ناصر السيد النور* - الترجمة: الحدود والمحاذير

الترجمة ليست حركة أو فعلًا يمارس على النصوص اللغوية مستقلة عن ارتباطاتها الأيدولوجية والسياسية والدينية، وما تثيره في تفاعلها مع النصوص اللغوية الأخرى في محيط متسع من المناهج المعرفية والعلوم والنصوص الإبداعية؛ وما ينتج عنها ويلامس حدودًا تثير جدلًا عنيفًا لا يتوقف في نزاع التأويل، بل قد يمتد إلى درجة أخطر من المواجهة الفكرية إلى الصراع الدامي. فمساحة التعبير أو الحرية المتاحة للمترجم في سياق اجتماعي وسياسي هو ما يؤثر على الترجمة ويحدد دائرة حراكها، ليس على مستوى النصوص حيث فضاء ممارستها، بل ويمتد هذا التأثير إلى شبكة واسعة من دائرة السياقات السوسيولوجية والثقافية والفردية (المترجم).
والقول بأن حدود حركة الترجمة هو نقل المفردات إيصالًا للمعنى المراد لغة؛ لا ينفي حركتها بين اللغة ومداراتها في التأويل والبيان والشرح. فإذا كان لها من تعريف تداولي جامع في دلالاته مانع في تقييداته اللفظية، فإنها تظل أداة تفعل بممارسة ذهنية في ظروف لها خواص اللغة وحركة العقل والوجدان. ولكن مما ينسب ويلحق بالترجمة في دائرة التخصص من ترجمة تختص بعلم أو فرع من علم له مساراته المعرفية في سياق التعدد الاصطلاحي واللفظي المستخدم ضمن دائرته المعينة بدائرة المصطلح المضبوط، ومجال استخدامه ومدى قابليته للحركة بين اللغات، خاصة عندما يترجم النص الديني المقدس؛ فليس لها معنى يتعدى ترجمة المعاني والمفردات الحاملة للنص الديني. الترجمة إذن آلية لغوية تتعامل مع كل ما يحيط بالواقع الإنساني المادي والمعنوي والروحي بما أنها لغة أو أداة لإنتاج اللغة، إلا أن حرية التعامل مع تلك النصوص تنبثق من داخل النص الديني في حرية مقيدة بما تقتضيه شرائعه واحكامه، وما يضعه من حدود لا يمكن تجازوها إلا بمقتضيات محددة ومشروطة.
فقه الترجمة
تتعدد مجالات الترجمة بتعدد مداراتها في مختلف الحقول التخصصية، من ترجمة علمية وقانونية وما إليها من علوم، ولكن ارتباطها أو إلحاقها بالفقه يكشف عن نزوع لديه دلالته اللفظية والشرعية والمفاهيمية في سياق الفقه أكثر من الترجمة. وفقه الترجمة ربما كان مصطلحًا وصفيًّا مركبًا لم يكن شائع التداول والاستخدام أو معروفًا في حقل الترجمة ومجالات اللغويات، إذ إن الفقه ارتبط تاريخيًّا وتراثيًّا بالعلوم القديمة أو العلم الشرعي الذي مداره القرآن وعلومه والإسلام وأركانه من عبادات وتراثه الفقي؛ وحديثًا ارتبط باللغة، بفقه علم اللغة Philology أو فقه اللغة كما اشاعتها الترجمة العربية. والمفردة بالتقصي التأثيلي (الاشتقاقي) Etymology في تراث الكتابات الدينية يفضي إلى معانٍ معجمية واصطلاحية شرعية ولغوية، بما يفيد سعة في الفهم والإدراك والاستيعاب؛ وكل ما يفيد التأمل بأعمق أدوات مصادر المعرفة الإنسانية. وتعود بعض الدراسات أو المحاولات النظرية العربية مؤخرًا إلى ربط الفقه بالفلسفة: فقه الفلسفة، وفقه الترجمة وغيرها في محاولة لتوطين مصطلح تراثي عوضًا عن مفردات وألفاظ حديثة هيمنت بنزعتها الغربية على الفكري العربي.
