إلى سُمية رمضان
هى تحب العصافير، تود لو يكون لها عصفور، لكن حبسه يؤذيها، فتحرر الفكرة، ترفض أن تبتاع عصفورًا، محبة العصافير تكون وهى فى السماء، لا على الأرض.
متى انبعث الطنين بالضبط. من أى مكالمة خاذلة، من أى حديث حب لم يتم، من أى خبر بشع، أو ربما من .. صباح مُكِدّر. فى الأخير انبعث الطنين، لم يكن لها أن تسأل عن الأسباب الروحانية لانبعاثه، فكرت بعقلها، هذا الذى يجاور الأذن اليمنى حيث مركز الطنين.
كان عَرْضًا عجائبيًّا، لكن لا هى ولا حتى الأذن ظنت أن يدوم، لأيام كان يسعى للاستيلاء على انتباهها، وكانت تنبذه، لصالح أشياء أخرى، وأشخاص آخرين، ثم حين بقى واستدام، لم تعد تذكر منهم شيئا ولا أحدا. البدايات دائمًا منسيّة، أما هذه اللحظة التى يتغير من بعدها كل شئ، ويُحسب الزمن من فاصلتها، كانت هناك، تراها فى مناماتها، بالضبط حين تتقلب على الجانب الأيمن، مركزه، وتستقر. ظهر بأذاه، وكأنه كان فى قعر الأذن دومًا صامتًا ثم لسبب ما صعد، لم تكن تعرف فى الأيام الأولى، على مَنْ كانت الملامة، لأن الأزيز كان قاسيًا لا يمنحها راحة ولا سلاما، ولأنه كان بدأبه على الإيذاء يُخرّب أشياءً كثيرة فى مكان داخلى عميق.. عميق.
جاهرت بالشكوى، حررت الفكرة، قالت بهدوء "لدى طنين لا يفارق "، لم تكمل، لم تقل إنه جاء فى أيام انتظار الرسائل القصيرة فى العوالم الافتراضية، ثم أنها بالتدريج، الآن لم تعد تذكر وجه المُرسِل. جال الطبيب بأجهزته العاقلة على مركز الأذن، ثم راح وعيناه تجحظان يؤكد سلامتها، واحتمالات أن يكون العقل هو المُصاب، قال كلامًا غريبًا، استبعد مسألة أن يزول العَرَضُ بهدوء كما أتى، ووارب باب هواجسها وهو يقول إن الاعتياد عليه ليس صعبًا.. جدًا على الأقل.
شهقت إلى الداخل، وضحكت كيما تكتم نحيبها، وزاد الطنين فى هذه اللحظة ضعفين، كما لو أنه أقسى مَنْ رأت. اضطرت لتسليم ذراعها لإبرة مصّ الدم، وهى تدارى مخافتها فى الجدار البعيد، أخذت تُحصى الشقوق المتتالية، وتفكر كيف يمكن أن يعيش المرء بكل هذا الطنين. ضحكت الممرضة وهى تحكى طُرفة جرت لها صباحاً، وكانت الصحبة حولها توزع صخبها، باعتيادية، لم يكن أحد يسمع الطنين سواها، حين عادت للجدار شعرت أنه مستوٍ تمامًا وأجبرت ذاتها على التفكير فى الأسوأ، أن ينسف الطنين سمعها نهائيَّا.
فى الليل، حين زحفت إلى فراشها وحيدة، وأعتمت الغرفة، حاولت أن تفكر فى شيء بديل، شيء بديل جميل .. شيء ليس له صلة بالآذان ولا العقول، عندها فتحت عينيها على احتمالات أن يكون العقل هو المُصاب. حدقت فى الفكرة وهى تضغط على الذى ظنته نقطة الطنين، وطمأنت روحها أن ثمة زمن فى الألم، لا ألم بعده، بالتأكيد لو صح الأمر، فسيكون بهدوء تام، ربما كالذى دفع فرجينيا وولف لحمل أحجار ثقيلة والنزول إلى قاع النهر.
فى المنام رأت كل الصداقات التى كوّنتها، الآمال العظيمة التى خطّت عليها مستقبلها، شاهدت أن انعتاقها من رجل حُبِّها، يشبه تمامًا اشتياقها إليه. لم يكن هناك شيء مختلف سوى أن أذنها سقطت منها فى منتصف الفُرجة، كانت آذان كثيرة حاضرة، آذان لأشخاص تعرفهم، وأخرى لأشخاص تألفهم، وضاعت أذنها تمامًا، عرفت أن الملامة تقع عليها هي، لأنها لم تتطلع كثيرًا فى المرايا أثناء الصحو كى تحفظ هيئة أذنها، ولهذا بالضبط سقطت، كى تُعايرها بقلة اكتراثها.
