تعد مدرسة فرانكفورت النقدية من أهم المدارس الفلسفية التي تولدت في ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية كانت سائدة في ألمانيا في العشرينيات من القرن المنصرم، والتي تعتبر من العوامل الرئيسية لنشأة المدرسة، ولقد أشار”توم بوتومور” إلى هذه العوامل في حديثه عن المنطلقات الفكرية للمدرسة قائلا: “يتعلق الأمر هنا بعدم مجيء المشروع العلمي الذي قدمته هذه المدرسة من فراغ، حيث ظهر هذا المشروع وتطور نتيجة ملابسات موضوعية، مثلتها شروط مادية، وإنتاج نظري مواكب لتلك الشروط، ومعبرعن قضاياها”([1])، وهذا يعني أن مدرسة فرانكفورت هي وليدة سياق تاريخي بكل جوانبه السياسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية، يشير بوتومور إليه بقوله: “فلقد تواكبت وقائع مادية بعينها على التأثير في مشروع هذه المدرسة، منها اندلاع الحرب العالمية الأولى، وقيام الثورة البلشفية، وإخفاق الثورة في ألمانيا، وعدم نجاح الحركات الاشتراكية الراديكالية في أوروبا الغربية، وظهور الستالينية في الإتحاد السوفياتي، والنظم الفاشية والنازية في إيطاليا وألمانيا، وهيمنة النظم الرأسمالية وتعزيز سيطرتها الاقتصادية والإيديولوجية، خاصة بعد خروجها من الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي مرت بها في الثلاثينيات” ([2]).
فاندلاع الحرب العالمية الأولى وما تركته من أزمات اجتماعية واقتصادية ونفسية، وما سببته من موت وخراب ودمار، وما تبعها من تحولات سياسية كبرى، وقيام الثورة البلشفية عام 1917 وتأسيس أول دولة اشتراكية في أوروبا، وكذلك قيام جمهورية فايمارعام 1919 في ألمانيا وما تبعها من صراعات وانقسامات سياسية في صفوف اليسار الأوروبي، كان له كبير الأثر في ظهور المدرسة.
كذلك فإن هيمنة الفكر الرأسمالي الليبرالي على الفلسفة الغربية فترة طويلة استطاع أن يحول الإنسان بفعل الإيديولوجية التي تتحكم به إلى بضاعة أو سلعة أو شيء تُمرِر عليه غاياتها، فرفعت الفرد فوق المجتمع والدولة، وكرد فعل على استغلال البورجوازي المسيطر على رؤوس الأموال ظهرت الحركة الشيوعية والاتجاه الاشتراكي الذي جعل الدولة هي المتحكم بالاقتصاد والملكية الشخصية، فغاب الفرد وقمعت حريته وسلبت ملكيته حتى عانى من اغتراب أخر وهو يعيش في دولة يقودها العمال. وكان نتيجة ذلك أن ظهرت حركة أو مدرسة جديدة على صعيد الفكر في أوروبا حاولت مجابهة وتحدي الفوضوية التي جاء بها الفكر الليبرالي والاتجاه الرأسمالي، والجمود الذي جاء به الاتجاه الشيوعي ([3]) .
كانت هذه المدرسة هي مدرسة فرانكفورت التي أكدت في وقت مبكر، أن الوعد العظيم بالتقدم غير المحدود، وعد السيطرة على الطبيعة، والوفرة المادية، والسعادة القصوى للأغلبية العظمى، والحرية الشخصية غير المحدودة، هذا الحلم الذي كان محط الآمال ومنبع الإيمان للأجيال منذ بداية العصر الصناعي وعصر التنوير قد أخفق، ذلك في اللحظة التي بدأ الإنسان ينتبه فيها إلى أنه تحول إلى مجرد ترس في يد الآلة البيروقراطية، وأن النظام الاقتصادي والحكومات وأجهزتها الإعلامية هي التي تشكل مشاعره وأفكاره وأذواقه وتوجهه الوجهة التي تريد، فالمجتمع الرأسمالي الصناعي كشف يوما بعد يوم عن اغتراب الإنسان وتشيئه .
من هنا وجدت هذه المدرسة نفسها تضطلع بمهمة رئيسية، هي الرغبة في صوغ أساس لنظرية أكثر قدرة وفاعلية على تفسير الظروف التاريخية المستجدة والتعامل معها، بواسطة ممارسة نمط من النقد السلبي، يتجاوز أفكار كانط التي ساهمت في تأسيس العقلانية الحديثة، وأفكار الماركسية الأرثوذكسية التي استبعدت الذات الإنسانية من حسابها([4]). ولم تنحاز مدرسة فرانكفورت الى علم بعينه بقدر ما قامت بتسخير العلوم في إطار التوجه المقصود، سواء كان ذلك فلسفيا صرفا، أو اجتماعيا صرفا. من هذا المجال النقدي المتعدد الاتجاهات والتيارات ظهرت معظم آثار مدرسة فرانكفورت لتشهد على قدرة مؤلفيها على استيعاب فكر العصر ومشاكله ([5]).
ولعل أهم ما يميز هذه المدرسة الفلسفية يتحدد في كونها اتخذت النقد منهجا لها، وحاولت القيام بممارسة نقدية جذرية للحضارة الغربية قصد إعادة النظر في أسسها ونتائجها في ضوء التحولات الأساسية الكبرى التي أفرزتها الحداثة الغربية، كما أنها لعبت دورا هاما في رصد مختلف الأعراض المرضية التي عرفتها المجتمعات الغربية المعاصرة كالتشيؤ والاغتراب وضياع مكان الفرد وأزمة المعنى وغيرها ([6]).
يتضح إذن مما سبق أن ظهور مدرسة فرانكفورت لم يكن من باب الصدفة أو من فراغ، وإنما كان هذا الظهور بمثابة الولادة الحتمية، التي أفرزتها ظروف وعوامل متعددة ومتباينة في آن واحد، تداخلت وتضافرت فيما بينها، فترتب عن ذلك بروز هذه المدرسة التي أصبحت إحدى أبرز المدارس الفلسفية والاجتماعية الغربية المعاصرة.
نشأة مدرسة فرانكفورت
لقد شكل معهد البحث الاجتماعي الذي تأسس بجامعة فرانكفورت، في نوفمبر 1923 وافتتح رسميا في يونيو 1924 النواة التنظيمية الأولى لمدرسة فرانكفورت([7]).
ويرجع الفضل في تأسيس هذا المعهد إلى “فليكس ج. فايل -Félix j. Weil ” و”فريدريك بولوك” F.pollok ، و”ماكس هوركايمرMax Horkheimer ، ولقد قام ” فليكس فايل ” بتمويل المعهد ماليا من حيث إعداد المبنى اللائق، والالتزام بمرتبات العاملين فيه. وفي سبتمبر 1924 أصدر “فليكس فايل”، بيانا بشأن ميلاد المعهد الجديد.([8]) وقد ترأس كارل جرونبرغ Karl Grunberg أستاذ القانون والعلوم السياسية في جامعة فينا رئاسة المعهد كأول مدير له.
إن تولي الإشراف على المعهد من طرف جرونبرغ ، جعل بعض الباحثين يعتبرون فترة رئاسته للمعهد مرحلة أولى من مراحل المدرسة، وقد تميزت تلك المرحلة بسمة ماركسية واضحة، وقد ظهر هذا بداية من المحاضرة التي ألقاها “جرونبرج” في افتتاحه للمعهد، حيث أظهر نوعا من التعاطف مع المنظور الماركسي، وصرح بمعارضته للنظام الاجتماعي الاقتصادي القائم وبانتمائه الفكري للماركسية، إلا أنه لم ينس أن يؤكد على أن التوجه الماركسي لا يجب أن يفهم بأي معنى سياسي حزبي، ولكن فقط بالمعنى العلمي الأكاديمي([9]).
وقد انتهت المرحلة الأولى من تاريخ هذه المدرسة عام 1929 بتولي “ماكس هوركهايمر” رئاسة المعهد ، وبدأت المرحلة الثانية من مراحل مدرسة فرانكفورت، والتي يطلق عليها مرحلة النضج، فقد أصبح لمعهد فرانكفورت طابع جديد ومحدد يختلف عن مرحلة “جرونبرج” التي اتسمت -كما أشرنا- بنوع من الالتزام بالماركسية الأرثوذوكسية، أما “هوركهايمر” فعلى الرغم من إقراره النظري بأن مشروع معهده هو المادية التاريخية، إلا أنه في واقع الأمر قد جعل من الفلسفة الموضوع الرئيسي للنظرية الاجتماعية النقدية([10]) والتي اهتمت في البداية بتحليل البنايات الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع القائم، ويظهر هذا الاهتمام بالجانب الفلسفي النقدي عند “هوركهايمر” في مقاله الافتتاحي للمعهد الذي كان عنوانه “الحالة الراهنة للفلسفة الاجتماعية وواجبات معهد الأبحاث الاجتماعية.”([11])
وإلى جانب اهتمام مرحلة “هوركهايمر” بالجانب الفلسفي فقد تميزت بالاهتمام المتزايد بالأبحاث السيكولوجية وخاصة التحليل النفسي الفرويدي الذي جرى مزجه بالفكر الماركسي، ففي عام 1932 قام “هوركهايمر” بكتابة مقال عن “التاريخ وعلم النفس” وفي هذا المقال يؤكد “هوركهايمر” على أن علم النفس الفردي ذو أهمية كبيرة في فهم التاريخ([12]).
إن الطابع الجديد الذي اتسمت به مدرسة فرانكفورت مع إدارة “هوركهايمر”، لا يعني أنّ تَغيُر النظرة تم دفعة واحدة، بل كان ضربا من التطور التدريجي، فلقد حافظ “هوركهايمر” على كثير من افتراضات سلفه الماركسية ولكن مع إدخال تغييرات دقيقة عليها. فقد أعلن أنه من الخطأ أن نعتقد أن الاقتصاد هو “الواقع الحقيقي الوحيد”([13])
وبهذا الشكل أراد “هوركهايمر” أن ينفتح المعهد في عصره على آفاق معرفية أخرى كالفرويدية والظاهراتية (Phenomenology)، وعلى مزيد من الاهتمام بالجوانب الثقافية والأيديولوجية، اتساقا مع التغيرات الاجتماعية التي انتابت ألمانيا وأوروبا والغرب خلال تلك الفترة، وهو ما يشير إليه “مارتن جاي” بقوله، أنه: “إذا كان من الممكن الحديث بأن المعهد قد اهتم أساسا خلال سنوات تكوينه الأولى بتحليل البنى الاجتماعية الاقتصادية للمجتمع البورجوازي، فقد وجه اهتمامه بعد عام 1930 إلى بناه الفوقية الثقافية”([14])
وكما شهدت المرحلة السابقة بعض الإسهامات العلمية، كذلك شهدت المرحلة التي تولى فيها “هوركهايمر” رئاسة المعهد بروز عدد من الإسهامات، وكان من أول هذه الإسهامات، تلك الدراسة التي قام بها “فرانز بوركينا” حول ” التحول من النظرة الإقطاعية للعالم إلى النظرة البورجوازية “. أما العمل الثاني المتميز في تلك الفترة فكان “دراسات في السلطة والأسرة” والكتاب عبارة عن دراسة جماعية اشترك فيها “هوركهايمر” و” فروم ” (Erich Fromm) و”ماركيوز”(Herbert Marcuse)، وكان الكتاب عبارة عن دراسة تحضيرية لدراسة أخرى ظهرت عام 1950 تحت عنوان “الشخصية المتسلطة”، ولقد اهتمت الدراسة الأولى بتحليل الأسس السيكولوجية للسلطة، واستهدفت تقديم تفسير ملائم لصعود التيار الفاشي وازدهاره في دول أوروبا ([15]).
ومع وصول هتلر إلى الحكم في 1933 أُغلِقَ المعهد، إذ كان من المتعذر استمرار نشاطه في ظل الحكم النازي لسببين:
الأول يتعلق بالطبيعة الماركسية لنشاطه الفكري.
الثاني أن أغلبية أعضاء المعهد الرئيسيين كانوا من اليهود.
وغادر أعضاؤه إلى بعض العواصم الأوروبية، ومن بينهم هوركهايمر الذي أدرك خطورة الموقف الذي سيواجه المعهد في حالة استمراره، فسافر إلى جنيف واستقر في فرع المعهد الذي كان قد فتحه هناك. ثم هيأ الظروف اللازمة لسفر بقية أعضاء المعهد.
ولم تدم فترة بقاء المعهد في سويسرا طويلا، فقد كان وجوده في جنيف حالة مؤقتة خاصة وأن التيار النازي قد امتد إلى سويسرا أيضا، وأصبح المعهد مهددا مرة أخرى، ولم يعد هناك إلا حل واحد هو نقل المعهد إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وبالفعل تم ذلك عام 1934، وبدأ الأعضاء يلتحقون بالمعهد تباعا، فوصل ماركيوز، ولوينثال وبولوك، وكذلك التحق باقي الأعضاء بصورة متتابعة قادمين من جنيف أو باريس أو لندن ([16]).
لم يحافظ المعهد على تسميته الحقيقية عندما انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية وإنما نقل إلى نيويورك باسم (المدرسة الجديدة للبحث الاجتماعي)، ليستقر بعد ذلك في الحرم الجامعي لجامعة كولومبيا. ثم ما لبثوا أن انتقلوا عام 1941 إلى لوس أنجلوس ([17]).
إن الدارس لمدرسة فرانكفورت يكتشف أن لها مسميات متعددة، الأمر الذي أدى إلى بروز لبس في معرفة أي تسمية يمكن أن تعبر حقيقة عن المدرسة، ولقد أشار الباحث “توم بوتمور” إلى هذه المشكلة قائلا: “ويزيد من صعوبة هذه المهمة تلك التسميات العديدة التي أطلقت على هذه المدرسة، من مثل: النظرية النقديةCritical theory إشارة إلى مجموعة أعضائها من المثقفين الألمان الذين اتخذوا من الفلسفة النقدية رؤية لهم، والماركسية الأوروبية Euro marxism تمييزا لفكرها عن التفسيرات التي قدمها منظرو الأممية الثانية والثالثة للماركسية، وفكر الهجرة Migration thought، ومدرسة فرانكفورت Frankfurt school وهو الاسم الذي خلعوه عليها بعد عودتها من المهجر”([18]). كما يشير الباحث “محسن الخوني” إلى مشكلة تعدد التسميات لمدرسة فرانكفورت، واضعا هذا الأمر تحت اسم لبس التسمية،حيث يرى أن مدرسة فرانكفورت هي اليوم التسمية الأكثر شيوعا والأغلب على الاستعمال للدلالة على تلك المجموعة من المفكرين، أمثال هوركهايمر وأدورنو وماركيوزو هابرماس، الذين قدموا أعمالا نظرية مشتركة وكانوا (عدا هابرماس) ينتمون في الأصل، إلى ما يسمى بمركز البحوث الاجتماعية ([19]).
فإذا كانت التسمية تأثرت بهذا الانتقال من ألمانيا إلى المنفى، فهل تأثر رواد تلك المدرسة بانتقالهم إلى المنفى؟ وهل أثرت حالة المنفى والابتعاد عن الوطن الأم في إسهاماتهم الفكرية؟
لا شك أن هجرة أعضاء المعهد إلى الولايات المتحدة الأمريكية قد أثرت بشكل أو آخر في أعمالهم. لذلك فإنهم مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وغروب النظم الفاشية والنازية بدأوا تحليلا جذريا للمجتمع الرأسمالي، الذي رأوا نمط صعوده الجديد في الولايات المتحدة، خاصة مع تنامي (المعجزة الاقتصادية) التي كونت رأسمالية قوية، حالت دون فعالية الطبقة العاملة في تحقيق أهدافها، وهذا ما يفسر توجه بحوث المعهد هناك إلى قضايا عديدة في هذا المجتمع، كقضية السيطرة الشاملة، والقضاء على قيمة الفردية، والقهر التقني، وصناعة الثقافة ([20]).
إنّ أعوام المنفى إذن لم تقلل من شأن أو فعالية النشاط الفكري لأعضاء المعهد، بل أنّ فترة الثلاثينات والأربعينات والخمسينات قد شهدت عدة دراسات هامة شكّلت في مجموعها ما نسميه اليوم “بالنظرية النقدية”. ومن أبرز هذه الدراسات، الدراسة التي نشرها هوركهايمر عام 1937 بعنوان “النظرية التقليدية والنظرية النقدية” وفي العام نفسه نشر ماركيوز دراسة تحت عنوان “الفلسفة والدراسة النقدية “. وفي عام 1941 نشر ماركيوز باللغة الإنجليزية أهم كتبه “العقل والثورة”، وفي العام نفسه نشر هوركهايمر كتابه “خسوف العقل”. وفي عام 1942 ظهر كتاب فروم “الخوف من الحرية ” وفي عام 1944 أصدر هوركهايمر بالاشتراك مع أدورنو كتابا هاما هو” ديالكتيك التنوير” ([21]) وكتاب “أيروس والحضارة” لماركيوز سنة 1955، وكتابه الآخر” الماركسية السوفيتية ” سنة 1958.
ويمكننا القول أن هذه المؤلفات قد مثلت توسعا وتطورا في موضوعات النقد، واستطاعت أن تبلور بصورة فعلية نظرية نقدية متكاملة الملامح.
