رسائل الأدباء أربع رسائل بين أمين الريحاني ومي زيادة

أيتها العزيزة مي
هذا آخر أسبوع من الصوم، وأنا في عُزلتي صائم على الدوام، صائم عن المدنيَّة مع الإخوان ً وما فيها مما لا تزال النفس تَتُوق إليه، كساعة في النادي مثلا الأدباء، أو كسهرة في التياترو أشهد رواية اجتماعية أو هزلية، أو جولة في دور الصور والرسوم الحديثة، أو عشاء وكأس خمر مع رفيقة تفهم الحياة، ولكني كنت في الأسبوع الذي مضى من أسعد الصائمين؛ لأنه قد زارني من زادني في المدنية زُهدًا، بل أنساني لذَّ اتها كلها، وزائري في وحدتي هو الجليس الذي لا يُمَل ُّ ولا يتثاءب (يعني كتاب أشعة وظلال). وإذا ما أشعلنا المصباح لنكمل حديث بعد الظهر، وجاء الكرى بعد ساعة يتسلَّ ل إلى جفني فلا أقاومه، ولا أنكر وجوده، ولا أخجل إذا ارتخت الأنامل مني فيقع الزائر الكريم في حجري، وقد انحنى فوقه الرأس وطافت حوله الأحلام.
جاءني هذا الزائر يشكو بلغة الطيور والأزهار أشياء كثيرة في الحياة، ويُحدِّ ث فيما يشكو حديثًا أجمل من سحر الطيور تُغرِّ د في الأسحار، لذته في العقول لا تزول، ولا تستحيل علقمً ا في القلوب. كيف لا، وفي »العيون« سحر كل العيون، وفي »دمعة على المفرد الصامت« تردد صدى التغريدة الخالدة، و»كُن سعيدًا« هي السعادة بالذات، و»أين وطني؟« هو أجمل من كل الأوطان في هذه الأيام، و»السهرات الراقصات« هي ألذ وألطف وأبهج من كل سهرة راقصة! يا مي، ولا أزعجك ِ بأكثر من ذلك رمزًا ومجازًا. قرأت ُ السهرات الراقصات، والعيون، ودمعة على المفرد الصامت، وأنت َ أيها الغريب، ثم َّ قرأتُها وعُ دت إلى »الصحائف« فقرأت ُ فيها »بييبر لوتي الراحل الباقي« و»شبلي شميل« و»إسماعيل صبري«، فأدهشني فيك ِ وأنت ِ في خِ درك ِ وفي قُدس أقداسك شرقية لا تزالين، أدهشتني تلك الشخصية المزدوجة العجيبة التي لا تعرف يُسراها ما تصنع يُمناها؛ فهي لا تسمح لعقلها في النقد بغير مقدار لحظة، ولا لقلبها في مفاوز الشوق ومروج الحب بغير نظرة تذكرها بما في الحياة لفلاسفتها، وبما في الآداب لأمرائها من ظلال ناعمة طيبة، وأدغال مزهرة مُنعشة. وأنت يا مي مُدركة السر في الاثنين، ممتعة بالجمالينِ ، ونشكر ﷲ أنك ِ كاتبة، فلا تستأثرين بما تتمتعين، وأشكر ﷲ أنك ِ صديقتي فتذكرينني مع من تذكرين.«
أمين الريحاني
الفريكة، ١٤ أبريل سنة ١٩٢٤

***

٢٧ يوليو سنة ١٩٣٩ إثر عودته من المغرب الأقصى،
صديقتي الغالية، حفظها ﷲ
كتبت ُ إليك ِ كلمة من الباخرة يوم وصلني كتابك ِ الجميل بعواطفه ولطائفه، وأرسلتها من بيروت.
والآن أكتب لك أن هذه الساعة من اليوم العاشر بعد وصولي إلى الفريكة هي ألذ الساعات لديَّ؛ لأنها تُدنيني منكِ، فأتصورك ِ أمامي ساكتة مُصغية، وأنت ِ في السكوت والإصغاء مثلك ِ في الحديث فصيحة بليغة. وأتصورك وأنت الشديدة الإحساس، اللطيفة الشعور، مكتئبة واجمة لما يتعاكس على جبينك ِ مما يختلج في قلبي، فما شعرت أيامي بفراغ في الفريكة، وفي قلب الناسك، شعوري يوم عدت ِ إليها، ووقفت ُ في الرواق الشرقي لبيتي أنظر بعين الشوق والاكتئاب إلى البيت الذي أصبح مشهورًا. وفي كل شهرة ما فيها من دواعي الغم والألم، فإن ذلك البيت لا يعرف غير صيف واحد في حياته كلها، هو الصيف الماضي الذي أشرقت فيه شمس مي، ونوَّ رت فيه أزاهير مي، وعادت فيه إلى الأشجار ثمار أدب مي.
هذه عبارة مُثقلة بالاستعارات، وهي مع ذلك لا تفي بالمُراد في التعبير، فذلك البيت المشهور كئيب، وهذا الفؤاد المربَّى في جِنان الحب، المُغذَّ ى بالإخلاص والصبر هو كذلك كئيب؛ فقد كُنَّا في الصيف الماضي سعيدين بقربك، على همومك التي كُنَّا نشاركك بعضها )يشير إلى ما أصابها من مرض طيلة عامين كاملين في المستشفى ونسيان أصدقائها لها في هذه المحنة(، فكُنَّ ا نصمت ساعة تسكتين، وفي القلب وجمات، وكُنَّ ا نحاول ساعة تسترسلين في القنوط أن نقرِّ ب َ منك شمس لبنان بنورها وحرارتها، وأنوار سماء لبنان بما فيها من فيض السكينة والرجاء. وبعد ذلك كُنَّ ا نجلس إلى منضدة اللعب فننسى لؤم الناس ونفاقهم، وشعوذات الأطباء، وأحابيل المحامين، وتُرَّ هات الكهنة المحترمين.
وأين تلك الأمسية في هذا الصيف؟ وأين الصيف في هذه السنة؟ وأين مي؟ تردَّ د صدى الصوت الذي طالما اعتصم بالإيمان، اليوم ربيع وغدًا صيفٌّ ، وبعد ذلك؟ الربيع لا يُخلف وعده، ورُسُ ل الربيع لا يكذبون، ِ وبعد غد ٍ قَر ٌّ وصر وأنت يا مي وأنا في رسله، دام ابتسامه، وطالت أيامه، فمتى تعودين إلى لبنان؟ إنك ِ لمن المؤمنات، وإنك ِ لمن الصادقات، وإن أمسية ذلك الصيف، ومن سعدوا فيها ليذكرونك ِ على الدوام.«









****


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...