سيدي،
أسمحُ لنفسي بمكاتبتكم، عملا بنصيحة ( G. Szekeres) لأثيرَ انتباهكم إلى الأهمية التي تحظى بها مؤلفاتكم هنا، وبالدرجة الأولى في أوساط الحزب الشيوعي. فالمحادثات التي تمكنتُ من القيام بها مع (P. Hervé)، من جهة أولى، وبناءً على رغبة (Cahiers d’Action) في نشر نصٍّ لكم، من جهة ثانية، وكون النقاشات النظرية التي تجري هنا ضعيفة، بل سجالية أكثر مما هي علمية، من جهة ثالثة، هي أمور جعلتني أعتقدُ أنّه سيكون من المفيد جدا للماركسيين الفرنسيين التعرّف على أعمالكم، وأنّ تمكينهم من الاطلاع عليها سيستجيبُ لتطلعاتهم أكثر مما يتصورون.
من الناحية الواقعية، فالعمل الوحيد، من بين كل أعمالكم، المعروف إلى حد ما، (بالرغم من أن النسخ المتوفرة قليلة)، هو كتابكم "الوعي والتاريخ الطبقي" (Geschichte und Klassenbewußtsein)، هذا الكتاب الذي لم تعودوا تعترفون به، والذي لازال محطّ اهتمام الناس بالرغم من تنكركم له.
لذلك يبدو لي أن الكيفية الوحيدة التي ستمكن من التعريف بتأويلكم للماركسية، ويمكن أن تساعدَ على تعديل الفكرة السائدة عن موقفكم إزاء هذا الموضوع، هي موافاتنا بقائمة تضمّ عناوينَ أعمالكم (على الأقل تلك التي صدرت باللغة الألمانية)، وموافاتنا، إن كان ذلك ممكنا بالنسبة لكم، بنسخة من كل عملٍ من أعمالكم.
أعتقدُ أن (G. Szekeres)، الذي أقام هنا مؤخرا، سيؤكد لكم انطباعي هذا، وقد يخبركم أيضا بأنني سأطلع على أعمالكم، التي لم أتمكن من الحصول عليها، باهتمام خاص، كما قد يخبركم بالتوجه الذي سيؤطر ذلك.
إنني متأكدٌ أن الباعث الذي قاد العديد من رفاقنا الشيوعيين إلى الاهتمام بأبحاثكم هو نفس الباعث الذي جعلني أهتم بها، أي الحاجة إلى صياغة نظرية للعلاقة ما بين العامل الخارجي والعامل الداخلي. فالصياغات المتداولة والمعتادة حول هذه المسألة، ناقصة جدا. ويبدو لي أنه من غير الممكن اختزال العامل الداخلي إلى العامل الخارجي، أي اختزال الذاتي إلى الموضوعي من جهة، ومن غير الممكن فصل أحدهما عن الآخر من جهة أخرى. ويبدو لي أن المشكل برُمته هو أن نفهم كيف أننا لسنا "أشياء"، وكيف أننا كائنات تاريخية. أعتقد أنه ينبغي استئناف النقد، وفي نفس الوقت، على المستوى الإيديولوجي أو على مستوى البواعث الفردية، وعلى مستوى البنيات التحتية وما هو عام، بحيث يتم توضيحُ أن الأمر يتعلقُ هنا وهناك بنفس المأساة (بالمعنى الأصلي للكلمة).
من الصعب أن نحصل هنا على مجهود فكري حول هذه القضايا: فكل فكر ديالكتيكي حقيقي يُعامَلُ بغضب وبمزاج سيء، لذلك أعتقدُ أنه لن يتمّ الحصولُ على مجهود توضيحي إلا إذا حصل الجمهور الفرنسي على تحليلات ملموسة متتالية وفق منهج ماركسي حقيقي، أي تحليلات تستعيد العمق التاريخي للفرد من خلال ما كتبه وما قاله وما فكر فيه، وليس بنسيان ما كتبه وما قاله وما فكر فيه، تحليلات تُدرٍكُ بكيفية لا تقبل التجزئة "وجوده الفلسفي"، "وجوده القانوني"، "وجوده الاقتصادي" حسب تعبير ماركس.
