الشيخ احمد البدناوي - قطوف ملحونية.. الوشم

يمتد تاريخ الوشم عند المغاربة على مدى قرون من الزمن، مشكلا جزءا مهما من النسيج الثقافي الخاص بهذا الشعب، على الرغم من الموقف الديني الرافض للوشم ..
فلقد انتشرت ممارسته عبر التاريخ، دالة على الهوية والنضال والتحرر، في طقوس دقيقة جدا، يحترمها كل من الواشم والموشوم، ملتزمين بتوفير جو مناسب لهذا التقليد، وفق ماجرت به العادة في تحضير مستلزمات الاحتفال الضرورية، من طرب، وأكل وشرب.. ويشمل الوشم عند النساء المغربيات الوجه، وباقي أعضاء الجسد،مثل العنق واليدين والصدر والبطن. وتتفاوت كثافة الوشم في أجساد النساء حسب المناطق وحسب الفترة التي تم فيها الوشم.
في مقالها "الوشم على وجوه النساء الأمازيغيات" تطرقت الكاتبة البريطانية سارة كوربيت، اٍلى معاني الرموز التي كانت تتخذها النساء الأمازيغيات على وجوههن كوشوم. فالشجرة تعني القوة، والنبتة والعنكبوت يرمزان اٍلى الخصوبة، والأفعى تدل على القدرة على الشفاء من الأسقام، والنحلة والذبابة تدلاّن على القدرة الخارقة، أما الخطان المتوازيان على الذقن فهما كناية على ثنائية الخير والشر داخل روح كل اٍنسان..
وحسب الاستاذ عبد الرحيم العطري،المتخصص في علم الاجتماع،فاٍن الوشم" يتجاوز الوظيفة التجميلية اٍلى وظائف اجتماعية أخرى تعلن عن مكانة ما، أو دور ما، أو نظرة ما للكون والعالم، أو خوف من العالم اللامرئي". وبالرجوع اٍلى أشعار الملحون المندرجة في هذا السياق، نجد رأي الأستاذ عبدالرحيم العطري مفسِّرا لتلك الكثافة من الوشم التي يأمر الشاعر بتنفيذها من طرف الواشم، الذي يسمى عند جميع الشعراء ب"الحجام"، وهو رجل يزاول حِرَفا متعددة كالحلاقة والختان ، وكذا الحجامة المرتبطة بالوشم..
كثيرا ما يُتوج وصال العاشقين في شعر الملحون القديم بحضور"الحجام" الذي يستقدمه العاشق نشوة بسعادة اللقاء،فيأخذ في أمره بوشم جسد المحبوبة،متخذا منه لوحات يعبر من خلالها عن تصوراته الجمالية،ورؤيته للعالم،مختزلا كل المضامين الاٍنسانية التي يفيض بها وجدانه .. في عملية تعويضية عن فن التصوير المحرم في الثقافة الاٍسلامية،وكتخليد للحظة التجلي التي قد لا يتأتى للشاعر تحقيقها في المقبل من حياته...
من أجمل ما أُبدِع في قصائد "الحجام" اخترت لمحبي هذا الفن الراقي، قصيدة رائعة للشاعر الكبير محمد بن علي المسفيوي، صاحب قصيدة"الزردة"، تُصور حفل الوشم بحضور مجموعة من الحسناوات، تتوسطهن محبوبته،"باشة لريام" كما يسميها في القصيدة.. والطريف في الأمر أن الحجام عند دخوله ورؤيته للجميلات ينبهر بحسنهن فيغمى عليه،في مشهد أتقن الشاعر تصويره..
اٍليكم بعضا من أبيات القصيدة...

السعد وافاني يا حجام بالسرور والمرام
حين جادت ليام*بالبنات اللي زاروني ودارو لامة
حين وصلوا رسمي وقبالهم باشة لريام
الغزال امّْ حرام*نكات جمع الرقبان وساير اللوَّامة
قلت سهلا وهلا بمجيك يا الريم الَّرسام
يا صبيغة لنيـام*على وصولك حلَّت عني اليوم كرامة
بعدها رسلتني ناتيك يا الحبر النجَّام
لا تخالف الكلام*زيد قدَّامي عند الريم زين القامة

اللازمة:
يا الحجام اٍلى كنتي لبيب زيد الَّرسام
زيد نيَّل لوشام*باش تعمل في خد الريم خال وشامة

حين وصل ونظر البنات شفت من قلبو زام
بالشواق والهيام*طاح غايب يرثي تمثيل حوت بلاما
تمّْ فاق الحجام يقول*واش هاذ الزين المكمول
هلكتيني وفنيتيني،ولايشفَّك حالي..أنا في عارك فكني
ولا تتركني لصوارم الشفر نتمرمد*دويت قلت لو
وگض راسك يارجول*نوصيك صبر للموت والحيا
ذوق كما ذاقوا الناس*وتنزه في حسن العناس..
نوصيك دير الخميسة من فوق العيون بين حواجب
الغزال*دير الهلال على الوجنة الشارقة بضياها*
عنداك لايقيسوك شفار الريم كون عايق فايق..

دير عرصة زهو النظَّار*بالغصان حفيلة وشجار
دير ياسات تحير العين في علوها،وغصان الزَّان
..دير لجداول وصهارج والسقاقي ماها صافي عذيب
دير دوالي فسرير كاعرايس*دم العنقود منها يسري
في لون العتيق*لطيار على الغصان كاتسبَّح بلغاها للكريم
دير البنات على الصفرا*كايكبوا كاس الخمرة
دير البرايق من الوريق والرحيق الرايق،فكواب
من بديع البلار، وفرفري وطاووس..
حَجّْب وشامك بالعسَّة ودير ليه طلاسم*وعمل
جداول الضمياطي عن كل جيه*عمَّر بالسرياني
بيوتها*وكذلك دارة بالجلالة عمَّر تخميس
وكتب عنها دعوة السباسب بجميع قسامها
نزَّل تما أبيات من الدهروشية عن كل حرز*
يحجبوا مولاتي الباهية ويحجبوك من الحسود
ليك نعلَّم لرصاد
باش ترصد مُلوك الجن عايشين والقدام
دير رعد الهُمام*دير أويس القافي صولتو هزَّامة
دير عُكاشة بو اٍياد دير صاحب الغمام
دير أسود دمدام*دير عقيسة من فالخد ليها شامة....

*****************
شرح لبعض المفردات:

_ لامة: أو اللَّمة هي اجتماع الأحبة.
_ أم حرام: بترقيق الراء،الملتحفة بثوب أبيض.
_ الزان: نوع من الشجر.
_ العتنون: مقدم الذقن.
_ فرفري: اٍشارة اٍلى لون الاَنية الأرجواني.
_ السرياني: نسبة اٍلى السريانية.
_ دعوة السباسب: من الأدعية السحرية.
_ الدهروشية: قصيدة مشهورة متعلقة بالسحر.
_ رعد،أَويس،عكاشة،أسود،وعقيسة: من السحرة
المذكورين في سيرة ابن ذي يزن.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...