لا تحظى السيرة الذاتية التي كتبها نجيب محفوظ في بداية شبابه، وأطلق عليها "الأعوام"، وهو في سِنّ الثامنة عشرة عاماً بقيمة أدبية عالية، برأيي، لكن أهميتها تنبع فقط من كون كاتبها هو الحاصل، لاحقاً، على جائزة نوبل للآداب.
هذه السيرة، إن صحّ إطلاق هذا الوصف عليها، لم ينشرها محفوظ مع أنه ظلّ محتفظاً بها، لتخرج إلى النور هذا العام عبر الصحفي المصري محمد شُعَيْر، وعن دار الشروق في القاهرة، تحت عنوان "أعوام نجيب محفوظ.. البدايات والنهايات".
واللافت أنه على امتداد 215 صفحة هي عدد صفحات الكتاب، تقع السيرة في ثمانٍ وعشرين صفحة فقط منه، وتحديداً ما بين الصفحة (37) إلى الصفحة (65).
وفي هذا الكتاب، يواصل شعير ممارسة أسلوبه المعتاد في الكتابة، فيرسم مشهداً وصفياً ذا طابعٍ روائيٍّ يسرد فيه الأحداث والسياقات الاجتماعية والسياسية للحدث الذي هو بصدد الحديث عنه، بإيراد الأخبار المتداولة في الصحف تلك الفترة، وهذا ما فعله في وصف السياق المحيط بصدور رواية "أولاد حارتنا"، في كتابه "سيرة الرواية المحرمة"، وينتمي إلى جنس "التأريخ الأدبي".
وفي "الأعوام" يكرر الأمر ذاته، فمع يوم 11 كانون الأول (ديسمبر) 1911، يوم مولد نجيب محفوظ، يسرد ما كانت تتناقله الصحف المصرية من أخبار فنية واجتماعية وسياسية ودعائية.
ويرسم شعير في الفصل الموسوم بـ"البحث عن الكرّاس المفقود"، سيناريو هو أقرب إلى التخيُّل الأدبي من كونه حقيقة، حول كيفية حصوله على الكراسة التي كتب فيها محفوظ "الأعوام"، متتبعاً في البدء حوارات نجيب محفوظ التي أجراها، وتحدَّثَ فيها عن سيرته، فعلى سبيل المثال، يذكر أنه في العام 1963 أجرى فؤاد دوّارة حواراً لصالح مجلة الكاتب مع محفوظ، قال فيه: حين قرأتُ "الأيام" لطه حسين، ألَّفْتُ كراسة أو كتاباً، كما كنت أسمّيها، وقتذاك، وأسميتُها "الأعوام"، ورويت فيها قصة حياتي على طريقة حسين.
وأشار محفوظ في الحوار ذاته، إلى أن هذه الكراسة موجودة، وإن كانت تحتاج إلى جهدٍ كي يعثر عليها بين مقتنياته، ثم يشير محفوظ في حوارات أخرى إلى أن الكراسة اختفت ولم تعد موجودة، ثم وصل ذات صباح إلى شعير، عبر البريد الإلكتروني، ما يقرُب من 500 صفحة تخُصُّ محفوظ من قِبَل شخصٍ مجهولٍ، بينها "الأعوام"!
وتتناول "الأعوام" ذكريات نجيب محفوظ حول طفولته، وعلاقته بأمه وبإخوته، وشغفه بالحكايات، ووصف المنزل الذي عاش سنواته الأولى فيه.. يتحدث عن شغفه بالريف، وشقاوته المفرطة، وعن أول يوم ذهب فيه إلى الكُتّاب كي يحفظ القرآن الكريم ويتعلم القراءة والكتابة، ولم يَفُتْهُ الحديث حتى عن طلاق أخته من زوجها بسبب "حماتها" التي "نغّصت عليها عيشها"، أو عن مخاوفه من أبيه وأخيه الأكبر، لذا فهذه الأوراق تُعَدُّ وثيقةً لتلك الفترة من حياة نجيب محفوظ ورؤيته للعالم في تلك المرحلة العمرية، بحيث كتبها بلسان الطفل الذي كانه منذ عهدٍ قريبٍ.
ويحاكي محفوظ في مخطوطه أسلوب طه حسين محاكاةً بدائيةً في أسلوبه، والموضوعات التي طرقها "العميد" في "الأيام"، فيبدأ كما بدأ حسين قائلاً "لا يذكر"، وهي العبارة نفسها التي يبدأ بها نجيب محفوظ.
يقول طه حسين في مفتتح سيرته "لا يذكر لهذا اليوم اسماً، ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة، بل لا يستطيع أن يذكر من هذا اليوم وقتاً بعينه، وإنما يقرّب ذلك تقريباً...".
