نتناول اليوم مظهرامن المظاهر التي ظلت خافتة صامتة لم تحظ بعناية الباحثين أو المؤرخين إلا في ظروف غامضة، ولم ترق إلى مستوى النشر والتوزيع إلا بصفة نادرة، ومع ذلك فهو عنوان من عناوين حضارتنا الزاهية، ومعلمة من معالم بيئتنا الراقية، تشهد على مستوى رقينا وطموحاتنا اليومية، من رقة عاطفة، ورفعة ذوق، وسمو همة، سواء تعلق ذلك باللباس، أو بالحلي، أو بالأطعمة، أو بالأشربة، أو بالغاسولات، أو بغيرها من المواضيع التي انصرفت عنها الأنظار، وانشغلت عنها الأفكار، وقلت العناية بها. ويدخل في هذا الإطار أثر من آثار المؤلفين الذين عنوا بتسجيل مرحلة من مراحل تطور البيئة المغربية في عصر من عصورها الزاهرة، فرسموا بدقة وإيجاز ما كان عليه الطبيخ المغربي الأندلسي من مستوى رفيع، وما احتوى عليه من ألوان وأطعمة وأشربة، وما شمله من مواد طبيعية وكيماوية بسيطة ومعقدة، من لحوم، وأخباز، وأثردة، وكوامخ، وأبازير، وتوابل، وأفاويه، مما يدل دلالة واضحة على منهجية قارة، وأسلوب دقيق،وآداب أكل عالية، وحسن معاملةومعاشرة)1(
.
سأحاول من خلال هذا البحث إعطاء نبذة عن حياة المؤلف، ثم عرض وتعريف لكتاب «فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان»أثبت فيه أسباب تأليف الكتاب، وبيان موضوعه وأهميته، ومنهج المؤلف فيه وأسلوبه، وأخيرا ذكر بعضالنصوص الفريدة فيالطبيخ) (فضالة الخوان (ص6.
2
واعتمدت في دراسة الكتاب على طبعة دارالغرب الإسلامي،بيروت،الطبعة الأولى سنة1984م،بتحقيق وتقديم محمد بن شقرون، وأشرف على إعداده الدكتور إحسان عباس،فأسأل الله تعالى أن ينفع بهذا المقال كاتبه والقارئ فيه، إنه ولي ذلك سبحانه.
أولا: نبذة عن حياةالأديبابن رزين التجيبي:
ينتميابنرزينالتجيبيإلى أسرة أندلسية عريقة كانت على جانب من النباهة والوجاهة، وحظ من السراوةوالنبالة، ولهذا نعته بالحسيب كل من ابن رشيدالسبتي والعبدري.
ولد المؤلفـ حسب الوادي آشيفي البرنامج)2(، والعبدري في رحلته)3(ـ بمرسية «في حدود سنة خمسوعشرين وستمائة»؛ في بدايات الربع الثاني من القرن السابع الهجري، وكانت شمس الإسلام في شرق الأندلسحينئذ تؤذن بالغروب، فدلائل التفرق والتخاذلفي عهد الطوائف الثلاثة لم تعد خافية، ونذر المد المسيحي أصبحت تتوالى يوما بعد يوم، ومخايل الاستيلاء على هذه البلاد أمست تتضح عاما إثر عام، ولهذا فإن الزمن الذي أتى فيه أبو الحسن ابن رزين كان زمن فتن ومحن، وقد اقترنت سنوات صباه بضياع بلدان الأندلس، وجلاء أهلها عنها، في ظروف صعبة، كما أنه فجعفي صغره بوفاة والده، وشاءت الأقدار أن يتولى رعايته وتربيته وتعليمه ولد مولى جده، وابن عمتهفي نفس الوقت، ونعني بهأبا القاسم أحمد بن أبي الحسن نبيل)4)، وقد ذكره ابن رزين في معرض سرد شيوخهمن ملء العيبة فقال فيه:
«القاضي العدل أبو القاسم أحمد بن أبي الحسن نبيل مولى جدي للأب أبي القاسم بن محمد التجيبي رحمهما الله وهو ابن عمتي الذي تولاني بعد أبي رحمهما اللهصغيرا، واختصني اختصاص بنوة أوجب من حقها كبيرا، فارتويت سجله، ورويتفضل حديثه وحديث فضله»)5(
)2 ((ص65.))3 ((ص252.))
