مقيل اليوم في سكن الأطباء كان باردا حيث خيم الصمت على الجميع ، بقينا نشاهد الأخبار ونادرا ما تحدثنا وبعد المغرب غادر الجميع بصمت .!
فقد المقيل ضحكته وحيويته بغياب الدكتور أكرم سليمان ، ذلك الطبيب المرح الذي يضحك ويقول النكات ويروي الحكايات بطريقة مضحكة ، لقد جعلني أحب الطب والأطباء ، حتى صرت الصحفي الوحيد الذي يزور مقيل الأطباء باستمرار .
بعد أيام من غياب الدكتور أكرم لم أصدق عندما علمت بأنه طلب نقله إلى وحدة صحية في منطقة نائية في الجوف .!
اتصلت به وسألته :
- صحيح انك طلبت نقلك إلى منطقة بعيدة في الجوف ؟
- نعم وأنا في طريقي إلى الجوف .
- أنت مجنون
- كلهم قالوا لي كذا
- تترك صنعاء وتذهب إلى الجوف ؟!
- قلت أغامر وأتعرف على الناس ونشوف بلادنا وأهلها.
وأضاف :
- أريد أعيش مع ناس قلوبهم نظيفة لا تعرف الغش والخداع والكذب .
- ربنا يوفقك يا دكتور سنظل على تواصل .
من كلامه أدركت أن هناك قصة وراء سفره ، بعد أيام عرفت أن الدكتور أكرم ضحية قصة حب فاشلة ، فقد أحب طبيبة زميلته في المستشفى وخطبها ، وظل يصرف عليها لسنوات وفجأة فسخت خطوبته وتزوجت برجل أعمال .!
لقد حدث ما حدث بسرعة خلال أيام ، ما دفعه لمغادرة صنعاء كلها .
حزنت لما حدث له ولكن ماذا بوسعي أن أصنع ؟
بقيت أرسل له النكات واتصل به بشكل يومي ، وغالبا كان هاتفه خارج التغطية ؛ فالشبكة في تلك المنطقة ضعيفة جدا .
بعد أشهر دعاني الدكتور أكرم لزيارته في الجوف قائلا :
- تريد مكان هادئ للكتابة في أجواء طبيعة ساحرة ومناظر خلابة وأنهار تتدفق وغيوم وضباب .. قاطعته :
- هذا في سويسرا أكيد
- لا عندنا في بني غزال في الجوف
- عندكم في الجوف كل هذه المناظر ؟ مش معقول .
- عندنا كل هذا وأكثر واذا جئت إلى هنا ستكتب أروع الروايات والقصص .
كنت أدرك أنه يمزح معي ولكني قررت زيارته فعلا وليكن ما يكون .
وحين أخبرته أنني قررت زيارته لم يصدق من الفرح .
طلب مني روايات وقصص ومجلات وكتب فاشتريت له الكثير منها وانطلقت نحو الجوف .
وصلت مدينة الحزم وحينها بلغني أن الطريق مقطوع بسبب الحرب بين القبائل ، ولذا فقد بقيت في الحزم ثلاثة أيام انتظر فتح الطريق ولولا وجود بعض أصحاب البلاد الذين استضافوني لمللت وعدت إلى صنعاء .
عندما فتحت الطريق وانتهت الحرب أرسل لي الدكتور سيارة تقلني إلى بني غزال .
أربع ساعات ونحن نخوض في بحر الرمال ، صحاري جرداء ، ومناطق موحشة حتى وصلنا تلك المنطقة النائية .
وحين وصلنا كان يقف أمام الوحدة الصحية بانتظاري سلمت عليه وسألته :
- أين المناظر الخلابة والأنهار المتدفقة ؟
فضحك قائلا :
- يا أستاذ أنا تخيل كل هذا والا لن أستطيع البقاء هنا.
في اليوم الثاني قررت النزول من السكن إلى الوحدة الصحية لبست النظارة وبالطو الأطباء ووضعت السماعة على رقبتي ، ما ان جلست في الإدارة حتى دخل علي شخص ما ان سلم علي حتى صاح :
- ولدي يا دكتور طمني على ولدي ؟
ارتبكت ثم تماسكت قائلا :
- ولدك ان شاء الله بخير لا تقلق .
- ايش طلع عنده ؟
- طلع عنده التهابات وحمى
- بس ما في شيء خطير ؟
- في بداية توسع في الأوزون واحتباس حراري وتغير مناخي .
- وهذا الموزون والحراري والمناخي ايش علاجه ؟
- يحتاج تكاتف إقليمي ، وتخطيط استراتيجي ، وأشعة خلف الحمراء ، وسيمنار معرفي ، واكتشافات دولية .
- وهذا يكلف كثير ؟
- يكلف كثير جدا لكن سنعمل لك تخفيض .
