كان لي شرف التّعرّف على الشّاعرة الكبيرة عن قرب، حيث اعتادت حضور جلسات ندوة اليوم السّابع الثقافيّة الأسبوعيّة الدّوريّة، في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ – الحكواتي- سابقا، منذ بدايات النّدوة في آذار –مارس- 1991. مع التّأكيد على أنّني التقيتها أكثر من مرّة في سنوات سابقة، في أمسيّات شعريّة لها، وفي معارض للكتب، وصافحتها، لكنّ تلك اللقاءات لم تكن كافية للتّعارف.
وقد لمست أنا وزميلاتي وزملائي من روّاد النّدوة مدى إنسانيّة الشّاعرة ورقّتها، ومشاعرها المرهفة. وكان حضورها أمسيّات النّدوة لافتا، بحيث أنّ كثيرين من أبناء القدس كانوا يحضرون النّدوة؛ للتّعرّف على الشّاعرة الإنسانة، وسماعها وهي تلقي بعضا من قصائدها، أو تتحدّث أحاديث عاديّة.
كانت الشّاعرة فدوى طوقان تعشق القدس، وقد اعتادت أن تمضي ليلة الخميس بعد انتهاء النّدوة في بيت الشّاعر الرّاحل عبد القادر العزّة "أبو خلود" في بير نبالا بين القدس ورام الله، وقد سهرنا معها ليالي عديدة في بيت صديقنا الشّاعر الراحل "أبو خلود"، ومن وفاء شاعرتنا الكبيرة لأصدقائها أنّها كانت تواظب على زيارة "أبو خلود" في بيته عندما أصيب بمرض عضال، وكانت تبيت ليالي في بيته تواسيه وتستمع لأشعاره، وتسمعه من شعرها، وكان في ذلك تسلية له؛ لينسى المرض وما تصاحبه من آلام.
ذات أمسيّة معها وبحضور عدد من الأصدقاء تجرّأتُ وقلت لها:
كنت أظنّك شاعرة متكبّرة، واكتشفت أنّك إنسانة شعبيّة تحبّ النّاس.
فتنهّدت شاعرتنا وقالت بأسى: لا أحد يحبّ الاختلاط بالنّاس أكثر منّي، لكنّني أعاني من مشكلة، حيث أنّ الغالبيّة العظمى من أصدقائي ومن هم في جيلي إمّا اختطفهم الموت، أو أجبروا على مغادرة الوطن في حرب حزيران 1967م. وأنا مع الأسف لا أعرف الجيل الجديد، وأضافت بأنّها تتعمّد الجلوس في حديقة بلديّة نابلس؛ لتتعرّف على النّاس، لكنّ الشّباب يمرّون من أمامها ويتهامسون مشيرين إليها بأن هذه المرأة هي فدوى طوقان، لكنّ أيّا منهم لا يطرح التّحيّة عليّ، أو يحاول الاقتراب منّي! وتساءلت بأسى:
فهل أناديهم وأقول لهم: أنا فدوى طوقان التي تحبّكم يا أبناء شعبي، اقتربوا منّي كي أحادثكم وأتعرّف عليكم؟ وفي تلك الجلسة استذكرتْ بعض الشّعراء أمثال الشّهيد كمال ناصر والمرحوم عبد الرحيم عمر. كما تحدّثت عن لقاءاتها وذكرياتها مع شعراء عرب مثل: الرّاحلين صلاح عبد الصّبور وعبد المعطي حجازي.
حدّثتنا الشّاعرة الرّاحلة عن لقائها بزعيم الأمّة الرّئيس جمال عبد الناصر، وكيف استقبلها وتناول طعام الغداء الذي أعدّته زوجته معها، وحدّثها بأن الأمريكان عرضوا عليه استعادة سيناء مقابل انهاء حالة الحرب مع اسرائيل، فأجابهم أنّ معاناة الشّعب الفلسطينيّ من ويلات الاحتلال أكثر أهمّيّة عنده من رمال صحراء سيناء.
وحدّثتنا أيضا عندما اصطحبها الحاكم العسكريّ الاسرائيليّ لنابلس هي والمرحوم حمدي كنعان رئيس بلديّة نابلس للقاء وزير الدّفاع الاسرائيلي آنذاك موشيه ديّان، الذي عاتبها على قصائدها التي تدعو لمقاومة الاحتلال.