رواد مدرسة فرانكفورت [هوركهايمر ــ أدورنو- هربرت ماركيوز]
علي الرغم من العدد الكبير للمفكرين المنتسبين إلى معهد الأبحاث الاجتماعية أو مدرسة فرانكفورت، والذين قاموا بتأسيس تيارات واتجاهات فلسفية هامة – كل حسب طبيعة الموضوعات التي تخصص في بحثها – إلا أن النظرية النقدية التحليلية والاتجاه الفكري المميز لهذه المدرسة قد تشكل بفضل ثلاثة مفكرين أساسيين فيها، كانت فلسفاتهم المحور الرئيسي الذي قامت عليه الأصالة الفكرية لمدرسة فرانكفورت وتكاملت عبرهم نظريتها النقدية، وهم : ماكس هوركهايمر، تيودور أدورنو، هربرت ماركيوز ([22]) والذين يشكلون الجيل الأول للمدرسة، بإجماع الباحثين في مدرسة فرانكفورت وفكرها الفلسفي والاجتماعي وروادها في جميع مراحلها وأجيالها.
ماكس هوركهايمر Max horkheimer
ولد ماكس هوركهايمر في 1895 بمدينة شتوتغارت (Stuttgart)، وهو سليل عائلة يهودية ثرية، التحق بجامعة فرانكفورت ليدرس تحت إشراف ” هانز كورنيلوس” (Hans Cornelius) وهو فيلسوف ألماني من أتباع الكانطية الجديدة، ولقد كان لهذا الفيلسوف تأثيرا كبيرا على هوركهايمر.
ولقد قرأ هوركهايمر لكثير من الفلاسفة، نجد من بينهم الفيلسوف شوبنهاور ((Schopenhauer، وكذلك تولستوي (Tolstoï)، وماركس (Marx) وإنجلز (Engels). في 1922 ناقش أطروحته للدكتوراه وكان عنوانها “نقد الحكم عند كانط: التوسط بين الفلسفة العملية والفلسفة النظرية”.
وفي سنة 1930 عُيِّن أستاذا للفلسفة الاجتماعية بجامعة فرانكفورت، وفي نفس السنة أصبح مديرا للمعهد خلفا لجرونبرغ، وفي 1932 أسس مجلة معهد الأبحاث الاجتماعية.
وشغل هوركهايمر للسنوات 1951- 1953 منصب رئيس لجامعة فرانكفورت، واستمر في الوقت نفسه في التعليم الجامعي حتى تقاعد في منتصف الستينات في 1958، ومن ثم زار أمريكا مرتين: الأولى عام 1954 والثانية عام 1959، وذلك ليحاضر في شيكاغو، وظل رمزا ثقافيا متميزا حتى وفاته في نورمبرغ بتاريخ 7 يوليو 1973.
وهنا نتوقف عند إسهاماته الفكرية في حقل الفلسفة والعلوم الاجتماعية، والتي تبرز من خلال مؤلفاته وكتبه المختلفة:
1-كتاب النظرية التقليدية والنظرية النقدية Traditional and Critical Theory
صدر سنة 1937. ويمكن القول أن أعمال منظري مدرسة فرانكفورت لا يمكن فهمها دون الوقوف على أهداف النظرية النقدية التي لخصها هوركهايمر في هذا الكتاب، وجاء تحديده للنظرية النقدية بقوله: إنها الوعي الذاتي، والنقد الاجتماعي الساعي الى التغيير والتحرر من خلال التنوير، وهذه النظرية غير مرتبطة بعقيدة أو قائمة على أية افتراضات عقيدية.
وقد حاول هوركهايمر من خلال هذا العمل أن يُنشط النقد الثقافي الاجتماعي الجذري، وناقش مسألة التسلط العسكري، والمشكلة الاقتصادية التي تشل الحياة الاجتماعية، والأزمة البيئية. وفي هذا الكتاب نقد هوركهايمر النظرية التقليدية في التفكير وحدد خطوطا لاتجاهات جديدة تتوخى النقد التحليلي للواقع ولحركية المجتمع والسياسة ([23]).
2-كتاب خسوف العقل Eclipse of Reason
صدر سنة 1947. يسعى المؤلف في هذا الكتاب الى القيام بنقد ذاتي للعقل، يدافع فيه عن الفردية في مواجهة العقلية الجمعية الكلية الجمعية السائدة، ورأى هوركهايمر في كسوف العقل أساس الشر في العالم المعاصر.
وقد ميز هوركهايمر بين ثلاثة أنواع من العقل: العقل الموضوعي، العقل الذاتي، العقل الأداتي. والعقل الذي يطمح اليه هوركهايمر هو عقل موضوعي غير حيادي مضاد للعقل الأداتي، ويسعى هذا العقل الموضوعي الى تحقيق السعادة والعدالة والحرية.
تيودور أدورنو Theodor Adorno
ولد تيودور أدورنو في مدينة فرانكفورت في عام 1903 من أب ألماني وأم إيطالية، وهو سليل عائلة يهودية تحولت إلى البروتستانتية، اهتم بالفلسفة وقضى عدة سنوات في دراسة فلسفة كانط.([24]) وكذلك علم الاجتماع وعلم النفس بجامعة فرانكفورت، وفي عام 1931 أصبح عضوا في هيئة تدريس جامعة فرانكفورت([25]).
ولم يصبح في الواقع عضوا رسميا في معهد البحث الاجتماعي إلا في عام 1938. وبعد نفيه إلى الولايات المتحدة استعاد أدورنو تعاونه الوثيق مع هوركهايمر ([26]) ولقد ترتب عن هذا التعاون إصدار كتابهما المشترك المعنون”جدل التنوير” عام 1947 والذي ظهر مع الإعلان عن ضحايا المحرقة النازية. ولقد كان أدورنو أحد الذين أصروا بعد الحرب على العودة إلى فرانكفورت، وصار المدير المساعد للمعهد، ثم مديرا مشاركا في عام 1955. وأخيرا وبعد تقاعد هوركهايمر عام 1958 أخذ أدورنو على عاتقه إدارة المعهد. وتوفي سنة 1969.
ومن أهم إسهامات الرائد الثاني من رواد الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت نجد:
1-جدل التنوير Dialectic of Enlightenment
صدر في عام 1947، وهي الفترة التي شهدت هجرة أغلبية مفكري مدرسة فرانكفورت إلى مختلف بلدان العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا بعد الأحداث التي عرفتها ألمانيا إثر صعود النازية ووصولها إلى سدة الحكم، والملاحقات التي تعرض لها الكثير من المثقفين والمفكرين، خاصة من ذوي الأصول اليهودية ([27]) وقد كتب أدورنو هذا الكتاب بالاشتراك مع ماكس هوركهايمر. وقد اعتبر ألبرشت فيلمر،أن كتاب “جدلية التنوير” هو “النص المفتاح لمجمل النظرية النقدية الأولى، وذلك بوصفه يعيد رسم انتصار التنوير وتعاسته في آن معا([28]) والفكرة الأساسية لهذا الكتاب، والتي تمت صياغتها في مقدمته، هي التدمير الذاتي للتنوير، أي التدمير الذاتي للعقل من خلال الوضوح الزائف المتعين في الفكر العلمي والفلسفة الوضعية للعلم، وحيث يظل هذا الوعي العلمي الحديث بمثابة المصدر الرئيسي للانحطاط الثقافي، وكنتيجة له: “تغرق البشرية في نوع جديد من البربرية بدل أن تدخل في حالة إنسانية حقيقية”([29]).
لقد تناول هذا الكتاب عدة إشكاليات تتمحور في الأساس حول قضية العقل الأداتي والحداثة الغربية، كما اهتم مؤلفه بنقد هذه الحداثة عبر أهم الأسس والمرتكزات التي قامت عليها، كالعقل، والحريـة، والعدالة، واحترام كرامة الإنسان وحقوقه، وفكرة التقدم الإنساني، وهذا قصد التخلص من الظلم الذي ظل يعاني منه الإنسان، والتخلص من مختلف أشكال السيطرة التي عرفها في ظل المؤسسات الدينية والسياسية التي كانت سائدة في أوروبا في تلك الفترة ([30]).
2-الجدل السلبي Negative Dialectics
صدر هذا الكتاب سنة 1966، هذا الكناب عمل فلسفي رفيع المستوى عالج فيه أدورنو موضوع الفرد واستلابه في المجتمع الصناعي، والتزم أدورتو بانحيازه لإنقاذ الذات في عالم متسلط.
يرى ادورنو أن تطور العقل يحكمه قانون السيطرة وفق المعادلة التالية: الطبيعة/ الإنسان، الإنسان / الطبيعة. إن هذه السيطرة خلقت وعيا جديدا أطلق عليه ادورنو “الوعي التكنولوجي” الذي جعل من العقل مجرد آلة انحرفت عن مسارها الموضوعي وتوجهت الى خدمة مصالحها الخاصة.
هنا يعلن ادورنو ثورته الارمة على العقل الغربي بلا هوادة، هذا العقل الذي خان مبادئه التنويرية، فراح ادورنو يصب جام غضبه على العقل الأداتي- النفعي للحضارة الغربية باعتباره عقلا شموليا واستئصاليا.
هربرت ماركيوز Herbert Marcuse
ولد ماركيوز في برلين عام 1898 لعائلة يهودية، وانتسب لمعهد الدراسات الاجتماعية في فرانكفورت حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية فانتقل للعيش في الولايات المتحدة الأمريكية وانضم الى معهد الدراسات الاجتماعية هناك عام 1934. ومن أهم أعمال ماركيوز كتابه الإنسان ذو البعد الواحد.
الإنسان ذو البعد الواحد One Dimentional Man
يقدم ماركيوز في هذا المؤلف نقدا واسع النطاق لكل من الرأسمالية المعاصرة والمجتمع الشيوعي، مشيرا الى الارتفاع المتوازي لأشكال جديدة من القمع الاجتماعي في كلا المجتمعين.
ويؤكد المؤلف على أن المجتمع الصناعي المتقدم قد خلق حاجات زائفة أدت الى تنامي النزعة الاستهلاكية مما خلق شكل من أشكال السيطرة الاجتماعية على الأفراد في المجتمع، فالاستهلاك المفرط يدفع الأفراد الى العمل أكثر مما هو مطلوب لتغطية حاجاتهم المتجاوزة لما هو أساسي، مع تجاهل للآثار النفسية المدمرة والأضرار البيئية المترتبة على هذا الوضع. ولا يتوقف الأمر عند ذلك بل يزداد الوضع لاعقلانية عبر خلق منتجات جديدة تدعو الى التخلص من المنتجات القديمة، الأمر الذي يدفع الى العمل أكثر لشراء المزيد، وبذلك يفقد الفرد إنسانيته ويصبح أداة في آلة التصنيع والاستهلاك، وتعمل الإعلانات على المحافظة على النزعة الاستهلاكية من خلال إخبار المستهلكين أن السعادة قابلة للشراء.
وقد أدى هذا الوضع الى خلق كونا أحادي البعد للفكر والسلوك يضعف فيه الاستعداد الى التفكير النقدي والمعارضة. وفي مواجهة هذا المناخ السائد يشجع ماركيوز على “الرفض الكبير” الذي وصفه باستفاضة في كتابه.
انتقادات الجيل الأول، وأبرز اسهامات الجيل التالي من رواد مدرسة فرانكفورت:
لا أحد من الدارسين لمدرسة فرانكفورت النقدية يمكنه التنكر للجهد الذي بذله رواد الجيل الأول لهذه المدرسة في نقدهم للمشروع التنويري والكشف عن جوانب الخلل فيه، وخاصة بعد تحول عقلانية الأنوار إلى عقلانية أداتية، أفرزت في نهاية الأمر مظاهر السيطرة والتشيؤ وأشكال الاغتراب الجديدة، التي عرفتها المجتمعات الغربية المعاصرة، لذلك سعوا جاهدين لإنقاذ الإنسان ولإيجاد نظام اجتماعي أفضل يحقق حريته وسعادته، وهذا عن طريق بلورة فلسفة اجتماعية نقدية ([31]). لكن هذا لا يعني أن هذا الجهد قد حظي بالقبول من طرف الدارسين للمشروع الفلسفي والاجتماعي للمدرسة في جيلها الأول، أي أن أطروحاتهم لم تفرض نفسها على جميع العقول، حتى من داخل المدرسة في أجيالها المختلفة، ناهيك عن خارجها. فالمشروع الفرانكفورتي لم يسلم من المساءلة النقدية، بحيث اعترض الكثير من المفكرين والفلاسفة على أفكار رواد المدرسة من الجيل الأول.
الاعتراضات والانتقادات لرواد الجيل الأول قدمها المنتمون لمدرسة فرانكفورت، ونعني هنا ــ رواد الجيل الثاني وعلى رأسهم يورغن هابر ماس، ورواد الجيل الثالث وعلى رأسهم أكسل هونيث.
يورغن هابرماس Jurgen Habermas
فيلسوف ألماني ولد عام 1929، يعد أكثر فلاسفة مدرسة فرانكفورت شهرة في الحقبة المعاصرة. اقتفى هابرماس الخط الفلسفي النقدي نفسه الذي تأسس على يد فلاسفة مدرسة فرانكفورت الكبار، عبر استيعابه لفلسفاتهم ثم السير بالنظرية النقدية داخل ميادين جديدة لم يطالها البحث النقدي من قبل.
لقد تطور فكر هابرماس على مرحلتين؛ اتسمت المرحلة الأولى بالطابع التحليلي الإبستيمولوجي، وتمثلت في أعماله عن “التقنية والعلم كإيديولوجيا” و “الرأي العام” كما كان كتابه “المعرفة والمصلحة” (عام 1965) أول كتبه المهمة في هذه المرحلة التي تبنى فيها منهجا نقديا متأثرا بفلسفة كانط وماركس، وتحول بدءًا من كتابه “منطق العلوم الاجتماعية” إلى مرحلة أخرى يمكن أن نطلق عليها اسم المرحلة التأسيسية، كما تمثلت في “نظرية الفعل التواصلي” بجزأيه، و”الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي” و”الخطاب الفلسفي للحداثة” وهي الأعمال التي توجت مشروعه الفلسفي. وتحول هابرماس من مفكر يهتم بالموضوعات والأشياء إلى مفكر يهتم بقضايا التفاهم والتواصل بين الذوات ([32]).
نظرية الفعل التواصلي The Theory of Communicative Action
هو كتاب ضخم من مجلدين، صدر عام 1981، ويعتبر أهم كتاب في مشروع هابرماس الفلسفي ويعتبر الدعامة الأساسية لمبحث التواصل فلسفيا وسوسيولوجيا، حيث انشغل في المجلد الأول بدراسة تفصيلية لنظرية ماكس فيبر عن الترشيد العقلاني للعالم الحديث، يتبعها بتقويم نقدي للتطورات اللاحقة لهذه النظرية، بدءًا من استخدام لوكاش لمفهوم “التشيؤ”، إلى نقد هوركهايمر وأدورنو للعقل الأداتي.([33]) في حين قام في المجلد الثاني بنقد مفهوم العقل الوظيفي عند إميل دوركايم، الذي -وفي غمرة بحثه عن منهج علمي صارم- يُحوِّل الظواهر الاجتماعية إلى أشياء تخضع لما تخضع له الظواهر الطبيعية من حتمية وموضوعية، فنسي وجود الإنسان العاقل، المُدّرِك، الباحث عن التواصل مع العالم ومع الآخرين كما يقول هابرماس. لهذا سعى إلى إعادة تأسيس عقل جديد وفق أسس جديدة، عقل منفتح، مرّن، يعمل بجدّية على إعادة تنظيم العلاقة بين المعرفة المجردة الباحثة عن انسجام العقل مع مقولاته الذاتية، وبين الواقع الاجتماعي التاريخي المنتجة فيه ([34]).
“التقنية والعلم كأيديولوجيا”
في هذا المؤلف ميز هابرماس تمييزا واضحا بين الفاعلية الأداتية والفاعلية التواصلية، يقول في مؤلفه مبرزا الفرق بينهما : “وانطلق من التمييز الأساسي بين العمل والتفاعل، وأقصد بـ (العمل) أو الفعل العقلاني الغائي إما فعلا أداتيا أو اختيارا عقلانيا أو مركبا من كليهما. ويهتدي الفعل الأداتي بالقواعد التقنية التي تقوم على معرفة تجريبية. وأعني بالفعل التواصلي من جهة أخرى تفاعلا متوسطا رمزيا. وهو يتبع المعايير السائدة إلزاميا، والتي تعرف توقعات السلوك المتبادلة، ويجب أن تكون مفهومة ومعترف بها من قبل ذاتين فاعلتين على الأقل.والمعايير الاجتماعية تُعززّها الجزاءات.و يتموضع مغزاها في التواصل اللغوي المتداول”([35]) .
إن النظرية عند هابرماس إذن هي نتاج للفعل البشري وتخدم غايات ذلك الفعل. وهي بشكل أساسي أداة لتحقيق حرية أكبر للبشر، وهي تتطور بعدة مستويات متباينة. وبهذا تأخذنا بعيدا عن الأعمال المتأخرة لهوركهايمر وأدورنو وأصحاب اتجاه ما بعد البنيوية الذين ترتبط المعرفة عندهم بالهيمنة والاستعباد([36]).