لم أكمل كلامي حتى دخل الدكتور أكرم فصافح الرجل بحرارة واحترام قائلا :
- الولد بخير تعال شوفه يا شيخ مبخوت .
بعد دقائق عاد الدكتور أكرم وهو غاضب وسألني :
- ماذا قلت للشيخ ؟
- هذا هو الشيخ ؟
- هذا الشيخ مبخوت شيخ القبيلة كلها ، ماذا قلت له ؟
- قلت له الولد فيه التهابات وحمى .
- متأكد ؟
- بصراحة مزحت عليه
وحينها انفجر الدكتور أكرم ضاحكا وأخبرني أن الشيخ مثقف جدا ، وإنما كان يجاريني في الحديث فقط .!
وحذرني أن لا أمزح مع أحد هنا .
وقت الغداء قال الدكتور أكرم :
- الشيخ عزمنا على الغداء عنده هيا تحرك .
شعرت بالخجل فأعتذرت عن الذهاب معه لكنه جرني قائلا :
- الشيخ قد ضحك من كلامك ونسي ، لكنك اذا رفضت دعوته على الغداء سيغضب منك فعلا .
وأضاف :
- أنت تظن نفسك في صنعاء ستذهب إلى أي مطعم ؟ هنا ما فيش أكل الا بالبيوت فقط ، أو بسكويت وعصير في الدكان.
في أثناء المقيل جاء أحد الشباب يلهث سلم على الناس حتى وصل للشيخ وحينها صاح :
- يا شيخ مبخوت أنا في عرضك وفي بيتك وطالب حمايتك .
ثم رمى شاله بين الشيخ وكسر عكف جمبيته.
وحينها صاح الشيخ :
- لك الأمان والحماية اجلس .
جلس الشاب وبعد أن شرب الماء . سأله الشيخ :
- ما هو خبرك ؟
- زلة والله انها زلة ..
وأضاف :
- كنت أنظف بندقي وبالغلط قتلت عمي وولده وشردت ، وما دريت وين أروح ؟ وذكرتك يا شيخ وجيت في حمايتك ، أنا في وجهك يا شيخ .
قال الشيخ :
- ما عليك زود أنت في الأمان .
كدت أصرخ فيه :
- كيف في الأمان وهو قاتل مجرم ؟!
لكنني تماسكت وسكت فللقبائل أعراف وأسلاف أخرى.
عندما عدنا من مجلس الشيخ بعد العصر قال لي الدكتور :
- عندما جئت هنا كان نصف المجلس أشخاص هاربين عند الشيخ لكن الشيخ حل قضاياهم ولم يبق الان الا عدة أشخاص .
بعد أيام طلبني الشيخ إلى مقيله وأجلسني بجواره ، لم يكن في المجلس الكثير من الناس ، قال الشيخ :
- أنا أعرفك من الصحف ، واقرأ دائما ما تكتبه .
فوجئت بحديثه وبثقافته وسعة إطلاعه فتحدثت بأريحية وحين أخبرته بقصة الدكتور أكرم ضرب على جمبيته قائلا :
- أبوك يا الولد والله علمت لطلعت صنعاء وزوجته من تلك الطبيبة رغم أنفها .
وأضاف :
- خلاص نزوجه بأختي هيفاء ما تزوجت الا شهرين وتطلقت ، طلقها محسن النذل بسبب غيرته العمياء وسوء الظن ، لأنه شافها مع حمد ولد عمها رغم أنه مخاويها .!
لم أفهم كيف يعني مخاويها ؟
صمت ولم أتحدث .
وحين عدت للوحدة الصحية سألت الدكتور أكرم فأخبرني أنه من ضمن عاداتهم هنا أن الشاب يستطيع أن يخاوي أي فتاة من أقاربه ومعارفه ، فيدخل ويخرج معها لأنه بحكم أخيها .
سألته :
- وهل ستتزوج هيفاء أخت الشيخ ؟
- اذا عرضها علي سأتزوجها لان رفضها يعني إهانة للشيخ .
قبيل سفري اجتمعت القبائل في منزل الشيخ لحل مشكلة الشاب الذي قتل عمه وولده ، كنت بجوار الشيخ والمشايخ يأتون والشيخ جالس ، ثم جاء مدير الناحية وشخصيات عديدة والشيخ لم يقم من مجلسه لاستقبال أحد ، وفجأة قام الشيخ إلى الباب وحينها تطلعنا جميعا لنرى من سيستقبل ، لكنه لم يستقبل أحد ، لقد انحنى إلى الأرض لثواني ثم عاد إلى مجلسه ، وبعد أن استقر في مجلسه قال :
- فقط كان في - أعزكم الله - حذاء مقلوب رحت سويته ورجعت لأني لدي تشاؤم كبير من الحذاء المقلوب .!