وفقه الترجمة لا يكثف دلالات المعنى اللغوي والاصطلاحي بأكثر من ترجمة دينية Religious Translation في سياقها الفيلولوجي لترجمة نصوص دينية مقدسة قديمة، كانت دائمًا بحاجة الى تأويل وتفسير وشرح وبيان بجملة منذ ابتداع التأويل Hermeneutics كمنهج تفسيري للكتاب المقدس. وتبرز الأسئلة التي لا تكاد أن تتوقف عن جواز (شرعًا) ترجمة نصوص دينية، ومدى أثر مثل هذه الترجمات البشرية، وهي أسئلة طالت كل النصوص المقدسة تقريبًا. والفقه بضرورته الوظيفية كما درج في تأصيل قاعدته في استنباط الأحكام العملية من الأدلة الشرعية؛ والترجمة من بعد مقابل لغوي يعمد إلى الدقة في النقل، ولكل منهما حقله المستقل بكل دلالاته وإن اختلفت المقاصد نشرًا لدعوى أو مباحث أكاديمية لا تتعلق بالعقيدة.
الترجمة والنص الديني
ترجمة النصوص الدينية ليست ترجمة تجرى بين اللغات Intertranslation تخضع فيها إلى التطبيقيات الإجرائية لتنفيذ نص قابل للتداول البشري في مقابل نص متعالٍ له قدسيته الإيمانية؛ أي الترجمة من لغة الكتاب (الوحي) إلى لغة بشرية تعيد صياغة الألفاظ المنقولة إلى لغة أخرى، بما يشمل موضوعات النص المقدس المترجم وشموليته التي تحيط بالإنسان ومحيطه الكوني وجانبه الميتافيزيقي (الغيب). وبالنصوص الدينية لا تعنى غير الكتب المنزلة التي لا تمس ولا تحرَّف ولا تبدل كلماتها مثل القرآن الكريم "إنا نحن نزلنا ٱلذكر وإنا له لحافظون" (الحجر: 9). ثمة علاقة لغوية بين النص المقدس والإنسان كما يصيغه الفيلسوف والمستشرق الياباني Izutsu Toshihiko (1914- 1993) في مبحثه "الدلالة عن العلاقة بين الله والإنسان في القرآن"، تلك العلاقة اللغوية: ثمة مسارين من الفهم المتبادل بين الله والإنسان أحدهما لغوي أو شفوي من خلال استخدام اللغة البشرية المشتركة لكل من الطرفين (الله والإنسان). ولأنها نصوص تتصل بالعبادات وأداء للشعائر بألفاظها التلقينية ومواضع حركاتها الصوتية والنحوية لا تحتمل تأويلًا أو لحنًا يغير من معانيها السياقية؛ فتنتهي الترجمة إلى قراءة في التفسير المقروء لمعاني مثلها مثل مصنفات كثيرة في علوم القرآن، فسرت المعاني والآيات والمفردات والألفاظ (غريب القرآن)؛ واستفاضت في تلك الشروحات والكتابات الدينية التراثية من رسم المصحف وأسباب النزول إلى عد أحرف وكلمات وآيات وترقيمها؟ فالنص القرآني لا يقرأ قراءة تناصية intercontextual Reading منتجة من بين نصوص، فأقصى ما هو مطلوب تدبر المعاني ألفاظًا وآياتٍ كونيةً، وتكون الترجمة من بين عوامل مساعدة في التبليغ مع بقاء النص الأصل بلغته رسمًا ومضمونًا كما يتضح فيمن يستظهرون النص من غير العرب (الأعاجم) دون أن يتكلموا العربية، كلما تباعدت جغرافية اللغوية الفاصلة بين دائرة النص العربية الإسلامية والتاريخية. ومؤخرًا تلازم الفقه مع موضوعات لا حصر لها في سبيل إعادة أو استخدام مصطلح سيرتبط بأيدولوجية دينية أكثر من استعادة أو تعريب لمصطلح داخل منظومة عصرية (حداثية)، فبرز فقه في خطاب أنشطة الحياة اليومية كفقه الرياضة والمطبخ وقيادة المرأة للسيارة وما اليها من موضوعات لم تكن محصورة في تصور الفقه التقليدي وموقعه، موازاة في الاستخدامات الدينية التقليدية التراثية كفقه الزكاة، وفقه المعاملات والأموال والخراج.