“القول الفلسفي للحداثة” The Philosophical Discourse of Modernity
في هذا المؤلف يعيد هابرماس النظر في مفهوم الحداثة نفسه، إذ لم يعد يعني حقبة زمنية مرت بها الإنسانية وانقضت بانتقالها الى مرحلة ما بعد الحداثة، بل إنها في نظره “لا ترتبط بمرحلة تاريخية معينة، وإنما تحدث كلما تجددت العلاقة بالقديم وتم الوعي بالمرحلة الجديدة”([37]) وقد صارت مشروعا إنسانيا لازال مستمرا ويتوجب استكماله، وإن كان بالإمكان تحديد بدايته، فإنه من الصعوبة بمكان تحديد نهايته، فهو بالنسبة لهابرماس مشروع لم يكتمل بعد. كما أن التصور الذي قدمه هابرماس للحداثة يختلف عن التصورات التي قدمها سابقوه من الفلاسفة والمعاصرين له، ففي مسألة الحداثة هذه يركز هابرماس على مفهوم العقل التواصلي، إذ يعتبر أن الحداثة لا ترتبط بعملية امتلاك معرفة ما ولكنها تتوقف على الطريقة التي يعبر بها الأشخاص القادرون على الكلام والفعل عن هذه المعرفة. الحداثة تتمثل في الأسلوب المتبع لاكتساب أو استعمال المعرفة من طرف شخص ما، وفي الطريقة التي تصاغ بها التعبيرات الرمزية. ومن ثم فإن الحداثة هي بالدرجة الأولى، مسألة إجرائية. أي أن الأشخاص القادرين على الكلام والفعل، ومن خلال تعبيراتهم الرمزية المنطوقة داخل سياق تواصلي، يستطيعون تبرير ونقد القضايا أو أفعال الكلام، وبالعكس فإن كل قضية أو فعل للكلام يرفض تقديم حججه ويقاوِم النقد فإنه يطرد نفسه مما هو عقلي ([38]).
فنقده للحداثة لم يكن نقدا تشاؤميا سوداويا كما كان عليه الأمر عند فلاسفة الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت، بل إن هابرماس يعتقد أننا يجب ألا نضحي بالمكاسب التي جلبتها لنا الحداثة، ألا وهي زيادة المعارف، والفوائد الاقتصادية، والتوسع في الحريات الفردية. إنّ استكمال الحداثة لا يعني فقط قبول كل ما تلقيه علينا من مستجدات، بل التخصيص الناقد للإمكانات الثقافية والتكنولوجية والاقتصادية للعالم الحديث في ضوء المثل الإنسانية العلمانية. ويتطلب استكمال الحداثة وقاية العالم المعيش بفاعلية من الأثر المدمر للنظام ([39]).
وبهذا الشكل يعود هابرماس بالنظرية النقدية إلى الشق المتفائل من الحداثة والتنوير، لأن الحداثة مشروع لم يفشل بعد مثلما كادت تقنعنا بذلك جدلية التنوير، وإنما هي مشروع لم يكتمل. فالحل ممكن على أرضية إعادة بناء لنظرية المعرفة الكانطية يُصحح مسار التاريخ ويشير إلى منافذ حل الأزمة ([40]).
التحولات البنيوية للفضاء العام: تساؤلات ضمن أصناف المجتمع البورجوازي Structural Transformations of Public Space
صدر هذا المؤلف في عام 1962ويعتبر أول أعمال هابرماس الكبرى، وقد جاء استجابة نقدية بناءة لمفهوم هوركهايمر وأدورنو للنظرية النقدية. فهو محاولة لحل مشكلات النظرية النقدية للجيل الأول من مدرسة فرانكفورت، محاولة مخلصة في الوقت نفسه لروح النظرية الأصلية مع الحفاظ على تشخيصها للآفات الاجتماعية ([41]).
فهذا يعني أن هابرماس في أول مؤلفاته كان وفيا للمسار الفكري الذي خطه رواد الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت، ويظل مؤلف “التحولات البنيوية ” مخلصا للنموذج الأصلي من عدة أوجه. أولا: هو متعدد التخصصات؛ حيث يمزج ما بين أفكار متعمقة من التاريخ وعلم الاجتماع والأدب والفلسفة. وثانيا: يهدف إلى تحديد الجوانب التقدمية العقلانية للمجتمع الحديث والتمييز بينها وبين الجوانب الرجعية غير العقلانية. وثالثا: يوظف هابرماس، شأنه شأن هوركهايمر وأدورنو من قبله، أسلوب النقد الداخلي، في مقابل النقد الخارجي ([42]).
يتحدث هابرماس عن النظرة السوداوية التي تميز بها كتاب جدلية التنوير، فيقول: “ينطلق هوركهايمر وأدورنو في (جدلية العقل) مؤلفهما الأكثر سوادا لتحويل سيرورة التدمير الذاتي للأنوار إلى مفاهيم. فتحليلهما لم يترك لهما أي أمل بقوة المفهوم المحررة”([43]).
يبرز من خلال هذا القول أن هابرماس يرفض هذه النزعة التشاؤمية التي ميزت الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت، حيث أنه آخذ هوركهايمر وأدورنو على كونهما سجنا نفسيهما في نزعة تشاؤمية تختزل العقل في الأداتية،([44]) وتُشكك في قدرته على تجاوز الكثير من الصعوبات.
ويرى هابرماس أيضا أن النظرية النقدية كان يجب أن تدلي بدلوها في أنواع المؤسسات الضرورية لحماية الأفراد من مفاتن التطرف السياسي، من ناحية، وعمليات النهب التي يقوم بها الاقتصاد الرأسمالي المتنامي سريعا من ناحية أخرى ([45]).
لا يمكن الحديث في نظر هابرماس عن الحريات الفردية في تجاهل الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية لبيئة الأفراد، فهو يريد تحديد الظروف الاجتماعية والمؤسسية التي تعزز الاستقلال، فالتحرر عنده يعني خلق مؤسسات ديمقراطية حقا لها القدرة على الصمود في مواجهة الآثار المدمرة للرأسمالية وإدارة الدولة.
يعتبر الفكر الهابرماسي حركيا لأنه منشغل بحركة الفكر في عصره واعيا بمختلف مقتضياته الفلسفية والثقافية والاجتماعية والسياسية. وتعد فلسفته التركيبية وليدة ذلك الإرث الغربي الذي تتقاطع فيه الأنوار والحداثة وما تحمله من معاني تهدف لإثراء المكتسبات الإنسانية مثل منزلة “العقل” والحرية والتاريخ والنقد. فهابرماس يؤكد أن الحداثة ليست كلها شرا ، بل كان لها الفضل في تحرر العقل الإنساني من هيمنة كثير من السلطات الدينية والفلسفية، التي كان واقعا في أسرها في العصر الوسيط، فقد دافع بقوة عن فكرة أن مشروع الحداثة لم يستنفذ بعد، وأن كل النقد الذي وجه إلى هذه الأخيرة إنما قد تم بأدواتها هي نفسها، أي بالاعتماد على النقد العقلي، وبالتالي فإن ما يقوم به فلاسفة ما بعد الحداثة هو فقط لتصحيح مسار الحداثة وليس لرفضها أو نفيها مطلقا ([46]).
وفي إعادة النظر إلى الحداثة مفهوما ومكتسبا، تميزت نظرة هابرماس عن نظرة رواد الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت والتي كانت في مجملها نظرة مناهضة للحداثة ومقزمة لمكاسبها، ورغم ذلك يظل هابرماس متأثرا بفلاسفة عصره، إذ أن أفكاره النقدية مطبوعة بتأثيرات واضحة من أدورنو. وهو ما يعطي الأهمية الكبرى للتفاعل بين مفكري الجيل الواحد ([47]).
الأصول الفلسفية والعلمية لمدرسة فرانكفورت
هنا يطرح السؤال نفسه حول المصادر الفلسفية التي استمد منها مفكرو مدرسة فرانكفورت هذه الروح النقدية وهذا الإصرار على إعادة النظر في أسس الحضارة الغربية بكل جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي المفاهيم والقيم التي تأسست عليها هذه الحضارة ومجتمعاتها، كالعقلانية والحرية والتقدم العلمي والتقني وما ارتبط بها من نزعات وضعية وعلمية، وغيرها من النزعات التي عملت على الحفاظ على الوضع القائم والمصالح المهيمنة فيه ([48]).
إن الدارس للتراث الفكري الفلسفي والاجتماعي لمدرسة فرانكفورت، من خلال المنتوج الفكري لروادها من الجيل الأول، سرعان ما يكتشف أن هذا المنتوج يتضمن في طياته الكثير من أسماء الفلاسفة السابقين عن المدرسة أو المعاصرين لها بمختلف انتماءاتهم المذهبية وتوجهاتهم الفلسفية. ويجد الدارس لهذا التراث حضورا قويا لبعض الفلاسفة في فكر المدرسة، وقد يجد لبعضهم الآخر حضورا أقل، يعكس هذا الحضور درجة التأثير الذي حدث من هؤلاء الفلاسفة على فلاسفة مدرسة فرانكفورت النقدية.
أولا: الأثر الكانطي في فلسفة مدرسة فرانكفورت
لقد كان لفلسفة كانط النقدية حضورا بارزا في فكر الفلاسفة المعاصرين، وبالتحديد على فلاسفة مدرسة فرانكفورت، فرغم أن الفاصل الزمني بين كانط ومدرسة فرانكفورت يصل إلى حوالي القرنين، الا أن فلسفة كانط النقدية كانت من الأسس التي قامت عليها مدرسة فرانكفورت النقدية خاصة في جيلها الأول، أي أن رواد الجيل الأول «هوركهايم» و«أدورنو» قد تأثرا في صياغة مشروعهما الفلسفي والاجتماعي بفلسفة كانط عامة أو على الأقل بروح النقد لديه. فالنظرية النقدية مدينة بالكثير إلى فلسفة كانط ، فالحضور المستمر لكانط في مؤلفات فلاسفة مدرسة فرانكفورت يؤكد تأثير كانط على التوجيه النقدي لهذه المدرسة ، فكانط يُعد المرجعية الثابتة للفلسفة الحديثة، وهذا هو ما جعل فلاسفة النظرية النقدية أنفسهم – وهم يَعُدون أنفسهم على الدوام ورثة المثالية الكلاسيكية الألمانية – في حوار معه متواصل إلى أيامنا هذه ([49]).
ثانيا: الأثر الهيغيلي في فلسفة مدرسة فرانكفورت
هذا الفيلسوف يبدو أن له أثرا كبيرا في الدراسات الحديثة ومنها مدرسة فرانكفورت([50]) ويُستشف هذا التأثير من الدرس الافتتاحي الذي ألقاه هوركهايمر بمناسبة تعيينه مديرا لمركز البحوث الاجتماعية (وهو الاسم الأول لمدرسة فرانكفورت)، والذي أكد فيه بأن الفلسفة الاجتماعية، التي هو بصدد الإعلان عن برنامج عملها، تستمد وجودها مباشرة من تجربة الوعي الفينومونولوجي الهيغيلية([51]) .إنّ لفلسفة هيغل حضورا قويا في بلورة الفكر الفلسفي لمدرسة فرانكفورت النقدية في جيلها الأول.
ويَبرز تأثير فلسفة هيغل بوضوح في بعض الأعمال الفلسفية المنسوبة إلى مدرسة فرانكفورت ([52]) فالمتصفح لكتاب « بدايات فلسفة التاريخ البورجوازية » لهوركهايمر، يقف على كثير من المحطات التي يعود فيها صاحب الكتاب إلى هيغل في سياق حديثه عن الجدل في منظوره. ولقد أفرد هوركهايمر في هذا المؤلَف فصلا خاصا عنونه بـ“هيغل ومشكلة الميتافيزيقا” والذي يبرز فيه تفسير هيغل لمشكلة الميتافيزيقا، ويبدأ هذا المبحث بعبارة مشهورة لهيغل ذكرها في مقدمة مؤلفه (فلسفة الحق) وتتمثل في قوله :«كل ماهو عقلاني هو واقعي، وكل ما هو واقعي عقلاني»([53] ) والغرض من الوقوف على هذه الإحالة لمؤلَف هوركهايمر السابق ذكره ليس تحليل ما ورد فيه من مضامين وإنما إبراز حضور فلسفة هيغل في هذا المنتوج الفكري لهوركهايمر.
ويبرز دور الفلسفة الهيغيلية في مدرسة فرانكفورت، من خلال الحضور القوي لها في مؤلفات روادها، ففي كتاب “جدل التنوير” يذهب أدورنو إلى أن هيغل قد استبق واقعه بمائة سنة ([54]) ويذهب هوركهايمر كذلك إلى التأكيد على أهمية هيغل مؤيدا لأدورنو، فيقول:«إن هذا التجريبي الكبير، الذي استبق فهمه للوقائع التاريخية والسوسيولوجية والنفسية نتائج هامة تم التوصل إليها بفضل العمل المنهجي وطيلة قرن بأكمله، ولا يزال بإمكانه اليوم أيضا أن يوجه البحوث» ([55]).
إلا أن هذه الإشادة بقيمة هيغل وفلسفته لم تمنعهم من نقده في كثير من المسائل الرئيسية تتعلق بنزعته التوفيقية بين العقل والواقع وبين الذات والموضوع وبين التاريخ والمطلق وبين المفهوم والاعتقاد.
إنّ الأثر الهيغلي على الجيل الأول يتمثل بشكل أساسي في عظمة المنهج الجدلي، الذي جعلته مدرسة فرانكفورت أكثر ديناميكية من خلال رؤيتها النقدية التي ربطت بواسطتها الجدل بالواقع الاجتماعي، وهو ما مكن فلاسفتها من اكتشاف جملة التناقضات الكامنة في الظواهر المدروسة، فتمكنوا من رفض النزعة الوضعية التي تشيؤ عالم الإنسان وبالتالي تجعله يشعر بالاغتراب.
ثالثا: الأثر الماركسي في مدرسة فرانكفورت
إنّ القارئ المحلل للإنتاج الفكري لرواد مدرسة فرانكفورت بمختلف أجيالها وخاصة الجيل الأول منها، سرعان ما يكتشف حضورا للفلسفة الماركسية بمفاهيمها المختلفة وبروحها النقدية، الأمر الذي يجعله يتأكد من وجود تقاطعات كثيرة بين هذه الفلسفة الماركسية وفلسفة مدرسة فرانكفورت، تبرز أول محطات هذا التقاطع في اجتماع عقد صيف 1922، تحت عنوان «أول أسبوع عمل ماركسي» والذي تم خلاله الاتفاق على ضرورة تأسيس معهد للأبحاث الاجتماعية.([56]) وكان من أبرز الشخصيات المشاركة في هذا الاجتماع«جورج لوكاش» و«كارل كورش» واللذين تتجلى ماركسيتهما من خلال كتابيهما: التاريخ والوعي الطبقي(1923)، وكتاب الماركسية والفلسفة(1923)، وهما يعبران عن محاولة لتجديد الماركسية.
لقد شكلت الماركسية إذن وجهة للنقد الفرانكفورتي لِمَا كانت تحمله من رغبة في تحرير المستضعفين ومناهضة أشكال الهيمنة والإقصاء واستلاب لجهد العمال التي ترتبت عن الهيمنة الرأسمالية، وهو ما «جعل فلاسفة وعلماء اجتماع هذه المدرسة ينخرطون في جهد نقدي يرمي إلى رصد مختلف الأعراض المرضية التي أصابت عصرنا كالتشيؤ والاغتراب والصنمية، مما حدا بهم إلى أن يقيموا نقدا حادا ليتوبيا التقدم التقني والنظريات التبشيرية بعالم الأحلام الموعود، كما انتقدوا في حينه النزعة العلموية التي تتصور المعرفة كطبيعة موضوعية مجردة عن المصلحة»([57]).
إلا أن هذا الانتماء الى الماركسية لا يعني إلغاء حق الاختلاف معها، فكانت علاقتها تتضمن الانتماء والاختلاف، فيمكن الحكم على فترة رئاسة «كارل جرونبرغ» للمعهد بمرحلة الانتماء، أما فترة رئاسة«ماكس هوركهايمر» فيمكن تسميتها بمرحلة الاختلاف، ففي الوقت الذي كان فيه أصحاب النظرية الماركسية الأوائل يراهنون على إعادة بناء المجتمع على أسس ماركسية كحل لطغيان العقل الذي نجم عنه انهيار المعرفة وأزمة في العقل التاريخي، فإنّ “هوركهايمر” يرى أنّ المراهنة على البروليتاريا كقوة دافعة ليس كافيا لعملية التحرر، فالنظرية النقدية أخذت بعض مقوماتها، لاسيما في البداية، من الماركسية لكنها قطعت مع تعاليمها في الوقت الذي تبيَّن لروادها أنّ للماركسية نظاما توتاليتاريا يمكنه تسييج الحرية وخنق البعد النقدي للتفكير([58]).
وعلى هذا، فإن النظرية النقدية أصبحت الآلية الوحيدة تقريباً التي يمكن أن تكشف إمكانية الحرية والعقل في المجتمع الإنساني والتي يمكن عن طريقها الكشف عن أشكال الوعي الزائف.
إنّ منظري مدرسة فرانكفورت قد تأثروا بالماركسية حتى اعتبر البعض أن هذه المدرسة ليست إلا فرعا من فروع الماركسية، لكن أصحاب النظرية النقدية وإن تبنوا الماركسية كمبدأ أو كمنهج، كما عبر هوركهايمر عن ذلك، عندما قال: «عندما استولى هتلر على السلطة كان كثيرون يأملون في إمكان الثورة ويحتمل أن هذا الأمل كان مجرد حلم أو وهم، ولكن الذي لا شك فيه أن هذا الحلم أو الوهم قد سيطر على أعمالي منذ عام 1933. وقد قبلت المنهج الماركسي من حيث إنه يجزم بأن المجتمع الأفضل لن يتحقق إلا بالثورة »([59]) .
يتضح كذلك تأثر رواد المدرسة من الجيل الأول بالنزعة النقدية عند المفكر الماركسي “جورج لوكاش” أما من ناحية المنهج الذي اتبعوه في النظر والتطبيق فقد استندوا إلى روح الفلسفة الماركسية مع الابتعاد عن معظم مقولاتها الأساسية ([60]).
ففي المرحلة الأولى من تأسيس النظرية النقدية توجه رواد مدرسة فرانكفورت إلى نقد المجتمع الصناعي الكبير ونظامه التكنوقراطي. وكان هذا النقد جزءا من النضال ضد الرأسمالية كما بيّنا سابقا، حيث توجهوا إلى نقد الاقتصاد السياسي وتحليل التناقضات في المجتمع الرأسمالي، واعتقدوا بأن تفجير هذه التناقضات سوف يقود إلى بناء الاشتراكية.