*****
فقد المقيل ضحكته وحيويته بغياب الدكتور أكرم سليمان ، ذلك الطبيب المرح الذي يضحك ويقول النكات ويروي الحكايات بطريقة مضحكة ، لقد جعلني أحب الطب والأطباء ، حتى صرت الصحفي الوحيد الذي يزور مقيل الأطباء باستمرار .
بعد أيام من غياب الدكتور أكرم لم أصدق عندما علمت بأنه طلب نقله إلى وحدة صحية في منطقة نائية في الجوف .!
اتصلت به وسألته :
- صحيح انك طلبت نقلك إلى منطقة بعيدة في الجوف ؟
- نعم وأنا في طريقي إلى الجوف .
- أنت مجنون
- كلهم قالوا لي كذا
- تترك صنعاء وتذهب إلى الجوف ؟!
- قلت أغامر وأتعرف على الناس ونشوف بلادنا وأهلها.
وأضاف :
- أريد أعيش مع ناس قلوبهم نظيفة لا تعرف الغش والخداع والكذب .
- ربنا يوفقك يا دكتور سنظل على تواصل .
من كلامه أدركت أن هناك قصة وراء سفره ، بعد أيام عرفت أن الدكتور أكرم ضحية قصة حب فاشلة ، فقد أحب طبيبة زميلته في المستشفى وخطبها ، وظل يصرف عليها لسنوات وفجأة فسخت خطوبته وتزوجت برجل أعمال .!
لقد حدث ما حدث بسرعة خلال أيام ، ما دفعه لمغادرة صنعاء كلها .
حزنت لما حدث له ولكن ماذا بوسعي أن أصنع ؟
بقيت أرسل له النكات واتصل به بشكل يومي ، وغالبا كان هاتفه خارج التغطية ؛ فالشبكة في تلك المنطقة ضعيفة جدا .
بعد أشهر دعاني الدكتور أكرم لزيارته في الجوف قائلا :
- تريد مكان هادئ للكتابة في أجواء طبيعة ساحرة ومناظر خلابة وأنهار تتدفق وغيوم وضباب .. قاطعته :
- هذا في سويسرا أكيد
- لا عندنا في بني غزال في الجوف
- عندكم في الجوف كل هذه المناظر ؟ مش معقول .
- عندنا كل هذا وأكثر واذا جئت إلى هنا ستكتب أروع الروايات والقصص .
كنت أدرك أنه يمزح معي ولكني قررت زيارته فعلا وليكن ما يكون .
وحين أخبرته أنني قررت زيارته لم يصدق من الفرح .
طلب مني روايات وقصص ومجلات وكتب فاشتريت له الكثير منها وانطلقت نحو الجوف .
وصلت مدينة الحزم وحينها بلغني أن الطريق مقطوع بسبب الحرب بين القبائل ، ولذا فقد بقيت في الحزم ثلاثة أيام انتظر فتح الطريق ولولا وجود بعض أصحاب البلاد الذين استضافوني لمللت وعدت إلى صنعاء .
عندما فتحت الطريق وانتهت الحرب أرسل لي الدكتور سيارة تقلني إلى بني غزال .
أربع ساعات ونحن نخوض في بحر الرمال ، صحاري جرداء ، ومناطق موحشة حتى وصلنا تلك المنطقة النائية .
وحين وصلنا كان يقف أمام الوحدة الصحية بانتظاري سلمت عليه وسألته :
- أين المناظر الخلابة والأنهار المتدفقة ؟
فضحك قائلا :
- يا أستاذ أنا تخيل كل هذا والا لن أستطيع البقاء هنا.
في اليوم الثاني قررت النزول من السكن إلى الوحدة الصحية لبست النظارة وبالطو الأطباء ووضعت السماعة على رقبتي ، ما ان جلست في الإدارة حتى دخل علي شخص ما ان سلم علي حتى صاح :
- ولدي يا دكتور طمني على ولدي ؟
ارتبكت ثم تماسكت قائلا :
- ولدك ان شاء الله بخير لا تقلق .
- ايش طلع عنده ؟
- طلع عنده التهابات وحمى
- بس ما في شيء خطير ؟
- في بداية توسع في الأوزون واحتباس حراري وتغير مناخي .
- وهذا الموزون والحراري والمناخي ايش علاجه ؟
- يحتاج تكاتف إقليمي ، وتخطيط استراتيجي ، وأشعة خلف الحمراء ، وسيمنار معرفي ، واكتشافات دولية .
- وهذا يكلف كثير ؟
- يكلف كثير جدا لكن سنعمل لك تخفيض .