استيقظت دون أن تجد الأذن، تنفست فى اللحظة التى تصورت فيها أنها أيضًا تهبط بهدوء تام واستكانة، إلى قاع النهر، عقلها مُحمّل بأحجار ثقيلة أليفة. ارتدت أثوابها على صوت مسحوق من الطنين، وهرولت فى الأحياء المجاورة ترى الناس بلا وجوه، حتى وصلت إلى الممرضة صاحبة الطرفة المضحكة، وضعت يدها على أذنها وهى تضغط بقلة صبر، وتطلب من الثغر المبتسم الصورة المُجسَّمَة لدمها. كان دمها فقيرًا وقال الثغر إنه أيضًا سليب، وقليل الحيلة، وحين سألته عن علاقة ذلك بالأذن أو العقل اغتم وجه الثغر، وقال باحتمال وجود أشياء خبيثة تنمو فى الداخل بين الأذن والعقل.
لم تصدق، وأعادت سؤالها وذيّلته باستنكار "الأشياء الخبيثة لا تنمو هنا، الأشياء الخبيثة دائماً هناك"، وأضافت وهى تمسح أسنان الثغر بعينيها وكان بعضها ناقصًا أو مكسوراً، "يبدو أن الأشياء الطريفة توقفت عن الحدوث لكِ فى الصباح" ، ثم غادرت. كانت بحاجة لمَنْ يقول لها إن أذنها لن تسقط، إن الطنين سيفارق وأنها ليست مضطرة للانتحار كل ليلة فى المنام بطريقة فرجينيا وولف بسبب أذى الطنين، فكرت فى الطبيب، فسارت إليه وحيدة بين وجوه الناس الفارغة.
اضطرت للانتظار، وجهها جهِم وروحها تروح وتجيء داخل الجسد، بجنون. لم يذكرها الانتظار بالانتظار الآخر، كانت مسألة الطنين قد استحوذت على كل شيء ودون حتى أن تنتبه. ابتسم لها الطبيب وهو يسمع صراخها "أنا لن أعيش هكذا .. أنا لن أعيش هكذا.."، فحص دمها وأذنها وسأل أسئلة مراوغة كى يختبر صحة عقلها، أسئلة حول سنة تخرجها، ومواعيد زيارات العصافير، عن آخر سِن ضعيف خلعته، بدا لها هازئًا، لم يسأل مثلًا عن الطريقة التى هبطت فيها إلى النهر فى المنام، ولا تكلم عن الخوف من الجنون، أو الخوف من الفقد. بالأخير قال إن الطنين خبيث، وإنها بحاجة لكى تكون شجاعة بما يكفى لإزالته، وربما إزالة الأذن كلها.
غامت الأرض، والروح كفّت عن الذهاب والإياب فى الجسد، ساءلته بعيون مذهولة -من سرعة تحقق المنام- عن بدائل، بدائل جميلة لاقتطاع الأذن، كانت تفكر فى مظهرها الذى لم تهتم به سوى الآن، فكرت فى احتمالات أمومتها، رأت صغارها مفزوعين من هيئتها، قالت: وماذا لو تعايشت معه ؟، تحدث الطبيب كثيراً وهى تضغط على أذنها بقوة أقل من كل مرة، لأن رعشة اليد كانت أكثر من كل مرة، فهمت أن احتمالات التعايش مع الطنين قصيرة، وأن هناك لحظة ما ينبغى عليها أن تزيله.
ابتسمت والروح قاعدة على أرض العمق تائهة، خرجت من غرفة الطبيب وهو ينادى على رقم آخر لفحصه، سارت بخطوات متلعثمة إلى الخارج، لكنها فى منتصف الطريق بالضبط رأت المنحنى الأبيض وشعرت أنه أكثر ألفة من الأحجار التى حملتها فى عقلها فى المنام، لم يكن ثمة شيء للخسارة ولا للكسب، فذهبت، كانت خطوتها بطيئة مهزوزة غير مستعدة للدهشة أبدًا، لكنها حين رأتها أضاء شئ فى الثغر، كانت هى السُميّة، تجلس كما كان يجلس الطبيب فى المساحة البيضاء التى يسهل الوصول إليها؛ ولهذا وصلت.