4
(ابن رزين التجيبي حياته وآثاره، دراسة وتحقيق محمد بنشريفة (ص14.)
)5
(رحلةابن رشيد نقلا عن ابن رزين التجيبي حياته وآثاره (ص15.)
3
ونجد في كتاب صلة الصلة لابن الزبير)6( والذيل والتكملة لابن عبد الملك)7( أن هذا القاضي الفاضل عاش في مرسية وولي القضاء في عدد من مدن شرق الأندلس، منها: بلده مرسية، ودانية، ولقنت، قبل الجلاء الذي كان بعد سنة640هـ، ثم انتقل عقب هذا التاريخ إلى سبتة مهاجرا مع من هاجر إليها من أهل الأندلس، وأصبح فيها قاضيا «واستمرت ولايته على القضاء بها محمود السيرة، مرضيالطريقة، عدلا في
أحكامه إلى أن توفي عند طلوع الشمس من يوم الخميس أول يوم من ربيع الأول عام تسعة وستين وستمائة»)8(
.
ونستطيع من خلال ذلك أن نعرف ـ إلى حد ما ـ أين وكيف قضى ابن رزين فترة صباه وشبابه، لأنه كان مرتبطا بالشيخ المذكور، فلابدأنه صحبه معه أثناء قضائه في المدن الأندلسية المذكورة. ومعأنه ترك وطنه قبل أن يتجاوز العشرين بكثير فإن ما وعته ذاكرته وشاهدته عينه من أحوال بلده وأوصافه وعوائده يبدو شيء منه في كتابه«فضالة الخوان»)9(.
أما المرحلة الثانية في حياة ابن رزين فهي التي قضاها في سبتة بعد نزوحه إليها من الأندلس، وكانت هذه المدينة المغربية ملجأ لعدد كبير من المهاجرين الأندلسيين الذين غلبوا على بلدانهم، ولاسيما من أهل شرق الأندلس، إذ كان على رأس سبتة وال من أصل بلنسيكان في خدمة الموحدين، وهو أبو علي الحسن بن أحمد ابن خلاص، ولذلك أصبحت سبتة في أواخر عهد هذا الرئيس البلنسي مقصدا لبعض
أعلام شرق الأندلس، مثل: أبي عبد الله محمد ابن الجنان، وصهره أبي القاسم ابن نبيل ولى أمر صاحبنا ابن رزين، وأبي المطرف أحمد ابن عميرة،وابن الرميمي الذي كان وزيرا لابن هود الذي أوى إلى سبتة بأهله وحاشيته وأنزله ابن خلاص في بساتين بنيونش)10(.
ليست لدينا أخبارمفصلة ولا تواريخ محددة حول هذه المرحلة الثانية من مراحل حياة ابن رزين، فلا نعرف متى كانت هجرته إلى سبتة ولا تاريخ وصوله إليها،)6( أشار إلى هذه الترجمة ابن عبد الملك، وهي في القسم المفقود من صلة الصلة.)7 ((1/553ـ554.))8 (الذيل والتكملة (1/553ـ554.) )9 (ابن رزين التجيبي حياته وآثاره (ص51ـ16.) )10( أبو المطرف أحمد ابن عميرةالمخزومي (ص137)، وابن رزين التجيبيحياته وآثاره(ص18.)
فالنصوص التي بين أيدينا في ذلك عامة ومجملة؛ يقول ابن رشيد متحدثا عن خروج ابن رزين من بلده مرسية ولجوئه إلى سبتة«وانتقل منها ـ فيما أراه ـ قبل الدجن القديم بمرسية وكان هذا الدجن في شوال عام أربعين وستمائة وسكن سبتة مدة مع ابن عمته القاضي العدل أبي القاسم أحمد بن أبي الحسن نبيل مولى جد الشيخ أبي الحسن»)11(
.
وينبغي أن يكون الانتقال المذكور في حدود سنة645هـ، إذ في هذا التاريخ كان ابن رزين موجودا في سبتة، ونستفيد ذلك من خبر لقائه بابن عميرة المخزومي بسبتة، ونحن نعرف أن أبا المطرفكان بهذه المدينة في سنة646هـ.