ومن أبرز محاولات البرهان على فقه الترجمة أو على ما ذكره الدكتور المغربي محمد الديداوي خبير الترجمة في كتابه (فقه الترجمة، إعجاز النظم وإلغاز الفهم وإنجاز العلم) وهو من بين المباحث الترجمية الرائدة في مجالات اقترنت بخبرة الكاتب في الترجمة التطبيقية والكتابة النظرية، يبحث في الخصائص اللغوية العربية وتطابقاتها الترجمية، ومن ثم بعد بحث في جذور وتاريخية الاصطلاحات وتاريخية ترجمات (القرآن الكريم) يخلص إلى أن ترجمة القرآن لا تجارى مهما بلغت حذاقة المترجم. وبما أنه يُفهم من أن (فقه الترجمة) يشير إلى ترجمة القرآن الكريم في دائرة التفسير، أو بتعبيره: استعمال الترجمة التفسيرية في نطاق فقه التفسير في لغة أخرى من دون تحيز أو تحامل وبكل تجرد. إذ فقه الترجمة لا يتعدى في مقابل الترجمة اللاهوتية Theological Translation في سياقها الديني التاريخي واللغوي.
ثمة تفصيل يستدعيه التعريف، وبالتالي الوقوف على ما تشتمل عليه الترجمة في خطابها الداخلي (أدواتها) المستخدمة في الممارسة وإنتاج النص المترجم. أي النص التأسيسي الذي يستبين معه اللفظ أو المصطلح اللغوي أو العلمي. والترجمة فعل بشري إن لم نقل علماني يتدخل لغويًّا في النص المقدس على غرار المقاربات التفسيرية والتأويلية التي انتجت تراثًا ضخمًا في التفاسير والشروحات والرصد البياني لمعجزات اللغة الإلهية إن جاز التعبير. وجهدت الترجمة الدينية -في موازاة النص اللغوي السليم- بالمحافظة على مفردات اللغة، وهي طاقة مستمدة من الترجمة بين النصوص البشرية، حيث تعمل كل من اللغة والترجمة على إيداع شامل بإدخال المفردات والمسارد اللغوية إلى المعاجم كذاكرة لغوية ثنائية أو مفردة. وتمنح العلمية المعجمية كلًّا من اللغة والترجمة قوة مرجعية الخطاب في الفصل والاحتكام وتأصيلًا محكمًا للمفردات والألفاظ. فالنص المترجم يستقي أصالته اللغوية من خلال التطابق المعجمي، وتكتفي اللغة بالتكيف المعجمي للمفردة وصلتها الاشتقاقية وبنيتها الصرفية وفقًا للقواعد النحوية الناظمة لكل لغة. ومن هنا ظلت الإبانة في الترجمة تحديًا يقف في وجه المترجم.
النص والترجمة
النص في الثقافة العربية لديه جذور في تكوين الصورة البلاغية العربية الممتدة في العمق الثقافي العربي والتاريخي والديني. وهذا النص الذي كونته الذائقة العربية واستودعته مدونتها الأدبية واللغوية، كانت قد أغنته، فقد تطور تبعًا لتطور معارف الحضارة العربية؛ خاصة في أوج ازدهارها الثقافي والعلمي والحضاري، ونهض على نقل العلوم من اليونانية بواسطة مترجمين وعلماء في علوم الفلك والهندسة والرياضة وعلوم المنطق والفلسفة. فالترجمة العلمية تعنى لغة علمية توفي النص بشروطها المختزلة التي تخالف النص الفلسفي أو الأدبي في تقيدها بدقة المصطلح أو اللفظ، حيث نؤدي أداءً وظيفيًّا Functionality وهي الترجمة التي ظلت بعيدة عن الخلافات التي تثيرها الترجمات المرتبطة بالفلسفة والنص الكلامي (الفلسفي).
فعملية الترجمة وما تحدثه من أثر في المعرفة والعلوم لم يعد معرضَ نقاشٍ على الرغم مما تثيره من اختلاف بين مختلف النصوص، خاصة تلك المتعلقة بالخطاب الإنساني الإبداعي (الشعر، السرد والمقدس: الكتب السماوية والنصوص الدينية) مع أنه تاريخيًّا تعد الترجمة الدينية أولى مداخل الترجمة، وخاصة الكتب التي نقلت عن لغات قديمة كالأناجيل من لغاتها الآرامية والسريانية واليونانية القديمة إلى اللاتينية، ومن ثم إلى بقية اللغات الأوربية الحديثة، دعوة واعتقادًا بين المؤمنين من أهل كل طائفة ودين. ولكن كيف ستتعامل الترجمة مع كتاب أُنزل بلغة عربية ليكون مُبينًا (بلسان عربي مبين) يتضمن دعوة للعالمين؛ الذين خلقوا باختلاف السنتهم وألوانهم بنص الآية "ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين" (الروم: 22). وظهرت الترجمة أو الحاجة إليها كما يرى الفيلسوف واللغوي الأميركي جورج اشتانير (1929- 2020) في كتابه ما بعد بابل: لتعدد واختلاف لغات البشر، ولكن كما يستطرد متسائلًا عن هذه الحقيقة البديهية: لماذا يتحدث الناس أصلًا لغات مختلفة غير مفهومة؟ فالترجمة فعل بشري يعتريه النقصان، كما تتصدر طبعات المصاحف المترجمة، حيث لا تبلغ الترجمة مستوى المطابقة -ولا ينبغي لها- وربما كانت تقريبًا في أحسن الأحول مرانًا يجريه المترجم على رأي العلامة السوداني اللغوي عبد الله الطيب (1921- 2003)، والنص العربي فاقد لروحه عند ترحله مترجمًا إلى اللغات الأخرى، في موروث العبارة التراثية استحالة ترجمة الشعر العربي. ويمتد التساؤل حول كيفية ترجمة لغة طقوسية (تعبدية) Liturgical language لها قدسيتها إلى لغات أخرى دون ان تفقد تلك القدسية.