أما في المرحلة الثانية (بعد صعود النازية) وهي مرحلة المنفى وما بعدها، فقد وجهوا اهتماماتهم إلى نقد النظم السياسية والثقافية وتحولوا عن فكرة الصراع الطبقي، التي فقدت معناها كأداة تحليلية، وذلك بسبب تزييف وعي الطبقة العاملة وتطورها إلى أداة بيروقراطية. كما توصلوا إلى شبه إجماع في الرأي، وهو أن الصراع الطبقي والتناقض الاجتماعي يجب أن يُحل أولا على المستوى الفكري من خلال النقد والنقد الذاتي المستمر، وليس من خلال النضال بالوسائل الكلاسيكية التي تبنتها الماركسية التقليدية، لأن نقد الوسائل الكلاسيكية للماركسية لا يعد رفضا للماركسية، وإنما هو فهم جديد لها في ضوء ظروف المجتمع الصناعي الجديد التي أدت إلى اغتراب المجتمع.
رابعا: الأثر الفرو يدي في مدرسة فرانكفورت
اتسعت المنابع الفلسفية لمدرسة فرانكفورت لترتبط من الناحية السيكولوجية بمدرسة التحليل النفسي من خلال التأثر بأفكار رائدها « سيجموند فرويد » والاستفادة من التحليل النفسي كمنهج لتفسير كثير من المسائل التي اهتمت المدرسة بمعالجتها إلى درجة أن البعض من المفكرين اعتقد بأنه لا يمكن التفكير في أي حركة فلسفية، أو تيار فكري في القرن العشرين خارج الأثر الثلاثي لماركس، نيتشه، وفرويد.
ففلاسفة النظرية النقدية بعد معاينتهم لانحطاط القيم الفردية داخل المجتمع الصناعي المتقدم، ومن انسحاب لحق الفرد في الاختلاف داخل النظام الفاشستي أولا، وفي تراتبيات النظام السياسي «المغلق» للمجتمع الصناعي ثانيا، حاولوا إعمال العقل لإعادة الاعتبار للفرد ولتنشيط الفكر النقدي. وانطلاقا من هذا الاهتمام عملوا على إعادة قراءة النص الفرويدي على ضوء تحولات المجتمع الصناعي متسائلين عن دلالات الرغبة والتصعيد اللاشعوري وموقع الجنس في آليات الإغراء الحديثة وعلاقتها بالعملية الإنتاجية وعن المعاني الجديدة التي يتخذها الحب([61]).
من هذا يتضح أن رواد مدرسة فرانكفورت النقدية جعلوا من التحليل النفسي منهجا ضروريا لتحليل المشكلات الفردية التي برزت في المجتمعات الرأسمالية، قصد تشخيصها ومن ثم إيجاد الحلول المناسبة لها، ويعود اهتمام مدرسة فرانكفورت بالتحليل النفسي، إلى مقالة مبكرة لـــ “فلهلم رايخ” بعنوان “المادية الجدلية والتحليل النفسي” سنة 1927، حيث أنه نبه إلى أن التحليل النفسي يختلف جذريا عن علم الاجتماع أو علم النفس الاجتماعي، وأنه يحمل تصورا ماديا عن الإنسان بوصفه فردا، أي أنه كتلة غريزية من النزوات متحركة في جدل، تحولات وصيرورات لا متناهية للكينونة، لفردية الإنسان الذي يبدو أنه اشتق إنسانيته من نشأة الفردية، وانفصل عن الطبيعة بفعل فرديته، ومن هنا أصبح الاغتراب البعد الأساسي في الكائن الفرد ([62]) .
فمدرسة التحليل النفسي قد سلطت الضوء على الفردية الإنسانية التي تتأسس على الجانب اللاوعي (اللاشعوري) والذي يؤثر بكل مكوناته على الوعي الإنساني بكل تمظهراته. ونظرا لهذه الأهمية، فقد برهن هوركهايمر أيضا، في مقال له عن التاريخ وعلم النفس، على أن علم نفس الفرد يكتسب أهمية متعاظمة في فهم التاريخ ([63]).
خاتمة
لا شك أن المتتبع لمسار مدرسة فرانكفورت منذ اللحظة التأسيسية إلى مراحل تطورها المختلفة، لا يسعه إلا أن يعترف بجهدها الجبار في تأسيس مبدأ المساءلة النقدية لواقع المجتمعات الأوربية الغربية، فطرح الرواد الأوائل لمدرسة فرانكفورت تساؤلات عديدة تمحورت في جملتها حول هذا الوضع اللاإنساني الذي وصلت إليه الإنسانية ككل. وكان التساؤل المحوري: ما الذي حدث للمجتمع الإنساني حتى انحدر إلى هذه الوضعية؟ وما هي الأسباب الحقيقية التي كانت وراء هذه المأساة؟ وشرع فلاسفة فرانكفورت في عملية البحث للوصول إلى إجابة عن التساؤلات، معتمدين في ذلك على المنهج النقدي كآلية ضرورية للكشف عن مكامن الخلل في واقع المجتمعات الغربية.
لقد تبيّن لهم بأن الأزمة أزمة عقل، هذا العقل الذي يعود إليه الفضل في تحرير الإنسان من ربقة القيود التي هيمنت على عقله ومنعته من البحث الحر لتفرض عليه معالجة القضايا التي تحددها السلطة الدينية والسياسية خاصة في العصور الوسطى، وعملية تحرير الإنسان هذه، قد رفع لواءها مشروع التنوير، حيث تكفل فلاسفة الأنوار في تجسيد هذه المهمة. ولكن الذي حدث هو أن هذا العقل الذي تحرر بفعل التنوير صار عقلا مطلقا، اتجه للطبيعة لإخضاعها لسيطرته وتسخيرها لخدمته، وهو ما تحقق بالفعل كنتيجة حتمية للنهضة العلمية والتكنولوجية الكبيرة التي بلغتها البشرية في الوقت المعاصر. ولكنه لم يقف عند هذا الحد، بل أصبح هذا العقل أداة للسيطرة على الإنسان، على فكره، على رغباته، على عواطفه …الخ ففقد الفرد داخل المجتمع الغربي كرامته، حريته، بل إنسانيته ليتحول إلى مجرد شيء لا يختلف عن أشياء الطبيعة، فالعقل الأنواري أصبح عقلا أداتيا بامتياز.
نتيجة لهذا الانحراف في مسار العقل، والذي أدى إلى انحراف مشروع التنوير ككل عن الأهداف السامية التي وجد أصلا من أجلها، وجد فلاسفة فرانكفورت في جيلها الأول أنفسهم أمام ضرورة التدخل لإنقاذ الوضع الإنساني، وعلى هذا الأساس قام المشروع الفلسفي والاجتماعي لمدرسة فرانكفورت.
أهم النتائج التي يمكن استخلاصها من هذه الورقة:
إنّ مدرسة فرانكفورت النقدية، بمشروعها الفلسفي النقدي، تعتبر بحق من أبرز المدارس التي كرست جهود أعضائها من الفلاسفة وعلماء الاجتماع لنقد المجتمع قصد كشف تناقضاته، وجعل التغيير الاجتماعي هدفا لها، والنقد الجذري منهجا لها.
أبانت مدرسة فرانكفورت عن مظاهر الاستغلال والاغتراب والتشيؤ التي أفرزها مشروع التنوير نتيجة هيمنة العقلانية الأداتية.
أكدت مدرسة فرانكفورت أن مشروع التنوير قد عجز عن تحقيق الأهداف والمبادئ التي وجد من أجلها، ولم يعد متماهيا مع فكرة التقدم كما روج لها المدافعون عنها، خاصة من أنصار الوضعية، بل على العكس من ذلك خلق تعاسة الإنسان وتراجعه، كما خلق الكثير من الأساطير التي قام في الأصل لمحاربتها.
هاجمت مدرسة فرانكفورت الفلسفات التي قامت على التنظير العقلي دون اكتراث بواقع الإنسان الاجتماعي، وبذلك تكون الفلسفة قد أُفرغت من محتواها الحقيقي المتمثل في وظيفتها الاجتماعية ووظيفتها النقدية، وانطلاقا من ابتعاد الفلسفة عن وظيفتها، دافع رواد مدرسة فرانكفورت على ضرورة إعادة الاعتبار لهذا الدور من خلال المطالبة بضرورة ربط الفلسفة بالحياة الاجتماعية، لتصبح فلسفة اجتماعية تُعنى بالحياة الاجتماعية للأفراد، أي ربط النظرية بالممارسة.
أكدت مدرسة فرانكفورت على تهافت النزعة الوضعية التي تجعل من العلوم الطبيعية نموذجا للعلمية، وتجعل من العلم والتقنية الأداتين الكفيلتين بمفردهما على إحداث التغيير الاجتماعي، وخلق سعادة الإنسان، متجاهلين دور الفلسفة والعلوم الاجتماعية في تحقيق هذه المهمة، خاصة إذا تم الارتباط بينهما.
كما بيّنت مدرسة فرانكفورت في حديثها عن صناعة الثقافة في المؤلف المشترك «جدلية التنوير» أن الثقافة بمختلف مظاهرها خاصة ما تعلق منها بالفنون المختلفة والجوانب الإعلامية والاتصالية، ووسائل الإعلام المختلفة كالسينما والتليفزيون والإذاعة تحولت في المجتمعات الغربية المعاصرة إلى أدوات للسيطرة تُمارس بواسطتها الأنظمة السياسية في المجتمعات الرأسمالية ضغطا لانتهاك حرية الأفراد بجميع صورها خاصة منها حرية التعبير، بل صارت هذه الوسائل تعمل على المحافظة على صيرورة هذا النظام الرأسمالي. وبهذا الشكل تكون الثقافة بكل مظاهرها قد أبعدت عن دورها الأساسي في نشر الوعي السياسي والاجتماعي للأفراد، والكشف عن زيف الأنظمة السياسية والاقتصادية بفقدانها للقدرة النقدية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باحث ماجستير بقسم العلوم السياسية كلية الاقتصاد والعلوم السياسية. جامعة القاهرة.
[1] ــ بوتومور توم، مدرسة فرانكفورت، مرجع سابق، ص: 19
[2] ــ المرجع نفسه، ص 19.
[3] – الجابري علي حسين، محنة الإنسان بين العلم والفلسفة والدين «دراسة لعلاقة العلوم المعاصرة بالمعرفة القلبية»، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع دمشق (سوريا)، (د.ط)، 2009، ص: 13
[4] – بوتومور توم، مدرسة فرانكفورت، مرجع سابق، ص: 20
2 ــ أدورنو تيودور فون، محاضرات في علم الاجتماع، تر: جورج كتورة، مركز الإنماء القومي، بيروت (لبنان)، (د.ط) ص: 7
[6] ــ كمال بومنير، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت من ماكس هوركهايمر إلى أكسل هونيث، مرجع سابق، ص: 9
[7] ـ آسون بول لوران، مدرسة فرانكفورت، ترجمة: سعاد حرب، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت(لبنان)، ط 1، 1999، ص:7
[8] ـ حماد حسن، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت «ماركيوز نموذجا» دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية(مصر)، ط 1، 2003، ص: 100
[9] – حماد حسن، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت « ماركيوز نموذجا »،مرجع سابق، ص:101 .
[10] ـ حماد حسن، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت «ماركيوز نموذجا» مرجع سابق، ص: 104
[11] ـ بومنير كمال، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت من ماكس هوركهايمر إلى أكسل هونيث، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت(لبنان)، ط1، 2010، ص: 40
[12] ـ حماد حسن، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت «ماركيوز نموذجا»، مرجع سابق، ص:105
[13] ـ هاو آلن، النظرية النقدية ـ مدرسة فرانكفورت ـ ترجمة: ثائر ديب، دار العين للنشر، القاهرة (مصر)، ط 1، 2010، ص: 36
[14] ـ بوتومور توم، مدرسة فرانكفورت، ترجمة: سعد هجرس، دار أويا للطباعة والنشر والتوزيع، طرابلس (ليبيا)، ط1، 1998، ص، ص:18،17
[15] ـ حماد حسن، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت «ماركيوز نموذجا»، مرجع سابق، ص، ص: 105،106
[16] ـ حماد حسن، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت «ماركيوز نموذجا»، مرجع سابق، ص: 106
[17] ـ المرجع نفسه، ص: 18
[18] – بوتومور توم، مدرسة فرانكفورت، مرجع سابق، ص: 14
[19] – محسن الخوني، ” التنوير والنقد منزلة كانط في مدرسة فرانكفورت”، (دار الحوار للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 2009)، ص:31
[20] ـ بوتومور توم، مدرسة فرانكفورت، مرجع سابق، ص: 18
[21] ـ حماد حسن، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت «ماركيوز نموذجا»، مرجع سابق، ص: 107
[22] ـ علاء طاهر، “مدرسة فرانكفورت من هوركهايمر إلى هبرماز”، (مركز الإنماء القومي، لبنان، الطبعة الأولي)، ص: 62
[23]–علاء طاهر، مدرسة فرانكفورت من هوركهايمر إلى هبرماز، مرجع سابق، ص: 64
[24] ــ بومنير كمال وآخرون، ثيودور أدورنو من النقد إلى الإستيطيقا (مقاربات فلسفية)، دار الأمان- الرباط (المغرب)، ط1، 2011، ص: 12
[25] – ــ بوتومور توم، مدرسة فرانكفورت، مرجع سابق، ص: 153.
[26] ــ لوران آسون بول، مدرسة فرانكفورت، مرجع سابق، ص: 17
[27] ــ كمال بومنير وآخرون، ” ثيودور أدورنو من النقد إلى الاستطيقا (مقاربات فلسفية)”، (الدار العربية للعلوم ناشرون، 2017)، ص: 11
[28] – المحمداوي علي عبود، ومجموعة من الأكاديميين العرب، الفلسفة الغربية المعاصرة، صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج، ج 1، منشورات ضفاف، دار الأمان، الرباط (المغرب)، ط 1، 2013، ص: 531
[29] ــ Max Horkheimer. Theodor w.Adorno. La dialectique de la raison. Tra: Éliane kaufholz. Editions Gallimard. 1974, P. 14
[30] – ـ كمال بومنير، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، مرجع سابق، ص: 12.
[31] – كمال بومنير و جمال مفرج وآخرون، ثيودور أدورنو، من النقد إلى الإستيطيقا، مرجع سابق، ص : 11
[32] – عطيات أبو السعود ، الحصاد الفلسفي للقرن العشرين، مرجع سابق، ص : 93
[33] – توم بوتومور، مدرسة فرانكفورت، مرجع سابق، ص : 115
[34] – فيري جاك مارك، فلسفة التواصل، ترجة : عمر مهيبل، الدار العربية للعلوم-ناشرون- بيروت (لبنان) منشورات الاختلاف، الجزائر العاصمة (الجزائر)، ط1، 2006، ص، ص : 17،16
[35] – يورغين هابرماس، التقنية والعلم كأيديولوجيا، ترجمة: إلياس حاجوج، مطابع وزارة الثقافة، دمشق (سوريا)، (د.ط)، 1999ص، ص : 89،88
[36] – إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هبرماس، ترجمة: محمد حسين غلوم، سلسلة كتب ثقافية (عالم المعرفة)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،(الكويت)، (د.ط)، 1978، ص : 311
[37] – علي عبود المحمداوي وإسماعيل مهنانة، مدرسة فرانكفورت النقدية، مرجع سابق، ص : 300
[38] -إبراهيم أحمد، انطولوجيا اللغة عند مارتن هيدجر، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت (لبنان)، ط 1،2008.، ص، ص: 167،168
[39] – فينليسون جيمس جوردن، يرجن هابرماس (مقدمة قصيرة جدا)، مرجع سابق، ص: 97
[40] – محسن الخوني، التنوير والنقد، مرجع سابق، ص: 320
[41] – جيمس جوردن فينليسون ، يورجن هابرماس، مقدمة صغير جدا، مرجع سابق، ص :25
[42] – المرجع نفسه، ص: 26
[43] – يورغن هابرماس ، القول الفلسفي للحداثة، مرجع سابق، ص: 171
[44] – آلان توران ، نقد الحداثة، مرجع سابق، ص :162
[45] – جيمس جوردن فينليسون ، يورجن هابرماس، مقدمة صغير جدا، مرجع سابق، ص، ص : 30-31.
3- علي عبود المحمداوي، الفلسفة الغربية المعاصرة،مرجع سابق، ص :149
[47] – علي عبود المحمداوي ،ومجموعة من الأكاديميين العرب، الفلسفة الغربية المعاصرة،مرجع سابق، ص :1498
[48] ــ المرجع نفسه، ص 9
[49] – الخوني محسن، التنوير والنقد، مرجع سابق، ص:339
[50] – المحمداوي علي عبود، وإسماعيل مهنانة، مدرسة فرانكفورت النقدية، مرجع سابق، ص، ص: 437، 438
[51] ـ الخوني محسن، التنوير والنقد، مرجع سابق، ص: 14
[52] -الخوني محسن، هيغل في مدرسة فرانكفورت، «Civic egypt.org» تاريخ الزيارة 16/07/2013
[53] ــ المصدر نفسه، ص: 95
[54] – Theodor, Adorno, Dialectique négative, traduit par : Gérard Coffin et autres, Éd. Payot, Paris. 1992, p. 254
[55] ــ هوركهايمر ماكس، بدايات فلسفة التاريخ البورجوازية، مصدر سابق، ص: 96
[56] – Assoun Paul-Laurent, L’école de Francfort– Que Sais-je ? Ed. Delta, Paris, 1996,P 65.