لم أكمل كلامي حتى دخل الدكتور أكرم فصافح الرجل بحرارة واحترام قائلا :
- الولد بخير تعال شوفه يا شيخ مبخوت .
بعد دقائق عاد الدكتور أكرم وهو غاضب وسألني :
- ماذا قلت للشيخ ؟
- هذا هو الشيخ ؟
- هذا الشيخ مبخوت شيخ القبيلة كلها ، ماذا قلت له ؟
- قلت له الولد فيه التهابات وحمى .
- متأكد ؟
- بصراحة مزحت عليه
وحينها انفجر الدكتور أكرم ضاحكا وأخبرني أن الشيخ مثقف جدا ، وإنما كان يجاريني في الحديث فقط .!
وحذرني أن لا أمزح مع أحد هنا .
وقت الغداء قال الدكتور أكرم :
- الشيخ عزمنا على الغداء عنده هيا تحرك .
شعرت بالخجل فأعتذرت عن الذهاب معه لكنه جرني قائلا :
- الشيخ قد ضحك من كلامك ونسي ، لكنك اذا رفضت دعوته على الغداء سيغضب منك فعلا .
وأضاف :
- أنت تظن نفسك في صنعاء ستذهب إلى أي مطعم ؟ هنا ما فيش أكل الا بالبيوت فقط ، أو بسكويت وعصير في الدكان.
في أثناء المقيل جاء أحد الشباب يلهث سلم على الناس حتى وصل للشيخ وحينها صاح :
- يا شيخ مبخوت أنا في عرضك وفي بيتك وطالب حمايتك .
ثم رمى شاله بين الشيخ وكسر عكف جمبيته.
وحينها صاح الشيخ :
- لك الأمان والحماية اجلس .
جلس الشاب وبعد أن شرب الماء . سأله الشيخ :
- ما هو خبرك ؟
- زلة والله انها زلة ..
وأضاف :
- كنت أنظف بندقي وبالغلط قتلت عمي وولده وشردت ، وما دريت وين أروح ؟ وذكرتك يا شيخ وجيت في حمايتك ، أنا في وجهك يا شيخ .
قال الشيخ :
- ما عليك زود أنت في الأمان .
كدت أصرخ فيه :
- كيف في الأمان وهو قاتل مجرم ؟!
لكنني تماسكت وسكت فللقبائل أعراف وأسلاف أخرى.
عندما عدنا من مجلس الشيخ بعد العصر قال لي الدكتور :
- عندما جئت هنا كان نصف المجلس أشخاص هاربين عند الشيخ لكن الشيخ حل قضاياهم ولم يبق الان الا عدة أشخاص .
بعد أيام طلبني الشيخ إلى مقيله وأجلسني بجواره ، لم يكن في المجلس الكثير من الناس ، قال الشيخ :
- أنا أعرفك من الصحف ، واقرأ دائما ما تكتبه .
فوجئت بحديثه وبثقافته وسعة إطلاعه فتحدثت بأريحية وحين أخبرته بقصة الدكتور أكرم ضرب على جمبيته قائلا :
- أبوك يا الولد والله علمت لطلعت صنعاء وزوجته من تلك الطبيبة رغم أنفها .
وأضاف :
- خلاص نزوجه بأختي هيفاء ما تزوجت الا شهرين وتطلقت ، طلقها محسن النذل بسبب غيرته العمياء وسوء الظن ، لأنه شافها مع حمد ولد عمها رغم أنه مخاويها .!
لم أفهم كيف يعني مخاويها ؟
صمت ولم أتحدث .
وحين عدت للوحدة الصحية سألت الدكتور أكرم فأخبرني أنه من ضمن عاداتهم هنا أن الشاب يستطيع أن يخاوي أي فتاة من أقاربه ومعارفه ، فيدخل ويخرج معها لأنه بحكم أخيها .
سألته :
- وهل ستتزوج هيفاء أخت الشيخ ؟
- اذا عرضها علي سأتزوجها لان رفضها يعني إهانة للشيخ .
قبيل سفري اجتمعت القبائل في منزل الشيخ لحل مشكلة الشاب الذي قتل عمه وولده ، كنت بجوار الشيخ والمشايخ يأتون والشيخ جالس ، ثم جاء مدير الناحية وشخصيات عديدة والشيخ لم يقم من مجلسه لاستقبال أحد ، وفجأة قام الشيخ إلى الباب وحينها تطلعنا جميعا لنرى من سيستقبل ، لكنه لم يستقبل أحد ، لقد انحنى إلى الأرض لثواني ثم عاد إلى مجلسه ، وبعد أن استقر في مجلسه قال :
- فقط كان في - أعزكم الله - حذاء مقلوب رحت سويته ورجعت لأني لدي تشاؤم كبير من الحذاء المقلوب .!
*****