واكتشفنا في أمسيات ندوتنا التي كنّا نختتمها بالاستماع لبعض الأغاني والعزف على العود من الفنّان مصطفى الكرد، ومن آخرين أيضا، واكتشفنا أنّ شاعرتنا العظيمة تجيد العزف على العود، وتغنّي بعض الأغاني، لكنّها عزفت عن الموسيقى والغناء بعد حرب حزيران 1967م، فما عاد مكان للطّرب-حسب رأيها-، وتحت اصرارنا عزفت وغنّت أغنية " يا وابور قل لي رايح على فين" للفنّان الرّاحل محمّد عبد الوهّاب.
وذات أمسية جاء الشّاعر الرّاحل عبداللطيف عقل، وانحنى على يد الشّاعرة الكبيرة يقبّلها، ويعتذر عن سوء فهم أغضب الشّاعرة منه، فترقرت عيناها بالدّموع ولم تتكلّم سوى "الله يسامحك".
حدّثتنا مرّات ومرّات والحزن يغمرها عن علاقتها بشقيقها ابراهيم الذي كان يراجع قصائدها ويوجّهها، وحدّثتنا عن لقاءاتها مع الشّاعرين عبد الكريم الكرمي "أبو سلمى" وعن الشّاعر الشّهيد عبد الرّحيم محمود.
وحدّثتنا أيضا عن بدايات نشرها في مجلّة "الرّسالة" التي كان يرأس تحريرها الأديب عبد القادر المازني، وكانت توقّع قصائدها بـ "الحمامة المطوّقة" خوفا من القيود العائليّة التي كانت تفرض عليها، وعلى بنات جيلها في تلك الأيّام. وحدّثتنا عن سفرها إلى لندن حيث كان يدرس أحد أشقّائها؛ لتتعلّم اللغة الانجليزية.
حدّثتنا كيف جاءها الشّاعران محمود درويش وسميح القاسم بعد حرب حزيران عام 1967 مباشرة، وكيف استقبلتهما في بيتها في نابلس، وكيف أشادا بها وبأشعارها.
كانت الرّاحلة الكبيرة تعشق الأطفال، وتحتضنهم وتقبّلهم، وهذا ما كانت تفعله في أمسيات ندوة اليوم السّابع، مع ابني قيس ومع إيّاس ابن الأديب ابراهيم جوهر، ومع يارا خليل جلاجل وآخرين، حتّى بات هؤلاء الأطفال يعتبرونها صديقة لهم، ومن الطّريف أن نذكر هنا، أنّ ابني قيس المولود عام 1984م، وبينما كان تلميذا في الصّف الرّابع الابتدائيّ، في مدرسة جمعيّة جبل المكبّر التّابعة لمدارس رياض الأقصى في القدس، وكان مقرّرا في المنهاج الأردنيّ المعدّل، الذي كان معمولا به يومئذ قصيدة للشّاعرة فدوى طوقان، ومكتوب في آخر القصيدة أنّ فدوى طوقان شاعرة أردنيّة ولدت في مدينة نابلس، فاعتبر قيس ذلك خطأ، وقال للمعلّمة أنّ فدوى طوقان شاعرة فلسطينيّة، وأنها صديقته، فضحكت المعلّمة من كلامه، واعتبرته خيال أطفال! غير أنّ قيس عاد في الفرصة الصّباحيّة إلى بيتنا القريب من المدرسة، وأخذ صورة لفدوى طوقان وهي تحتضنه، وقدّمها لمعلمته كبرهان على معرفته وصداقته للشّاعرة الكبيرة! وكانت المفاجأة أنّ المعلّمة نفسها لا تعرف صورة الشّاعرة الكبيرة! ولاحقا حدّثتني ضاحكة عن خيال قيس الواسع حيث يزعم أنّه يعرف الشّاعرة فدوى طوقان! ولمّا أكّدت لها صحّة ما قاله قيس، فغرت فاها مندهشة، وتساءلت باستغراب:
وهل فدوى طوقان تحتضن الأطفال وتتصوّر معهم؟
لقد تعلّمنا الكثير من شاعرتنا الكبيرة، وقد أبدع الكاتب ابراهيم جوهر عندما كتب في حينه بأنّ من يعتقد أن نابلس تقوم على جبلين هما جرزيم وعيبال فهو مخطئ، فهناك جبل ثالث هو فدوى طوقان.