[57] ــ حسن مصدق، يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت، النظرية النقدية التواصلية، ص: 11
[58] ــ أفاية محمد نورالدين، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة نموذج هبرماس، مرجع سابق، ص، ص: 21، 22
[59] ــ حسن محمد حسن، النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت(لبنان)، ط1، 1993، ص: 109
[60] ــ حنفي حسن وآخرون، فلسفة النقد ونقد الفلسفة في الفكر العربي والغربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت (لبنان)، ط 1، 2005، ص: 49
[61] ــ أ محمد نور الدين افايه،” الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة”، (افريقيا الشرق, 1991)، ص: 38
[62] ــ علي عبود المحمداوي ، وإسماعيل مهنانة، مدرسة فرانكفورت النقدية، مرجع سابق، ص: 492
[63] ــ بوتومور توم، مدرسة فرانكفورت، مرجع سابق، ص: 52
فاندلاع الحرب العالمية الأولى وما تركته من أزمات اجتماعية واقتصادية ونفسية، وما سببته من موت وخراب ودمار، وما تبعها من تحولات سياسية كبرى، وقيام الثورة البلشفية عام 1917 وتأسيس أول دولة اشتراكية في أوروبا، وكذلك قيام جمهورية فايمارعام 1919 في ألمانيا وما تبعها من صراعات وانقسامات سياسية في صفوف اليسار الأوروبي، كان له كبير الأثر في ظهور المدرسة.
كذلك فإن هيمنة الفكر الرأسمالي الليبرالي على الفلسفة الغربية فترة طويلة استطاع أن يحول الإنسان بفعل الإيديولوجية التي تتحكم به إلى بضاعة أو سلعة أو شيء تُمرِر عليه غاياتها، فرفعت الفرد فوق المجتمع والدولة، وكرد فعل على استغلال البورجوازي المسيطر على رؤوس الأموال ظهرت الحركة الشيوعية والاتجاه الاشتراكي الذي جعل الدولة هي المتحكم بالاقتصاد والملكية الشخصية، فغاب الفرد وقمعت حريته وسلبت ملكيته حتى عانى من اغتراب أخر وهو يعيش في دولة يقودها العمال. وكان نتيجة ذلك أن ظهرت حركة أو مدرسة جديدة على صعيد الفكر في أوروبا حاولت مجابهة وتحدي الفوضوية التي جاء بها الفكر الليبرالي والاتجاه الرأسمالي، والجمود الذي جاء به الاتجاه الشيوعي ([3]) .
كانت هذه المدرسة هي مدرسة فرانكفورت التي أكدت في وقت مبكر، أن الوعد العظيم بالتقدم غير المحدود، وعد السيطرة على الطبيعة، والوفرة المادية، والسعادة القصوى للأغلبية العظمى، والحرية الشخصية غير المحدودة، هذا الحلم الذي كان محط الآمال ومنبع الإيمان للأجيال منذ بداية العصر الصناعي وعصر التنوير قد أخفق، ذلك في اللحظة التي بدأ الإنسان ينتبه فيها إلى أنه تحول إلى مجرد ترس في يد الآلة البيروقراطية، وأن النظام الاقتصادي والحكومات وأجهزتها الإعلامية هي التي تشكل مشاعره وأفكاره وأذواقه وتوجهه الوجهة التي تريد، فالمجتمع الرأسمالي الصناعي كشف يوما بعد يوم عن اغتراب الإنسان وتشيئه .
من هنا وجدت هذه المدرسة نفسها تضطلع بمهمة رئيسية، هي الرغبة في صوغ أساس لنظرية أكثر قدرة وفاعلية على تفسير الظروف التاريخية المستجدة والتعامل معها، بواسطة ممارسة نمط من النقد السلبي، يتجاوز أفكار كانط التي ساهمت في تأسيس العقلانية الحديثة، وأفكار الماركسية الأرثوذكسية التي استبعدت الذات الإنسانية من حسابها([4]). ولم تنحاز مدرسة فرانكفورت الى علم بعينه بقدر ما قامت بتسخير العلوم في إطار التوجه المقصود، سواء كان ذلك فلسفيا صرفا، أو اجتماعيا صرفا. من هذا المجال النقدي المتعدد الاتجاهات والتيارات ظهرت معظم آثار مدرسة فرانكفورت لتشهد على قدرة مؤلفيها على استيعاب فكر العصر ومشاكله ([5]).
ولعل أهم ما يميز هذه المدرسة الفلسفية يتحدد في كونها اتخذت النقد منهجا لها، وحاولت القيام بممارسة نقدية جذرية للحضارة الغربية قصد إعادة النظر في أسسها ونتائجها في ضوء التحولات الأساسية الكبرى التي أفرزتها الحداثة الغربية، كما أنها لعبت دورا هاما في رصد مختلف الأعراض المرضية التي عرفتها المجتمعات الغربية المعاصرة كالتشيؤ والاغتراب وضياع مكان الفرد وأزمة المعنى وغيرها ([6]).
يتضح إذن مما سبق أن ظهور مدرسة فرانكفورت لم يكن من باب الصدفة أو من فراغ، وإنما كان هذا الظهور بمثابة الولادة الحتمية، التي أفرزتها ظروف وعوامل متعددة ومتباينة في آن واحد، تداخلت وتضافرت فيما بينها، فترتب عن ذلك بروز هذه المدرسة التي أصبحت إحدى أبرز المدارس الفلسفية والاجتماعية الغربية المعاصرة.
نشأة مدرسة فرانكفورت
لقد شكل معهد البحث الاجتماعي الذي تأسس بجامعة فرانكفورت، في نوفمبر 1923 وافتتح رسميا في يونيو 1924 النواة التنظيمية الأولى لمدرسة فرانكفورت([7]).
ويرجع الفضل في تأسيس هذا المعهد إلى “فليكس ج. فايل -Félix j. Weil ” و”فريدريك بولوك” F.pollok ، و”ماكس هوركايمرMax Horkheimer ، ولقد قام ” فليكس فايل ” بتمويل المعهد ماليا من حيث إعداد المبنى اللائق، والالتزام بمرتبات العاملين فيه. وفي سبتمبر 1924 أصدر “فليكس فايل”، بيانا بشأن ميلاد المعهد الجديد.([8]) وقد ترأس كارل جرونبرغ Karl Grunberg أستاذ القانون والعلوم السياسية في جامعة فينا رئاسة المعهد كأول مدير له.
إن تولي الإشراف على المعهد من طرف جرونبرغ ، جعل بعض الباحثين يعتبرون فترة رئاسته للمعهد مرحلة أولى من مراحل المدرسة، وقد تميزت تلك المرحلة بسمة ماركسية واضحة، وقد ظهر هذا بداية من المحاضرة التي ألقاها “جرونبرج” في افتتاحه للمعهد، حيث أظهر نوعا من التعاطف مع المنظور الماركسي، وصرح بمعارضته للنظام الاجتماعي الاقتصادي القائم وبانتمائه الفكري للماركسية، إلا أنه لم ينس أن يؤكد على أن التوجه الماركسي لا يجب أن يفهم بأي معنى سياسي حزبي، ولكن فقط بالمعنى العلمي الأكاديمي([9]).
وقد انتهت المرحلة الأولى من تاريخ هذه المدرسة عام 1929 بتولي “ماكس هوركهايمر” رئاسة المعهد ، وبدأت المرحلة الثانية من مراحل مدرسة فرانكفورت، والتي يطلق عليها مرحلة النضج، فقد أصبح لمعهد فرانكفورت طابع جديد ومحدد يختلف عن مرحلة “جرونبرج” التي اتسمت -كما أشرنا- بنوع من الالتزام بالماركسية الأرثوذوكسية، أما “هوركهايمر” فعلى الرغم من إقراره النظري بأن مشروع معهده هو المادية التاريخية، إلا أنه في واقع الأمر قد جعل من الفلسفة الموضوع الرئيسي للنظرية الاجتماعية النقدية([10]) والتي اهتمت في البداية بتحليل البنايات الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع القائم، ويظهر هذا الاهتمام بالجانب الفلسفي النقدي عند “هوركهايمر” في مقاله الافتتاحي للمعهد الذي كان عنوانه “الحالة الراهنة للفلسفة الاجتماعية وواجبات معهد الأبحاث الاجتماعية.”([11])
وإلى جانب اهتمام مرحلة “هوركهايمر” بالجانب الفلسفي فقد تميزت بالاهتمام المتزايد بالأبحاث السيكولوجية وخاصة التحليل النفسي الفرويدي الذي جرى مزجه بالفكر الماركسي، ففي عام 1932 قام “هوركهايمر” بكتابة مقال عن “التاريخ وعلم النفس” وفي هذا المقال يؤكد “هوركهايمر” على أن علم النفس الفردي ذو أهمية كبيرة في فهم التاريخ([12]).
إن الطابع الجديد الذي اتسمت به مدرسة فرانكفورت مع إدارة “هوركهايمر”، لا يعني أنّ تَغيُر النظرة تم دفعة واحدة، بل كان ضربا من التطور التدريجي، فلقد حافظ “هوركهايمر” على كثير من افتراضات سلفه الماركسية ولكن مع إدخال تغييرات دقيقة عليها. فقد أعلن أنه من الخطأ أن نعتقد أن الاقتصاد هو “الواقع الحقيقي الوحيد”([13])
وبهذا الشكل أراد “هوركهايمر” أن ينفتح المعهد في عصره على آفاق معرفية أخرى كالفرويدية والظاهراتية (Phenomenology)، وعلى مزيد من الاهتمام بالجوانب الثقافية والأيديولوجية، اتساقا مع التغيرات الاجتماعية التي انتابت ألمانيا وأوروبا والغرب خلال تلك الفترة، وهو ما يشير إليه “مارتن جاي” بقوله، أنه: “إذا كان من الممكن الحديث بأن المعهد قد اهتم أساسا خلال سنوات تكوينه الأولى بتحليل البنى الاجتماعية الاقتصادية للمجتمع البورجوازي، فقد وجه اهتمامه بعد عام 1930 إلى بناه الفوقية الثقافية”([14])
وكما شهدت المرحلة السابقة بعض الإسهامات العلمية، كذلك شهدت المرحلة التي تولى فيها “هوركهايمر” رئاسة المعهد بروز عدد من الإسهامات، وكان من أول هذه الإسهامات، تلك الدراسة التي قام بها “فرانز بوركينا” حول ” التحول من النظرة الإقطاعية للعالم إلى النظرة البورجوازية “. أما العمل الثاني المتميز في تلك الفترة فكان “دراسات في السلطة والأسرة” والكتاب عبارة عن دراسة جماعية اشترك فيها “هوركهايمر” و” فروم ” (Erich Fromm) و”ماركيوز”(Herbert Marcuse)، وكان الكتاب عبارة عن دراسة تحضيرية لدراسة أخرى ظهرت عام 1950 تحت عنوان “الشخصية المتسلطة”، ولقد اهتمت الدراسة الأولى بتحليل الأسس السيكولوجية للسلطة، واستهدفت تقديم تفسير ملائم لصعود التيار الفاشي وازدهاره في دول أوروبا ([15]).
ومع وصول هتلر إلى الحكم في 1933 أُغلِقَ المعهد، إذ كان من المتعذر استمرار نشاطه في ظل الحكم النازي لسببين:
الأول يتعلق بالطبيعة الماركسية لنشاطه الفكري.
الثاني أن أغلبية أعضاء المعهد الرئيسيين كانوا من اليهود.
وغادر أعضاؤه إلى بعض العواصم الأوروبية، ومن بينهم هوركهايمر الذي أدرك خطورة الموقف الذي سيواجه المعهد في حالة استمراره، فسافر إلى جنيف واستقر في فرع المعهد الذي كان قد فتحه هناك. ثم هيأ الظروف اللازمة لسفر بقية أعضاء المعهد.
ولم تدم فترة بقاء المعهد في سويسرا طويلا، فقد كان وجوده في جنيف حالة مؤقتة خاصة وأن التيار النازي قد امتد إلى سويسرا أيضا، وأصبح المعهد مهددا مرة أخرى، ولم يعد هناك إلا حل واحد هو نقل المعهد إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وبالفعل تم ذلك عام 1934، وبدأ الأعضاء يلتحقون بالمعهد تباعا، فوصل ماركيوز، ولوينثال وبولوك، وكذلك التحق باقي الأعضاء بصورة متتابعة قادمين من جنيف أو باريس أو لندن ([16]).
لم يحافظ المعهد على تسميته الحقيقية عندما انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية وإنما نقل إلى نيويورك باسم (المدرسة الجديدة للبحث الاجتماعي)، ليستقر بعد ذلك في الحرم الجامعي لجامعة كولومبيا. ثم ما لبثوا أن انتقلوا عام 1941 إلى لوس أنجلوس ([17]).
إن الدارس لمدرسة فرانكفورت يكتشف أن لها مسميات متعددة، الأمر الذي أدى إلى بروز لبس في معرفة أي تسمية يمكن أن تعبر حقيقة عن المدرسة، ولقد أشار الباحث “توم بوتمور” إلى هذه المشكلة قائلا: “ويزيد من صعوبة هذه المهمة تلك التسميات العديدة التي أطلقت على هذه المدرسة، من مثل: النظرية النقديةCritical theory إشارة إلى مجموعة أعضائها من المثقفين الألمان الذين اتخذوا من الفلسفة النقدية رؤية لهم، والماركسية الأوروبية Euro marxism تمييزا لفكرها عن التفسيرات التي قدمها منظرو الأممية الثانية والثالثة للماركسية، وفكر الهجرة Migration thought، ومدرسة فرانكفورت Frankfurt school وهو الاسم الذي خلعوه عليها بعد عودتها من المهجر”([18]). كما يشير الباحث “محسن الخوني” إلى مشكلة تعدد التسميات لمدرسة فرانكفورت، واضعا هذا الأمر تحت اسم لبس التسمية،حيث يرى أن مدرسة فرانكفورت هي اليوم التسمية الأكثر شيوعا والأغلب على الاستعمال للدلالة على تلك المجموعة من المفكرين، أمثال هوركهايمر وأدورنو وماركيوزو هابرماس، الذين قدموا أعمالا نظرية مشتركة وكانوا (عدا هابرماس) ينتمون في الأصل، إلى ما يسمى بمركز البحوث الاجتماعية ([19]).
فإذا كانت التسمية تأثرت بهذا الانتقال من ألمانيا إلى المنفى، فهل تأثر رواد تلك المدرسة بانتقالهم إلى المنفى؟ وهل أثرت حالة المنفى والابتعاد عن الوطن الأم في إسهاماتهم الفكرية؟
لا شك أن هجرة أعضاء المعهد إلى الولايات المتحدة الأمريكية قد أثرت بشكل أو آخر في أعمالهم. لذلك فإنهم مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وغروب النظم الفاشية والنازية بدأوا تحليلا جذريا للمجتمع الرأسمالي، الذي رأوا نمط صعوده الجديد في الولايات المتحدة، خاصة مع تنامي (المعجزة الاقتصادية) التي كونت رأسمالية قوية، حالت دون فعالية الطبقة العاملة في تحقيق أهدافها، وهذا ما يفسر توجه بحوث المعهد هناك إلى قضايا عديدة في هذا المجتمع، كقضية السيطرة الشاملة، والقضاء على قيمة الفردية، والقهر التقني، وصناعة الثقافة ([20]).
إنّ أعوام المنفى إذن لم تقلل من شأن أو فعالية النشاط الفكري لأعضاء المعهد، بل أنّ فترة الثلاثينات والأربعينات والخمسينات قد شهدت عدة دراسات هامة شكّلت في مجموعها ما نسميه اليوم “بالنظرية النقدية”. ومن أبرز هذه الدراسات، الدراسة التي نشرها هوركهايمر عام 1937 بعنوان “النظرية التقليدية والنظرية النقدية” وفي العام نفسه نشر ماركيوز دراسة تحت عنوان “الفلسفة والدراسة النقدية “. وفي عام 1941 نشر ماركيوز باللغة الإنجليزية أهم كتبه “العقل والثورة”، وفي العام نفسه نشر هوركهايمر كتابه “خسوف العقل”. وفي عام 1942 ظهر كتاب فروم “الخوف من الحرية ” وفي عام 1944 أصدر هوركهايمر بالاشتراك مع أدورنو كتابا هاما هو” ديالكتيك التنوير” ([21]) وكتاب “أيروس والحضارة” لماركيوز سنة 1955، وكتابه الآخر” الماركسية السوفيتية ” سنة 1958.
ويمكننا القول أن هذه المؤلفات قد مثلت توسعا وتطورا في موضوعات النقد، واستطاعت أن تبلور بصورة فعلية نظرية نقدية متكاملة الملامح.
رواد مدرسة فرانكفورت [هوركهايمر ــ أدورنو- هربرت ماركيوز]
علي الرغم من العدد الكبير للمفكرين المنتسبين إلى معهد الأبحاث الاجتماعية أو مدرسة فرانكفورت، والذين قاموا بتأسيس تيارات واتجاهات فلسفية هامة – كل حسب طبيعة الموضوعات التي تخصص في بحثها – إلا أن النظرية النقدية التحليلية والاتجاه الفكري المميز لهذه المدرسة قد تشكل بفضل ثلاثة مفكرين أساسيين فيها، كانت فلسفاتهم المحور الرئيسي الذي قامت عليه الأصالة الفكرية لمدرسة فرانكفورت وتكاملت عبرهم نظريتها النقدية، وهم : ماكس هوركهايمر، تيودور أدورنو، هربرت ماركيوز ([22]) والذين يشكلون الجيل الأول للمدرسة، بإجماع الباحثين في مدرسة فرانكفورت وفكرها الفلسفي والاجتماعي وروادها في جميع مراحلها وأجيالها.