النص والسلطة
فإذا كانت الترجمة تنتج نصوصًا وكلامًا؛ فإن للكلام في التراث العربي موقفًا لم يقف عند حدود الجدل الكلامي، بل تعدى ذلك السلطة وعنفها في أول تكوين سياسي لموقف تتبناه السلطة وتعمل على تقويته بإخضاع خصومه بسيف السلطة متى ما عجزت الحجة في الإقناع. والحديث عن الترجمة لا يتعدى هذا الموقف التاريخي، أي موقف المعتزلة في القرن السادس الهجري، وكيف أن ما عرف بمحنة خلق القرآن بين أن يكون (القرآن) مخلوقًا أم كلام الله، وكل ما جرى من تداعيات في المشهد الدرامي الذي انتهت إليه فصول المحنة، ومن ثم استتب الأمر للاتجاه الأشعري، وتوقف التفكير العقلي -برأي البعض- منذ ذلك الوقت في العقل العربي الفلسفي. ولم يبق غير النصوص المكتوبة، وبين شرعية ترجمتها واستحالة تداولها نصوصًا إلا في حدود شروحات مفرداتها لإيصال المعنى المراد. وكان لنظرية النظم في معجزة القرآن البلاغية لديهم (المعتزلة) ومخالفتهم الصريحة لمفهوم معجزة (القرآن الكريم) البيانية إلى تبنيهم لمفهوم الصرفة وليس لغة الكتاب، تعد أولى المحاولات في مساءلة النص الديني بعيدًا عن السائد أو مخالفة لآراء الجمهور بالمعني الفقهي. وهذا الموقف هو ما يكاد شكل ما عرف بذهنية التحريم كما في كتابات المفكرين المحدثين كصادق جلال العظم.
وتدرك السلطة في البيئة العربية أهمية المدافعة عن نصوص بعينها وأثرها في الواقع الثقافي، وبالتالي منع ما يهدد سلطانها ليتجدد الرصد السلطوي في أطوار السلطة المختلفة وأشكال مؤسساتها، ولكن بقيت النصوص وحق تفسيرها بيد السلطة أو من يمثلونها في دائرة النص والكلمة إلى اليوم؛ ومثلما تتمسك السلطة في خطابها السائد بحق السيادة والقيادة كسلطة قابضة؛ وتتنقل هذه الآلية إلى حقل نصوص المعرفة، فغالب الإنتاج المعرفي لا تنتجه السلطة لكنها تعمل على الإحاطة به، وبالتالي تقوِّم مدى درجة تأثيره في دائرة نفوذها. ومن جانب آخر فإن للنصوص سلطتها التي لا تنازع، وإن اختلفت عن سلطة الحاكم في الممارسة، ولكنها لا تختلف في رؤيتها في الإخضاع في موازاة قهر الرعية أو محاكمة النصوص. والترجمة من الحقول المعرفية التي طالتها أو وقفت بوجهها السلطة على مدى استمرار الصراع بصيغته المعروفة بين السلطة والمثقف.