حين دلفت رأت أن المكان شفاف بالكامل كأنه مصنوع من مجموعة ألواح زجاجية متجاورة، الجدران تقود إلى عالم آخر، حدائق مزهوة بسعادتها، وأكواخ رسمها أطفال صغار ذات يوم بالكثير من الحميمية، دون أن يعرفوا أنها سوف تتحول لأكواخ حقيقية، كانت العصافير أيضًا هناك تلهو وتتحرك فى كل الأرجاء بغنج ودلال ورافين. فى المنتصف تمامًا شاهدت السُمية، عرفت اسمها من غير أن يخبرها أحد، ولا شيء، بدت الحكاية كلها كمنام سعيد.
كانت تعرف السُمية جيدًا، بينهما تاريخ طويل من النور، حين بحثت فى تلافيف عقلها عن حادثة تجمعهما، أو حتى حديث تليفون، لم تجد، لكن الروح التى كانت تجلس فوق رأسها مُسترخية بهدوء كانت قد خبرت كل شيء، أزاحت الروح الوقفة البلهاء لها، وقدمتها عدة خطوات للأمام. لم تصافحها سُمية، اكتفت بوضع قطعة شيكولاتة صغيرة فى فمها، كانت قد نست ألم أسنانها أو أنه نساها فأخذت تستغرق حواسها فى استطعام النكهة، وهى تراقب السُمية تعمل بجد على أشياء كثيرة، كأن تصب ماءً للعصافير، أو تضع ذرة للغربان، أو تطبب لحاء الأشجار، أو تعدل كسر نافذة على كوخ ما، كانت منهمكة تمامًا، حنونة فى كل التفاصيل. لما ذابت الشيكولاتة لآخرها عادت لها سُمية، أخذت تتحدث بصوت أليف للغاية، لأنها كانت تفهم أن ألفة صوتها تهدئ الطنين.
تحدثت سُمية عن طرفات وقعت لها هذا الصباح، وكانت كلما حكت شيئًا جديدًا تجسَّد أمام الروح وصاحبَتِها لذيذًا وممتعًا، كانت حكايا نورانية أيضاً دليلها الواقعى الوحيد مذاق الشيكولاتة، وكان ينبغى أن تأتى على ذكر الطنين، لكنها سكتت وهى تُرجيء الأمر لمرات قادمة. عادت الروح تتمشى بجوار صاحبتها وهى تتأمل وجوه الناس بحثًا عن شيء من سحر السُميّة وعالمها، كان الطنين أيضًا هناك لكن بأزيز أقل عداءً، حين وصلتا للبيت، وزحفتا على الفراش لم تتبادلا حديثًا طويلًا، لكنهما توحدتا لتناما بحذر على الأذن مركز الطنين، وبعمق لم يتحقق منذ وقت بعيد. فى المنام كانت أيضاً فرجينيا وولف إنما داخل الغرفة، ابتسمت طويلاً لها وهى لم تستطع أن تفيق لتنقذها، جاهدت لكنها حين تمكنت من النهوض كانت فرجينيا وولف قد دخلت للوح الزجاجى للنافذة وهبطت إلى النهر.
أخذتها رائحة القهوة الشهية فى الصباح إلى عالم السُمية، لكنها أجلّته قليلًا، كما تؤجَّل فى الغالب الأوقات الجميلة، كانت تنظر لعمق القهوة غير الظاهر، وتُمسد بسلام موضع الطنين المتصاعد، مازحت روحها بالكثير من الهزل حول وضع الطنين الغريب الذى ولد فى أذنها بلا أب أو أم، وردت عليها الروح أنها كانت كذلك له.. اتفقتا فى النهاية على الخروج للصباح، والعروج إلى المنحنى الأبيض، ربما يكون دواءًا للطنين، كانت نشوة الأمس تلفها بالكامل، تبنى لها فى الذهن آلاف الأسباب لبلوغ الشفاء. تحركت هى والروح إلى حيث المنحنى الأبيض من جديد، دون أن ترد على أسئلة الآخرين المُستفسِرة عن داعى نشوتها الصباحية.