ماكس هوركهايمر Max horkheimer
ولد ماكس هوركهايمر في 1895 بمدينة شتوتغارت (Stuttgart)، وهو سليل عائلة يهودية ثرية، التحق بجامعة فرانكفورت ليدرس تحت إشراف ” هانز كورنيلوس” (Hans Cornelius) وهو فيلسوف ألماني من أتباع الكانطية الجديدة، ولقد كان لهذا الفيلسوف تأثيرا كبيرا على هوركهايمر.
ولقد قرأ هوركهايمر لكثير من الفلاسفة، نجد من بينهم الفيلسوف شوبنهاور ((Schopenhauer، وكذلك تولستوي (Tolstoï)، وماركس (Marx) وإنجلز (Engels). في 1922 ناقش أطروحته للدكتوراه وكان عنوانها “نقد الحكم عند كانط: التوسط بين الفلسفة العملية والفلسفة النظرية”.
وفي سنة 1930 عُيِّن أستاذا للفلسفة الاجتماعية بجامعة فرانكفورت، وفي نفس السنة أصبح مديرا للمعهد خلفا لجرونبرغ، وفي 1932 أسس مجلة معهد الأبحاث الاجتماعية.
وشغل هوركهايمر للسنوات 1951- 1953 منصب رئيس لجامعة فرانكفورت، واستمر في الوقت نفسه في التعليم الجامعي حتى تقاعد في منتصف الستينات في 1958، ومن ثم زار أمريكا مرتين: الأولى عام 1954 والثانية عام 1959، وذلك ليحاضر في شيكاغو، وظل رمزا ثقافيا متميزا حتى وفاته في نورمبرغ بتاريخ 7 يوليو 1973.
وهنا نتوقف عند إسهاماته الفكرية في حقل الفلسفة والعلوم الاجتماعية، والتي تبرز من خلال مؤلفاته وكتبه المختلفة:
1-كتاب النظرية التقليدية والنظرية النقدية Traditional and Critical Theory
صدر سنة 1937. ويمكن القول أن أعمال منظري مدرسة فرانكفورت لا يمكن فهمها دون الوقوف على أهداف النظرية النقدية التي لخصها هوركهايمر في هذا الكتاب، وجاء تحديده للنظرية النقدية بقوله: إنها الوعي الذاتي، والنقد الاجتماعي الساعي الى التغيير والتحرر من خلال التنوير، وهذه النظرية غير مرتبطة بعقيدة أو قائمة على أية افتراضات عقيدية.
وقد حاول هوركهايمر من خلال هذا العمل أن يُنشط النقد الثقافي الاجتماعي الجذري، وناقش مسألة التسلط العسكري، والمشكلة الاقتصادية التي تشل الحياة الاجتماعية، والأزمة البيئية. وفي هذا الكتاب نقد هوركهايمر النظرية التقليدية في التفكير وحدد خطوطا لاتجاهات جديدة تتوخى النقد التحليلي للواقع ولحركية المجتمع والسياسة ([23]).
2-كتاب خسوف العقل Eclipse of Reason
صدر سنة 1947. يسعى المؤلف في هذا الكتاب الى القيام بنقد ذاتي للعقل، يدافع فيه عن الفردية في مواجهة العقلية الجمعية الكلية الجمعية السائدة، ورأى هوركهايمر في كسوف العقل أساس الشر في العالم المعاصر.
وقد ميز هوركهايمر بين ثلاثة أنواع من العقل: العقل الموضوعي، العقل الذاتي، العقل الأداتي. والعقل الذي يطمح اليه هوركهايمر هو عقل موضوعي غير حيادي مضاد للعقل الأداتي، ويسعى هذا العقل الموضوعي الى تحقيق السعادة والعدالة والحرية.
تيودور أدورنو Theodor Adorno
ولد تيودور أدورنو في مدينة فرانكفورت في عام 1903 من أب ألماني وأم إيطالية، وهو سليل عائلة يهودية تحولت إلى البروتستانتية، اهتم بالفلسفة وقضى عدة سنوات في دراسة فلسفة كانط.([24]) وكذلك علم الاجتماع وعلم النفس بجامعة فرانكفورت، وفي عام 1931 أصبح عضوا في هيئة تدريس جامعة فرانكفورت([25]).
ولم يصبح في الواقع عضوا رسميا في معهد البحث الاجتماعي إلا في عام 1938. وبعد نفيه إلى الولايات المتحدة استعاد أدورنو تعاونه الوثيق مع هوركهايمر ([26]) ولقد ترتب عن هذا التعاون إصدار كتابهما المشترك المعنون”جدل التنوير” عام 1947 والذي ظهر مع الإعلان عن ضحايا المحرقة النازية. ولقد كان أدورنو أحد الذين أصروا بعد الحرب على العودة إلى فرانكفورت، وصار المدير المساعد للمعهد، ثم مديرا مشاركا في عام 1955. وأخيرا وبعد تقاعد هوركهايمر عام 1958 أخذ أدورنو على عاتقه إدارة المعهد. وتوفي سنة 1969.
ومن أهم إسهامات الرائد الثاني من رواد الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت نجد:
1-جدل التنوير Dialectic of Enlightenment
صدر في عام 1947، وهي الفترة التي شهدت هجرة أغلبية مفكري مدرسة فرانكفورت إلى مختلف بلدان العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا بعد الأحداث التي عرفتها ألمانيا إثر صعود النازية ووصولها إلى سدة الحكم، والملاحقات التي تعرض لها الكثير من المثقفين والمفكرين، خاصة من ذوي الأصول اليهودية ([27]) وقد كتب أدورنو هذا الكتاب بالاشتراك مع ماكس هوركهايمر. وقد اعتبر ألبرشت فيلمر،أن كتاب “جدلية التنوير” هو “النص المفتاح لمجمل النظرية النقدية الأولى، وذلك بوصفه يعيد رسم انتصار التنوير وتعاسته في آن معا([28]) والفكرة الأساسية لهذا الكتاب، والتي تمت صياغتها في مقدمته، هي التدمير الذاتي للتنوير، أي التدمير الذاتي للعقل من خلال الوضوح الزائف المتعين في الفكر العلمي والفلسفة الوضعية للعلم، وحيث يظل هذا الوعي العلمي الحديث بمثابة المصدر الرئيسي للانحطاط الثقافي، وكنتيجة له: “تغرق البشرية في نوع جديد من البربرية بدل أن تدخل في حالة إنسانية حقيقية”([29]).
لقد تناول هذا الكتاب عدة إشكاليات تتمحور في الأساس حول قضية العقل الأداتي والحداثة الغربية، كما اهتم مؤلفه بنقد هذه الحداثة عبر أهم الأسس والمرتكزات التي قامت عليها، كالعقل، والحريـة، والعدالة، واحترام كرامة الإنسان وحقوقه، وفكرة التقدم الإنساني، وهذا قصد التخلص من الظلم الذي ظل يعاني منه الإنسان، والتخلص من مختلف أشكال السيطرة التي عرفها في ظل المؤسسات الدينية والسياسية التي كانت سائدة في أوروبا في تلك الفترة ([30]).
2-الجدل السلبي Negative Dialectics
صدر هذا الكتاب سنة 1966، هذا الكناب عمل فلسفي رفيع المستوى عالج فيه أدورنو موضوع الفرد واستلابه في المجتمع الصناعي، والتزم أدورتو بانحيازه لإنقاذ الذات في عالم متسلط.
يرى ادورنو أن تطور العقل يحكمه قانون السيطرة وفق المعادلة التالية: الطبيعة/ الإنسان، الإنسان / الطبيعة. إن هذه السيطرة خلقت وعيا جديدا أطلق عليه ادورنو “الوعي التكنولوجي” الذي جعل من العقل مجرد آلة انحرفت عن مسارها الموضوعي وتوجهت الى خدمة مصالحها الخاصة.
هنا يعلن ادورنو ثورته الارمة على العقل الغربي بلا هوادة، هذا العقل الذي خان مبادئه التنويرية، فراح ادورنو يصب جام غضبه على العقل الأداتي- النفعي للحضارة الغربية باعتباره عقلا شموليا واستئصاليا.
هربرت ماركيوز Herbert Marcuse
ولد ماركيوز في برلين عام 1898 لعائلة يهودية، وانتسب لمعهد الدراسات الاجتماعية في فرانكفورت حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية فانتقل للعيش في الولايات المتحدة الأمريكية وانضم الى معهد الدراسات الاجتماعية هناك عام 1934. ومن أهم أعمال ماركيوز كتابه الإنسان ذو البعد الواحد.
الإنسان ذو البعد الواحد One Dimentional Man
يقدم ماركيوز في هذا المؤلف نقدا واسع النطاق لكل من الرأسمالية المعاصرة والمجتمع الشيوعي، مشيرا الى الارتفاع المتوازي لأشكال جديدة من القمع الاجتماعي في كلا المجتمعين.
ويؤكد المؤلف على أن المجتمع الصناعي المتقدم قد خلق حاجات زائفة أدت الى تنامي النزعة الاستهلاكية مما خلق شكل من أشكال السيطرة الاجتماعية على الأفراد في المجتمع، فالاستهلاك المفرط يدفع الأفراد الى العمل أكثر مما هو مطلوب لتغطية حاجاتهم المتجاوزة لما هو أساسي، مع تجاهل للآثار النفسية المدمرة والأضرار البيئية المترتبة على هذا الوضع. ولا يتوقف الأمر عند ذلك بل يزداد الوضع لاعقلانية عبر خلق منتجات جديدة تدعو الى التخلص من المنتجات القديمة، الأمر الذي يدفع الى العمل أكثر لشراء المزيد، وبذلك يفقد الفرد إنسانيته ويصبح أداة في آلة التصنيع والاستهلاك، وتعمل الإعلانات على المحافظة على النزعة الاستهلاكية من خلال إخبار المستهلكين أن السعادة قابلة للشراء.
وقد أدى هذا الوضع الى خلق كونا أحادي البعد للفكر والسلوك يضعف فيه الاستعداد الى التفكير النقدي والمعارضة. وفي مواجهة هذا المناخ السائد يشجع ماركيوز على “الرفض الكبير” الذي وصفه باستفاضة في كتابه.
انتقادات الجيل الأول، وأبرز اسهامات الجيل التالي من رواد مدرسة فرانكفورت:
لا أحد من الدارسين لمدرسة فرانكفورت النقدية يمكنه التنكر للجهد الذي بذله رواد الجيل الأول لهذه المدرسة في نقدهم للمشروع التنويري والكشف عن جوانب الخلل فيه، وخاصة بعد تحول عقلانية الأنوار إلى عقلانية أداتية، أفرزت في نهاية الأمر مظاهر السيطرة والتشيؤ وأشكال الاغتراب الجديدة، التي عرفتها المجتمعات الغربية المعاصرة، لذلك سعوا جاهدين لإنقاذ الإنسان ولإيجاد نظام اجتماعي أفضل يحقق حريته وسعادته، وهذا عن طريق بلورة فلسفة اجتماعية نقدية ([31]). لكن هذا لا يعني أن هذا الجهد قد حظي بالقبول من طرف الدارسين للمشروع الفلسفي والاجتماعي للمدرسة في جيلها الأول، أي أن أطروحاتهم لم تفرض نفسها على جميع العقول، حتى من داخل المدرسة في أجيالها المختلفة، ناهيك عن خارجها. فالمشروع الفرانكفورتي لم يسلم من المساءلة النقدية، بحيث اعترض الكثير من المفكرين والفلاسفة على أفكار رواد المدرسة من الجيل الأول.
الاعتراضات والانتقادات لرواد الجيل الأول قدمها المنتمون لمدرسة فرانكفورت، ونعني هنا ــ رواد الجيل الثاني وعلى رأسهم يورغن هابر ماس، ورواد الجيل الثالث وعلى رأسهم أكسل هونيث.
يورغن هابرماس Jurgen Habermas
فيلسوف ألماني ولد عام 1929، يعد أكثر فلاسفة مدرسة فرانكفورت شهرة في الحقبة المعاصرة. اقتفى هابرماس الخط الفلسفي النقدي نفسه الذي تأسس على يد فلاسفة مدرسة فرانكفورت الكبار، عبر استيعابه لفلسفاتهم ثم السير بالنظرية النقدية داخل ميادين جديدة لم يطالها البحث النقدي من قبل.
لقد تطور فكر هابرماس على مرحلتين؛ اتسمت المرحلة الأولى بالطابع التحليلي الإبستيمولوجي، وتمثلت في أعماله عن “التقنية والعلم كإيديولوجيا” و “الرأي العام” كما كان كتابه “المعرفة والمصلحة” (عام 1965) أول كتبه المهمة في هذه المرحلة التي تبنى فيها منهجا نقديا متأثرا بفلسفة كانط وماركس، وتحول بدءًا من كتابه “منطق العلوم الاجتماعية” إلى مرحلة أخرى يمكن أن نطلق عليها اسم المرحلة التأسيسية، كما تمثلت في “نظرية الفعل التواصلي” بجزأيه، و”الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي” و”الخطاب الفلسفي للحداثة” وهي الأعمال التي توجت مشروعه الفلسفي. وتحول هابرماس من مفكر يهتم بالموضوعات والأشياء إلى مفكر يهتم بقضايا التفاهم والتواصل بين الذوات ([32]).
نظرية الفعل التواصلي The Theory of Communicative Action
هو كتاب ضخم من مجلدين، صدر عام 1981، ويعتبر أهم كتاب في مشروع هابرماس الفلسفي ويعتبر الدعامة الأساسية لمبحث التواصل فلسفيا وسوسيولوجيا، حيث انشغل في المجلد الأول بدراسة تفصيلية لنظرية ماكس فيبر عن الترشيد العقلاني للعالم الحديث، يتبعها بتقويم نقدي للتطورات اللاحقة لهذه النظرية، بدءًا من استخدام لوكاش لمفهوم “التشيؤ”، إلى نقد هوركهايمر وأدورنو للعقل الأداتي.([33]) في حين قام في المجلد الثاني بنقد مفهوم العقل الوظيفي عند إميل دوركايم، الذي -وفي غمرة بحثه عن منهج علمي صارم- يُحوِّل الظواهر الاجتماعية إلى أشياء تخضع لما تخضع له الظواهر الطبيعية من حتمية وموضوعية، فنسي وجود الإنسان العاقل، المُدّرِك، الباحث عن التواصل مع العالم ومع الآخرين كما يقول هابرماس. لهذا سعى إلى إعادة تأسيس عقل جديد وفق أسس جديدة، عقل منفتح، مرّن، يعمل بجدّية على إعادة تنظيم العلاقة بين المعرفة المجردة الباحثة عن انسجام العقل مع مقولاته الذاتية، وبين الواقع الاجتماعي التاريخي المنتجة فيه ([34]).
“التقنية والعلم كأيديولوجيا”
في هذا المؤلف ميز هابرماس تمييزا واضحا بين الفاعلية الأداتية والفاعلية التواصلية، يقول في مؤلفه مبرزا الفرق بينهما : “وانطلق من التمييز الأساسي بين العمل والتفاعل، وأقصد بـ (العمل) أو الفعل العقلاني الغائي إما فعلا أداتيا أو اختيارا عقلانيا أو مركبا من كليهما. ويهتدي الفعل الأداتي بالقواعد التقنية التي تقوم على معرفة تجريبية. وأعني بالفعل التواصلي من جهة أخرى تفاعلا متوسطا رمزيا. وهو يتبع المعايير السائدة إلزاميا، والتي تعرف توقعات السلوك المتبادلة، ويجب أن تكون مفهومة ومعترف بها من قبل ذاتين فاعلتين على الأقل.والمعايير الاجتماعية تُعززّها الجزاءات.و يتموضع مغزاها في التواصل اللغوي المتداول”([35]) .
إن النظرية عند هابرماس إذن هي نتاج للفعل البشري وتخدم غايات ذلك الفعل. وهي بشكل أساسي أداة لتحقيق حرية أكبر للبشر، وهي تتطور بعدة مستويات متباينة. وبهذا تأخذنا بعيدا عن الأعمال المتأخرة لهوركهايمر وأدورنو وأصحاب اتجاه ما بعد البنيوية الذين ترتبط المعرفة عندهم بالهيمنة والاستعباد([36]).
“القول الفلسفي للحداثة” The Philosophical Discourse of Modernity
في هذا المؤلف يعيد هابرماس النظر في مفهوم الحداثة نفسه، إذ لم يعد يعني حقبة زمنية مرت بها الإنسانية وانقضت بانتقالها الى مرحلة ما بعد الحداثة، بل إنها في نظره “لا ترتبط بمرحلة تاريخية معينة، وإنما تحدث كلما تجددت العلاقة بالقديم وتم الوعي بالمرحلة الجديدة”([37]) وقد صارت مشروعا إنسانيا لازال مستمرا ويتوجب استكماله، وإن كان بالإمكان تحديد بدايته، فإنه من الصعوبة بمكان تحديد نهايته، فهو بالنسبة لهابرماس مشروع لم يكتمل بعد. كما أن التصور الذي قدمه هابرماس للحداثة يختلف عن التصورات التي قدمها سابقوه من الفلاسفة والمعاصرين له، ففي مسألة الحداثة هذه يركز هابرماس على مفهوم العقل التواصلي، إذ يعتبر أن الحداثة لا ترتبط بعملية امتلاك معرفة ما ولكنها تتوقف على الطريقة التي يعبر بها الأشخاص القادرون على الكلام والفعل عن هذه المعرفة. الحداثة تتمثل في الأسلوب المتبع لاكتساب أو استعمال المعرفة من طرف شخص ما، وفي الطريقة التي تصاغ بها التعبيرات الرمزية. ومن ثم فإن الحداثة هي بالدرجة الأولى، مسألة إجرائية. أي أن الأشخاص القادرين على الكلام والفعل، ومن خلال تعبيراتهم الرمزية المنطوقة داخل سياق تواصلي، يستطيعون تبرير ونقد القضايا أو أفعال الكلام، وبالعكس فإن كل قضية أو فعل للكلام يرفض تقديم حججه ويقاوِم النقد فإنه يطرد نفسه مما هو عقلي ([38]).
