينبغي تفسير الحقائق، بل أقول فقط، إنه لا ينبغي تفسيرها في تناقض مع روحها ومعناها الحقيقي.

ومع ذلك، لا أعتقد أن من المبالغة القول، إنه تم، مع استثناءات قليلة فقط، ربط الدعم اليهودي الأميركي لإسرائيل من العام 1948 فصاعداً، وخاصة بعد العام 1967، بشكل حتمي بتجريد الشعب الفلسطيني من إنسانيته، وتجاهله، وبعد منتصف السبعينيات، شيطنة الشعب الفلسطيني.

وفي هذه العملية المهمة للغاية، وبالنسبة لنا، بما أننا كنا هناك لنشاهدها وهي تحدث، الإقصائية بشكل مروع، لعب المثقفون اليهود الأميركيون دوراً حاسماً.

الحقيقة هي أن ما يهم هنا ليس تصفية الحسابات، ولا سرد قائمة بالتفاصيل. صحيح، كبداية، أننا كعرب ومسلمين وغير غربيين لم نتمكن قط من امتلاك وصول إلى الخطاب السياسي والثقافي لأوروبا أو أميركا، ولا نحن أتقناه تماما. ولكن، حتى مع ذلك، ما كان يجب أن نكون قد ظهرنا خلال فترة ما بعد العام 1948 فقط كـ"عرب" مجهولي الهوية والوجوه، وقتلة، وأعداء، خاضعين لسلسلة كاملة من التشويهات غير الجذابة والمتكررة آلياً وبلا توقف (اللاعقلانية، التعصب، كراهية البشر، والهمجية الصرفة).

ومع ذلك، ظهرنا كذلك، إذا لم تكن هذه كلمة قوية كثيرا لوصف الصورة الخالية تقريبا من الإنسانية التي اكتسبناها نتيجة لذلك. دائما كانت سماتنا السلبية هي التي أتاحت للمثقفين المدافعين عن إسرائيل وضعنا، حتى يؤكدوا بعد ذلك، ضدًا لليبرالية الإسرائيلية، والديمقراطية، والتنوير وما إلى ذلك.

ويجب أن أضيف بسرعة، إن تجريدنا من إنسانيتنا حدث كامتداد لمجموعة التدابير الهائلة سلفا التي اتخذتها إسرائيل لمحو معظم وجودنا من وطننا الأصلي. تم جعل مئات الآلاف من الفلسطينيين لاجئين؛ وتم تدمير أكثر من 400 قرية فلسطينية؛ ونفذت إسرائيل ضدنا حروبًا لا نهاية لها واتخذت إجراءات عسكرية ومدنية عقابية. وبحلول منتصف العام 1967، وُضعت فلسطين التاريخية بأكملها تحت الحكم الإسرائيلي.

من المؤكد أنكم ستكونون قد قرأتم أو سمعتم عن عمل المؤرخين الإسرائيليين التنقيحيين (موريس، سيغيف، فلابان، وآخرين) الذين تتوافق إعادة بنائهم لسرد ويلات العام 1948 وما بعده في الغالب مع شهادة الكلمات والأصوات الفلسطينية التي لم تُسمع أبدا في الولايات المتحدة.

لم تُسمع لأنه لم يتم نشرها أو ترويجها في وسائل الإعلام؛ حيث، كما أظهر العديد من النقاد بالتفصيل، قرر الخوف من اللوبي الإسرائيلي أو التعرض للقمع الصريح ألا يُعطى لنا، لقصتنا ومظالمنا، أي منفذ، وألا تتاح لها أي مساحة يعتد بها.

وليس تطابق هذا تماما مع عمى الرواد الصهاينة الذين جاؤوا إلى فلسطين وتجاهلوا، أو تغاضوا عن، وجود شعب آخر هناك سوى جزء من القصة.

بل إن هناك الجزء الآخر الأكثر قبحاً: الهجمات العلنية التي تُشن في هذا البلد على كل شيء يتعلق بالفلسطينيين، حتى مطالبتهم الحسابية بالاعتراف بوجودهم كبشر.