فى الطريق ما بين الضغط على الطنين وانسيابيته، رأت رجلًا ضخمًا يتحرك وسترته من خلفه تطير، كان يرفع يده وكأنه سيصفع الهواء، لكنه مع ذلك بدا يبتسم، وعلى أرض أخرى رأت فتاة تلبس الأسود كاملًا، قاصة شعرها كما الأولاد، تسير برِجل عرجاء، وحين استدارت أيضًا كانت تبتسم. تلفتت الروح كثيرًا على العصافير وهى تسترد ضحكة فرجينيا وولف الأخيرة قبل انتحارها فى اللوح الزجاجى للنافذة، محاولة محاكاتها، كانت ضحكة جميلة رغم كل شيء، ضحكة قابلة للحكى ، وكانت تعرف إلى مَنْ ستحكيها. حين وصلت رأت السُميّة بتفاصيل أكثر من اليوم السابق، كانت صغيرة بحميمية تشبه رسوم الأكواخ التى تحولت من بعد على أيدى الأطفال إلى حقائق، صوتها يحصى كل النبرات الحادة والرقيقة وما بين البين، وكانت وهى تتكلم تُشكّل بذراعيّها جناحين صغيرين نابتين، يشبهان هذه التى تخص الملائكة لو كان للملائكة أجنحة.
فكّرت الروح أن تشبيهها بالملائكة لن يكون جديدًا، لكن الجديد أن ثمة مَنْ ستلجأ إليه إذا جاوزت الوحدة الحد. وتحدثتا .. حول لحظة انعتاق فرجينيا وولف وهى تنزل إلى النهر، أن ذلك ليس فجائعياً جدًّا كما يبدو، عن فان جوخ الذى أهدى أذنه لحبيبته فى لحظة انتشاء، كانت سيرة فان جوخ بالذات مثيرة للحزن، ليس لأنه فقد أذنه أيضًا إنما لأن الروح لم يكن لها مَنْ تهبه الشيء المقطوع من لحمها.. حكت لسُميّة عن الأسباب الروحانية لانبعاث الطنين، حررت الفكرة، قالت إنها كانت عاشقة مثالية تنتشى بملمس المسامير على الصليب، وإن الصبر وحده نكّل بها حين أنزلها من فوق .. إلى بقايا الزجاج المُهشّم على الأرض، قالت الروح إن القلب جفّ ببساطة لا تليق بهذا التاريخ الطويل من المحبة، وإنها انتظرت طويلًا رسالة قصيرة وحيدة يمكن أن تُعيد النهر إلى المصب.
كانت السُمية تنصت وهى تضع نظرة مُركَّزة إلى التاريخ النورانى بينهما، وكانت عيناها تغيب وملامحها الحازمة تلين، ربما كانت تشاهد بالمثل هذه الحكايات على الألواح الزجاجية التى تحوّط المنحنى الأبيض، ربما كانت تسمع النبرة الشاكية فى صوت العصافير أو نعيق الغربان. فى القليل كان لديهما لذة الحكايا، لذة القص، لما جاءت على ذكر الأذن امتعضت الروح، كانت تحب أن تنسى الطنين، وألا تضغط عليه مرة أخرى بأصابع مرتعشة من جهد البوح، قالت السُمية أن التيه شأن إنسانى وأنه بطول القبول سوف يستحيل لشأن روحاني، قالت أن ثمة زمن فى الألم، لا ألم بعده، وأضافت وعينها تتسع لتشمل الكون كله أن هذه الأذن هبة للطبيعة والناس والعصافير.
فى المغادرة كانت الروح تُشبّك يديها فى أيدى صاحبتها وتسير بلا مبالاة، أخذت تتقصى الناس، بالذات الرجل الضخم والبنت العرجاء، تتقصى الابتسامة على طريقيهما وإن غابا، دلكت الأذن كثيرًا علّ الطنين يخف، مع أنها كانت تعرف أنه لن يخف، فعلت ذلك بدأب القصاصّين العظيم حتى وصلت إلى البيت. هناك، وعوضًا عن النوم، وقفت أمام المرآة وهى ترى صاحبتها فى الناحية الأخرى، وصارت تطوى أذنها وتفردها، مقررة أنها ذات يوم بعيد ستكون شجاعة بما يكفى لتروى حكاية إزالتها.
كان ثمة عصفور يقف على النافذة المكسورة بالقرب يتطلع إليها مزهوًّا بسعادته؛ خبأت الطنين بكفها وهى تنظر إليه فى السطح العاكس، وتفكر أنها يمكن أن تستغل المساحة الفارغة من الأذن، بعد القطع، فى وضع غصن بديل جميل يصلح لجذب العصافير إليه، هكذا ستحتفظ بها من غير حبس.. ضحكت وهى تتصور زيارة فرجينيا وولف القادمة فى المنام، قررت أنها ستلوّح لها من بعيد فقط، وستتركها سعيدة، لأنهما سيتخلصان من طنينهما سويًّا فى النهر .. عند المصب.