ويبدأ المراهق -وقتها- نجيب محفوظ كراسَّهُ بقَوْلِهِ: "لا يذكر أي شيءٍ أحسَّهُ وتحقَّقَهُ عقْلُه، من ذا يذكر؟ ربما ثدي أمه لأنه من الأشياء التي تُعْرَف بالغريزة والتي يتحسَّسُها الطفل بلا إدراك، ولكنه خمَّنَ ذلك تخميناً، وفي وقتٍ متأخرٍ عن عهد الطفولة".
ويظهر من هاتين البدايتين التشابه الواضح من الحديث بضمير الغائب، والبحث عن الذكرى الأولى وعدم القدرة على تحديديها بدقة، بل إن محفوظ قلَّدَ طه حسين في استخدامه لحاسّة اللمس التي كانت تحل محل البصر عند "عميد الأدب العربي"، فجعلها محفوظ كذلك.
وكما يصف طه حسين عالَمَهُ وسياج القصب والأرانب، يصف محفوظ الحجرة التي وُلِدَ فيها حيث عاش طفولته وحجرة الدجاج.
ويستخدم "العميد" أسلوب "كان الفتى"، وهي الصيغة ذاتها التي يعتمدها محفوظ، وكما تكلَّمَ صاحب "الأيام" عن العفاريت وخوفه منها يفعل محفوظ الذي يسير في مخطوطته على خُطَى طه حسين، وعلى هداه، متناولاً المواضيع ذاتها التي طَرَقَها وتكلَّمَ عنها حسين من قبله، والأمثلة حول ذلك كثيرة.
ويُوَضِّح شعير في الفصل المُعَنْوَن بـ"النص المؤسّس" أن السّيَر الذاتية كانت نمطاً شائعاً في مصر بين الطبقة المتوسطة، للتعبير عن الروح الجديدة التي بثَّتْها ثورة 1919، وأن الكثير من السياسيين المصريين مثل: سعد زغلول، ومصطفى النحاس، وأحمد عرابي، وإسماعيل صدقي، وأحمد شفيق، كانوا قد كتبوا مذكراتهم، إلا أن شعير في حديثه يخلط بين فن السير الذاتية واليوميات والمذكرات وأدب الاعتراف، معتبراً أن "أيام" طه حسين و"أعوام" نجيب محفوظ هي من قبيل أدب الاعتراف، قائلاً: "لم يفعل طه حسين في "الأيام" سوى الخروج إلى العلن بما افترضه كثيرون كتابة سرية. لذا فنصُّه هو النَّصّ المؤسس لكتابة الاعترافات في الثقافة العربية، والتي يندرج تحتها العديد من التسميات أو التصنيفات: سيرة، ومذكرات، ويوميات وغيرها...".
إلا أنَّ كل نوع من هذه الأجناس الأدبية له سماته الخاصة التي تفْصِلُهُ عن الجنس الآخر، فأدب الاعتراف نادر الوجود في الأدب العربي فهو أدب ذو طبيعة فضائحية، إن صحّ الوصف، وهو نوعٌ من الأدب أرسى قواعده جان جاك روسّو في "الإنسان في أصدق صوَرِه"، مُقدّماً إياه بقوله "إنني مُقْدِمٌ على مشروعٍ لم يسبقه مثيل، ولن يكون له نظير، إذ إنني أبغي أن أعرض على أقراني إنساناً في أصدق صور طبيعته.. وهذا الإنسان هو: أنا! أنا وحدي!…".
ولأدب الاعتراف سماتٌ خمس حدَّدَها الناقد الفرنسي فيليب لوجون، بوصفها "حكيٌ استعاديٌّ نثريٌّ يقوم به شخصٌ واقعيٌّ عن وجوده الخاص، وذلك بتركيزه على حياته الفردية، وتاريخ شخصيته بصفةٍ خاصة".
أما السيرة الذاتية في أبسط تعريف لها، فهي تأريخ لحياة الإنسان، خاصة هؤلاء الذين لهم أدوار مؤثرة في المجتمع، ويجد الناس متعة في معرفة بداياتهم ومشوار حياتهم.. وهنا يُفرّق الأديب خيري شلبي بينها وبين أدب الاعتراف بقوله: "السيرة هي تأريخ لحياة ومشوار المبدع أو الأديب، ولا يكون مطالباً فيها بالكشف عن حياته الخاصة وتفاصيلها الدقيقة لما في ذلك من صدمة للمجتمع، أما أدب الاعتراف فهو جنس أدبي يقرر من خلاله صاحبه البوح والإفصاح، حتى "يُريح ويستريح".