فنقده للحداثة لم يكن نقدا تشاؤميا سوداويا كما كان عليه الأمر عند فلاسفة الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت، بل إن هابرماس يعتقد أننا يجب ألا نضحي بالمكاسب التي جلبتها لنا الحداثة، ألا وهي زيادة المعارف، والفوائد الاقتصادية، والتوسع في الحريات الفردية. إنّ استكمال الحداثة لا يعني فقط قبول كل ما تلقيه علينا من مستجدات، بل التخصيص الناقد للإمكانات الثقافية والتكنولوجية والاقتصادية للعالم الحديث في ضوء المثل الإنسانية العلمانية. ويتطلب استكمال الحداثة وقاية العالم المعيش بفاعلية من الأثر المدمر للنظام ([39]).
وبهذا الشكل يعود هابرماس بالنظرية النقدية إلى الشق المتفائل من الحداثة والتنوير، لأن الحداثة مشروع لم يفشل بعد مثلما كادت تقنعنا بذلك جدلية التنوير، وإنما هي مشروع لم يكتمل. فالحل ممكن على أرضية إعادة بناء لنظرية المعرفة الكانطية يُصحح مسار التاريخ ويشير إلى منافذ حل الأزمة ([40]).
التحولات البنيوية للفضاء العام: تساؤلات ضمن أصناف المجتمع البورجوازي Structural Transformations of Public Space
صدر هذا المؤلف في عام 1962ويعتبر أول أعمال هابرماس الكبرى، وقد جاء استجابة نقدية بناءة لمفهوم هوركهايمر وأدورنو للنظرية النقدية. فهو محاولة لحل مشكلات النظرية النقدية للجيل الأول من مدرسة فرانكفورت، محاولة مخلصة في الوقت نفسه لروح النظرية الأصلية مع الحفاظ على تشخيصها للآفات الاجتماعية ([41]).
فهذا يعني أن هابرماس في أول مؤلفاته كان وفيا للمسار الفكري الذي خطه رواد الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت، ويظل مؤلف “التحولات البنيوية ” مخلصا للنموذج الأصلي من عدة أوجه. أولا: هو متعدد التخصصات؛ حيث يمزج ما بين أفكار متعمقة من التاريخ وعلم الاجتماع والأدب والفلسفة. وثانيا: يهدف إلى تحديد الجوانب التقدمية العقلانية للمجتمع الحديث والتمييز بينها وبين الجوانب الرجعية غير العقلانية. وثالثا: يوظف هابرماس، شأنه شأن هوركهايمر وأدورنو من قبله، أسلوب النقد الداخلي، في مقابل النقد الخارجي ([42]).
يتحدث هابرماس عن النظرة السوداوية التي تميز بها كتاب جدلية التنوير، فيقول: “ينطلق هوركهايمر وأدورنو في (جدلية العقل) مؤلفهما الأكثر سوادا لتحويل سيرورة التدمير الذاتي للأنوار إلى مفاهيم. فتحليلهما لم يترك لهما أي أمل بقوة المفهوم المحررة”([43]).
يبرز من خلال هذا القول أن هابرماس يرفض هذه النزعة التشاؤمية التي ميزت الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت، حيث أنه آخذ هوركهايمر وأدورنو على كونهما سجنا نفسيهما في نزعة تشاؤمية تختزل العقل في الأداتية،([44]) وتُشكك في قدرته على تجاوز الكثير من الصعوبات.
ويرى هابرماس أيضا أن النظرية النقدية كان يجب أن تدلي بدلوها في أنواع المؤسسات الضرورية لحماية الأفراد من مفاتن التطرف السياسي، من ناحية، وعمليات النهب التي يقوم بها الاقتصاد الرأسمالي المتنامي سريعا من ناحية أخرى ([45]).
لا يمكن الحديث في نظر هابرماس عن الحريات الفردية في تجاهل الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية لبيئة الأفراد، فهو يريد تحديد الظروف الاجتماعية والمؤسسية التي تعزز الاستقلال، فالتحرر عنده يعني خلق مؤسسات ديمقراطية حقا لها القدرة على الصمود في مواجهة الآثار المدمرة للرأسمالية وإدارة الدولة.
يعتبر الفكر الهابرماسي حركيا لأنه منشغل بحركة الفكر في عصره واعيا بمختلف مقتضياته الفلسفية والثقافية والاجتماعية والسياسية. وتعد فلسفته التركيبية وليدة ذلك الإرث الغربي الذي تتقاطع فيه الأنوار والحداثة وما تحمله من معاني تهدف لإثراء المكتسبات الإنسانية مثل منزلة “العقل” والحرية والتاريخ والنقد. فهابرماس يؤكد أن الحداثة ليست كلها شرا ، بل كان لها الفضل في تحرر العقل الإنساني من هيمنة كثير من السلطات الدينية والفلسفية، التي كان واقعا في أسرها في العصر الوسيط، فقد دافع بقوة عن فكرة أن مشروع الحداثة لم يستنفذ بعد، وأن كل النقد الذي وجه إلى هذه الأخيرة إنما قد تم بأدواتها هي نفسها، أي بالاعتماد على النقد العقلي، وبالتالي فإن ما يقوم به فلاسفة ما بعد الحداثة هو فقط لتصحيح مسار الحداثة وليس لرفضها أو نفيها مطلقا ([46]).
وفي إعادة النظر إلى الحداثة مفهوما ومكتسبا، تميزت نظرة هابرماس عن نظرة رواد الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت والتي كانت في مجملها نظرة مناهضة للحداثة ومقزمة لمكاسبها، ورغم ذلك يظل هابرماس متأثرا بفلاسفة عصره، إذ أن أفكاره النقدية مطبوعة بتأثيرات واضحة من أدورنو. وهو ما يعطي الأهمية الكبرى للتفاعل بين مفكري الجيل الواحد ([47]).
الأصول الفلسفية والعلمية لمدرسة فرانكفورت
هنا يطرح السؤال نفسه حول المصادر الفلسفية التي استمد منها مفكرو مدرسة فرانكفورت هذه الروح النقدية وهذا الإصرار على إعادة النظر في أسس الحضارة الغربية بكل جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي المفاهيم والقيم التي تأسست عليها هذه الحضارة ومجتمعاتها، كالعقلانية والحرية والتقدم العلمي والتقني وما ارتبط بها من نزعات وضعية وعلمية، وغيرها من النزعات التي عملت على الحفاظ على الوضع القائم والمصالح المهيمنة فيه ([48]).
إن الدارس للتراث الفكري الفلسفي والاجتماعي لمدرسة فرانكفورت، من خلال المنتوج الفكري لروادها من الجيل الأول، سرعان ما يكتشف أن هذا المنتوج يتضمن في طياته الكثير من أسماء الفلاسفة السابقين عن المدرسة أو المعاصرين لها بمختلف انتماءاتهم المذهبية وتوجهاتهم الفلسفية. ويجد الدارس لهذا التراث حضورا قويا لبعض الفلاسفة في فكر المدرسة، وقد يجد لبعضهم الآخر حضورا أقل، يعكس هذا الحضور درجة التأثير الذي حدث من هؤلاء الفلاسفة على فلاسفة مدرسة فرانكفورت النقدية.
أولا: الأثر الكانطي في فلسفة مدرسة فرانكفورت
لقد كان لفلسفة كانط النقدية حضورا بارزا في فكر الفلاسفة المعاصرين، وبالتحديد على فلاسفة مدرسة فرانكفورت، فرغم أن الفاصل الزمني بين كانط ومدرسة فرانكفورت يصل إلى حوالي القرنين، الا أن فلسفة كانط النقدية كانت من الأسس التي قامت عليها مدرسة فرانكفورت النقدية خاصة في جيلها الأول، أي أن رواد الجيل الأول «هوركهايم» و«أدورنو» قد تأثرا في صياغة مشروعهما الفلسفي والاجتماعي بفلسفة كانط عامة أو على الأقل بروح النقد لديه. فالنظرية النقدية مدينة بالكثير إلى فلسفة كانط ، فالحضور المستمر لكانط في مؤلفات فلاسفة مدرسة فرانكفورت يؤكد تأثير كانط على التوجيه النقدي لهذه المدرسة ، فكانط يُعد المرجعية الثابتة للفلسفة الحديثة، وهذا هو ما جعل فلاسفة النظرية النقدية أنفسهم – وهم يَعُدون أنفسهم على الدوام ورثة المثالية الكلاسيكية الألمانية – في حوار معه متواصل إلى أيامنا هذه ([49]).
ثانيا: الأثر الهيغيلي في فلسفة مدرسة فرانكفورت
هذا الفيلسوف يبدو أن له أثرا كبيرا في الدراسات الحديثة ومنها مدرسة فرانكفورت([50]) ويُستشف هذا التأثير من الدرس الافتتاحي الذي ألقاه هوركهايمر بمناسبة تعيينه مديرا لمركز البحوث الاجتماعية (وهو الاسم الأول لمدرسة فرانكفورت)، والذي أكد فيه بأن الفلسفة الاجتماعية، التي هو بصدد الإعلان عن برنامج عملها، تستمد وجودها مباشرة من تجربة الوعي الفينومونولوجي الهيغيلية([51]) .إنّ لفلسفة هيغل حضورا قويا في بلورة الفكر الفلسفي لمدرسة فرانكفورت النقدية في جيلها الأول.
ويَبرز تأثير فلسفة هيغل بوضوح في بعض الأعمال الفلسفية المنسوبة إلى مدرسة فرانكفورت ([52]) فالمتصفح لكتاب « بدايات فلسفة التاريخ البورجوازية » لهوركهايمر، يقف على كثير من المحطات التي يعود فيها صاحب الكتاب إلى هيغل في سياق حديثه عن الجدل في منظوره. ولقد أفرد هوركهايمر في هذا المؤلَف فصلا خاصا عنونه بـ“هيغل ومشكلة الميتافيزيقا” والذي يبرز فيه تفسير هيغل لمشكلة الميتافيزيقا، ويبدأ هذا المبحث بعبارة مشهورة لهيغل ذكرها في مقدمة مؤلفه (فلسفة الحق) وتتمثل في قوله :«كل ماهو عقلاني هو واقعي، وكل ما هو واقعي عقلاني»([53] ) والغرض من الوقوف على هذه الإحالة لمؤلَف هوركهايمر السابق ذكره ليس تحليل ما ورد فيه من مضامين وإنما إبراز حضور فلسفة هيغل في هذا المنتوج الفكري لهوركهايمر.
ويبرز دور الفلسفة الهيغيلية في مدرسة فرانكفورت، من خلال الحضور القوي لها في مؤلفات روادها، ففي كتاب “جدل التنوير” يذهب أدورنو إلى أن هيغل قد استبق واقعه بمائة سنة ([54]) ويذهب هوركهايمر كذلك إلى التأكيد على أهمية هيغل مؤيدا لأدورنو، فيقول:«إن هذا التجريبي الكبير، الذي استبق فهمه للوقائع التاريخية والسوسيولوجية والنفسية نتائج هامة تم التوصل إليها بفضل العمل المنهجي وطيلة قرن بأكمله، ولا يزال بإمكانه اليوم أيضا أن يوجه البحوث» ([55]).
إلا أن هذه الإشادة بقيمة هيغل وفلسفته لم تمنعهم من نقده في كثير من المسائل الرئيسية تتعلق بنزعته التوفيقية بين العقل والواقع وبين الذات والموضوع وبين التاريخ والمطلق وبين المفهوم والاعتقاد.
إنّ الأثر الهيغلي على الجيل الأول يتمثل بشكل أساسي في عظمة المنهج الجدلي، الذي جعلته مدرسة فرانكفورت أكثر ديناميكية من خلال رؤيتها النقدية التي ربطت بواسطتها الجدل بالواقع الاجتماعي، وهو ما مكن فلاسفتها من اكتشاف جملة التناقضات الكامنة في الظواهر المدروسة، فتمكنوا من رفض النزعة الوضعية التي تشيؤ عالم الإنسان وبالتالي تجعله يشعر بالاغتراب.
ثالثا: الأثر الماركسي في مدرسة فرانكفورت
إنّ القارئ المحلل للإنتاج الفكري لرواد مدرسة فرانكفورت بمختلف أجيالها وخاصة الجيل الأول منها، سرعان ما يكتشف حضورا للفلسفة الماركسية بمفاهيمها المختلفة وبروحها النقدية، الأمر الذي يجعله يتأكد من وجود تقاطعات كثيرة بين هذه الفلسفة الماركسية وفلسفة مدرسة فرانكفورت، تبرز أول محطات هذا التقاطع في اجتماع عقد صيف 1922، تحت عنوان «أول أسبوع عمل ماركسي» والذي تم خلاله الاتفاق على ضرورة تأسيس معهد للأبحاث الاجتماعية.([56]) وكان من أبرز الشخصيات المشاركة في هذا الاجتماع«جورج لوكاش» و«كارل كورش» واللذين تتجلى ماركسيتهما من خلال كتابيهما: التاريخ والوعي الطبقي(1923)، وكتاب الماركسية والفلسفة(1923)، وهما يعبران عن محاولة لتجديد الماركسية.
لقد شكلت الماركسية إذن وجهة للنقد الفرانكفورتي لِمَا كانت تحمله من رغبة في تحرير المستضعفين ومناهضة أشكال الهيمنة والإقصاء واستلاب لجهد العمال التي ترتبت عن الهيمنة الرأسمالية، وهو ما «جعل فلاسفة وعلماء اجتماع هذه المدرسة ينخرطون في جهد نقدي يرمي إلى رصد مختلف الأعراض المرضية التي أصابت عصرنا كالتشيؤ والاغتراب والصنمية، مما حدا بهم إلى أن يقيموا نقدا حادا ليتوبيا التقدم التقني والنظريات التبشيرية بعالم الأحلام الموعود، كما انتقدوا في حينه النزعة العلموية التي تتصور المعرفة كطبيعة موضوعية مجردة عن المصلحة»([57]).
إلا أن هذا الانتماء الى الماركسية لا يعني إلغاء حق الاختلاف معها، فكانت علاقتها تتضمن الانتماء والاختلاف، فيمكن الحكم على فترة رئاسة «كارل جرونبرغ» للمعهد بمرحلة الانتماء، أما فترة رئاسة«ماكس هوركهايمر» فيمكن تسميتها بمرحلة الاختلاف، ففي الوقت الذي كان فيه أصحاب النظرية الماركسية الأوائل يراهنون على إعادة بناء المجتمع على أسس ماركسية كحل لطغيان العقل الذي نجم عنه انهيار المعرفة وأزمة في العقل التاريخي، فإنّ “هوركهايمر” يرى أنّ المراهنة على البروليتاريا كقوة دافعة ليس كافيا لعملية التحرر، فالنظرية النقدية أخذت بعض مقوماتها، لاسيما في البداية، من الماركسية لكنها قطعت مع تعاليمها في الوقت الذي تبيَّن لروادها أنّ للماركسية نظاما توتاليتاريا يمكنه تسييج الحرية وخنق البعد النقدي للتفكير([58]).
وعلى هذا، فإن النظرية النقدية أصبحت الآلية الوحيدة تقريباً التي يمكن أن تكشف إمكانية الحرية والعقل في المجتمع الإنساني والتي يمكن عن طريقها الكشف عن أشكال الوعي الزائف.
إنّ منظري مدرسة فرانكفورت قد تأثروا بالماركسية حتى اعتبر البعض أن هذه المدرسة ليست إلا فرعا من فروع الماركسية، لكن أصحاب النظرية النقدية وإن تبنوا الماركسية كمبدأ أو كمنهج، كما عبر هوركهايمر عن ذلك، عندما قال: «عندما استولى هتلر على السلطة كان كثيرون يأملون في إمكان الثورة ويحتمل أن هذا الأمل كان مجرد حلم أو وهم، ولكن الذي لا شك فيه أن هذا الحلم أو الوهم قد سيطر على أعمالي منذ عام 1933. وقد قبلت المنهج الماركسي من حيث إنه يجزم بأن المجتمع الأفضل لن يتحقق إلا بالثورة »([59]) .
يتضح كذلك تأثر رواد المدرسة من الجيل الأول بالنزعة النقدية عند المفكر الماركسي “جورج لوكاش” أما من ناحية المنهج الذي اتبعوه في النظر والتطبيق فقد استندوا إلى روح الفلسفة الماركسية مع الابتعاد عن معظم مقولاتها الأساسية ([60]).
ففي المرحلة الأولى من تأسيس النظرية النقدية توجه رواد مدرسة فرانكفورت إلى نقد المجتمع الصناعي الكبير ونظامه التكنوقراطي. وكان هذا النقد جزءا من النضال ضد الرأسمالية كما بيّنا سابقا، حيث توجهوا إلى نقد الاقتصاد السياسي وتحليل التناقضات في المجتمع الرأسمالي، واعتقدوا بأن تفجير هذه التناقضات سوف يقود إلى بناء الاشتراكية.
أما في المرحلة الثانية (بعد صعود النازية) وهي مرحلة المنفى وما بعدها، فقد وجهوا اهتماماتهم إلى نقد النظم السياسية والثقافية وتحولوا عن فكرة الصراع الطبقي، التي فقدت معناها كأداة تحليلية، وذلك بسبب تزييف وعي الطبقة العاملة وتطورها إلى أداة بيروقراطية. كما توصلوا إلى شبه إجماع في الرأي، وهو أن الصراع الطبقي والتناقض الاجتماعي يجب أن يُحل أولا على المستوى الفكري من خلال النقد والنقد الذاتي المستمر، وليس من خلال النضال بالوسائل الكلاسيكية التي تبنتها الماركسية التقليدية، لأن نقد الوسائل الكلاسيكية للماركسية لا يعد رفضا للماركسية، وإنما هو فهم جديد لها في ضوء ظروف المجتمع الصناعي الجديد التي أدت إلى اغتراب المجتمع.