ويمكنني سرد العديد من الأسماء أكثر، على سبيل المثال؛ جوان بيترز‏‏، أو ليون أوريس‏ أو سينثيا أوزيك، أو نورمان بودهوريتس، أو عروض المحاكاة التهكمية العنصرية القبيحة التي تسخر من التاريخ الفلسطيني التي ظهرت في ‏‏منشورات "كومينتاري"، و"ميدستريم" و"النيو ريبابليك"، لكن الفكرة واضحة بما فيه الكفاية. ‏

بعد العام 1967، وإنما بشكل قاطع بعد حرب العام 1973، عندما أصبحت أميركا الدعامة الأساسية لإسرائيل، أصبح الاختزال الخطابي، والاستطرادي، والأيديولوجي، وكذلك إبطال التجربة الفلسطينية وتحويلها إلى بضعة كليشيهات مروعة أكثر أهمية من أي وقت مضى.

وذهبت مقادير ضخمة من المال والأسلحة إلى إسرائيل. وفي الأمم المتحدة، قامت الولايات المتحدة بإيقاف كل انتقاد عادل أو غير عادل لإسرائيل (ليس دائماً بنجاح).

وبلا استثناء تقريباً، تعلم السياسيون الأميركيون فن تجاهل الحقيقة - تلك الأشياء غير المريحة، مثل قصف مخيمات اللاجئين، أو ضرب المدمرة الأميركية "ليبرتي"، والسلوك القاسي الخارج على القانون الذي تمارسه القوات الإسرائيلية تجاه المدنيين الفلسطينيين العزل، وعمليات المصادرة، والرقابة، والاعتقالات الوقائية، والطرد، والتعذيب، وهدم المنازل، والقتل الذي لا ينتهي - وفي الوقت نفسه استرضاء اللوبي بالمزيد من المساعدات المالية، والمزيد من الثناء على إسرائيل، والمزيد من القلق بشأن ما هو "جيد لإسرائيل"، بغض النظر عن مدى السوء الذي ربما يشكله، ليس للفلسطينيين فحسب، وإنما للأميركيين أنفسهم أيضا.


*****

(2-3)

أصبحت قسوة القلب والعقل هي سمة الراهن. وما كان دائماً منحرفًا وغريبًا بطريقة مدهشة، حتى حول أكثر المبررات الفكرية صقلًا لسلوك إسرائيل هو أن مثل هذه المبررات قد تجاهلت، أو رفضت استشارة الأدلة الوفيرة المتاحة.

وهي شؤون وثقتها الصحافة الإسرائيلية - وإذا تحدثنا بشكل أكثر عمومية، الصحافة العالمية- عندما قام الجيش الإسرائيلي باختطاف طائرة سورية في كانون الأول 1954 لغرض أخذ الرهائن، فقد تم ذلك علنًا، على رؤوس الأشهاد، وبلا خجل.

وعندما يتم تفجير المنازل، أو طرد الأطباء، أو الكهنة، أو رؤساء الجامعات، كما حدث على أساس يومي منذ العام 1967، أو حظر مئات الكتب، فإنه يتم نشر هذه الحقائق في المجلات الرسمية الإسرائيلية، ناهيك عن الصحافة اليومية الإسرائيلية.

لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن للمثقفين الأميركيين التغاضي عن الأدلة الخام والعارية لمجرد أن “أمن” إسرائيل يتطلب ذلك. لكن يتم القفز عنها أو إخفاؤها، بغض النظر عن مدى قسوتها الطاغية، وبغض النظر عن مدى لاإنسانيتها وهمجيتها، وبغض النظر عن مدى علو صوت إسرائيل في الإعلان عما تفعله.

قصف مستشفى؛ استخدام النابالم ضد المدنيين؛ مطالبة الرجال والفتيان الفلسطينيين بالزحف أو كسر أذرع وأرجل الأطفال؛ حبس الناس في معسكرات الاعتقال الصحراوية من دون مساحة كافية أو صرف صحي أو مياه أو تهمة قانونية؛ استخدام الغاز المسيل للدموع في المدارس..كل هذه أعمال مروعة، سواء أكانت جزءًا من حرب على “الإرهاب” أو على أساس أنها متطلبات أمنية.

إن عدم ملاحظتها، وعدم تذكرها، وعدم القول “انتظروا لحظة: هل يمكن أن تكون مثل هذه الأعمال ‏‏ضرورية‏‏ من أجل الشعب اليهودي؟” هي أمور لا يمكن تفسيرها، لكنها تعني أيضًا أن يكون المرء متواطئًا في هذه الأعمال.

إن الصمت المفروض ذاتيًا الذي يمارسه مثقفون يمتلكون، في حالات أخرى وعندما يخص بلدانًا أخرى، ملكات نقدية فائقة الجودة، هو شيء مذهل.