أما أدب المذاكرات، ورغم تشابهه مع أدب الاعتراف، إلا أن هناك فاصلاً جوهرياً بينهما، هو أن أدب الاعتراف يروي أحداثاً شخصية لمدة زمنية طويلة، بينما تدور أحداث اليوميات في فترة زمنية معينة بشكل شامل ومتسع، وأكثر دقة زمنيّاً، باعتبارها قريبة جداً من الذاكرة.
في حين تمزج الرواية السيَريَّة، وهي أحدث أنواع الأجناس الأدبية في هذا الجانب، ما بين الواقعية والمصداقية التي يُحتّمها أدب السيرة الذاتية والخيال الذي هو أحد دعائم الرواية، فبامتزاجهما معاً تنتج الرواية السيَريّة، بما يُتيح للكاتب صياغة حياته بشكلٍ أكثر إثارة، وفي الوقت نفسه لا يخرج عن الواقعية.
ويُعَدُّ الأديب الفرنسي باتريك موديانو الحاصل على نوبل الآداب في العام 2014، من أشهر من كتبوا في هذا النطاق، خاصةً في روايته "دفتر العائلة وسلالة"، فيما يُعَدُّ كتاب "الأيام" لطه حسين من هذا النوع الأدبي.
لذا يصعب في ظنّي إدراج "أيام" طه حسين، بأي حالٍ من الأحوال، ضمن أدب الاعتراف، ولا ما فعله نجيب محفوظ في كرّاسة "الأعوام"، كما أنه يجب إدراك الحدود الفاصلة بين كل جنس أدبي وآخر.
وبذل محمد شعير جهداً مميزاً في استخلاص كيف وظَّفَ نجيب محفوظ شخصيّات حضرت في "الأعوام" عبر أعماله الأدبية، بحيث تبدو بعض الشخصيات الروائية أقرب إلى شخصية نجيب محفوظ ذاتها.
يبقى أن أشير، إلى أنه، ومن بين الإشكاليات التي رافقت كتاب شُعَيْر السابق "سيرة الرواية المحرمة"، واستطاع تلافيها في هذا الكتاب، توثيقه للمعلومات التي يذكُرُها، وردّها إلى مصادرها، ما يجعل للكتاب قيمة أكبر، بينما يتميّز كما في كتابه السابق بالأسلوب السرديّ الروائيّ الشيّق الذي يقدم عبره شعير معلوماته.
هذه السيرة، إن صحّ إطلاق هذا الوصف عليها، لم ينشرها محفوظ مع أنه ظلّ محتفظاً بها، لتخرج إلى النور هذا العام عبر الصحفي المصري محمد شُعَيْر، وعن دار الشروق في القاهرة، تحت عنوان "أعوام نجيب محفوظ.. البدايات والنهايات".
واللافت أنه على امتداد 215 صفحة هي عدد صفحات الكتاب، تقع السيرة في ثمانٍ وعشرين صفحة فقط منه، وتحديداً ما بين الصفحة (37) إلى الصفحة (65).
وفي هذا الكتاب، يواصل شعير ممارسة أسلوبه المعتاد في الكتابة، فيرسم مشهداً وصفياً ذا طابعٍ روائيٍّ يسرد فيه الأحداث والسياقات الاجتماعية والسياسية للحدث الذي هو بصدد الحديث عنه، بإيراد الأخبار المتداولة في الصحف تلك الفترة، وهذا ما فعله في وصف السياق المحيط بصدور رواية "أولاد حارتنا"، في كتابه "سيرة الرواية المحرمة"، وينتمي إلى جنس "التأريخ الأدبي".
وفي "الأعوام" يكرر الأمر ذاته، فمع يوم 11 كانون الأول (ديسمبر) 1911، يوم مولد نجيب محفوظ، يسرد ما كانت تتناقله الصحف المصرية من أخبار فنية واجتماعية وسياسية ودعائية.
ويرسم شعير في الفصل الموسوم بـ"البحث عن الكرّاس المفقود"، سيناريو هو أقرب إلى التخيُّل الأدبي من كونه حقيقة، حول كيفية حصوله على الكراسة التي كتب فيها محفوظ "الأعوام"، متتبعاً في البدء حوارات نجيب محفوظ التي أجراها، وتحدَّثَ فيها عن سيرته، فعلى سبيل المثال، يذكر أنه في العام 1963 أجرى فؤاد دوّارة حواراً لصالح مجلة الكاتب مع محفوظ، قال فيه: حين قرأتُ "الأيام" لطه حسين، ألَّفْتُ كراسة أو كتاباً، كما كنت أسمّيها، وقتذاك، وأسميتُها "الأعوام"، ورويت فيها قصة حياتي على طريقة حسين.