[SIZE=6] - القصة الفائزة بالمركز الأول بجائزة "ليتبروم الألمانية"[/SIZE]
هى تحب العصافير، تود لو يكون لها عصفور، لكن حبسه يؤذيها، فتحرر الفكرة، ترفض أن تبتاع عصفورًا، محبة العصافير تكون وهى فى السماء، لا على الأرض.
متى انبعث الطنين بالضبط. من أى مكالمة خاذلة، من أى حديث حب لم يتم، من أى خبر بشع، أو ربما من .. صباح مُكِدّر. فى الأخير انبعث الطنين، لم يكن لها أن تسأل عن الأسباب الروحانية لانبعاثه، فكرت بعقلها، هذا الذى يجاور الأذن اليمنى حيث مركز الطنين.
كان عَرْضًا عجائبيًّا، لكن لا هى ولا حتى الأذن ظنت أن يدوم، لأيام كان يسعى للاستيلاء على انتباهها، وكانت تنبذه، لصالح أشياء أخرى، وأشخاص آخرين، ثم حين بقى واستدام، لم تعد تذكر منهم شيئا ولا أحدا. البدايات دائمًا منسيّة، أما هذه اللحظة التى يتغير من بعدها كل شئ، ويُحسب الزمن من فاصلتها، كانت هناك، تراها فى مناماتها، بالضبط حين تتقلب على الجانب الأيمن، مركزه، وتستقر. ظهر بأذاه، وكأنه كان فى قعر الأذن دومًا صامتًا ثم لسبب ما صعد، لم تكن تعرف فى الأيام الأولى، على مَنْ كانت الملامة، لأن الأزيز كان قاسيًا لا يمنحها راحة ولا سلاما، ولأنه كان بدأبه على الإيذاء يُخرّب أشياءً كثيرة فى مكان داخلى عميق.. عميق.
جاهرت بالشكوى، حررت الفكرة، قالت بهدوء "لدى طنين لا يفارق "، لم تكمل، لم تقل إنه جاء فى أيام انتظار الرسائل القصيرة فى العوالم الافتراضية، ثم أنها بالتدريج، الآن لم تعد تذكر وجه المُرسِل. جال الطبيب بأجهزته العاقلة على مركز الأذن، ثم راح وعيناه تجحظان يؤكد سلامتها، واحتمالات أن يكون العقل هو المُصاب، قال كلامًا غريبًا، استبعد مسألة أن يزول العَرَضُ بهدوء كما أتى، ووارب باب هواجسها وهو يقول إن الاعتياد عليه ليس صعبًا.. جدًا على الأقل.
شهقت إلى الداخل، وضحكت كيما تكتم نحيبها، وزاد الطنين فى هذه اللحظة ضعفين، كما لو أنه أقسى مَنْ رأت. اضطرت لتسليم ذراعها لإبرة مصّ الدم، وهى تدارى مخافتها فى الجدار البعيد، أخذت تُحصى الشقوق المتتالية، وتفكر كيف يمكن أن يعيش المرء بكل هذا الطنين. ضحكت الممرضة وهى تحكى طُرفة جرت لها صباحاً، وكانت الصحبة حولها توزع صخبها، باعتيادية، لم يكن أحد يسمع الطنين سواها، حين عادت للجدار شعرت أنه مستوٍ تمامًا وأجبرت ذاتها على التفكير فى الأسوأ، أن ينسف الطنين سمعها نهائيَّا.
فى الليل، حين زحفت إلى فراشها وحيدة، وأعتمت الغرفة، حاولت أن تفكر فى شيء بديل، شيء بديل جميل .. شيء ليس له صلة بالآذان ولا العقول، عندها فتحت عينيها على احتمالات أن يكون العقل هو المُصاب. حدقت فى الفكرة وهى تضغط على الذى ظنته نقطة الطنين، وطمأنت روحها أن ثمة زمن فى الألم، لا ألم بعده، بالتأكيد لو صح الأمر، فسيكون بهدوء تام، ربما كالذى دفع فرجينيا وولف لحمل أحجار ثقيلة والنزول إلى قاع النهر.
فى المنام رأت كل الصداقات التى كوّنتها، الآمال العظيمة التى خطّت عليها مستقبلها، شاهدت أن انعتاقها من رجل حُبِّها، يشبه تمامًا اشتياقها إليه. لم يكن هناك شيء مختلف سوى أن أذنها سقطت منها فى منتصف الفُرجة، كانت آذان كثيرة حاضرة، آذان لأشخاص تعرفهم، وأخرى لأشخاص تألفهم، وضاعت أذنها تمامًا، عرفت أن الملامة تقع عليها هي، لأنها لم تتطلع كثيرًا فى المرايا أثناء الصحو كى تحفظ هيئة أذنها، ولهذا بالضبط سقطت، كى تُعايرها بقلة اكتراثها.
