«إن جسد التاريخ كله ليس سوى سرد مطوّل». ليست هذه العبارة لي، ولا لكاتب حديث، إنها للكاتب السوري القديم والمدهش: «لوقيان السميساطي» من القرن الثاني الميلادي.
وهي ترد في سياق رسالة له بعنوان: «كيف يجب أن يكتب التاريخ؟». وهذه الرسالة، باعتقادي، ليس لها مثيل في التكامل والروعة والدقة والأسلوب الساحر، وهي تصلح لكل العصور حتى يومنا هذا! لوقيان كاتب سوري ساخر، كان متشبعاً بالثقافة اليونانية، وله 80 مؤلفاً، منها: محاورات الآلهة، محاورات الموتى، وأقاصيص عديدة يسخر فيها من الخرافات والرذائل التي كانت تسود ثقافة عصره. وقد عرفه الغربيون، و له قصة بعنوان : «قصة حقيقية» هي عبارة عن رحلة خيالية في الفضاء، تأثر بها الروائيون التنويريون في رواياتهم، وشبه لوقيان بفولتير عصره، إلا أن الغربيين أصروا، عن خبث أو غير خبث، على يونانية الرجل، رغم معرفتهم بهويته السورية الأصيلة، ولتأكيد يونانيته يصرون على إلحاق حرف السين باسمه ليصبح «لوقيانوس»! ويدعمون موقفهم هذا بأن لوقيان كان يكتب باللغة اليونانية، التي كانت لغة التأليف والثقافة في زمنه، وكان يتحدث السريانية في حياته اليومية في بلده، مثل معظم السوريين. ومن المتأثرين به، وباعتراف نقاد الغرب: فولتير، رابليه، ديدرو، سويفت... وكان لوقيان يعي سوريته تماماً، ففي كثير من المرات عندما يتحدث عن نفسه في كتاباته، يصف نفسه بالسوري، ويقول: «أنا السوري» وله كتاب: «تاريخ الآلة السورية» وهو كتاب مهم ترجم ونشر في دمشق، طبق فيه نظريته في كتابة التاريخ التي وردت في الرسالة، وهي قائمة على السمو بكرامة التاريخ عبر نشر الحقائق والوقائع بأسلوب يحقق المتعة والفائدة، بدقة، وبلا مبالغات، وبلا تلفيق وكذب، وبعيداً عن الجنوح الخيالي..وبما أن رسالته هذه التي أرسلها إلى صديق له يدعى: «فيلون» يعبر له عن ضيقه الشديد من كثرة المؤرخين، واستسهال الكتابة، وتراكم الأخطاء والحماقات، ما يجعل «الصمت غير ممكن بين هذه الأصوات الصاخبة» وقبل أن تتفاقم الأمور، ويصفق الجمهور للأكاذيب، وتوضع المؤلفات في بلاطات الملوك، وتغدو حقائق يستحيل تغييرها! لهذا كله يقدم نصائحه للمؤرخين، التي نلخص منها: أن تتوفر عند المؤرخ صفتان أساسيتان، تستمد من أصالته نفسها، وهما: الذكاء السياسي، والوضوح في التعبير، الأولى موهبة طبيعية، وأما الثانية فيمكن صقلها بالممارسة والعمل الدائب. ضرورة معرفة جغرافية الأحداث، والتسلسل التاريخي، ورواية الأحداث كما جرت، وأن يضع المؤرخ نصب عينيه الذين سيقرؤونه في الآتي من الأيام، أن يكون المؤرخ حراً يصادق الحقيقة والصراحة، ويروي بوضوح ما وقع فعلاً دون تهيب أو وجل، ويتمتع بالقدرة على التحليل والاستنتاج والتمييز، والشك بالمرويات، وإجراء المقارنات التي تنشط الذكاء والتنبه عند القارئ، كما يحبذ لوقيان أن يكتب المؤرخ مقدمة يشرح فيها ما سيقوله، وبعد كل هذا، يغدو السرد سهلاً طبيعياً «إذ إن جسد التاريخ كله ليس سوى سرد مطوّل. لذا وجب علينا أن نزينه بجميع ما تمتاز به القصة، وأن يكون سيره موحداً متوازياً، منسجماً مع نفسه، دون رفع أو خفض، وأن يكون ذا وضوح جلي، يهب لجميع قصصه شكلاً تاماً وكاملاً..»، مع التأكيد على «أن الإيجاز ضروري دوماً، بخاصة حين يكون لدينا الكثير مما نقوله، أعني أن نمر مسرعين بالأشياء البسيطة ذات الفائدة الضئيلة، كما نفيض بما يكفي حول الأمور الكبيرة..». إن نصائح لوقيان، هذه، هي نقد فني وأخلاقي للمؤرخين، وتأكيد على أن التاريخ جسد فني سردي، أي إن التاريخ رواية، كما أن الرواية تاريخ بشكل أو بآخر! وهذه شهادة متقدمة من فيلسوف وأديب كبير عن علاقة الرواية بالتاريخ.
وإذا كان كتابنا المعاصرون ينالون جوائز مالية على الهذيان الذي يكتبونه، إذا ما قيس بكتابة لوقيان، فالجائزة الأعظم التي نمنحها لأنفسنا وللوقيان؛ هي أن نقرأه جيداً نحن السوريين على الأقل.