ومع ذلك، لا يزال المرء -وأقول “لا يزال” ببعض من عدم التصديق- يسمع تبريرات تبرئ الممارسات الإسرائيلية، وتستخدم عبارات مثل “ضعف إسرائيل الخاص أمام الإرهاب ضد المدنيين”، أو “إسرائيل ديمقراطية محاطة بأعداء توليتاريين عازمين على تدميرها”.

أفترض أن هذه الأفكار المنذرة بنهاية العالم تكمن على الأقل خلف بعض هذا الصمت.

ولكن هنا، كما يبدو، قد يؤدي بعض الاهتمام الصغير بالحقيقة، والواقع، والتاريخ والعقلانية إلى تبديد مثل هذه الأفكار باعتبارها قريبة جدًا من الغرائبية والتنافر.

لقد قبلَت كل دولة عربية ذات شأن بقرار الأمم المتحدة رقم 242 لأكثر من عقدين من الزمن؛ وعلى مدى عقد على الأقل، وحتى وقت قريب مع بعض التخبط والغموض الذي يمكن فهمه إنسانيًا، كان الموقف الفلسطيني هو تقسيم الأرض إلى دولتين.

أين هي في الواقع الأدلة المزعومة على أن “الدول العربية تعهدت بتدمير إسرائيل”؟ إن هذا غير موجود فحسب، ولكن حتى لو كان موجودًا، أليس هناك تناسب أو تماثل بين هذه التعهدات من جهة، والقمع العنيد والمنهجي المستمر على مدى أربعة عقود ضد هؤلاء الناس الذين جردتهم إسرائيل من ممتلكاتهم وشردتهم في المقام الأول من جهة أخرى؟

أما بالنسبة لـ”الإرهاب”، حصان طروادة الأيديولوجي الأخرق ذاك، فعلينا أخيرًا أن نفتح أعيننا على الضرر الهائل الذي تم إلحاقه باسم محاربته. والجثث حاضرة هناك ليتم إحصاؤها -آلاف الفلسطينيين، إضافة إلى مذابح العام 1948، وغزو العام 1982، ومحاولة التجويع الجارية اليوم لمدن ومخيمات بأكملها في غزة والضفة الغربية، مقابل الحفنة نسبيًا من القتلى الإسرائيليين، وكلها نتائج لممارسات صادمة ومدانة -لكنها لا تُعامل على أنها كذلك أبدًا بحيث يتوجب علينا أن نفترض أن موتنا ومعاناتنا كفلسطينيين تُعد أقل بـ100 مرة من وفيات ومعاناة الناس “الحقيقيين” مثل الإسرائيليين. ‏

وليس هذا كل شيء. عندما تمر الحقائق إلى العلن حقًا في حالات قليلة نسبيًا، تظهر محاولات القمع (من يستطيع أن ينسى نصيحة هنري كيسنجر للقادة اليهود الأميركيين بحظر الصحافة، على غرار ما فعلت جنوب إفريقيا، أو إلغاء جوزيف باب عروضًا لفرقة مسرحية فلسطينية)؟

وتُشن هجمات مضادة متطورة وقاسية مثل هراوة. بعد حصار بيروت في العام 1982 أرسلت "لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية" (“آيباك”) محاضرين في جميع أنحاء البلاد لإثبات أن وسائل الإعلام كانت معادية للسامية.

وعندما يتم التلميح إلى عمل نعوم تشومسكي، فإنه، الشخص، وليس ‏‏ما‏‏ يقوله، يتعرض للهجوم بلا رحمة على الرغم من جبال الأدلة التي يسوقها؛ وينتظر المصير البائس نفسه أي منتقد لأفعال إسرائيل الآثمة. يُتهم المرء بالستالينية، أو بأنه عميل لمنظمة التحرير الفلسطينية، أو حتى بأنه “محبٌّ للعرب”، وهي نعوت يمكن تحملها لو أنه تم في الوقت نفسه تحليل الأدلة والحقائق والأرقام ومناقشتها ودحضها. في معظم الأحيان لا يتم حتى ذكر هذه الأشياء، وتكون طريقة الهجوم الشخصي فائقة الشراسة. ما عليك سوى تشويه سمعة الشخص؛ انزع المصداقية عن شخصيته/ شخصيتها أو تاريخهم، ودائمًا تجنَّب أي مناقشة للتفاصيل الفوضوية

لا أستطيع أن أعرف من المسؤول عن هذا الوضع، لكنه بالتأكيد لم يكن يمكن أن يحدث من دون بعض الحسابات من جانب اللوبي الإسرائيلي (الذي أنفق في العام 1988 وحده أكثر من 3.8 مليون دولار على حملات الكونغرس، أكثر من أي قضية أخرى مفردة أخرى تعالجها “لجان العمل السياسي”)، وأن يتعاون المثقفون الصاخبون عادة أو أن يلتزموا الصمت.