لم أطلع على دراساتكم حول (Montaigne) و(Stendhal) ولكنني أتصورها كنماذج تطبيقية لهذا المنهج. يبدو لي أن عليكم أن تهتموا أكثر بإعادة بناء التصورات الفردية التي عبر عنها الكاتب في كل ما كتبه، أي الكيفية التي صاغ من خلالها وضعيته التاريخية.
إذا أمكنَ لدراسات من هذا النوع أن تترجَمَ إلى الفرنسية، وإذا تمكنَ الجمهور من معرفة أن منهج التفكير ومنهج التفسير هما منهجان متقاربان وليسا عدوّين، وأنّ الأمر لا يتعلق بالتنكر للوعي أو الحرية، وإنما بتحقيق هذه الأخيرة، سنكونُ قد انجزنا الشيءَ الكثير بالنسبة للنقاشات في فرنسا.
لقد بلغني أن بعض دراساتكم هي قيد الترجمة من طرف مترجم يعمل لصالح (Gallimard)، لكن الأمر لا يتعلق، حسب مصدر المعلومة، بتلك الدراسات التي تمتاز بوضوح منهجكم فيها، وإنما تتعلق بالأحرى بنصوص سهلة تم اختيارُها لتحقيق أول اتصال بالجمهور الفرنسي. فهل بوسعي أن أطلبَ منكم إذا كان من الممكن، بالنسبة لكم، العمل على التعريف، هنا بفرنسا، بدراسات تقربُنا أكثر من المشكل الذي أثرتُه سابقا؟
بإمكاني أن أضمن لكم أن هذه الدراسات سيطلعُ عليها العديد من القراء النبهاء والمهيئين لمواجهة هذا النوع من المشكلات من بين عموم قراء مجلة (Temps Modernes). وبإمكان المجلة، إذا وافقتم على ذلك، أن تنشر، على الأقل، مقاطع من هذه الدراسات.
أريد، في الأخير، التعبير عن أمنية شخصية لا يمكن التعبير عنها بدون البوح بأمر شخصي: إذا كان هناك نصٌّ لكم يتضمن أطروحات كِتاب "التاريخ والوعي الطبقي"، الذي تتراجعون عنه اليوم، فأرجو منكم أن تدلوني عليه؟
يبدو لي أن نشر هذا الكتاب والتنكر له أمران يطرحان بوضوح مشكل العلاقة ما بين العامل الداخلي والعامل الخارجي. فنصّ مثلَ هذا الذي أفكر فيه، إذا ما وُجد فعلا، بإمكانه أن يوضّح أنّه يمكنُ لبعض الأطروحات الصحيحة، بناء على مكوناتها الداخلية، أن تكون في ظرفية معينة، وتاريخيا، خاطئة. أو توضح كيف أنّه لا وجود لمُكون داخلي خالص لأطروحة ما.
إن الفكرة القائلة بأن مرحلة تاريخية معينة تُقصي بعض التوضيحات النظرية تبدو لي، بكيفية ما، فكرة قابلة للدفاع عنها بدون التضحية بِفكرة الحقيقة، وبدون أن يتحوّل البراكسيس إلى براغماتية، لكن بشرط واحد هو: أنْ نصوغ نظرية هذه المرحلة التاريخية المعنية، نظرية غياب أية نظرية. لهذه الأسباب، تهمّني التوضيحات التي تمكنتُم من تقديمها حول كتابكم السابق ذكره. وإذا لم يسبق لكم أن نشرتم أي شيء حول الموضوع، فمن الواضح أنني لن أجيز لنفسي أن أطلب منكم ذلك.
استسمحكم لكوني خاطبتكم بالفرنسية، فذلك راجع لكوني لا أستطيع مراسلتكم بلغة ألمانية سليمة، ولا بلغتكم الخاصة. وأعبر لكم، منذ الآن، عن امتناني على المعلومات التي بإمكانكم، بدون شك، تقديمها لنا، وتقبلوا، سيدي، تعبيري لكم عن مشاعري الرفيعة.