رابعا: الأثر الفرو يدي في مدرسة فرانكفورت
اتسعت المنابع الفلسفية لمدرسة فرانكفورت لترتبط من الناحية السيكولوجية بمدرسة التحليل النفسي من خلال التأثر بأفكار رائدها « سيجموند فرويد » والاستفادة من التحليل النفسي كمنهج لتفسير كثير من المسائل التي اهتمت المدرسة بمعالجتها إلى درجة أن البعض من المفكرين اعتقد بأنه لا يمكن التفكير في أي حركة فلسفية، أو تيار فكري في القرن العشرين خارج الأثر الثلاثي لماركس، نيتشه، وفرويد.
ففلاسفة النظرية النقدية بعد معاينتهم لانحطاط القيم الفردية داخل المجتمع الصناعي المتقدم، ومن انسحاب لحق الفرد في الاختلاف داخل النظام الفاشستي أولا، وفي تراتبيات النظام السياسي «المغلق» للمجتمع الصناعي ثانيا، حاولوا إعمال العقل لإعادة الاعتبار للفرد ولتنشيط الفكر النقدي. وانطلاقا من هذا الاهتمام عملوا على إعادة قراءة النص الفرويدي على ضوء تحولات المجتمع الصناعي متسائلين عن دلالات الرغبة والتصعيد اللاشعوري وموقع الجنس في آليات الإغراء الحديثة وعلاقتها بالعملية الإنتاجية وعن المعاني الجديدة التي يتخذها الحب([61]).
من هذا يتضح أن رواد مدرسة فرانكفورت النقدية جعلوا من التحليل النفسي منهجا ضروريا لتحليل المشكلات الفردية التي برزت في المجتمعات الرأسمالية، قصد تشخيصها ومن ثم إيجاد الحلول المناسبة لها، ويعود اهتمام مدرسة فرانكفورت بالتحليل النفسي، إلى مقالة مبكرة لـــ “فلهلم رايخ” بعنوان “المادية الجدلية والتحليل النفسي” سنة 1927، حيث أنه نبه إلى أن التحليل النفسي يختلف جذريا عن علم الاجتماع أو علم النفس الاجتماعي، وأنه يحمل تصورا ماديا عن الإنسان بوصفه فردا، أي أنه كتلة غريزية من النزوات متحركة في جدل، تحولات وصيرورات لا متناهية للكينونة، لفردية الإنسان الذي يبدو أنه اشتق إنسانيته من نشأة الفردية، وانفصل عن الطبيعة بفعل فرديته، ومن هنا أصبح الاغتراب البعد الأساسي في الكائن الفرد ([62]) .
فمدرسة التحليل النفسي قد سلطت الضوء على الفردية الإنسانية التي تتأسس على الجانب اللاوعي (اللاشعوري) والذي يؤثر بكل مكوناته على الوعي الإنساني بكل تمظهراته. ونظرا لهذه الأهمية، فقد برهن هوركهايمر أيضا، في مقال له عن التاريخ وعلم النفس، على أن علم نفس الفرد يكتسب أهمية متعاظمة في فهم التاريخ ([63]).
خاتمة
لا شك أن المتتبع لمسار مدرسة فرانكفورت منذ اللحظة التأسيسية إلى مراحل تطورها المختلفة، لا يسعه إلا أن يعترف بجهدها الجبار في تأسيس مبدأ المساءلة النقدية لواقع المجتمعات الأوربية الغربية، فطرح الرواد الأوائل لمدرسة فرانكفورت تساؤلات عديدة تمحورت في جملتها حول هذا الوضع اللاإنساني الذي وصلت إليه الإنسانية ككل. وكان التساؤل المحوري: ما الذي حدث للمجتمع الإنساني حتى انحدر إلى هذه الوضعية؟ وما هي الأسباب الحقيقية التي كانت وراء هذه المأساة؟ وشرع فلاسفة فرانكفورت في عملية البحث للوصول إلى إجابة عن التساؤلات، معتمدين في ذلك على المنهج النقدي كآلية ضرورية للكشف عن مكامن الخلل في واقع المجتمعات الغربية.
لقد تبيّن لهم بأن الأزمة أزمة عقل، هذا العقل الذي يعود إليه الفضل في تحرير الإنسان من ربقة القيود التي هيمنت على عقله ومنعته من البحث الحر لتفرض عليه معالجة القضايا التي تحددها السلطة الدينية والسياسية خاصة في العصور الوسطى، وعملية تحرير الإنسان هذه، قد رفع لواءها مشروع التنوير، حيث تكفل فلاسفة الأنوار في تجسيد هذه المهمة. ولكن الذي حدث هو أن هذا العقل الذي تحرر بفعل التنوير صار عقلا مطلقا، اتجه للطبيعة لإخضاعها لسيطرته وتسخيرها لخدمته، وهو ما تحقق بالفعل كنتيجة حتمية للنهضة العلمية والتكنولوجية الكبيرة التي بلغتها البشرية في الوقت المعاصر. ولكنه لم يقف عند هذا الحد، بل أصبح هذا العقل أداة للسيطرة على الإنسان، على فكره، على رغباته، على عواطفه …الخ ففقد الفرد داخل المجتمع الغربي كرامته، حريته، بل إنسانيته ليتحول إلى مجرد شيء لا يختلف عن أشياء الطبيعة، فالعقل الأنواري أصبح عقلا أداتيا بامتياز.
نتيجة لهذا الانحراف في مسار العقل، والذي أدى إلى انحراف مشروع التنوير ككل عن الأهداف السامية التي وجد أصلا من أجلها، وجد فلاسفة فرانكفورت في جيلها الأول أنفسهم أمام ضرورة التدخل لإنقاذ الوضع الإنساني، وعلى هذا الأساس قام المشروع الفلسفي والاجتماعي لمدرسة فرانكفورت.
أهم النتائج التي يمكن استخلاصها من هذه الورقة:
إنّ مدرسة فرانكفورت النقدية، بمشروعها الفلسفي النقدي، تعتبر بحق من أبرز المدارس التي كرست جهود أعضائها من الفلاسفة وعلماء الاجتماع لنقد المجتمع قصد كشف تناقضاته، وجعل التغيير الاجتماعي هدفا لها، والنقد الجذري منهجا لها.
أبانت مدرسة فرانكفورت عن مظاهر الاستغلال والاغتراب والتشيؤ التي أفرزها مشروع التنوير نتيجة هيمنة العقلانية الأداتية.
أكدت مدرسة فرانكفورت أن مشروع التنوير قد عجز عن تحقيق الأهداف والمبادئ التي وجد من أجلها، ولم يعد متماهيا مع فكرة التقدم كما روج لها المدافعون عنها، خاصة من أنصار الوضعية، بل على العكس من ذلك خلق تعاسة الإنسان وتراجعه، كما خلق الكثير من الأساطير التي قام في الأصل لمحاربتها.
هاجمت مدرسة فرانكفورت الفلسفات التي قامت على التنظير العقلي دون اكتراث بواقع الإنسان الاجتماعي، وبذلك تكون الفلسفة قد أُفرغت من محتواها الحقيقي المتمثل في وظيفتها الاجتماعية ووظيفتها النقدية، وانطلاقا من ابتعاد الفلسفة عن وظيفتها، دافع رواد مدرسة فرانكفورت على ضرورة إعادة الاعتبار لهذا الدور من خلال المطالبة بضرورة ربط الفلسفة بالحياة الاجتماعية، لتصبح فلسفة اجتماعية تُعنى بالحياة الاجتماعية للأفراد، أي ربط النظرية بالممارسة.
أكدت مدرسة فرانكفورت على تهافت النزعة الوضعية التي تجعل من العلوم الطبيعية نموذجا للعلمية، وتجعل من العلم والتقنية الأداتين الكفيلتين بمفردهما على إحداث التغيير الاجتماعي، وخلق سعادة الإنسان، متجاهلين دور الفلسفة والعلوم الاجتماعية في تحقيق هذه المهمة، خاصة إذا تم الارتباط بينهما.
كما بيّنت مدرسة فرانكفورت في حديثها عن صناعة الثقافة في المؤلف المشترك «جدلية التنوير» أن الثقافة بمختلف مظاهرها خاصة ما تعلق منها بالفنون المختلفة والجوانب الإعلامية والاتصالية، ووسائل الإعلام المختلفة كالسينما والتليفزيون والإذاعة تحولت في المجتمعات الغربية المعاصرة إلى أدوات للسيطرة تُمارس بواسطتها الأنظمة السياسية في المجتمعات الرأسمالية ضغطا لانتهاك حرية الأفراد بجميع صورها خاصة منها حرية التعبير، بل صارت هذه الوسائل تعمل على المحافظة على صيرورة هذا النظام الرأسمالي. وبهذا الشكل تكون الثقافة بكل مظاهرها قد أبعدت عن دورها الأساسي في نشر الوعي السياسي والاجتماعي للأفراد، والكشف عن زيف الأنظمة السياسية والاقتصادية بفقدانها للقدرة النقدية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باحث ماجستير بقسم العلوم السياسية كلية الاقتصاد والعلوم السياسية. جامعة القاهرة.
[1] ــ بوتومور توم، مدرسة فرانكفورت، مرجع سابق، ص: 19
[2] ــ المرجع نفسه، ص 19.
[3] – الجابري علي حسين، محنة الإنسان بين العلم والفلسفة والدين «دراسة لعلاقة العلوم المعاصرة بالمعرفة القلبية»، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع دمشق (سوريا)، (د.ط)، 2009، ص: 13
[4] – بوتومور توم، مدرسة فرانكفورت، مرجع سابق، ص: 20
2 ــ أدورنو تيودور فون، محاضرات في علم الاجتماع، تر: جورج كتورة، مركز الإنماء القومي، بيروت (لبنان)، (د.ط) ص: 7
[6] ــ كمال بومنير، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت من ماكس هوركهايمر إلى أكسل هونيث، مرجع سابق، ص: 9
[7] ـ آسون بول لوران، مدرسة فرانكفورت، ترجمة: سعاد حرب، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت(لبنان)، ط 1، 1999، ص:7
[8] ـ حماد حسن، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت «ماركيوز نموذجا» دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية(مصر)، ط 1، 2003، ص: 100
[9] – حماد حسن، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت « ماركيوز نموذجا »،مرجع سابق، ص:101 .
[10] ـ حماد حسن، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت «ماركيوز نموذجا» مرجع سابق، ص: 104
[11] ـ بومنير كمال، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت من ماكس هوركهايمر إلى أكسل هونيث، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت(لبنان)، ط1، 2010، ص: 40
[12] ـ حماد حسن، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت «ماركيوز نموذجا»، مرجع سابق، ص:105
[13] ـ هاو آلن، النظرية النقدية ـ مدرسة فرانكفورت ـ ترجمة: ثائر ديب، دار العين للنشر، القاهرة (مصر)، ط 1، 2010، ص: 36
[14] ـ بوتومور توم، مدرسة فرانكفورت، ترجمة: سعد هجرس، دار أويا للطباعة والنشر والتوزيع، طرابلس (ليبيا)، ط1، 1998، ص، ص:18،17
[15] ـ حماد حسن، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت «ماركيوز نموذجا»، مرجع سابق، ص، ص: 105،106
[16] ـ حماد حسن، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت «ماركيوز نموذجا»، مرجع سابق، ص: 106
[17] ـ المرجع نفسه، ص: 18
[18] – بوتومور توم، مدرسة فرانكفورت، مرجع سابق، ص: 14
[19] – محسن الخوني، ” التنوير والنقد منزلة كانط في مدرسة فرانكفورت”، (دار الحوار للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 2009)، ص:31
[20] ـ بوتومور توم، مدرسة فرانكفورت، مرجع سابق، ص: 18
[21] ـ حماد حسن، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت «ماركيوز نموذجا»، مرجع سابق، ص: 107
[22] ـ علاء طاهر، “مدرسة فرانكفورت من هوركهايمر إلى هبرماز”، (مركز الإنماء القومي، لبنان، الطبعة الأولي)، ص: 62
[23]–علاء طاهر، مدرسة فرانكفورت من هوركهايمر إلى هبرماز، مرجع سابق، ص: 64
[24] ــ بومنير كمال وآخرون، ثيودور أدورنو من النقد إلى الإستيطيقا (مقاربات فلسفية)، دار الأمان- الرباط (المغرب)، ط1، 2011، ص: 12
[25] – ــ بوتومور توم، مدرسة فرانكفورت، مرجع سابق، ص: 153.
[26] ــ لوران آسون بول، مدرسة فرانكفورت، مرجع سابق، ص: 17
[27] ــ كمال بومنير وآخرون، ” ثيودور أدورنو من النقد إلى الاستطيقا (مقاربات فلسفية)”، (الدار العربية للعلوم ناشرون، 2017)، ص: 11
[28] – المحمداوي علي عبود، ومجموعة من الأكاديميين العرب، الفلسفة الغربية المعاصرة، صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج، ج 1، منشورات ضفاف، دار الأمان، الرباط (المغرب)، ط 1، 2013، ص: 531
[29] ــ Max Horkheimer. Theodor w.Adorno. La dialectique de la raison. Tra: Éliane kaufholz. Editions Gallimard. 1974, P. 14
[30] – ـ كمال بومنير، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، مرجع سابق، ص: 12.
[31] – كمال بومنير و جمال مفرج وآخرون، ثيودور أدورنو، من النقد إلى الإستيطيقا، مرجع سابق، ص : 11
[32] – عطيات أبو السعود ، الحصاد الفلسفي للقرن العشرين، مرجع سابق، ص : 93
[33] – توم بوتومور، مدرسة فرانكفورت، مرجع سابق، ص : 115
[34] – فيري جاك مارك، فلسفة التواصل، ترجة : عمر مهيبل، الدار العربية للعلوم-ناشرون- بيروت (لبنان) منشورات الاختلاف، الجزائر العاصمة (الجزائر)، ط1، 2006، ص، ص : 17،16
[35] – يورغين هابرماس، التقنية والعلم كأيديولوجيا، ترجمة: إلياس حاجوج، مطابع وزارة الثقافة، دمشق (سوريا)، (د.ط)، 1999ص، ص : 89،88
[36] – إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هبرماس، ترجمة: محمد حسين غلوم، سلسلة كتب ثقافية (عالم المعرفة)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،(الكويت)، (د.ط)، 1978، ص : 311
[37] – علي عبود المحمداوي وإسماعيل مهنانة، مدرسة فرانكفورت النقدية، مرجع سابق، ص : 300
[38] -إبراهيم أحمد، انطولوجيا اللغة عند مارتن هيدجر، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت (لبنان)، ط 1،2008.، ص، ص: 167،168
[39] – فينليسون جيمس جوردن، يرجن هابرماس (مقدمة قصيرة جدا)، مرجع سابق، ص: 97
[40] – محسن الخوني، التنوير والنقد، مرجع سابق، ص: 320
[41] – جيمس جوردن فينليسون ، يورجن هابرماس، مقدمة صغير جدا، مرجع سابق، ص :25
[42] – المرجع نفسه، ص: 26
[43] – يورغن هابرماس ، القول الفلسفي للحداثة، مرجع سابق، ص: 171
[44] – آلان توران ، نقد الحداثة، مرجع سابق، ص :162
[45] – جيمس جوردن فينليسون ، يورجن هابرماس، مقدمة صغير جدا، مرجع سابق، ص، ص : 30-31.
3- علي عبود المحمداوي، الفلسفة الغربية المعاصرة،مرجع سابق، ص :149
[47] – علي عبود المحمداوي ،ومجموعة من الأكاديميين العرب، الفلسفة الغربية المعاصرة،مرجع سابق، ص :1498
[48] ــ المرجع نفسه، ص 9
[49] – الخوني محسن، التنوير والنقد، مرجع سابق، ص:339
[50] – المحمداوي علي عبود، وإسماعيل مهنانة، مدرسة فرانكفورت النقدية، مرجع سابق، ص، ص: 437، 438
[51] ـ الخوني محسن، التنوير والنقد، مرجع سابق، ص: 14
[52] -الخوني محسن، هيغل في مدرسة فرانكفورت، «Civic egypt.org» تاريخ الزيارة 16/07/2013
[53] ــ المصدر نفسه، ص: 95
[54] – Theodor, Adorno, Dialectique négative, traduit par : Gérard Coffin et autres, Éd. Payot, Paris. 1992, p. 254
[55] ــ هوركهايمر ماكس، بدايات فلسفة التاريخ البورجوازية، مصدر سابق، ص: 96
[56] – Assoun Paul-Laurent, L’école de Francfort– Que Sais-je ? Ed. Delta, Paris, 1996,P 65.
[57] ــ حسن مصدق، يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت، النظرية النقدية التواصلية، ص: 11
[58] ــ أفاية محمد نورالدين، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة نموذج هبرماس، مرجع سابق، ص، ص: 21، 22
[59] ــ حسن محمد حسن، النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت(لبنان)، ط1، 1993، ص: 109
[60] ــ حنفي حسن وآخرون، فلسفة النقد ونقد الفلسفة في الفكر العربي والغربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت (لبنان)، ط 1، 2005، ص: 49
[61] ــ أ محمد نور الدين افايه،” الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة”، (افريقيا الشرق, 1991)، ص: 38
[62] ــ علي عبود المحمداوي ، وإسماعيل مهنانة، مدرسة فرانكفورت النقدية، مرجع سابق، ص: 492
[63] ــ بوتومور توم، مدرسة فرانكفورت، مرجع سابق، ص: 52