حجي جابر - حول سؤال الكتابة

بات من المعلوم لدي أني، وفي كل مرة، بقدر ابتهاجي بإتمام كتابة رواية ما، يسكنني حزن ما على انتهاء مشواري معها. وبات معلوما أيضا أن مرد ذلك هو إحدى الإجابات على السؤال الذي لا يكف يحوم حول الكتاب، مقذوفا مرة من الآخرين، ومرة نابعا من الكاتب نفسه، حول الدافع وراء الكتابة. وهو سؤال بقدر ما يتكرر تتنوع إجاباته وتختلف، ليس من كاتب إلى آخر وحسب؛ بل من الشخص نفسه مع كل مغامرة روائية جديدة. ذلك لأن ثمة أسبابا قَبْلية تكون المحرك لفعل الكتابة، وأخرى بعدية تنتج عنها، وتكون الحافز على إعادة التجربة مرة بعد أخرى.

يشعر الكاتب بالحزن على فراغه من كتابة الرواية؛ لأنه بذلك يكون قد فارق حياة موازية عامرة بقدرته على صنع واختيار تفاصيلها. وهو الأمر الذي يتوق له الشخص في حياته الحقيقة بدون أن يطاله. في الرواية، حياة الكاتب الموازية، يكون وحده المتحكم في مصائر الشخصيات والأحداث، يرسم لها الطريق، يُعبّده تارة، ويُعسّر مسالكه تارة أخرى، يقودها وينقاد لها بملء طوعه؛ لأنه يعرف الوجهة والمآل، بدون أن يفقد الأمر عنده إثارته. إنه ذلك الاحتياج الملحّ للخروج، ولو مرة من ضعفه البشري اليقيني إلى احتمال أن يكون مالك أمره وقراره.

ثمة قيمة عالية في فعل الكتابة، إذ من خلالها يتجدد المرء، وكأنه في كل مرة يتخلص من نسخته الحالية فكرا وشعورا ومزاجا لصالح نسخة أكثر نضجا، ثم لا يلبث أن يتخلص من هذه لصالح أخرى، وهكذا دواليك. إنه عبر تجسيد أفكاره ومشاعره على الورق يختبر عمق ذاته، يراها أمامه، فيعيد تشذيبها، فيحذف أمورا ويُبقي على أخرى.

لكن الروائي مع ذلك لا يعود من رحلته الكتابية كما ذهب، فهو يرجع بتجربة حياتية تعينه على واقعه. ذلك أنه أثناء تجريبه لاحتمالات عدة لشخوصه وهو لا يكف يُعقد أقدارهم، يكون قد اغتنى بفهم أعمق لكيفية يمكن لحياته العادية أن تسير، كيف لها أن تستدير في اتجاه غير الذي يرغب، أو تقف عاثرة عن المضي قدما. أو على الأقل إن لم يقبض على الفهم العميق، تغدو الأمور أمامه وكأنها حدثت من قبل، ولهذا، بلا شك، وقع أقل حدة مما لو جاءت مباغتة. ولهذا كانت الشاعرة الأميركية، تيري وليام، تردد أنها تكتب للتصالح مع الأشياء، التي لا تستطيع السيطرة عليها.

ثم إن الكاتب، وكما قالت الروائية السعودية، رجاء عالم، يختار الكتابة عوضا عن الحياة كما يحلم.. إنها الملاذ لمواجهة الخيبات وقهرها والانتصار عليها.. إنها الفضاء الذي يداوي نكسات الشخص والارتدادات العنيفة لهزائم الحياة، عبر الكتابة يعادل الكاتب الكفة مع خسائره، فيخف شعوره بالغبن؛ لهذا لا يكف الكتّاب يرددون أن الكتابة هي أجمل ما حدث لهم، وأنها الشيء الوحيد الذي يجيدون عمله. والحقيقة أنّ الجملة محرّفة بعض الشيء، فالكتابة هي المجال الوحيد الذي يجد الكاتب نفسه عبرها منتصرا على الدوام، على الناس وعلى خيباته، وحتى على نفسه ذاتها.

وثمة قيمة عالية في فعل الكتابة، إذ من خلالها يتجدد المرء، وكأنه في كل مرة يتخلص من نسخته الحالية فكرا وشعورا ومزاجا لصالح نسخة أكثر نضجا، ثم لا يلبث أن يتخلص من هذه لصالح أخرى، وهكذا دواليك. إنه عبر تجسيد أفكاره ومشاعره على الورق يختبر عمق ذاته، يراها أمامه، فيعيد تشذيبها، فيحذف أمورا ويُبقي على أخرى.

لكنه ليس دائما على علم بدواخله ومتحكم بالتعامل معها، فالكتابة حينها تكشف له ذلك، تُخبره من يكون، وكم يبعد عن تصوراته عن نفسه. الكتابة مرآة فاحصة، ليس من الكاتب للآخرين؛ بل منه وإليه. هو لا يُخبر الناس بقدر ما يفعل ذلك تجاه نفسه، ولهذا سبق للكاتبة الأميركية جوان ديديون أن قالت "إنني أكتب كلية؛ لكي أعرف ما أفكر به، وما أنظر إليه، ما أراه وما يعنيه ذلك".

ولعل هذه الوفرة في الإجابات على سؤال واحد تبين لأي مدى قد تذهب الكتابة بالشخص في وقت كان يظنّ فيه أنه إنما يخوض تجربة محدودة، وهي إجابات ليس بالضرورة في وارد توقع الشخص، وهنا بلا شك وجه آخر لسحر الكتابة الدائم.

حجي جابر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...