(بتاريخ: 24 ماي 1946)
(ميرلو بونتي - أستاذ بجامعة "ليون")
ترجمة: محمد الهلالي
أسمحُ لنفسي بمكاتبتكم، عملا بنصيحة ( G. Szekeres) لأثيرَ انتباهكم إلى الأهمية التي تحظى بها مؤلفاتكم هنا، وبالدرجة الأولى في أوساط الحزب الشيوعي. فالمحادثات التي تمكنتُ من القيام بها مع (P. Hervé)، من جهة أولى، وبناءً على رغبة (Cahiers d’Action) في نشر نصٍّ لكم، من جهة ثانية، وكون النقاشات النظرية التي تجري هنا ضعيفة، بل سجالية أكثر مما هي علمية، من جهة ثالثة، هي أمور جعلتني أعتقدُ أنّه سيكون من المفيد جدا للماركسيين الفرنسيين التعرّف على أعمالكم، وأنّ تمكينهم من الاطلاع عليها سيستجيبُ لتطلعاتهم أكثر مما يتصورون.
من الناحية الواقعية، فالعمل الوحيد، من بين كل أعمالكم، المعروف إلى حد ما، (بالرغم من أن النسخ المتوفرة قليلة)، هو كتابكم "الوعي والتاريخ الطبقي" (Geschichte und Klassenbewußtsein)، هذا الكتاب الذي لم تعودوا تعترفون به، والذي لازال محطّ اهتمام الناس بالرغم من تنكركم له.
لذلك يبدو لي أن الكيفية الوحيدة التي ستمكن من التعريف بتأويلكم للماركسية، ويمكن أن تساعدَ على تعديل الفكرة السائدة عن موقفكم إزاء هذا الموضوع، هي موافاتنا بقائمة تضمّ عناوينَ أعمالكم (على الأقل تلك التي صدرت باللغة الألمانية)، وموافاتنا، إن كان ذلك ممكنا بالنسبة لكم، بنسخة من كل عملٍ من أعمالكم.
أعتقدُ أن (G. Szekeres)، الذي أقام هنا مؤخرا، سيؤكد لكم انطباعي هذا، وقد يخبركم أيضا بأنني سأطلع على أعمالكم، التي لم أتمكن من الحصول عليها، باهتمام خاص، كما قد يخبركم بالتوجه الذي سيؤطر ذلك.
إنني متأكدٌ أن الباعث الذي قاد العديد من رفاقنا الشيوعيين إلى الاهتمام بأبحاثكم هو نفس الباعث الذي جعلني أهتم بها، أي الحاجة إلى صياغة نظرية للعلاقة ما بين العامل الخارجي والعامل الداخلي. فالصياغات المتداولة والمعتادة حول هذه المسألة، ناقصة جدا. ويبدو لي أنه من غير الممكن اختزال العامل الداخلي إلى العامل الخارجي، أي اختزال الذاتي إلى الموضوعي من جهة، ومن غير الممكن فصل أحدهما عن الآخر من جهة أخرى. ويبدو لي أن المشكل برُمته هو أن نفهم كيف أننا لسنا "أشياء"، وكيف أننا كائنات تاريخية. أعتقد أنه ينبغي استئناف النقد، وفي نفس الوقت، على المستوى الإيديولوجي أو على مستوى البواعث الفردية، وعلى مستوى البنيات التحتية وما هو عام، بحيث يتم توضيحُ أن الأمر يتعلقُ هنا وهناك بنفس المأساة (بالمعنى الأصلي للكلمة).
من الصعب أن نحصل هنا على مجهود فكري حول هذه القضايا: فكل فكر ديالكتيكي حقيقي يُعامَلُ بغضب وبمزاج سيء، لذلك أعتقدُ أنه لن يتمّ الحصولُ على مجهود توضيحي إلا إذا حصل الجمهور الفرنسي على تحليلات ملموسة متتالية وفق منهج ماركسي حقيقي، أي تحليلات تستعيد العمق التاريخي للفرد من خلال ما كتبه وما قاله وما فكر فيه، وليس بنسيان ما كتبه وما قاله وما فكر فيه، تحليلات تُدرٍكُ بكيفية لا تقبل التجزئة "وجوده الفلسفي"، "وجوده القانوني"، "وجوده الاقتصادي" حسب تعبير ماركس.
