رمي أحمد النكتة وسكت. كنا نعرفها بالطبع: مُدرِّسة دراسات تاه زوجها، فذهبت لتبحث عنه في الخريطة! لحظتها لم نضحك؛ لأننا كنا في الحصة الأخيرة التي هي حصة "دراسات"، ولأن الأبلة سناء ليس لها أثر في المدرسة طول النهار. سيتركوننا مع دوشتنا ولن يسأل فينا أحد. ومن كلمة إلي كلمة اكتشفنا أننا جميعا نفكر في النكتة بشكل جماعي متحفز. لعبتْ دماء النشوة في أدمغتنا كلنا، مع انفتاح العيون وجريان ريق المغامرة. توالت الصور وتدفقت: الأبلة سناء، بوجهها الأبيض وصدرها الطالع النازل، وجيبتها التي ازدادت قِصرا؛ تجري حافية منكوشة الشعر فوق تضاريس خشنة حادة الارتفاع والانحدار. تخترق غابات وأحراش أفريقيا وأمريكا الجنوبية. تمشي علي الماء مُتلفتة في الجهات الأربع. تنادي علي زوجها التائه ولا مجيب. تتبعنا خط سيرها جيدا، منكفئين برءوسنا علي خريطة العالم المبسوطة أمامنا علي السطح المعدني اللامع لعلبة الهندسة التي تخص أيمن. علبة كبيرة أرسلها له أبوه من الإمارات، وأسماء البلاد عليها واضحة جدا، بما في ذلك المحشورة جنب بعضها، وحتي تلك المنثورة في المحيطات. "هنا".. قال أيمن نفسه وهو يحضن بكفيه علبته الغالية. تأملنا المكان الذي أشار إليه. اسمه جُزُر سليمان، ويقع في الأعلي من أستراليا جهة الشرق. "لا لا" . قال أحدنا، فلا يمكن أن تصل الأبلة سناء إلي هناك، ستتعب جدا حتي تصل. كما أنه لا يمكن لزوجها أن يكون مُختبئا في مكان بعيد مثل هذا، حتي لو كان يبحث عن خاتم سليمان نفسه. أضاف آخر: "صح، وبالتأكيد لا يوجد سرير مريح في هذا المكان ليناما عليه"! هنا مدّ واحد يده وقال: "وجدتُها.. يُحبان بعضهما؛ إذا في هذا المكان.. "عِشق آباد". اقتربت العيون كلها من الموضع.. إنه هناك بالفعل فوق "أفغانستان" و"إيران" مباشرة. كانت أول مرة في حياتنا نسمع عن مكان بهذا الاسم. قرأنا الكلمتين، فوق خلفية صفراء مكتوب عليها بالأسود الثقيل: "تركمانستان". عِشق كلمة نعرفها، فما معني "آباد" هذه؟ رحنا نتوقع أن المعني لن يخرج عن "مكان العشق"، وهو ما رأيناه مكافأة منّا للأبلة سناء علي بحثها ودوختها في البلاد. خرج صوت مفاجئ: "لكنها تستأهل ما جري لها". رددنا في صوت واحد: "حرام عليك، لماذا"؟ ردّ بضحكة ملتوية: "لأنها حلوة، ولوحدها"! نال صاحبنا خبطات متتالية في جنبيه وكتفيه بمجرد أن نطق بكلماته، لكنه واصل بإصرار: "إنها غير متزوجة أساسا يا هُبل". نظرنا لبعضنا، متعجبين من كلام هذا العبيط. كان واثقا: "والله صحيح، سمعت ذلك من أمي نفسها وهي تتكلم مع جارتنا عن الأبلة البيضاء العسل، فعرفتُ أنهما تتكلمان عنها". شيء ما خبا في عيوننا، خبا في رؤوسنا وهدأ قليلا. سبحان الله.. كنا علي وشك تخيُّلها مع زوجها علي سرير من الحرير ومخدات الريش، كل ذلك في المدينة الجميلة ذات الاسم الرائع: عشق آباد. سكتنا كلنا بلا اتفاق.
