فاروق مواسي - نقاش حول التعبير القديم.. "يرعى النجوم" الصورة والمعنى

كثيرًا ما استوقفني مطلع قصيدة النابغة الذبياني، وخاصة قوله- "وليس الذي يرعى النجوم بآئب":
كليني لهمٍّ، يا أميمةَ، ناصبِ … و ليلٍ أقاسيهِ بطيءِ الكواكبِ
تطـاولَ حتى قلتُ ليسَ بمنقضٍ … وليسَ الذي يرعى النجومَ بآيبِ

يقول النابغة- الشاعر الجاهلي مخاطبًا ابنته أميمة: دعيني لهذا الهم المتعب ومقاساة الليل بطيء الكواكب- بسبب أرقي وهمومي؛ ولا تزيديني عذلاً!
جعل بطء الكواكب دليلاً على طول الليل، وكأنها لا تغرب، لأن في غروبها ينجلي هذا الليل، ويطلع النهار.

هذا البيت مطلع قصيدة للنابغة الذبياني، مدح بها عمرو بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر بن أبي شَمِر حين هرب إلى الشام لما بلغه سعي من سعى به إلى النعمان بن المنذر، فخافه.

في البيت الثاني يعيد القول في طول هذا الليل وهذا الأرق، حتى ظن الراوي الشاعر أن ليس لهذا الليل من آخر، فقال موضحًا ومؤكدًا في صورة ظلت مثار نقاش:
"وليس الذي يرعى النجوم بآئب".

السؤال الآن يدور حول معنى "يرعى النجوم"، هل هو بمعنى (يراقبها)، وهل "الراعي= المراقب هو الراوي الشاعر الذي شكا السهر وطول الليل؟

هناك من يرى ذلك، وهذا الأيسر تناولاً، ودليله ما قاله الشعراء فيما بعد:

أبو نواس:

يرعى النجوم السائرا (م) ت من الطلوع إلى الأفول
ابن المعتز:
لاح له برق فأرّقه *** فبات يرعى النجم مكتئبا

فالرأي السائد أن الراوي الشاعر هو الذي يراقب النجوم ولم يعُـد من مراقبته، بسبب أرقه وهمومه وخوفه.
نحو ذلك ذكر شارح ديوان النابغة محمد أبو الفضل إبراهيم، إذ يرى أن الشاعر هو الراعي، فيقول: فكل راعٍ يئوب مع الليل إلى مسكنه، فيستريح، بينما الذي يرعى النجوم لا ينام – ص 40.
ويذكر الشارح في الحاشية: "أما البَطَلْيُـوسي (أحد شُرّاح ديوان النابغة)، فيقول
"أراد الراعي الذي يغدو فيذهب بالإبل الماشية"، وفي رأيي أن الشارح هنا لم يتمم الصورة.
...
من جهة أخرى ورد في كتاب البغدادي (خِزانة الأدب) ج2، ص 326، وفي كتاب (المُوشَّح ) للمرزُباني، ص 42 هذا الشرح:

"ذكر الصُّولي- جعل صدره مألفًا للهموم، وجعلها كالنَّعَم العازبة بالنهار عنه، الرائحة مع الليل إليه، كما تُريح الرعاة السائمة بالليل إلى مكانها، وهو أول من ذكر أن الهموم تتزايد بالليل"....

لكن ابن رشيق يقدّم لنا صورة جميلة في تأويله:

"يرعى النجوم أراد به الصبح، أقامه مقام الراعي الذي يغدو فيذهب بالماشية والإبل"،
(العمدة ج1، ص 274)
ووفق هذا الشرح فإننا نرى (التلويح) في الكناية، فهو يلوّح لنا على المعنى من بعد، فالصبح (كأنه الراعي) ترك النجوم المتفرقة (كأنها الأغنام)، وابتعد عنها، وبالتالي بقي الليل ممتدًا ما بقيت النجوم في تشتتها.