ومع مرور الوقت، تأثر المثقفون غير اليهود أيضًا، وبدأت ‏‏كل‏‏ الخطابات حول الشرق الأوسط تتوافق مع هذه الأنماط المطيعة الخانعة، التي لم يكن تأثيرها واضحًا بشكل أكثر مقتًا من اللغة المشتركة للسياسات الرئاسية، والكونغرسية، وحتى البلدية.

لكنني يجب أن أشير باحترام وإعجاب إلى أنه بسبب الحرب اللبنانية ‏[18]‏ والانتفاضة، بدأ عدد قليل من المثقفين اليهود الأميركيين برفع أصواتهم. ولكن حتى في هذه الحالات، أثرت عادات جيل على ما قالوه واحتوته.

قال العديد من المعارضين الآن إنه يجري إفساد روح إسرائيل ومثاليتها الأخلاقية، بحيث يسدلون بذلك الستار على ما حدث قبل الأعوام 1987، أو 1982، أو 1967.

ثم مع استمرار الخطاب الأرثوذكسي “البديل” في المضي قدمًا على استحياء، بدأ يركز على الفلسطينيين بشكل أساسي باعتبارهم “مشكلة ديموغرافية”، كأي فكرة غير جذابة ظهرت من خطاب معاداة السامية الكلاسيكية.

ثم عندما أصبحت الشجاعة والحماس عاليين حقًا، نصح بعض المثقفين اليهود الأميركيين ذوي النوايا الحسنة الفلسطينيين بتغيير “الميثاق” ‏ وبعدم ترديد أغانيهم الوطنية أو المطالبة بحق العودة -بعبارة أخرى، الاستمرار في تقديم تنازلات من جانب واحد بينما سيبدأ هؤلاء المثقفون أنفسهم مرة أخرى في الاستعداد لبدء عمل محاولة (ربما) إقناع إسرائيل بقبول -ليس واقع الوجود الفلسطيني بقدر ما هو بإمكانية أنه إذا تم التخلي عن الانتفاضة في ذلك الوقت، فربما، وفقط ربما، تبتسم إسرائيل أو تنظر بشكل إيجابي إلى السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة، الذين كانت جريمتهم الرئيسية هي وجودهم نفسه. ‏

‏قال عدد قليل جدًا من المثقفين اليهود الأميركيين بصوت عال وواضح إنه بينما اعتدلت المواقف السياسية الفلسطينية السائدة أصبحت المواقف الإسرائيلية أكثر لاعقلانية، أكثر تطرفًا وأكثر نعنتًا.

وتم تأكيد الخلافات بين حزبي “العمل” و”الليكود”، نعم، ولكن مع غياب مدهش للنزاهة بحيث لم تتم الإشارة إلى أن حزب العمل هو الذي بدأ المستوطنات، وأن حزب العمل تعاون بشكل كامل مع حملة “سلامة الجليل”‏ وشارك في المحاولات العنيفة لهزيمة الانتفاضة، وأن حزب العمل أنكر بطريقة لا تتزعزع الحقوق الفلسطينية في “البحث عن السلام” المزعوم، مثله مثل "الليكود".

وكلما لُبيت المطالب الإسرائيلية ظهرت فجأة ثلاثة أو أربعة مطالب جديدة أخرى. كانت المساهمة الرئيسية لحقبة ريغان-شولتز ‏هي أنها غرست في جميع مؤيدي إسرائيل الانضباط المتمثل في “عدم الضغط” على إسرائيل.

في اليوم نفسه في أواخر العام 1987 الذي لام فيه رونالد ريغان إسرائيل بلطف على إطلاقها النار على الأطفال الفلسطينيين العزل ‏ تم تخصيص 280 مليون دولار إضافية لحليفتنا الاستراتيجية.

كم من المساعدات الإضافية (التي تبلغ الآن أكثر من ثلاثة مليارات سنويا)، وكم من الاعتذارات المتذللة الإضافية، وكم من الأرواح الفلسطينية الإضافية ستكون ضرورية “كتدابير لبناء الثقة” (باستخدام المصطلحات البغيضة للمتخصصين في حل النزاعات) حتى يمكن أن تتطلف إسرائيل ومؤيدوها أخيرًا بإحصاء الأضرار؟

لاحظوا مرة أخرى أنه عندما يبدأ أي نقاش عن إسرائيل (على سبيل المثال في مؤتمر تيكون‏‏‏‏) فإنه يستند إلى فرضية أن الفلسطينيين ليسوا -ولم يكونوا أبدًا- القضية المطروحة.