ترجمة القرآن
والاقتراب من الكتابة في القرآن لم يتوقف عندها معتنقيه من المسلمين باختلاف لغاتهم وأصولهم العرقية السابقة لدخولهم الإسلام، بل نجد أن كثيرًا من الغربيين منذ عصور بعيدة كتبوا دراسات وبحوث حوله وترجموه إلى لغاتهم. وهذا الاتصال الترجمي بالقرآن وعلومه ومجتمعاته (المسلمين) أنتج فرعًا في الدراسات الإنسانية تراكمت عليه حزمة من العلوم والعلماء بما عرف بالاستشراق Orientalism بكل ما يحمله الشرق في ذهنية الغرب، بالحد الذي فصل فيه المفكر والناقد الفلسطيني الأميركي أداور سعيد (1935- 2003) في كتابه الأشهر (الاستشراق)؛ فتح الباب أمام جهود لغوية جبارة قادت إلى تعلم العربية من ناحية، وترجمة للقرآن في عملية لغوية مختبرية تحلل لغته وتاريخه في كتابات ضخمة، كما لدى (تاريخ القرآن) للمستشرق الألماني ثيودور نولدكه (1836- 1930)، في تاريخ القرآن ومذاهب التفسير الإسلامي لدى المستشرق البولندي جولدتيسهر (1850- 1921)، وغيرهم ممن عني بدراسات القرآن، بخلاف ترجمته الى اللغات الأوربية مثل الفرنسي ريجي بلاشير (1900- 1973) في الترجمة إلى الفرنسية، ومن قبلها الترجمة الإنجليزية الأولى للقرآن بواسطة الإنجليزي جورج سيل (1697- 1736).
والقرآن كتاب الله بكل صفاته من وحي وكتاب منزل، وكتاب حكيم، وما عالجته حزمة معارف استقرت على علم جامع بالتعريف الاصطلاحي عرفت بـ(علوم القرآن) أنتجت في مراحل زمنية تالية بعد اكتمال نزول الوحي وجمع القرآن الكريم بين دفتي كتاب. وهذه العلوم مدارها اللغة المعجزة، ومن ثم اتخذت بذلك عناوين المؤلفات التراثية من إعجازه البياني واللغوي مثل إعجاز القرآن، وبيان إعجاز القران ودلائل الإعجاز وغيرها، ولم يكن من بينها الترجمة كأداة معرفية، فقد دخلت مؤخرًا إلى حيز التداول الديني. وظلت المعجزة بنظم الكلام لا بالكلم على قول البلاغي الجرجاني. ولكي يترجم نص له مركزيته كما يقول نصر حامد أبو زيد (1940- 2010) في الثقافة العربية يلزم ذلك الحاجة إلى فتوى (فقهية) تحدد من قبل سلطة دينية (فقهية) ذات نفوذ مؤسسي تأذن وتراجع الترجمات المخرجة. وهي ترجمات تفاوتت بتفاوت العصور والمترجمين، فإذا كانت الترجمة الدينية، أو للدقة ترجمة القرآن الكريم، تنشط في مجالات الدعوة والتبليغ، إلا إنها تنحصر في دوائر محدودة مقارنة بالمنتج الأدبي والفكري المترجمة إلى اللغات العالمية. فالثابت هو النص الأصل (لغة الكتاب)، والترجمة متحول على نحو ما يطلع عليه من ترجمات إلى اللغات التي تمتلك معاجم تاريخية متغيرة دلالتها اللغوية.
الترجمة والمقدس
العلاقة بين النص الديني واللغة البشرية تتحدر من مصدرين: كلام إلهي (وحي) ولغة منسوخة مقروءة (الكتاب) على لغة بشرية متواضع عليها أي بخطاب يستهدف لغة قوم محددين. وتدخل الترجمة في المقاربة بين لغة ميتافيزيقية تفسر الوجود بأبعاده الانطولوجية وتحدد غاياته. ولكنها بحاجة -أي الترجمة- إلى أكثر من لغة لتفعيل تطبيقاتها الإجرائية لإنتاج نص تكون لديه مشروعية التعميم (فتوى) ودقة تسندها معرفة موثوقة إن لم تكن إيمانية خالصة. والملاحظ أن الترجمة الدينية، أو ترجمة المصحف، على تعددها تظل على هامش المتن (سور الكتاب) ملحقة بالتفسير والمعاني لأنها ألفاظ يستحيل ترجمتها والمحافظة على قدسيتها، ففي أفضل الأحوال شرح معانيها وشرحها صوتيًّا Transliteration وكل ما لا يترجم كأسماء السور والأعلام والمسميات، ونسخها كتابة في حقل الصوتيات اللغات الأخرى. فلا تخلو ترجمة من تلك الترجمات بإرفاق النص الأصل المقابل برسمه العربي إلى جانب شروحاته باللغات المترجم اليها، مما ينبئ بالمحافظة على أصل المتن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، وتبقى الترجمة نصًّا هامشيًّا مثله مثل المصاحف التي يرافقها التفسير في طباعتها. فكل ما يتم هو ترجمة المعاني، وهي اقصى حدود يبلغها المترجم على أمل استدراك ما فاته في ترجمات لاحقة.