فلروح شاعرتنا التي توفّاها الله وتوفّيت في 12 كانون أوّل-ديسمبر 2003م
الرّحمة ولذكراها الخلود، وكما قال الشّاعر الكبير الرّاحل سميح القاسم بعد وفاة الشّاعر الكونيّ محمود درويش: "إذا كان الشّعراء يموتون، فإنّ الشّعر لا يموت" ويعني بذلك أنّ الشّعر يخلّد اسم شاعره.
وقد لمست أنا وزميلاتي وزملائي من روّاد النّدوة مدى إنسانيّة الشّاعرة ورقّتها، ومشاعرها المرهفة. وكان حضورها أمسيّات النّدوة لافتا، بحيث أنّ كثيرين من أبناء القدس كانوا يحضرون النّدوة؛ للتّعرّف على الشّاعرة الإنسانة، وسماعها وهي تلقي بعضا من قصائدها، أو تتحدّث أحاديث عاديّة.
كانت الشّاعرة فدوى طوقان تعشق القدس، وقد اعتادت أن تمضي ليلة الخميس بعد انتهاء النّدوة في بيت الشّاعر الرّاحل عبد القادر العزّة "أبو خلود" في بير نبالا بين القدس ورام الله، وقد سهرنا معها ليالي عديدة في بيت صديقنا الشّاعر الراحل "أبو خلود"، ومن وفاء شاعرتنا الكبيرة لأصدقائها أنّها كانت تواظب على زيارة "أبو خلود" في بيته عندما أصيب بمرض عضال، وكانت تبيت ليالي في بيته تواسيه وتستمع لأشعاره، وتسمعه من شعرها، وكان في ذلك تسلية له؛ لينسى المرض وما تصاحبه من آلام.
ذات أمسيّة معها وبحضور عدد من الأصدقاء تجرّأتُ وقلت لها:
كنت أظنّك شاعرة متكبّرة، واكتشفت أنّك إنسانة شعبيّة تحبّ النّاس.
فتنهّدت شاعرتنا وقالت بأسى: لا أحد يحبّ الاختلاط بالنّاس أكثر منّي، لكنّني أعاني من مشكلة، حيث أنّ الغالبيّة العظمى من أصدقائي ومن هم في جيلي إمّا اختطفهم الموت، أو أجبروا على مغادرة الوطن في حرب حزيران 1967م. وأنا مع الأسف لا أعرف الجيل الجديد، وأضافت بأنّها تتعمّد الجلوس في حديقة بلديّة نابلس؛ لتتعرّف على النّاس، لكنّ الشّباب يمرّون من أمامها ويتهامسون مشيرين إليها بأن هذه المرأة هي فدوى طوقان، لكنّ أيّا منهم لا يطرح التّحيّة عليّ، أو يحاول الاقتراب منّي! وتساءلت بأسى:
فهل أناديهم وأقول لهم: أنا فدوى طوقان التي تحبّكم يا أبناء شعبي، اقتربوا منّي كي أحادثكم وأتعرّف عليكم؟ وفي تلك الجلسة استذكرتْ بعض الشّعراء أمثال الشّهيد كمال ناصر والمرحوم عبد الرحيم عمر. كما تحدّثت عن لقاءاتها وذكرياتها مع شعراء عرب مثل: الرّاحلين صلاح عبد الصّبور وعبد المعطي حجازي.
حدّثتنا الشّاعرة الرّاحلة عن لقائها بزعيم الأمّة الرّئيس جمال عبد الناصر، وكيف استقبلها وتناول طعام الغداء الذي أعدّته زوجته معها، وحدّثها بأن الأمريكان عرضوا عليه استعادة سيناء مقابل انهاء حالة الحرب مع اسرائيل، فأجابهم أنّ معاناة الشّعب الفلسطينيّ من ويلات الاحتلال أكثر أهمّيّة عنده من رمال صحراء سيناء.
وحدّثتنا أيضا عندما اصطحبها الحاكم العسكريّ الاسرائيليّ لنابلس هي والمرحوم حمدي كنعان رئيس بلديّة نابلس للقاء وزير الدّفاع الاسرائيلي آنذاك موشيه ديّان، الذي عاتبها على قصائدها التي تدعو لمقاومة الاحتلال.
واكتشفنا في أمسيات ندوتنا التي كنّا نختتمها بالاستماع لبعض الأغاني والعزف على العود من الفنّان مصطفى الكرد، ومن آخرين أيضا، واكتشفنا أنّ شاعرتنا العظيمة تجيد العزف على العود، وتغنّي بعض الأغاني، لكنّها عزفت عن الموسيقى والغناء بعد حرب حزيران 1967م، فما عاد مكان للطّرب-حسب رأيها-، وتحت اصرارنا عزفت وغنّت أغنية " يا وابور قل لي رايح على فين" للفنّان الرّاحل محمّد عبد الوهّاب.