وهي ترد في سياق رسالة له بعنوان: «كيف يجب أن يكتب التاريخ؟». وهذه الرسالة، باعتقادي، ليس لها مثيل في التكامل والروعة والدقة والأسلوب الساحر، وهي تصلح لكل العصور حتى يومنا هذا! لوقيان كاتب سوري ساخر، كان متشبعاً بالثقافة اليونانية، وله 80 مؤلفاً، منها: محاورات الآلهة، محاورات الموتى، وأقاصيص عديدة يسخر فيها من الخرافات والرذائل التي كانت تسود ثقافة عصره. وقد عرفه الغربيون، و له قصة بعنوان : «قصة حقيقية» هي عبارة عن رحلة خيالية في الفضاء، تأثر بها الروائيون التنويريون في رواياتهم، وشبه لوقيان بفولتير عصره، إلا أن الغربيين أصروا، عن خبث أو غير خبث، على يونانية الرجل، رغم معرفتهم بهويته السورية الأصيلة، ولتأكيد يونانيته يصرون على إلحاق حرف السين باسمه ليصبح «لوقيانوس»! ويدعمون موقفهم هذا بأن لوقيان كان يكتب باللغة اليونانية، التي كانت لغة التأليف والثقافة في زمنه، وكان يتحدث السريانية في حياته اليومية في بلده، مثل معظم السوريين. ومن المتأثرين به، وباعتراف نقاد الغرب: فولتير، رابليه، ديدرو، سويفت... وكان لوقيان يعي سوريته تماماً، ففي كثير من المرات عندما يتحدث عن نفسه في كتاباته، يصف نفسه بالسوري، ويقول: «أنا السوري» وله كتاب: «تاريخ الآلة السورية» وهو كتاب مهم ترجم ونشر في دمشق، طبق فيه نظريته في كتابة التاريخ التي وردت في الرسالة، وهي قائمة على السمو بكرامة التاريخ عبر نشر الحقائق والوقائع بأسلوب يحقق المتعة والفائدة، بدقة، وبلا مبالغات، وبلا تلفيق وكذب، وبعيداً عن الجنوح الخيالي..وبما أن رسالته هذه التي أرسلها إلى صديق له يدعى: «فيلون» يعبر له عن ضيقه الشديد من كثرة المؤرخين، واستسهال الكتابة، وتراكم الأخطاء والحماقات، ما يجعل «الصمت غير ممكن بين هذه الأصوات الصاخبة» وقبل أن تتفاقم الأمور، ويصفق الجمهور للأكاذيب، وتوضع المؤلفات في بلاطات الملوك، وتغدو حقائق يستحيل تغييرها! لهذا كله يقدم نصائحه للمؤرخين، التي نلخص منها: أن تتوفر عند المؤرخ صفتان أساسيتان، تستمد من أصالته نفسها، وهما: الذكاء السياسي، والوضوح في التعبير، الأولى موهبة طبيعية، وأما الثانية فيمكن صقلها بالممارسة والعمل الدائب. ضرورة معرفة جغرافية الأحداث، والتسلسل التاريخي، ورواية الأحداث كما جرت، وأن يضع المؤرخ نصب عينيه الذين سيقرؤونه في الآتي من الأيام، أن يكون المؤرخ حراً يصادق الحقيقة والصراحة، ويروي بوضوح ما وقع فعلاً دون تهيب أو وجل، ويتمتع بالقدرة على التحليل والاستنتاج والتمييز، والشك بالمرويات، وإجراء المقارنات التي تنشط الذكاء والتنبه عند القارئ، كما يحبذ لوقيان أن يكتب المؤرخ مقدمة يشرح فيها ما سيقوله، وبعد كل هذا، يغدو السرد سهلاً طبيعياً «إذ إن جسد التاريخ كله ليس سوى سرد مطوّل. لذا وجب علينا أن نزينه بجميع ما تمتاز به القصة، وأن يكون سيره موحداً متوازياً، منسجماً مع نفسه، دون رفع أو خفض، وأن يكون ذا وضوح جلي، يهب لجميع قصصه شكلاً تاماً وكاملاً..»، مع التأكيد على «أن الإيجاز ضروري دوماً، بخاصة حين يكون لدينا الكثير مما نقوله، أعني أن نمر مسرعين بالأشياء البسيطة ذات الفائدة الضئيلة، كما نفيض بما يكفي حول الأمور الكبيرة..». إن نصائح لوقيان، هذه، هي نقد فني وأخلاقي للمؤرخين، وتأكيد على أن التاريخ جسد فني سردي، أي إن التاريخ رواية، كما أن الرواية تاريخ بشكل أو بآخر! وهذه شهادة متقدمة من فيلسوف وأديب كبير عن علاقة الرواية بالتاريخ.
وإذا كان كتابنا المعاصرون ينالون جوائز مالية على الهذيان الذي يكتبونه، إذا ما قيس بكتابة لوقيان، فالجائزة الأعظم التي نمنحها لأنفسنا وللوقيان؛ هي أن نقرأه جيداً نحن السوريين على الأقل.