لم أطلع على دراساتكم حول (Montaigne) و(Stendhal) ولكنني أتصورها كنماذج تطبيقية لهذا المنهج. يبدو لي أن عليكم أن تهتموا أكثر بإعادة بناء التصورات الفردية التي عبر عنها الكاتب في كل ما كتبه، أي الكيفية التي صاغ من خلالها وضعيته التاريخية.
إذا أمكنَ لدراسات من هذا النوع أن تترجَمَ إلى الفرنسية، وإذا تمكنَ الجمهور من معرفة أن منهج التفكير ومنهج التفسير هما منهجان متقاربان وليسا عدوّين، وأنّ الأمر لا يتعلق بالتنكر للوعي أو الحرية، وإنما بتحقيق هذه الأخيرة، سنكونُ قد انجزنا الشيءَ الكثير بالنسبة للنقاشات في فرنسا.
لقد بلغني أن بعض دراساتكم هي قيد الترجمة من طرف مترجم يعمل لصالح (Gallimard)، لكن الأمر لا يتعلق، حسب مصدر المعلومة، بتلك الدراسات التي تمتاز بوضوح منهجكم فيها، وإنما تتعلق بالأحرى بنصوص سهلة تم اختيارُها لتحقيق أول اتصال بالجمهور الفرنسي. فهل بوسعي أن أطلبَ منكم إذا كان من الممكن، بالنسبة لكم، العمل على التعريف، هنا بفرنسا، بدراسات تقربُنا أكثر من المشكل الذي أثرتُه سابقا؟
بإمكاني أن أضمن لكم أن هذه الدراسات سيطلعُ عليها العديد من القراء النبهاء والمهيئين لمواجهة هذا النوع من المشكلات من بين عموم قراء مجلة (Temps Modernes). وبإمكان المجلة، إذا وافقتم على ذلك، أن تنشر، على الأقل، مقاطع من هذه الدراسات.
أريد، في الأخير، التعبير عن أمنية شخصية لا يمكن التعبير عنها بدون البوح بأمر شخصي: إذا كان هناك نصٌّ لكم يتضمن أطروحات كِتاب "التاريخ والوعي الطبقي"، الذي تتراجعون عنه اليوم، فأرجو منكم أن تدلوني عليه؟
يبدو لي أن نشر هذا الكتاب والتنكر له أمران يطرحان بوضوح مشكل العلاقة ما بين العامل الداخلي والعامل الخارجي. فنصّ مثلَ هذا الذي أفكر فيه، إذا ما وُجد فعلا، بإمكانه أن يوضّح أنّه يمكنُ لبعض الأطروحات الصحيحة، بناء على مكوناتها الداخلية، أن تكون في ظرفية معينة، وتاريخيا، خاطئة. أو توضح كيف أنّه لا وجود لمُكون داخلي خالص لأطروحة ما.
إن الفكرة القائلة بأن مرحلة تاريخية معينة تُقصي بعض التوضيحات النظرية تبدو لي، بكيفية ما، فكرة قابلة للدفاع عنها بدون التضحية بِفكرة الحقيقة، وبدون أن يتحوّل البراكسيس إلى براغماتية، لكن بشرط واحد هو: أنْ نصوغ نظرية هذه المرحلة التاريخية المعنية، نظرية غياب أية نظرية. لهذه الأسباب، تهمّني التوضيحات التي تمكنتُم من تقديمها حول كتابكم السابق ذكره. وإذا لم يسبق لكم أن نشرتم أي شيء حول الموضوع، فمن الواضح أنني لن أجيز لنفسي أن أطلب منكم ذلك.
استسمحكم لكوني خاطبتكم بالفرنسية، فذلك راجع لكوني لا أستطيع مراسلتكم بلغة ألمانية سليمة، ولا بلغتكم الخاصة. وأعبر لكم، منذ الآن، عن امتناني على المعلومات التي بإمكانكم، بدون شك، تقديمها لنا، وتقبلوا، سيدي، تعبيري لكم عن مشاعري الرفيعة.
(بتاريخ: 24 ماي 1946)
(ميرلو بونتي - أستاذ بجامعة "ليون")
ترجمة: محمد الهلالي