وذات أمسية جاء الشّاعر الرّاحل عبداللطيف عقل، وانحنى على يد الشّاعرة الكبيرة يقبّلها، ويعتذر عن سوء فهم أغضب الشّاعرة منه، فترقرت عيناها بالدّموع ولم تتكلّم سوى "الله يسامحك".
حدّثتنا مرّات ومرّات والحزن يغمرها عن علاقتها بشقيقها ابراهيم الذي كان يراجع قصائدها ويوجّهها، وحدّثتنا عن لقاءاتها مع الشّاعرين عبد الكريم الكرمي "أبو سلمى" وعن الشّاعر الشّهيد عبد الرّحيم محمود.
وحدّثتنا أيضا عن بدايات نشرها في مجلّة "الرّسالة" التي كان يرأس تحريرها الأديب عبد القادر المازني، وكانت توقّع قصائدها بـ "الحمامة المطوّقة" خوفا من القيود العائليّة التي كانت تفرض عليها، وعلى بنات جيلها في تلك الأيّام. وحدّثتنا عن سفرها إلى لندن حيث كان يدرس أحد أشقّائها؛ لتتعلّم اللغة الانجليزية.
حدّثتنا كيف جاءها الشّاعران محمود درويش وسميح القاسم بعد حرب حزيران عام 1967 مباشرة، وكيف استقبلتهما في بيتها في نابلس، وكيف أشادا بها وبأشعارها.
كانت الرّاحلة الكبيرة تعشق الأطفال، وتحتضنهم وتقبّلهم، وهذا ما كانت تفعله في أمسيات ندوة اليوم السّابع، مع ابني قيس ومع إيّاس ابن الأديب ابراهيم جوهر، ومع يارا خليل جلاجل وآخرين، حتّى بات هؤلاء الأطفال يعتبرونها صديقة لهم، ومن الطّريف أن نذكر هنا، أنّ ابني قيس المولود عام 1984م، وبينما كان تلميذا في الصّف الرّابع الابتدائيّ، في مدرسة جمعيّة جبل المكبّر التّابعة لمدارس رياض الأقصى في القدس، وكان مقرّرا في المنهاج الأردنيّ المعدّل، الذي كان معمولا به يومئذ قصيدة للشّاعرة فدوى طوقان، ومكتوب في آخر القصيدة أنّ فدوى طوقان شاعرة أردنيّة ولدت في مدينة نابلس، فاعتبر قيس ذلك خطأ، وقال للمعلّمة أنّ فدوى طوقان شاعرة فلسطينيّة، وأنها صديقته، فضحكت المعلّمة من كلامه، واعتبرته خيال أطفال! غير أنّ قيس عاد في الفرصة الصّباحيّة إلى بيتنا القريب من المدرسة، وأخذ صورة لفدوى طوقان وهي تحتضنه، وقدّمها لمعلمته كبرهان على معرفته وصداقته للشّاعرة الكبيرة! وكانت المفاجأة أنّ المعلّمة نفسها لا تعرف صورة الشّاعرة الكبيرة! ولاحقا حدّثتني ضاحكة عن خيال قيس الواسع حيث يزعم أنّه يعرف الشّاعرة فدوى طوقان! ولمّا أكّدت لها صحّة ما قاله قيس، فغرت فاها مندهشة، وتساءلت باستغراب:
وهل فدوى طوقان تحتضن الأطفال وتتصوّر معهم؟
لقد تعلّمنا الكثير من شاعرتنا الكبيرة، وقد أبدع الكاتب ابراهيم جوهر عندما كتب في حينه بأنّ من يعتقد أن نابلس تقوم على جبلين هما جرزيم وعيبال فهو مخطئ، فهناك جبل ثالث هو فدوى طوقان.
فلروح شاعرتنا التي توفّاها الله وتوفّيت في 12 كانون أوّل-ديسمبر 2003م
الرّحمة ولذكراها الخلود، وكما قال الشّاعر الكبير الرّاحل سميح القاسم بعد وفاة الشّاعر الكونيّ محمود درويش: "إذا كان الشّعراء يموتون، فإنّ الشّعر لا يموت" ويعني بذلك أنّ الشّعر يخلّد اسم شاعره.