محاذير أم التزام؟
إن الترجمة في مقاربتها النصية بين علم ترتكز أصوله على قواعد، وفن يتحسس اللغة مما يكسبها حيدة تفصل بين التدخلات الأيديولوجية واليقينية كمدخل علمي يقارب نصوصًا بالغة الخصوصية كالنصوص الدينية، وهي المعضلة الإشكالية problématique التي يزعم الناقد المصري الكبير لويس عوض (1915- 1990) أنها تحد من تطور العربية في كتابه الإشكالي (مقدمة في فقه العربية) بأن اللغة العربية قديمة قدم القرآن، وأن اللغة العربية والقرآن قديمان قدم اللوح المحفوظ وسابقان على الخليقة لأنهما مساويان للكلمة الإلهية. وهذا الاقتران يحد أو يضع حدودًا تزداد خطورة كلما قاربت الترجمة ما تعده رموزًا ومحاذير لا اعتراض عليها، أو التساؤل حول أسباب منعها، التوقيفية بالمعنى الفقهي. وهذه المحاذير لا تتوقف عند حدود مقاربة النصوص المقدسة المنزلة أو الأحاديث النبوية، بل تحيط بتراث ورموز وتاريخية حوادث تلك المرحلة في أي صورة تجلت نصية (روايات، رسومات، أفلام..الخ). وكما تقول القاعدة الأصولية ألا اجتهاد مع النص، يستتبع ذلك عدم ترجمة للنص القرآني إلا بما يفسر ويقابل معانيه في اللغة المترجمة إليها، وهنا تتعامل الترجمة أو المترجم مع نص مفرداته غير قابلة للإحلال Irreplaceable وذلك باختلاف المصدر وطبيعية النص والمخاطبين به "ألر، كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير" (هود: 1). ولا يلغي التفسير الترجمة، بل تدخل في صلب عملية التفسير، وهي من الجهود اللغوية الجبارة لتفسير القرآن الكريم، التي تركز جانبها الأغلب على تبيان الألفاظ ومرادها استخدامًا لأدوات ستشكل فيما بعد مفاتيح لغوية هامة كالاشتقاق وغريب الكلم والألفاظ الأجنبية، وكلها مرتكزات لغوية بالغة الدلالة في حيزها التاريخي وتطورها اللغوي، مما جعلها قابلة للتوظيف المعرفي التقني في الكتابة، والنص والاصطلاح.
والمحاذير ليست في جوهرها دينية المصدر، ولكن ما تثيره فتوى بعدم جواز الاقتراب من تدخل تكمن من ورائه العوامل ذاتها التي تحيط بالمحاذير من عوالم اجتماعية وسياسية واقتصادية ومؤسسية قانونية وتشريعية تشكل تيارًا عريضًا تستند إليه مؤسسات وشخصيات دينية في تماهي مع خطاب سلطوي. ففي الوقت الذي تزداد فيه الحاجة إلى فهم النصوص المكونة للهوية العربية الإسلامية وخاصة نصها الأبرز (القرآن الكريم) بعد مواجهات صدامية بين الشرق والغرب، والمحاولات الحثيثة للاقتراب منه.. تبقى الترجمة أيًّا يكن ما تقاربه من نصوص بما فيها الدينية، هي الأداة الأبرز في التقارب والتفاعل والتعامل مع التعبير الإنساني، دون أن تحول بينها وبين مساراتها حدود أو محاذير.


------
إشارات مرجعية:
* مفكر وكاتب سوداني.
- القرآن الكريم.
- محمد الديداوي، فقه الترجمة.
- عبد الرحمن طه، فقه الفلسفة- الفلسفة والترجمة.
- نصر حامد ابوزيد، علوم القرآن.
- لويس عوض، مقدمة في فقه العربية.
- حيدر إبراهيم علي، سوسيولوجيا الفتوى.
- صادق جلال العظم، ذهنية التحريم.
- عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز.
- ثيودور نولدكه، تاريخ القرآن.
- جولدتيسهر، ومذاهب التفسير الإسلامي.
- ناصر السيد، سطلة النصوص اللغوية العربية.
- Izutsu Toshihiko, God and Man in the Qur’an
- George Stiner, After Bible
- Edward Said, Orientalism
- Régis Blachère, Le Coran


____________
المصدر : مجلة ميريت الثقافية
العدد رقم (51)- مارس 2023

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...