استيقظت دون أن تجد الأذن، تنفست فى اللحظة التى تصورت فيها أنها أيضًا تهبط بهدوء تام واستكانة، إلى قاع النهر، عقلها مُحمّل بأحجار ثقيلة أليفة. ارتدت أثوابها على صوت مسحوق من الطنين، وهرولت فى الأحياء المجاورة ترى الناس بلا وجوه، حتى وصلت إلى الممرضة صاحبة الطرفة المضحكة، وضعت يدها على أذنها وهى تضغط بقلة صبر، وتطلب من الثغر المبتسم الصورة المُجسَّمَة لدمها. كان دمها فقيرًا وقال الثغر إنه أيضًا سليب، وقليل الحيلة، وحين سألته عن علاقة ذلك بالأذن أو العقل اغتم وجه الثغر، وقال باحتمال وجود أشياء خبيثة تنمو فى الداخل بين الأذن والعقل.
لم تصدق، وأعادت سؤالها وذيّلته باستنكار "الأشياء الخبيثة لا تنمو هنا، الأشياء الخبيثة دائماً هناك"، وأضافت وهى تمسح أسنان الثغر بعينيها وكان بعضها ناقصًا أو مكسوراً، "يبدو أن الأشياء الطريفة توقفت عن الحدوث لكِ فى الصباح" ، ثم غادرت. كانت بحاجة لمَنْ يقول لها إن أذنها لن تسقط، إن الطنين سيفارق وأنها ليست مضطرة للانتحار كل ليلة فى المنام بطريقة فرجينيا وولف بسبب أذى الطنين، فكرت فى الطبيب، فسارت إليه وحيدة بين وجوه الناس الفارغة.
اضطرت للانتظار، وجهها جهِم وروحها تروح وتجيء داخل الجسد، بجنون. لم يذكرها الانتظار بالانتظار الآخر، كانت مسألة الطنين قد استحوذت على كل شيء ودون حتى أن تنتبه. ابتسم لها الطبيب وهو يسمع صراخها "أنا لن أعيش هكذا .. أنا لن أعيش هكذا.."، فحص دمها وأذنها وسأل أسئلة مراوغة كى يختبر صحة عقلها، أسئلة حول سنة تخرجها، ومواعيد زيارات العصافير، عن آخر سِن ضعيف خلعته، بدا لها هازئًا، لم يسأل مثلًا عن الطريقة التى هبطت فيها إلى النهر فى المنام، ولا تكلم عن الخوف من الجنون، أو الخوف من الفقد. بالأخير قال إن الطنين خبيث، وإنها بحاجة لكى تكون شجاعة بما يكفى لإزالته، وربما إزالة الأذن كلها.
غامت الأرض، والروح كفّت عن الذهاب والإياب فى الجسد، ساءلته بعيون مذهولة -من سرعة تحقق المنام- عن بدائل، بدائل جميلة لاقتطاع الأذن، كانت تفكر فى مظهرها الذى لم تهتم به سوى الآن، فكرت فى احتمالات أمومتها، رأت صغارها مفزوعين من هيئتها، قالت: وماذا لو تعايشت معه ؟، تحدث الطبيب كثيراً وهى تضغط على أذنها بقوة أقل من كل مرة، لأن رعشة اليد كانت أكثر من كل مرة، فهمت أن احتمالات التعايش مع الطنين قصيرة، وأن هناك لحظة ما ينبغى عليها أن تزيله.
ابتسمت والروح قاعدة على أرض العمق تائهة، خرجت من غرفة الطبيب وهو ينادى على رقم آخر لفحصه، سارت بخطوات متلعثمة إلى الخارج، لكنها فى منتصف الطريق بالضبط رأت المنحنى الأبيض وشعرت أنه أكثر ألفة من الأحجار التى حملتها فى عقلها فى المنام، لم يكن ثمة شيء للخسارة ولا للكسب، فذهبت، كانت خطوتها بطيئة مهزوزة غير مستعدة للدهشة أبدًا، لكنها حين رأتها أضاء شئ فى الثغر، كانت هى السُميّة، تجلس كما كان يجلس الطبيب فى المساحة البيضاء التى يسهل الوصول إليها؛ ولهذا وصلت.
