لعلَّ أطول عزلة فرضها شاعر على نفسه، هي عزلة أبي العلاء في بلدته معرة النعمان، حيث امتدت ما يقارب الخمسين عاماً، كتب فيها الشيخ الضرير أعظم ما كتب: لزوم مالا يلزم، وعبث الوليد، وغيرهما من الكتب الخالدة التي فقد منها الكثير!دخل أبو العلاء منزله، واعتزل الناس، لم يخرج إلا مرة واحدة.
حين حمله قومه على الخروج ليشفع لهم عند القائد العسكري أسد الدولة صالح بن مرداس، صاحب حلب، ليطلب منه فك الحصار عن المعرة، وكان له ذلك، وقال له صالح:" لقد وهبتها لك يا أبا العلاء" ورحل عن المعرة إكراماً لأبي العلاء! ولم يكن أبو العلاء يطمح في ملك ولا مال ليأخذ بلدته الفقيرة هبة من أحد! وعاد إلى محبسه، راداً اعتراف قومه له بالفضل وإنقاذه لهم من براثن صالح، قائلاً: "ما كان لي فيها جناح بعوضة.." في عزلته هذه التي عزم عليها في بغداد، أو في طريق الإياب من بغداد إلى المعرة، أغلق أبو العلاء على نفسه، وأراد الاعتزال التام،أن تكون عزلته بمثابة قلعة لا يصلها أحد، إلا أنه لم يفلح، فاقتحم الناس عليه عزلته، وقصده طلاب العلم من كل ديار الإسلام! كان يرى: " في الوحدة الراحة العظمى، فأحنى بها / قلباً، وفي الكون بين الناس أثقال". لكن مع ملاحظة أن عزلة أبي العلاء ليست نابعة من عدوانية أو استعلاء، وهو القائل:
" ولو أني حبيت الخلد فرداً لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلادا"
لقد أزهرت عزلة المعري القاسية، روائع شامخات. ولم يكن فريداً في تاريخ العزلة المبدعة، إذ يتحدث الرواة عن عزلة هوميروس، وعزلة جون ملتون، والثلاثة عميان! وثمة شعراء كثر كانوا ينشدون الوحدة، والسكينة! وفي التجليات الحادة لدعوات الانفصال عن الناس وتجنب الاختلاط بهم ما قد يؤدي إلى الجنون كما عند الألماني "هلدرلن" وهو القائل:" لماذا، في صدري لا تنام الشوكة أبداً؟" وبدرجة أقل عند "ريلكه". في الشعر العربي القديم، اختار الشنفرى ،في لامية العرب، حيوانات البرية أهلاً وأصدقاء! وسمع شاعر آخر يقول: "عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى / وصوت إنسان فكدت أطير"
وبورخس أيضاً، الذي كرس صورة الأعمى المنسحب من العالم، كان يمجد العزلة، ولا يرى الذات خارج المتاهة! وعاش ردحاً من عمره منطوياً في مكتبة عامة، و يبرر ذلك، قائلاً بتواضع، إن السمة الغالبة على شخصه، هي أنه قارئ أكثر مما هو كاتب. ويروى أن الكاتبين الأرلنديين الشهيرين: جيمس جويس، وصموئل بيكيت كانا يلتقيان يومياً في مقهى باريسي، يجلسان أربع ساعات على طاولة واحدة، دون أن يتكلما بشيء!أما الشاعر الانكليزي بايرون فكان يقول: "أنا لم أحب الدنيا/ ولا الدنيا أحبتني... وما استطاعت الجماهير أن تعدني في عدادها/ لقد وقفت بينهم وما كنت منهم/ تلفني أفكار ليست أفكارهم..".
هذا الانفصال بين الشاعر وبين الناس، لا يعني الانعزالية الناتجة عن التشاؤم ، بل على العكس يمكن أن يكون هؤلاء أشد حنواً على البشر، وداعين لإصلاح مصيرهم! لكن، حين يضج العالم بالثرثرة، والتفاهة، والكذب، ويصخب بالفوضى والجنون! يكون الصمت والعزلة ملاذين لمواصلة صوت التهكم والسخرية! وتكون قلعة العزلة التي شيدها الشعراء والمبدعون مجرد هيكل من كلمات، سرعان ما يتداعى، ولنكتشف أيضاً أن كائنات العزلة هؤلاء هم صوفيون مقنعون بالقسوة، وربما علينا أن نغفر لهم إذا ما صدقنا مارسيل بروست، حين قال:
"تولد الكتب المهمة في الظلام والصمت، وليس في وضح النهار، وفي مساحات الثرثرة اليومية".
