محمد شوكت التوني - ليلة... من عمر فتاة!

منذ الساعة الثالثة بعد الظهر وأمينة في عراك بينها وبين نفسها. فمرة تقوم لترتدي ثيابها وتعد نفسها لملاقاة (صادق). ولكنها لا تلبث حتى تلقي الملابس وترمي أدوات الزينة مهتاجة الأعصاب ثائرة النفس. فإنها لا تريد لقاءه ولا تبغي أن تشاهد وجهه ولا أن تستمع إلى حديثه، ولا أن تبادله ذياك الحديث. فقد أصبح بغيضاً لديها، كريهاً في عينها، منبوذاً من كل عواطفها إلا عاطفة الحقد. لقد عرفته أول ما عرفته شاباً وادعاً رقيقاً ملأ أذنيها بأحاديث الهوى، وصور لها دنياها زهوراً ورياحين، وأضاء في قلبها نور الأمل، وأشعل في نفسها جمرة الحياة الحلوة الهنيئة، وحسبته صادقاً في قوله مخلصاً في حبه، وفياً بعواطفه، يريدها شريكة له تقاسمه نعماء الحياة وبأساءها، يبنيان معاً كالعصفورين عشاً يتذوقان فيه جمال الدنيا وينعمان فيه بسقسقه صغارهما زينة الحياة وذخر الباقية.

وكانت قد اطمأنت إليه وأنست لحبه، وبادلته النجوى كما بادلته رسائل تفيض سطورها بأشد العواطف، وتسجل في كلماتها خفقات قلبها.

وكان لقاؤهما أول العهد نادراً لا يستطيعانه، فكانت الرسائل عزاءهما وسلوتهما، ورسول قلبيهما؛ وكان والدها رجلاً شهماً قوي الشكيمة، يحيط منزله بعنايته ويتعهده برعايته، فكان الإفلات من حضانته عسيراً: ولكن الشباب لا يُغلب والعاطفة في زمنه لا تقهر، تستطيع أن تنفذ ولو في الصخر الصلد. وعلى ذلك فقد تقابل العاشقان بعد طول البعد. وبعد أن ربط بين قلبيهما مجرد النظر والميل الغريزي والخيال البارع، ووثقت الروابط والعلاقات الرسائل التي كانا يتبادلانها، والتي كانت ألفاظها تحمل من المعاني ما هو أبعد ما يكون عن الحقيقة لأنه نضح الخيال وثمرة الأمل الواسع والرجاء الفسيح.

ولكن المقابلة وتكرارها مرة أخرى باعدت بين العاشقين، فقد عرفت من أمره ما غاب عنها بين سطور الرسائل، فهو يريدها كما يريد الرجل المرأة، تدفعه شهوة الشباب الغلابة التي تتشكل في صورة العاطفة وقد تسمو وترقى، وتأخذ هيكل المثل الأعلى ولكنها لا تلبث عند اللقاء واللمس وتذوق القبلة والعناق أن تنكشف وتتساقط جافة صفراء من فوقها ومن حوله الأوراق التي كانت تسترها مخضرة منداة، عليها طلاوة الغضارة ورونق النضارة. ويصفق في ذلك الكيان البشري كفّا الرغبة فيزلزل الجسم ويخون اللسان صاحبه، وتكشف النظرات خديعة الخيال.

أدركت (أمينة) كل هذا، وكشفت من أمر صاحبها ما رابها أول الأمر، فتعللت بالآمال واستنجدت بخداع نفسها، ولكنها لم تستطع الثبات وأيقنت في آخر الأمر أنه باطل ما أملت، وخيبة ما رجت، ووهم ما تخيلت، وأن العش الذي بنته في سبحات الروح إنما هو في الحقيقة كهف مظلم ينتظرها فيه إنسان في صورته الوحشية الأولى، أو بالحري حيوان على أديمه طيف إنسان! فجفلت ونفرت وارتاعت، وكان عنصر نفسها قوياً فلم تستسلم أو ترتمي حطاماً وتتكسر هشيماً، فأعرضت وصدت عن (صادق) وأرسلت إليه تعلنه بالقطيعة وتحول بينه وبين قلبها وبين جسمها، وتحذره أن يعاود أمره معها أو يحاول الاتصال من جديد بها.