حين دلفت رأت أن المكان شفاف بالكامل كأنه مصنوع من مجموعة ألواح زجاجية متجاورة، الجدران تقود إلى عالم آخر، حدائق مزهوة بسعادتها، وأكواخ رسمها أطفال صغار ذات يوم بالكثير من الحميمية، دون أن يعرفوا أنها سوف تتحول لأكواخ حقيقية، كانت العصافير أيضًا هناك تلهو وتتحرك فى كل الأرجاء بغنج ودلال ورافين. فى المنتصف تمامًا شاهدت السُمية، عرفت اسمها من غير أن يخبرها أحد، ولا شيء، بدت الحكاية كلها كمنام سعيد.
كانت تعرف السُمية جيدًا، بينهما تاريخ طويل من النور، حين بحثت فى تلافيف عقلها عن حادثة تجمعهما، أو حتى حديث تليفون، لم تجد، لكن الروح التى كانت تجلس فوق رأسها مُسترخية بهدوء كانت قد خبرت كل شيء، أزاحت الروح الوقفة البلهاء لها، وقدمتها عدة خطوات للأمام. لم تصافحها سُمية، اكتفت بوضع قطعة شيكولاتة صغيرة فى فمها، كانت قد نست ألم أسنانها أو أنه نساها فأخذت تستغرق حواسها فى استطعام النكهة، وهى تراقب السُمية تعمل بجد على أشياء كثيرة، كأن تصب ماءً للعصافير، أو تضع ذرة للغربان، أو تطبب لحاء الأشجار، أو تعدل كسر نافذة على كوخ ما، كانت منهمكة تمامًا، حنونة فى كل التفاصيل. لما ذابت الشيكولاتة لآخرها عادت لها سُمية، أخذت تتحدث بصوت أليف للغاية، لأنها كانت تفهم أن ألفة صوتها تهدئ الطنين.
تحدثت سُمية عن طرفات وقعت لها هذا الصباح، وكانت كلما حكت شيئًا جديدًا تجسَّد أمام الروح وصاحبَتِها لذيذًا وممتعًا، كانت حكايا نورانية أيضاً دليلها الواقعى الوحيد مذاق الشيكولاتة، وكان ينبغى أن تأتى على ذكر الطنين، لكنها سكتت وهى تُرجيء الأمر لمرات قادمة. عادت الروح تتمشى بجوار صاحبتها وهى تتأمل وجوه الناس بحثًا عن شيء من سحر السُميّة وعالمها، كان الطنين أيضًا هناك لكن بأزيز أقل عداءً، حين وصلتا للبيت، وزحفتا على الفراش لم تتبادلا حديثًا طويلًا، لكنهما توحدتا لتناما بحذر على الأذن مركز الطنين، وبعمق لم يتحقق منذ وقت بعيد. فى المنام كانت أيضاً فرجينيا وولف إنما داخل الغرفة، ابتسمت طويلاً لها وهى لم تستطع أن تفيق لتنقذها، جاهدت لكنها حين تمكنت من النهوض كانت فرجينيا وولف قد دخلت للوح الزجاجى للنافذة وهبطت إلى النهر.
أخذتها رائحة القهوة الشهية فى الصباح إلى عالم السُمية، لكنها أجلّته قليلًا، كما تؤجَّل فى الغالب الأوقات الجميلة، كانت تنظر لعمق القهوة غير الظاهر، وتُمسد بسلام موضع الطنين المتصاعد، مازحت روحها بالكثير من الهزل حول وضع الطنين الغريب الذى ولد فى أذنها بلا أب أو أم، وردت عليها الروح أنها كانت كذلك له.. اتفقتا فى النهاية على الخروج للصباح، والعروج إلى المنحنى الأبيض، ربما يكون دواءًا للطنين، كانت نشوة الأمس تلفها بالكامل، تبنى لها فى الذهن آلاف الأسباب لبلوغ الشفاء. تحركت هى والروح إلى حيث المنحنى الأبيض من جديد، دون أن ترد على أسئلة الآخرين المُستفسِرة عن داعى نشوتها الصباحية.