وأشار محفوظ في الحوار ذاته، إلى أن هذه الكراسة موجودة، وإن كانت تحتاج إلى جهدٍ كي يعثر عليها بين مقتنياته، ثم يشير محفوظ في حوارات أخرى إلى أن الكراسة اختفت ولم تعد موجودة، ثم وصل ذات صباح إلى شعير، عبر البريد الإلكتروني، ما يقرُب من 500 صفحة تخُصُّ محفوظ من قِبَل شخصٍ مجهولٍ، بينها "الأعوام"!
وتتناول "الأعوام" ذكريات نجيب محفوظ حول طفولته، وعلاقته بأمه وبإخوته، وشغفه بالحكايات، ووصف المنزل الذي عاش سنواته الأولى فيه.. يتحدث عن شغفه بالريف، وشقاوته المفرطة، وعن أول يوم ذهب فيه إلى الكُتّاب كي يحفظ القرآن الكريم ويتعلم القراءة والكتابة، ولم يَفُتْهُ الحديث حتى عن طلاق أخته من زوجها بسبب "حماتها" التي "نغّصت عليها عيشها"، أو عن مخاوفه من أبيه وأخيه الأكبر، لذا فهذه الأوراق تُعَدُّ وثيقةً لتلك الفترة من حياة نجيب محفوظ ورؤيته للعالم في تلك المرحلة العمرية، بحيث كتبها بلسان الطفل الذي كانه منذ عهدٍ قريبٍ.
ويحاكي محفوظ في مخطوطه أسلوب طه حسين محاكاةً بدائيةً في أسلوبه، والموضوعات التي طرقها "العميد" في "الأيام"، فيبدأ كما بدأ حسين قائلاً "لا يذكر"، وهي العبارة نفسها التي يبدأ بها نجيب محفوظ.
يقول طه حسين في مفتتح سيرته "لا يذكر لهذا اليوم اسماً، ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة، بل لا يستطيع أن يذكر من هذا اليوم وقتاً بعينه، وإنما يقرّب ذلك تقريباً...".
ويبدأ المراهق -وقتها- نجيب محفوظ كراسَّهُ بقَوْلِهِ: "لا يذكر أي شيءٍ أحسَّهُ وتحقَّقَهُ عقْلُه، من ذا يذكر؟ ربما ثدي أمه لأنه من الأشياء التي تُعْرَف بالغريزة والتي يتحسَّسُها الطفل بلا إدراك، ولكنه خمَّنَ ذلك تخميناً، وفي وقتٍ متأخرٍ عن عهد الطفولة".
ويظهر من هاتين البدايتين التشابه الواضح من الحديث بضمير الغائب، والبحث عن الذكرى الأولى وعدم القدرة على تحديديها بدقة، بل إن محفوظ قلَّدَ طه حسين في استخدامه لحاسّة اللمس التي كانت تحل محل البصر عند "عميد الأدب العربي"، فجعلها محفوظ كذلك.
وكما يصف طه حسين عالَمَهُ وسياج القصب والأرانب، يصف محفوظ الحجرة التي وُلِدَ فيها حيث عاش طفولته وحجرة الدجاج.
ويستخدم "العميد" أسلوب "كان الفتى"، وهي الصيغة ذاتها التي يعتمدها محفوظ، وكما تكلَّمَ صاحب "الأيام" عن العفاريت وخوفه منها يفعل محفوظ الذي يسير في مخطوطته على خُطَى طه حسين، وعلى هداه، متناولاً المواضيع ذاتها التي طَرَقَها وتكلَّمَ عنها حسين من قبله، والأمثلة حول ذلك كثيرة.
ويُوَضِّح شعير في الفصل المُعَنْوَن بـ"النص المؤسّس" أن السّيَر الذاتية كانت نمطاً شائعاً في مصر بين الطبقة المتوسطة، للتعبير عن الروح الجديدة التي بثَّتْها ثورة 1919، وأن الكثير من السياسيين المصريين مثل: سعد زغلول، ومصطفى النحاس، وأحمد عرابي، وإسماعيل صدقي، وأحمد شفيق، كانوا قد كتبوا مذكراتهم، إلا أن شعير في حديثه يخلط بين فن السير الذاتية واليوميات والمذكرات وأدب الاعتراف، معتبراً أن "أيام" طه حسين و"أعوام" نجيب محفوظ هي من قبيل أدب الاعتراف، قائلاً: "لم يفعل طه حسين في "الأيام" سوى الخروج إلى العلن بما افترضه كثيرون كتابة سرية. لذا فنصُّه هو النَّصّ المؤسس لكتابة الاعترافات في الثقافة العربية، والتي يندرج تحتها العديد من التسميات أو التصنيفات: سيرة، ومذكرات، ويوميات وغيرها...".
