لي وحدي هذه الصفوف الثلاثة المستطيلة، بكل صف خمس عشرة نجمة صغيرة. والمحصلة خمس وأربعون نجمة. نجومي نقاط ضوء، حولها وميض كريستالي رقيق خلف زجاج الكشَّاف الذي بالكاد يطاول نصف ذراعي. هذا العدد الهائل من النجوم، في الوقت الذي تغيب فيه نجوم السماء الباهتة؛ هو حظي، منحتي في سويعات انقطاع الكهرباء بشكل متكرر.
علىّ أن أقطف زهور النور الذي يخف تدريجيا وينسحب. في بؤرة الضوء اللبني أتمدد على السجادة. نجومي الكريستالية في مرمى عيني. تكبر الخمس وأربعون نقطة بشكل مزغلل، تتجسد على حائط الصالة اللامع بخمسة وأربعين وجها. أعرف بعضهم، والأغلبية لا أعرفهم. يبرز وجه منهم ويتقافز في مكانه. يبدو أنه يستحثني على شيء. أقوم في الظلام إلى الطرقة الممتدة بطول الشقة. أتحسس مسار الحائط: حجرة، حمام، حجرة. أقف. أتعثر في شيء بقدمي. أصابعي تعرف الملمس. قلم؟ نعم قلم. أنحني وألتقطه. بدون لبيسة ومنساب إلى سن كثيف الحبر. ليس من أقلامي. طول عمري لم أستخدم قلما بدون لبيسة. أعتبر ذلك عيبا. أن يخلع القلم غطاء رأسه؛ هو فلان باشا في زمن غابر يمشي بلا طربوش. لكنه قلم سيّال، نقطة الحبر التي أحسستُ بها تنفرش على بطن إصبعي تُخبر بمدى الوفرة. قبضت عليه وعدت.
وجه جديد على الحائط يتمايل طربا. فهمت أن علىّ تكرار الرحلة. أتحسس الجدار الموازي. في المطبخ مشت يدي على الرخامة الرطبة. شيء متكور خشن يوقف الزحف. إنها ورقة لابد كانت في طريقها إالى السَّلة المحشوة بكيس أسود. أرجع بها وأفتحها. بيضاء مكرمشة، مقطوعة على عجل من كراسة مُسطرة. أجلس في بؤرة الضوء. نجومي تشحب وتناشدني الإسراع. على الورقة أكتب. ينغرز السن ويُحدث خُرما فوق السجادة. أحاول ثانية. أنظر في ساعتي. أكتب.
ثوان، دقائق معدودات، جرى فيها القلم بسطور كبيرة الكلمات، وغير ملتزمة بالاستقامة. أية لغة تلك التي كتبت بها؟! ليست هذه لغتي، ولا حروفي الأبجدية التي لا أجيد غيرها. أطبقت ورقتي وفي قلبها القلم. أغمضت عينيّ طويلا. لم يتركني وميض نجومي الذي أحسه مخايلا في الظلام. لم تهجرني الوجوه بل زادت إلحاحا وكثافة، كأنها في طقس جماعي للوداع. عيناي ترمشان في إغماضهما، تحسان بالشمس ذاتها في المواجهة. أمتنع عن التنفس لدقيقة، وأنفجر بفتح عينيّ. عادت الكهرباء. قلمي عاري الرأس في حضن الورقة. أفض عناقهما، فتطل السطور بيضاء مكرمشة ليس فيها نقطة حبر واحدة.
***
حسام المقدم
علىّ أن أقطف زهور النور الذي يخف تدريجيا وينسحب. في بؤرة الضوء اللبني أتمدد على السجادة. نجومي الكريستالية في مرمى عيني. تكبر الخمس وأربعون نقطة بشكل مزغلل، تتجسد على حائط الصالة اللامع بخمسة وأربعين وجها. أعرف بعضهم، والأغلبية لا أعرفهم. يبرز وجه منهم ويتقافز في مكانه. يبدو أنه يستحثني على شيء. أقوم في الظلام إلى الطرقة الممتدة بطول الشقة. أتحسس مسار الحائط: حجرة، حمام، حجرة. أقف. أتعثر في شيء بقدمي. أصابعي تعرف الملمس. قلم؟ نعم قلم. أنحني وألتقطه. بدون لبيسة ومنساب إلى سن كثيف الحبر. ليس من أقلامي. طول عمري لم أستخدم قلما بدون لبيسة. أعتبر ذلك عيبا. أن يخلع القلم غطاء رأسه؛ هو فلان باشا في زمن غابر يمشي بلا طربوش. لكنه قلم سيّال، نقطة الحبر التي أحسستُ بها تنفرش على بطن إصبعي تُخبر بمدى الوفرة. قبضت عليه وعدت.
وجه جديد على الحائط يتمايل طربا. فهمت أن علىّ تكرار الرحلة. أتحسس الجدار الموازي. في المطبخ مشت يدي على الرخامة الرطبة. شيء متكور خشن يوقف الزحف. إنها ورقة لابد كانت في طريقها إالى السَّلة المحشوة بكيس أسود. أرجع بها وأفتحها. بيضاء مكرمشة، مقطوعة على عجل من كراسة مُسطرة. أجلس في بؤرة الضوء. نجومي تشحب وتناشدني الإسراع. على الورقة أكتب. ينغرز السن ويُحدث خُرما فوق السجادة. أحاول ثانية. أنظر في ساعتي. أكتب.
ثوان، دقائق معدودات، جرى فيها القلم بسطور كبيرة الكلمات، وغير ملتزمة بالاستقامة. أية لغة تلك التي كتبت بها؟! ليست هذه لغتي، ولا حروفي الأبجدية التي لا أجيد غيرها. أطبقت ورقتي وفي قلبها القلم. أغمضت عينيّ طويلا. لم يتركني وميض نجومي الذي أحسه مخايلا في الظلام. لم تهجرني الوجوه بل زادت إلحاحا وكثافة، كأنها في طقس جماعي للوداع. عيناي ترمشان في إغماضهما، تحسان بالشمس ذاتها في المواجهة. أمتنع عن التنفس لدقيقة، وأنفجر بفتح عينيّ. عادت الكهرباء. قلمي عاري الرأس في حضن الورقة. أفض عناقهما، فتطل السطور بيضاء مكرمشة ليس فيها نقطة حبر واحدة.
***
حسام المقدم