ولكن الوحش الذي كان ينظر فريسته في الكهف المظلم هاجه أن تفلت في لحظة قد أعد فيها الوقود، وتلهب سعير ذلك الوقود في كل قطعة من كيانه، ونادته غريزته أن لا بد من الفوز ولو بارتكاب الجريمة، فعمد إلى تهديدها وسطر لها الخطاب الآتي:

(أمينة)!

(لا تحسبي أمري من الهون بحيث تنقضين وتبرمين في حياتي بمجرد رغبتك وحسب إرادتك. أنت لي، قلباً وجسماً، ولو اصطف أهلك جيشاً، وأعدوا من السلاح أشده وأقتله. فارجعي إليّ وعودي إلى أحضاني، وإلا فليس في يدي غير الانتقام، وعدته جاهزة، وسلاحه مرهف، وخطاباتك أمامي الآن بخط يدك، أرسل بعضها إلى أبيك، وأضعها في يد زملاء أخيك بالمدرسة، وأذيعها على صفحات الجرائد، وفي كل صالون من جيرتك، فتنهال فوق جسمك الذي تضنين به على قبلاتي ومتعتي، العصي والسياط، وينتشر العار حول اسمك، فينالك من رفيقاتك الخزي ومن الراغبين في زواجك الصد والبعد.

إني أنتظرك في الساعة الخامسة من مساء ليوم في مكان لقائنا المعروف. فإن لم تحضري ففي الساعة الثامنة غداً صباحاً سأبدأ انتقامي وتكون في يد أبيك رسائلك، ولقد أنذرتك فأعذرت) (صادق)

لم تكن أمينة تترقب وقوع هذه الكارثة، وكانت تحسب أنه يكفي أن تعلنه بالقطيعة حتى ينقطع، وأنه حسبها ما تعاني من ألم الخيبة وصدمة الفشل.

لقد كن أول حب نما في قلبها، وكانت فجيعتها فيه لا تقل عن فجيعة الأم الشابة في وليدها الأول الذي لم تكن تصدق أنه يموت من بين يديها، فأعدت الآمال وحاطته برجاء نفسها المطمئنة.

ولقد كان صادق في نظرها شاباً وادعاً هادئاً، ثم رأت منه جنوحاً إلى تكييف العلاقة التي بينهما بصورة لا تريدها. ولم يكن يخطر ببالها أنه سوف ينحط عن هذا درجة بله درجات فيهبط من السماء التي كان يتيه فيها ملكاً فيصبح مجرماً كملايين المجرمين الذين يملئون فجاج الأرض!

إنها نادمة على ما فرط منها من التسرع في مبادلتها الحب لشاب عرفته بالنظر ولم تعرفه بالفكر ولا التجربة، ورأت في نفسها مجرمة في حق نفسها، فهي تريده عاشقاً روحياً عذرياً، ينظر إليها كزوجة المستقبل، مع أن حبهما كان وليد النظرة، ولم يكن ثمرة التعاطف الروحي. . .

إذن هي لم تحبه؛ لم تعشق هذا الإنسان المدعو (صادقاً)، ولكنها أحبت (محبوباً)، رجلاً، لأن (سالبها) الروحي كان معداً (لموجب)، بصرف النظر عن شخصية من يمثله، فأي شاب كان قد حل محله جديراً بأن ينال مركزه في قلبها.

وهذه هي الخفقة الأولى للحب، تتكون عناصرها بسرعة البرق، وتعيش في قلب صاحبها بلهاء! والسعيد من فارقته وشيكاً، والشقي من أطالت رفقتها معه وأثمرت له زواجاً، أو عشرة محرمة، كلاهما يفضي بحياة صاحبه إلى التعاسة.

مرّ كل هذا بخاطر أمينة، ولكنها تذكرت أن هذا الشاب الذي يكتب مثل هذا الكتاب ويتقلب مثل هذا التقلب، لا يحجم عن تنفيذ تهديده، فهو لابد فاعل ما انتوى؛ وغداً في الصباح ستقع في يد أبيها رزمة من الأوراق بخط ابنته التي يعتقد أنها قديسة، والتي يعيش من أجل رفاهتها وسعادتها، ويحوطها بحنانه وشدته كي يبعد عنها عناصر الشر والسوء.