إلا أنَّ كل نوع من هذه الأجناس الأدبية له سماته الخاصة التي تفْصِلُهُ عن الجنس الآخر، فأدب الاعتراف نادر الوجود في الأدب العربي فهو أدب ذو طبيعة فضائحية، إن صحّ الوصف، وهو نوعٌ من الأدب أرسى قواعده جان جاك روسّو في "الإنسان في أصدق صوَرِه"، مُقدّماً إياه بقوله "إنني مُقْدِمٌ على مشروعٍ لم يسبقه مثيل، ولن يكون له نظير، إذ إنني أبغي أن أعرض على أقراني إنساناً في أصدق صور طبيعته.. وهذا الإنسان هو: أنا! أنا وحدي!…".
ولأدب الاعتراف سماتٌ خمس حدَّدَها الناقد الفرنسي فيليب لوجون، بوصفها "حكيٌ استعاديٌّ نثريٌّ يقوم به شخصٌ واقعيٌّ عن وجوده الخاص، وذلك بتركيزه على حياته الفردية، وتاريخ شخصيته بصفةٍ خاصة".
أما السيرة الذاتية في أبسط تعريف لها، فهي تأريخ لحياة الإنسان، خاصة هؤلاء الذين لهم أدوار مؤثرة في المجتمع، ويجد الناس متعة في معرفة بداياتهم ومشوار حياتهم.. وهنا يُفرّق الأديب خيري شلبي بينها وبين أدب الاعتراف بقوله: "السيرة هي تأريخ لحياة ومشوار المبدع أو الأديب، ولا يكون مطالباً فيها بالكشف عن حياته الخاصة وتفاصيلها الدقيقة لما في ذلك من صدمة للمجتمع، أما أدب الاعتراف فهو جنس أدبي يقرر من خلاله صاحبه البوح والإفصاح، حتى "يُريح ويستريح".
أما أدب المذاكرات، ورغم تشابهه مع أدب الاعتراف، إلا أن هناك فاصلاً جوهرياً بينهما، هو أن أدب الاعتراف يروي أحداثاً شخصية لمدة زمنية طويلة، بينما تدور أحداث اليوميات في فترة زمنية معينة بشكل شامل ومتسع، وأكثر دقة زمنيّاً، باعتبارها قريبة جداً من الذاكرة.
في حين تمزج الرواية السيَريَّة، وهي أحدث أنواع الأجناس الأدبية في هذا الجانب، ما بين الواقعية والمصداقية التي يُحتّمها أدب السيرة الذاتية والخيال الذي هو أحد دعائم الرواية، فبامتزاجهما معاً تنتج الرواية السيَريّة، بما يُتيح للكاتب صياغة حياته بشكلٍ أكثر إثارة، وفي الوقت نفسه لا يخرج عن الواقعية.
ويُعَدُّ الأديب الفرنسي باتريك موديانو الحاصل على نوبل الآداب في العام 2014، من أشهر من كتبوا في هذا النطاق، خاصةً في روايته "دفتر العائلة وسلالة"، فيما يُعَدُّ كتاب "الأيام" لطه حسين من هذا النوع الأدبي.
لذا يصعب في ظنّي إدراج "أيام" طه حسين، بأي حالٍ من الأحوال، ضمن أدب الاعتراف، ولا ما فعله نجيب محفوظ في كرّاسة "الأعوام"، كما أنه يجب إدراك الحدود الفاصلة بين كل جنس أدبي وآخر.
وبذل محمد شعير جهداً مميزاً في استخلاص كيف وظَّفَ نجيب محفوظ شخصيّات حضرت في "الأعوام" عبر أعماله الأدبية، بحيث تبدو بعض الشخصيات الروائية أقرب إلى شخصية نجيب محفوظ ذاتها.
يبقى أن أشير، إلى أنه، ومن بين الإشكاليات التي رافقت كتاب شُعَيْر السابق "سيرة الرواية المحرمة"، واستطاع تلافيها في هذا الكتاب، توثيقه للمعلومات التي يذكُرُها، وردّها إلى مصادرها، ما يجعل للكتاب قيمة أكبر، بينما يتميّز كما في كتابه السابق بالأسلوب السرديّ الروائيّ الشيّق الذي يقدم عبره شعير معلوماته.