حين حمله قومه على الخروج ليشفع لهم عند القائد العسكري أسد الدولة صالح بن مرداس، صاحب حلب، ليطلب منه فك الحصار عن المعرة، وكان له ذلك، وقال له صالح:" لقد وهبتها لك يا أبا العلاء" ورحل عن المعرة إكراماً لأبي العلاء! ولم يكن أبو العلاء يطمح في ملك ولا مال ليأخذ بلدته الفقيرة هبة من أحد! وعاد إلى محبسه، راداً اعتراف قومه له بالفضل وإنقاذه لهم من براثن صالح، قائلاً: "ما كان لي فيها جناح بعوضة.." في عزلته هذه التي عزم عليها في بغداد، أو في طريق الإياب من بغداد إلى المعرة، أغلق أبو العلاء على نفسه، وأراد الاعتزال التام،أن تكون عزلته بمثابة قلعة لا يصلها أحد، إلا أنه لم يفلح، فاقتحم الناس عليه عزلته، وقصده طلاب العلم من كل ديار الإسلام! كان يرى: " في الوحدة الراحة العظمى، فأحنى بها / قلباً، وفي الكون بين الناس أثقال". لكن مع ملاحظة أن عزلة أبي العلاء ليست نابعة من عدوانية أو استعلاء، وهو القائل:
" ولو أني حبيت الخلد فرداً لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلادا"
لقد أزهرت عزلة المعري القاسية، روائع شامخات. ولم يكن فريداً في تاريخ العزلة المبدعة، إذ يتحدث الرواة عن عزلة هوميروس، وعزلة جون ملتون، والثلاثة عميان! وثمة شعراء كثر كانوا ينشدون الوحدة، والسكينة! وفي التجليات الحادة لدعوات الانفصال عن الناس وتجنب الاختلاط بهم ما قد يؤدي إلى الجنون كما عند الألماني "هلدرلن" وهو القائل:" لماذا، في صدري لا تنام الشوكة أبداً؟" وبدرجة أقل عند "ريلكه". في الشعر العربي القديم، اختار الشنفرى ،في لامية العرب، حيوانات البرية أهلاً وأصدقاء! وسمع شاعر آخر يقول: "عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى / وصوت إنسان فكدت أطير"
وبورخس أيضاً، الذي كرس صورة الأعمى المنسحب من العالم، كان يمجد العزلة، ولا يرى الذات خارج المتاهة! وعاش ردحاً من عمره منطوياً في مكتبة عامة، و يبرر ذلك، قائلاً بتواضع، إن السمة الغالبة على شخصه، هي أنه قارئ أكثر مما هو كاتب. ويروى أن الكاتبين الأرلنديين الشهيرين: جيمس جويس، وصموئل بيكيت كانا يلتقيان يومياً في مقهى باريسي، يجلسان أربع ساعات على طاولة واحدة، دون أن يتكلما بشيء!أما الشاعر الانكليزي بايرون فكان يقول: "أنا لم أحب الدنيا/ ولا الدنيا أحبتني... وما استطاعت الجماهير أن تعدني في عدادها/ لقد وقفت بينهم وما كنت منهم/ تلفني أفكار ليست أفكارهم..".
هذا الانفصال بين الشاعر وبين الناس، لا يعني الانعزالية الناتجة عن التشاؤم ، بل على العكس يمكن أن يكون هؤلاء أشد حنواً على البشر، وداعين لإصلاح مصيرهم! لكن، حين يضج العالم بالثرثرة، والتفاهة، والكذب، ويصخب بالفوضى والجنون! يكون الصمت والعزلة ملاذين لمواصلة صوت التهكم والسخرية! وتكون قلعة العزلة التي شيدها الشعراء والمبدعون مجرد هيكل من كلمات، سرعان ما يتداعى، ولنكتشف أيضاً أن كائنات العزلة هؤلاء هم صوفيون مقنعون بالقسوة، وربما علينا أن نغفر لهم إذا ما صدقنا مارسيل بروست، حين قال:
"تولد الكتب المهمة في الظلام والصمت، وليس في وضح النهار، وفي مساحات الثرثرة اليومية".