إن التفكير في هول السعير كان ألطف وقعاً عندها من التفكير فيما عسى أن يفعل أبوها، وهو ذلك الرجل القوي الذي يبعث الرعب في نفس كل من حوله من نظرته، والذي إذا قدم البيت شاع فيه السكون وعقد الصمت ألسنة سكانه، والذي يضرب المثل بالمصلحة الحكومية التي يديرها من حيث إنجاز العمل فيها والهدوء الذي يهيمن على نواحيها، والذي يخافه أهل العزبة خوفاً لعلهم - بينهم وبين أنفسهم - لا يخافون الله مثله.

العزبة! لقد مرت على رأسها ذكريات ذلك الشاب القروي الذي يسكن العزبة، والذي اتهمه شيخها بأنه يتصل بفتاة قروية مثله، فأحضره أبوها وجلده بالسوط حتى كاد أن يموت، وأجبره على الزواج منها والرحيل عن العزبة!

ترى إذا كان هذا فعله بالقروي الحقير، الغريب عنه، فماذا هو فاعل بابنته، عرضه، دمه ولحمه؟!

أتراه إذا قرأ خطاباتها إلى صادق، وهي تدعوه فيها (حبيبها) و (أملها)، والتي تسهب فيها في شرح عواطفها وما يخالج فؤادها من عشق مبرح وهوى جائح، والتي تصف فيها سهرها الليل ومناجاتها إياه، وتفكيرها في السعي إليه وهجران الدار إلى لقائه، لولا ما وضع أمامها من موانع، والتي تذكر في بعضها كيف حطمت هذه الموانع ولاقته؟!. . .

وكانت كلما تذكرت أباها عندما يدرك أن ابنته الصغيرة كانت تخدعه وتسخر من قواعده المقررة في الدار، وتعصي أوامره، وتتستر بالأعذار الكاذبة لتلاقي. . . عشيقاً لها! ينتصب شعر رأسها فزعاً وترتعش كمن مسه تيار كهربائي، وتتساءل: يا ترى إذا رحم شبابها، وذكر أنها كبده وثمرة حشاه، هل يكتفي بقتلها برصاصة تودي بحياتها دون أن يطيل عذابها؟!

عند هذا الخاطر كانت تضعف أمينة، فتقوم من نورها إلى ثيابها ترتديها تنوي الذهاب لملاقاته والتوسل إليه كي يقلع عما قطع فيه بعزمه، لعله يلين ويرفق بحالها، ولكنها سرعان ما ترجع عما نوت، وتظهر لها خسة هذا الشاب وحقارته، وكيف أنه لجأ إلى التهديد بدل أن يلجأ إلى الرجاء، (وهذا الخلق من شأنه) أن يجعل صاحبه يتمادى لا يرق للرجاء والتوسل! ثم. . كيف ترجو وكيف تتوسل؟ وترجو من؟ هذا الوضيع؟ إن الموت أحب إليها من أن تفعل، وملاقاة حتفها أيسر من تحطيم كبريائها وعيشها ذليلة يتصرف في شأنها رجل تكرهه، بل ذئب يشتهيها، وهي كالأمة، لا تملك إلا الرضاء والتسليم.

ترجع فتخلع ما لبست وترتمي محطمة على الأريكة وحياتها أمامها مظلمة لا ينبثق منها نور ولو من بعيد.

ثم تتذكر تهديد صادق لها بأن يعرض رسائلها على زملاء أخيها في المدرسة، وتتصور أخاها الشاب الكامل، البسام، المرح، المعتز بقوة عقله وقوة جسمه، فهو الأول بين أقرانه، وهو بطل المدرسة في الملاكمة، وهو يعد نفسه ليدخل مدرسة البوليس ليصبح ضابطاً. كيف يكون حاله لو شاع هذا الأمر بين زملائه وأصبح عرضة للازدراء والتحقير والتعيير؟ ستتحطم كبرياؤه ويمشي بينهم منكس الرأس عاني الجبين. . .

يا ترى هل ينتقم منها هو الآخر، أم يكفيه ما يحل به هو نفسه؟ إذن جنايتها مزدوجة. لقد حطمت نفسها وقتلت أخاها! ما أكره هذا الحب. ما أبعده عما يصور الكتاب والشعراء وينطق الممثلون ويرسم المصورون! إنه خداع وكذب ووهم يعيش في ظلمات الرؤوس والنفوس، حتى إذا ما برز إلى ضوء الحياة ظهر كالمسيخ المجذوم المهزول!