فى الطريق ما بين الضغط على الطنين وانسيابيته، رأت رجلًا ضخمًا يتحرك وسترته من خلفه تطير، كان يرفع يده وكأنه سيصفع الهواء، لكنه مع ذلك بدا يبتسم، وعلى أرض أخرى رأت فتاة تلبس الأسود كاملًا، قاصة شعرها كما الأولاد، تسير برِجل عرجاء، وحين استدارت أيضًا كانت تبتسم. تلفتت الروح كثيرًا على العصافير وهى تسترد ضحكة فرجينيا وولف الأخيرة قبل انتحارها فى اللوح الزجاجى للنافذة، محاولة محاكاتها، كانت ضحكة جميلة رغم كل شيء، ضحكة قابلة للحكى ، وكانت تعرف إلى مَنْ ستحكيها. حين وصلت رأت السُميّة بتفاصيل أكثر من اليوم السابق، كانت صغيرة بحميمية تشبه رسوم الأكواخ التى تحولت من بعد على أيدى الأطفال إلى حقائق، صوتها يحصى كل النبرات الحادة والرقيقة وما بين البين، وكانت وهى تتكلم تُشكّل بذراعيّها جناحين صغيرين نابتين، يشبهان هذه التى تخص الملائكة لو كان للملائكة أجنحة.
فكّرت الروح أن تشبيهها بالملائكة لن يكون جديدًا، لكن الجديد أن ثمة مَنْ ستلجأ إليه إذا جاوزت الوحدة الحد. وتحدثتا .. حول لحظة انعتاق فرجينيا وولف وهى تنزل إلى النهر، أن ذلك ليس فجائعياً جدًّا كما يبدو، عن فان جوخ الذى أهدى أذنه لحبيبته فى لحظة انتشاء، كانت سيرة فان جوخ بالذات مثيرة للحزن، ليس لأنه فقد أذنه أيضًا إنما لأن الروح لم يكن لها مَنْ تهبه الشيء المقطوع من لحمها.. حكت لسُميّة عن الأسباب الروحانية لانبعاث الطنين، حررت الفكرة، قالت إنها كانت عاشقة مثالية تنتشى بملمس المسامير على الصليب، وإن الصبر وحده نكّل بها حين أنزلها من فوق .. إلى بقايا الزجاج المُهشّم على الأرض، قالت الروح إن القلب جفّ ببساطة لا تليق بهذا التاريخ الطويل من المحبة، وإنها انتظرت طويلًا رسالة قصيرة وحيدة يمكن أن تُعيد النهر إلى المصب.
كانت السُمية تنصت وهى تضع نظرة مُركَّزة إلى التاريخ النورانى بينهما، وكانت عيناها تغيب وملامحها الحازمة تلين، ربما كانت تشاهد بالمثل هذه الحكايات على الألواح الزجاجية التى تحوّط المنحنى الأبيض، ربما كانت تسمع النبرة الشاكية فى صوت العصافير أو نعيق الغربان. فى القليل كان لديهما لذة الحكايا، لذة القص، لما جاءت على ذكر الأذن امتعضت الروح، كانت تحب أن تنسى الطنين، وألا تضغط عليه مرة أخرى بأصابع مرتعشة من جهد البوح، قالت السُمية أن التيه شأن إنسانى وأنه بطول القبول سوف يستحيل لشأن روحاني، قالت أن ثمة زمن فى الألم، لا ألم بعده، وأضافت وعينها تتسع لتشمل الكون كله أن هذه الأذن هبة للطبيعة والناس والعصافير.
فى المغادرة كانت الروح تُشبّك يديها فى أيدى صاحبتها وتسير بلا مبالاة، أخذت تتقصى الناس، بالذات الرجل الضخم والبنت العرجاء، تتقصى الابتسامة على طريقيهما وإن غابا، دلكت الأذن كثيرًا علّ الطنين يخف، مع أنها كانت تعرف أنه لن يخف، فعلت ذلك بدأب القصاصّين العظيم حتى وصلت إلى البيت. هناك، وعوضًا عن النوم، وقفت أمام المرآة وهى ترى صاحبتها فى الناحية الأخرى، وصارت تطوى أذنها وتفردها، مقررة أنها ذات يوم بعيد ستكون شجاعة بما يكفى لتروى حكاية إزالتها.
كان ثمة عصفور يقف على النافذة المكسورة بالقرب يتطلع إليها مزهوًّا بسعادته؛ خبأت الطنين بكفها وهى تنظر إليه فى السطح العاكس، وتفكر أنها يمكن أن تستغل المساحة الفارغة من الأذن، بعد القطع، فى وضع غصن بديل جميل يصلح لجذب العصافير إليه، هكذا ستحتفظ بها من غير حبس.. ضحكت وهى تتصور زيارة فرجينيا وولف القادمة فى المنام، قررت أنها ستلوّح لها من بعيد فقط، وستتركها سعيدة، لأنهما سيتخلصان من طنينهما سويًّا فى النهر .. عند المصب.
[SIZE=6] - القصة الفائزة بالمركز الأول بجائزة "ليتبروم الألمانية"[/SIZE]