اليهود وحدهم كذلك. ويتم الاستشهاد بالمصادر الفلسطينية بشكل أساسي لإظهار كم هم الفلسطينيون متناقضون، غامضون، ولا يعتمد عليهم، وكم هي ضئيلة إمكانية الثقة بهم.

إنني لم أصادف بعد انتباهًا جادًا إلى الكم الهائل من الأدلة والشهادات التي جمعها بجهود مضنية قانونيون، وباحثون، وشعراء، وروائيون ومخرجون فلسطينيون. وكل هذه المواد سابقة على مختلف التقارير الدولية لحقوق الإنسان، وتقارير الأطباء، والمحامين، والصحفيين التي أغرقت العالم خارج الولايات المتحدة منذ ذلك الحين، من دون أي تأثير يُذكر على الممارسات الإسرائيلية.

ضعوا مجموعتي الشهادات جنبًا إلى جنب وستكون لديكم صورة مركبة لشعب حقيقي من لحم ودم يعاني من متاعب حقيقية؛ صورة من شأنها، على ما أعتقد، أن تشوش الاختزالات الكاريكاتورية التي تستند إليها العديد من اجتراراتكم وتأملاتكم حول إسرائيل.

عندما لا يرضيكم فيلم مثل “أيام الغضب” ، يمكنكم منع عرضه، ويمكنكم أن تجعلوا الكثير من المحطات تحاصر الفيلم بمواد مؤيدة لإسرائيل، ويمكنكم إقامة أي حدث أو ندوة.

كل هذا للإبقاء على صورة الفلسطينيين كإرهابيين خُرقاء، وبالتالي الإبقاء على ممارسات تعذيبهم وقتلهم شيئاً مثل ضرب الذباب أو الدوس على الصراصير. كل هذا للسماح لإسرائيل بمواصلة قمعها باسم الشعب اليهودي.

قبل عهد ريغان، عندما لم تكن قد أصبحت عادة بعد ربط إسرائيل باستراتيجيات العالم الحر والدفاع عنه، برزت مناورة فكرية غير سارة بشكل خاص بين الليبراليين (اليهود وغير اليهود على حد سواء) الذين كانت قضايا حقوق الإنسان ومناهضة الحرب ومناهضة إلإمبريالية والنووية بالنسبة لهم حاضرة بشكل مبرر، لكنهم مع ذلك استثنوا، إما صراحة أو ضمنًا، ذكر إسرائيل.

وبطريقة ما، فإن المعايير التي تحكم انتقاد الأنظمة التي تسجن الناس ظلمًا، أو التي تميز ضد المواطنين لأسباب تتعلق بالعرق أو الدين، أو التي تسخر من القانون الدولي، أو التي تنخرط في أعمال القرصنة والعقاب الجماعي والرقابة، أو التي ترفض حتى الالتزام بالاتفاقيات المتعلقة بعدم الانتشار النووي، تم التغاضي عنها أو تم تعليق الحكم عليها في معظم الأحيان بالقدر الذي يتعلق بإسرائيل.

وبينما يتم إضفاء الروتينية على السياسات الإسرائيلية القاسية التي تخلو من أي ذرة من اللياقة أو التعاطف (كانت هذه هي الفترة التي واصل فيها مصطلح “الاحتلال الحميد” الإسرائيلي الظهور في المطبوعات) عندما يتعلق الأمر بالشعب الفلسطيني، كذلك كان المثقفون اليهود الأميركيون يقبلون، على سبيل العادة، هذه الانتهاكات باعتبار أنها مطلوبة من أجل الأمن الإسرائيلي.



***



* منصة الاستقلال الثقافية

_________

* نقلاً عن جريدة "الغد" الأردنية، والمقال بقلم: نوبار هوفسبيان، ونشر بالإنجليزية في 21 أيلول (سبتمبر) 2022.

* نوبار هوفسبيان، أستاذ العلوم السياسية في جامعة "تشابمان" في أورانج بكاليفورنيا، ويضع اللمسات الأخيرة على كتابه "إدوارد سعيد: سياسة مثقف مُعارض".




[HEADING=2] إدوارد سعيد.. رسالة غير منشورة إلى المثقفين الأميركيين اليهود (1-3) [/HEADING]

dipc.ps

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...