وكان الليل يهبط، وظلامه ينبث في الكون، ونافذتها المطلة على الخلاء البعيد تسرق لها كثيراً من جمال الليل وجلاله، ولكنها كانت ترى كل جمال مشوهاً وكل جلال حقيراً.

لم تتناول طعاماً، ولم تخرج من غرفتها. فهي تروح فيها وتجيء، وترتمي على الأرائك والحشايا، ثم تهب مذعورة كأن في هذه المقاعد جمرات تتوقد ثم لا تلبث أن تسرع فتجلس مرة أخرى وتستسلم للتفكير. . . والليل يوغل في المسير، وكأنه يسير على صدرها بكلكله، والأفكار تتوالى على رأسها سوداء فتاكة. . .

إنه قد ينفذ تهديده الأخير وينشر أمره وأمرها في الصحف، والصحف أصبحت ميداناً لنشر فضائح الناس حقيقها ومكذوبها، ويعرف هؤلاء الناس عندئذ أن هذا (البك) الجبار الذي يشمخ بأنفه ويعتز بكرامته إنما هو أب فاسد عربيد لم يستطع أن يحتفظ بعرضه، فما باله يريد أن يملي إرادته على الناس أجمعين؟! ياله من أبله ذي غفلة!!

وأهلها وأصدقاؤها الذين يتوددون إليها ويبدون لها الزلفى، ويسعون لها بالحب سيزدرونها ويتنكرون لها ويصبحون ألسنة تذيع ما قد يستطيع أن ينشئه الخيال من قصتها.

لقد فقدت الأب والأخ والأهل والأصدقاء، وفقدت الكرامة، وفقدت آمالها وسوف تعيش منعزلة منبوذة - إن عاشت - وسوف تموت ذليلة مزدراة إن عالجها الموت فأراحها، وسوف تتقلى ذكراها على جمر القول السيئ ما دام في الزمن أيام تمر وليالي تعقبها. . .

لا مفر إذن من الموت. فلتعجل به لنفسها لعل موتها يدفن كل هذه المصائب، وتفتدي به حياة أبيها وأخيها، ولعل الذئب عندئذ تأخذ روعة الموت وجلاله بسفالته عن أن يستمرئ السير في انتقامه إلى النهاية. . وقامت عندئذ إلى (صيدليتها) الصغيرة فانتقت منها (اليزول) (واليود). ولكنها تراجعت تفكر. وهل من الصواب أن تثير فتنة نائمة؟ وهلا يتساءل الناس عما حدا بها إلى الانتحار ودفعها إلى معالجة شبابها الغض بهذا الدواء النكد المشئوم؟ وهلا يقول الناس أكثر من الحقيقة؟ وهل تضمن هي أن يكون لدى صادق ضمير يوقظه موتها فيستحي عن الاستمرار في سفالته؟

الأوفق إذن أن تسعي إلى قتله. . . هل تقتله حقيقة؟ هل تستطيع؟ إن سلاح أبيها في متناول يدها. ولكن هل تقوى على ارتكاب هذه الجريمة؟ أتحتمل أعصاب ساقيها السير إلى داره وارتقاء درجات مسكنه؟ وهل تقوى أعصاب يدها على حمل السلاح وإطلاق الرصاص؟ وهل تستطيع مواجهة ما يعقب الحادث؟؟

لا، إن هذا فوق الطاقة!

إذن أين المفر؟ وأين المهرب؟ لا منقذ اليوم!

اندفعت إلى النافذة، وكان الليل قد انتصف ودلف بنصفه الثاني إلى الفجر، وسكن الكون وسجا الليل، وكان يخيل للإنسان البائس الشقي أن الله مستمع إليه.

وقفت أمينة في النافذة وساءلت ربها: (يا ترى يا إلهي كم فتاة وقفت موقفي وسقطت من تأثير هذا الهول، ولم تعرف الناس أمرها، فراحوا يستعدون عليها انتقامك، ولو دروا لرحموها كرحمتك).