ينكر ابن رشيق على من يرى المعنى أن الراعي هو الشاعر، فيعلق ناقدًا بل رافضًا هذا الرأي:
"فليس على شيء".

أراني أذهب ما ذهب إليه ابن رشيق في عمدته، ولكني أضيف موضّحًا دعواه:

الراعي ترك غنمه ولمّا يعد، أي أن الصبح ترك النجوم متشردة في الأفق ولم يأت، فالنجوم بقيت (الغنم ظلت ترعى)، وبالتالي فإن معنى بقاء النجوم= أنه لن يطلع النهار على الراوي الشاعر الأرِق بسبب كثرة همومه ومخاوفه، بل يستمر عليه الليل، ولذا قدّم للمعنى: "تطاول" (وفي رواية أخرى- تقاعس)، "حتى قلت ليس بمنقض".

الشيء بالشيء يُذكر:

أبدع امرؤ القيس قبل النابغة في وصف الليل الذي شبهه بموج البحر لهوله، وقد أرخى سدوله عليه بأنواع الهموم، فقال:

فقلت له لمّا تمطّى بصُلبه،
وأردف أعجازًا، وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل، ألا انجلِ
بصبح، وما الإصباح منك بأمثل
فيا لك من ليل، كأن نجومه
بكل مُغار الفتلِ شدّت بيذبُلِ

فليل امرئ القيس طويل هجم عليه كالحيوان المفترس، وطال هذا الليل حتى كأن نجومه كانت مشدودة إلى جبل، بأمراس مُحكمة الفتل، بمعنى أن الليل مثبت لا يتزحزح ولا ينتهي، وهذة كناية عن شدة أرقه وقلقه.

ذكر المرزباني في موشّـحه أن الوليد بن عبد الملك تشاجر مع أخيه مَسلَمة حول شاعرية النابغة وامرئ القيس في وصف كل منهما لليل، فالوليد يرى في النابغة أنه الأشعر، ومَسلمة في امرئ القيس، فرضيا بالشَّعْبي حكمًا، فقرأ الوليد، ثم قرأ مَسْلمة، فلما قرأ مسلمة البيت:
كأن الثريا عُلّقت في مَصامها *** بأمراس كَتّان إلى صُمِّ جَندل
ضرب الوليد برجله طربًا!
قال الشعبي: بانت القضية.
(ص 42).

غير أن الشهرة كانت في الوصف منسوبة للنابغة- "ليلة نابغية"" بمعنى أنها طويلة. "قيل إن الرشيد سأل الأصمعي: كيف بتَّ؟
فقال: بليلة النابغة يا أمير المؤمنين .... ..... قال: إنما أردت قوله:
كليني لهمٍّ يا أميمةَ ناصبِ......." (الثعالبي- ثمار القلوب، ص 634.)
فالليلة النابغية وردت كثيرًا في الأدب أذكر من ذلك:
السراج الوراق:
فبت أقاسي ليلة نابغية *** بها النوم لم يعقد جفوني ولا خلّى
كما وردت في المقامة الحِرْزية لبديع الزمان الهمذاني:
"وطويناها ليلة نابغية".

ما أكثر الشعراء الذين عبّروا عن طول الليل، وأكتفي هنا بذكر
المُهلهِـل:
وصار الليل مشتملاً علينا *** كأن الليل ليس له نهار
شاعر آخر:
كأن الليل أوثِـق جانباه *** وأوسطه بأمراس شداد

ملحة:

على سبيل الترويح عنكم سأذكر شعرًا فيه موقف آخر من طول الليل وقصره،
ما قاله الشاعر علي بن الخليل:

لا أظلم الليل ولا أدعي ... أن نجوم الليل ليست تغورْ
ليلي كما شاءت فإن لم تجئ ... طال وإن جاءت فليلي قصيرْ
(انظر البغدادي- خزانة الأدب ج2 ، ص 322.)
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...