كان يمكن أن نُنهي اللعبة عند هذا الحد المُحبط لكل توقع، لكنّ عفاريت خيالنا لم تقنع بذلك. نطّ سؤال مفاجئ أعاد دماء النشوة من جديد: "ماذا ستفعل لو أنك الذي مع الأبلة سناء في ذلك البلد البعيد"؟! أضاءت العيون بلمبات نيون، والوجوه صارت مدهونة بلمعة نادرة. عينان مفتوحتان علي اتساعهما تكلمتا عبر فم ذاهل: "سأكون كبيرا في مثل عمرها. لابد أن تلك المدينة تُساوي بين الأعمار ولا تسمح بغير ذلك. سأركب فرسا بيضاء وأجعلها تركب ورائي. لكن قبل أن أسمح لها بالركوب سأطلب منها أن تُريني كل شيء أولا، وبعد أن تُنفّذ سأجعلها تترجاني أكثر حتي تدمع. إنها جميلة جدا بالدموع. سأدور في المدينة كلها علي ظهر الفرس، وهي ورائي خائفة تُمسك بي". بدون أن ننطق، قالت عيوننا جميعا لذلك الولد: الله عليك. كلامه أوقدَ الدماء في رءوسنا. كنا بحاجة للمزيد والمزيد: "وأنا سأمشي معها في الشوارع. لا يمكن أن أتخيلها إلا كبيرة كما هي الآن. ستنظر لي وتشجعني علي المشي بسرعة كي لا نصل متأخرين. المدينة ستكون جميلة جدا في الليل، وهناك لافتة كبيرة مُضاءة بالأبيض المتوهج للترحيب بالأبلة سناء". لم نتحمس كثيرا لمثل هذا الكلام من صاحبنا قليل الكلام، واللابد في التختة دائما بلا أي حركة. نريد كلاما يجعلنا نجري ونحن في مكاننا. لهذا هززنا أيمن ليتكلم: "سأطلب من الأبلة سناء أن تصعد نخلة. بالتأكيد يوجد نخل هناك. وحين تصل للبلح الأحمر المتدلي؛ ستقطف وترمي لي. لكنني سأقذفها بالبلح مرة أخري كأنه طوب. سأرمي كل ما معي في اتجاهها، حتي ترمي نفسها من فوق النخلة، وأتلقاها بين ذراعيّ المفتوحتين". أما أحمد فقد صعد بنا للسماء: "عشق آباد مدينة ملآنة بالمراتب. مراتب في كل مكان: في الشوارع والقهاوي والفنادق وحتي في السيارات. راحة وعِز إلي ما لا نهاية. لن أترك مرتبة واحدة إلا وأنام عليها أنا وهي، حتي لو كانت مفروشة في السحاب". فجأة خرج صوت مبحوح: "نعم.. مراتب طائرة". الله الله. قال ثان وثالث. انضم لنا رفاق من الدكة الأمامية، وآخرون كانوا يسمعون في الخلف. الحكاية توسعت بما لم يكن في حسباننا. توالدت الكلمات والأفكار وراء بعضها. دخان الأبلة سناء كثيف ومتسارع، والحريق بلا رائحة. أخيرا الجرس القنبلة يُنهي كل شيء.
خارج الفصل، وبعد أن عبرنا الحوش والبوابة الكبيرة، لن يُفلح أيمن ولا أي واحد منا، في استعادة عُلبة الهندسة المخطوفة. الأنذال تناقلوها بينهم مثل كرة ذهبية.
كان يمكن أن نُنهي اللعبة عند هذا الحد المُحبط لكل توقع، لكنّ عفاريت خيالنا لم تقنع بذلك. نطّ سؤال مفاجئ أعاد دماء النشوة من جديد: "ماذا ستفعل لو أنك الذي مع الأبلة سناء في ذلك البلد البعيد"؟! أضاءت العيون بلمبات نيون، والوجوه صارت مدهونة بلمعة نادرة. عينان مفتوحتان علي اتساعهما تكلمتا عبر فم ذاهل: "سأكون كبيرا في مثل عمرها. لابد أن تلك المدينة تُساوي بين الأعمار ولا تسمح بغير ذلك. سأركب فرسا بيضاء وأجعلها تركب ورائي. لكن قبل أن أسمح لها بالركوب سأطلب منها أن تُريني كل شيء أولا، وبعد أن تُنفّذ سأجعلها تترجاني أكثر حتي تدمع. إنها جميلة جدا بالدموع. سأدور في المدينة كلها علي ظهر الفرس، وهي ورائي خائفة تُمسك بي". بدون أن ننطق، قالت عيوننا جميعا لذلك الولد: الله عليك. كلامه أوقدَ الدماء في رءوسنا. كنا بحاجة للمزيد والمزيد: "وأنا سأمشي معها في الشوارع. لا يمكن أن أتخيلها إلا كبيرة كما هي الآن. ستنظر لي وتشجعني علي المشي بسرعة كي لا نصل متأخرين. المدينة ستكون جميلة جدا في الليل، وهناك لافتة كبيرة مُضاءة بالأبيض المتوهج للترحيب بالأبلة سناء". لم نتحمس كثيرا لمثل هذا الكلام من صاحبنا قليل الكلام، واللابد في التختة دائما بلا أي حركة. نريد كلاما يجعلنا نجري ونحن في مكاننا. لهذا هززنا أيمن ليتكلم: "سأطلب من الأبلة سناء أن تصعد نخلة. بالتأكيد يوجد نخل هناك. وحين تصل للبلح الأحمر المتدلي؛ ستقطف وترمي لي. لكنني سأقذفها بالبلح مرة أخري كأنه طوب. سأرمي كل ما معي في اتجاهها، حتي ترمي نفسها من فوق النخلة، وأتلقاها بين ذراعيّ المفتوحتين". أما أحمد فقد صعد بنا للسماء: "عشق آباد مدينة ملآنة بالمراتب. مراتب في كل مكان: في الشوارع والقهاوي والفنادق وحتي في السيارات. راحة وعِز إلي ما لا نهاية. لن أترك مرتبة واحدة إلا وأنام عليها أنا وهي، حتي لو كانت مفروشة في السحاب". فجأة خرج صوت مبحوح: "نعم.. مراتب طائرة". الله الله. قال ثان وثالث. انضم لنا رفاق من الدكة الأمامية، وآخرون كانوا يسمعون في الخلف. الحكاية توسعت بما لم يكن في حسباننا. توالدت الكلمات والأفكار وراء بعضها. دخان الأبلة سناء كثيف ومتسارع، والحريق بلا رائحة. أخيرا الجرس القنبلة يُنهي كل شيء.
خارج الفصل، وبعد أن عبرنا الحوش والبوابة الكبيرة، لن يُفلح أيمن ولا أي واحد منا، في استعادة عُلبة الهندسة المخطوفة. الأنذال تناقلوها بينهم مثل كرة ذهبية.