يا ترى يا رب أنت منقذي أم يشاء قضاؤك وقدرك أن أنحدر كالحصاة الضئيلة عندما تراوحها الريح، ثم تقذفها إلى المجرى ويلمها الخضم في أحشائه؟

إنك يا رب أنزلت المعجزات في زمن الطغيان والعصيان، وكم أريت الإنسان عجزه أمام قدرتك، من حيث لم يكن يتصور وجودك ولا يخشى بطشك. فهل تتركني يا إلهي فريسة أمام إنسان عاجز وأنت القوي الجبار؟

إنني أريد أن أعيش. وأنت يا رب قدرت لي العيش. أريد أن أسعد، ولا أريد أن أشقي أبي وأخي. وأحب أن أقضي عمري شريفة لزوج كريم وأولاد أحباء. . عاوني يا إلهي واشملني برحمتك، إنني أمد لك يد الضراعة وقلبي يسبقني إلى ملكوتك باكياً مسترحماً.

أنت يا إله الضعفاء، يا نصير البائسين، يا رب هذه المخلوقات جميعها أدركني برحمتك فقد شملت رحمتك كل كائن حتى هوام الأرض وحشراتها تقدر لها الرزق وتعد لها الحماية والحصانة).

. . . ومرت نسمة رطبة باردة على وجهها المحتقن المتوقد فبعثت الراحة إلى أعصابها وأفسحت مكاناً للإيمان بالله والاطمئنان إلى قدرته تسري إلى قلبها الخافق المعذب ونفسها الممزقة حسرات. .

وكان الفجر بدأ يشرق بضوئه الشعري الرقيق يحمل في جبينه ابتسامة، ويخفي في يده وراء ظهره الشمس المضيئة وهي قادمة تحمل الحياة، وتحمل الأمل الجديد لكل يائس حزين.

اغرورقت عينا الساهرة المسهدة المضناة وغسلت دموع اضطرابها. وارتاحت أعصابها ولمعت في رأسها فكرة كادت أن تثب بقلبها من صدرها.

إنها سترمي آخر سهم، فأما فازت وإما يئست - واليأس إحدى الراحتين - فبقيت تنتظر مصيرها الذي يحمله له الغيب المحجب.

قامت تحمل هذه الفكرة مندفعة إلى غرفة أخيها الشاب فأيقظته ورجته أن يستعد لسماع حديث لها هام. فقام مرحاً كعادته واغتسل وجاءها طلقاً ضاحكاً. فجلست إلى جواره وأخذت تسرد عليه كل أمرها، صريحة واضحة، فعرفته كيف ابتدأت علاقتها بصادق، وكيف استمرت، وكيف كشفت حقيقة نواياه وكيف هددها، وكيف قضت ليلتها. . . وسألته أن يقوم بواجبه كأخ وكصديق ومنقذ فوضت إليه أن يفعل شيئاً. ولو أن. . . يقتلها!

وكأن الموضوع قد أحال هذا الشاب المرح رجلاً قوياً يستمع في جد ورزانة، ووجهه ينم على أن قراره يتكون في نفسه وفي رأسه.

وما إن أتمت حديثها حتى قام يربت على كتفها بيده وكأنه يعدها بإنجاز ما سألته. وارتدى ثيابه في صمت وخرج من الدار ولم تكن الشمس قد برزت في السماء.

وانتظرت أمينة المصير مستسلمة لحكم الله أعدل الحاكمين. .

وبعد نصف ساعة رجع أخوها إلى غرفتها وسألها.

- (كم عدد رسائلك؟)

- (عشرون. . .)

- (هاك العشرين رسالة)

وألقى بين يديها عشرين رسالة أخذت تقلبها باكية مضطربة فرحة. حتى إذا ما اطمأنت إلى أن رسالة منها لم تغب أخذت تمزقها وترميها وقوداً لنار أشعلتها لتدفن فيها ماضيها الصغير!

وبعد ساعة كانت العربات تنقل أثاث منزل صادق وهو يسير وراءها مذعوراً لا يكاد يستطيع أن يرفع جبينه إلى منزل أمينة، فقد هاجمه أخوها بقوته وبسالته وأرغمه على تسليم الرسائل وإخلاء سكنه والابتعاد عن الحي بأكمله وإلا فهو قاتله، وارتاع الجبان وخضع وفنيت قوته الكاذبة أمام قوة الرجل الباسل. وأدرك أن الرجل الذي لا يستطيع أن يواجه رجلاً مثله أحرى به ألا يقف في وجه امرأة!


محمد شوكت التوني
مجلة الرسالة - العدد 170
بتاريخ: 05 - 10 - 1936

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...