لا نعرف على سبيل التحديد كم مكث ابن رزين في سبتة، وكل ما لدينا في ذلك ما أخبرنا به ابن رشيد أن ابن رزين أقام مدة مع ابن عمته القاضي أبي القاسم أحمد بن نبيل، ويزيد قائلا:«ثم انتقل إلى بجاية عام ثمانية أو تسعة وأربعين وستمائة»)12(
.
ونفهم من هذا أنه اضطر إلى الانفصال عن مربيه ابن نبيل الذي آثر المقام في سبتة وولي قضاءها في ظل العزفيين بعد سنة661هـ)13(، واستمر على ذلك حتى وفاته سنة669هـ)14(
.
ولسنا ندري سبب انتقال ابن رزين من سبتة وانفصاله عن مربيه أبي القاسم ابن نبيل الذي أصبح قاضيا فيسبتة، ولا نظن إلا أنه فارقه راضيا مرضيا، فهر يذكره بكل خير ويترحم عليه، ويعترف بما له عليه من حقوق، ونحسب أن الرغبة في طلب العلم والاستزادة منه والتعلق بصحبة شيوخه، هي سبب انتقالهمن سبتة،ولاسيما أن الشيوخ الذين كان يرغب في صحبتهم انتقلوا إلى إفريقية بعد أن أقاموا فترة في سبتة، ومنهم ابن الجنان صهر مربيه، وابن عمته ابن نبيل، وابن عميرة، وابن الأبار.
ومهما يكن من أمر فإننا نجده في بجاية سنة655هـ، وهذه المدينة كانت على عهد الحفصيين تأتي في الرتبة الثانية بعد تونس عاصمة مملكتهم. ولقد أقبل ابن رزين )11 (رحلة ابن رشيد نقلا عن ابن رزين التجيبي حياته وآثاره (ص18.) )12 (نفسه.)13
(الذيل والتكملة (1/554)، ولعلذه ولذذي قضذاء سذذبتة بعذد ابذذن المحلذي الذذذي دام علذى قضذذائها حتذى وفاتذذه فذذي
التاريخ المذكور.
)14 (الذيلوالتكملة (1/554.)
5
بمجرد حلوله بهذه المدينة على ما كان بصددهمن السماع والرواية والدراسة، وساعده على ذلك وجود عدد من أعداد العلماء الذي أشرنا إليهم وفي طليعتهم ابن الأبار الذي كان منفيا يومئذ في بجاية منصرفا إلى التصنيف والتدريس)15(
.
أما الرحلة الرابعة والأخيرة فهي التي استقر بها في تونس وهي تمتدمن سنة
6
هـ إلى وفاته سنة692هـ، وهذه هي مرحلةنضجه العلمي وخصبه الفكري، وفي هذه المرحلة تزوج ـ فيما نحسب ـ وفيها تقلد بعض الشهادات المخزنية، وخلالها أيضا ألف مجموعة من المؤلفات القيمة التي لم يصلنامنها ـ فيما يبدو ـ إلا مؤلفه في الطبيخ، ومع ذلك فقد استمر على نهمه العلمي في نشدان الروايات، واستدعاء الإجازات)16(
.
وله تواليف، منها:«نظم الفريد في منتخب الأدب الطارف والتليد»، و«جنى
الزهر وسنا الزهر»، و«الأخبار التونسية في الأحبار الفرنسية»، و«الدرر الثمينة
في خبر القل وفتح قسنطينة»)17(
.
وقد وصف ابن رشيد الحال التي وجده عليها سنة685هـ ـ686هـ فقد زاره في
بيته وسجل ما شاهده من رقة حاله فقال:«دخلت منزله يوما عائدا فما رأيت فيه ما
له قيمة، ولا ما يستر أهله عن أعين النظار إلا سترا دريسا كنسج العنكبوت المهلهل،
نفعه الله بذلك، وكان مع ذلك متحملا متجملا»كما ذكر أنه«كان مقدورا عليه صابرا
على الفقر المدقع مع سراوة ونزاهة وسخاء نفس»، وأنه«لم يحصل من الدنيا على
ما يقيم به أوده، أو يعول به أهله وولده».وهذه حال كما نرى من ابتلي بالخمول بعد
العز، والفقر بعد الغنى، من جراء ذلك الجلاء الذي نهب فيه المال والمتاع، وذهبت
الذخائر والأعلاق.
كانت وفاة ابن رزين حسب ماأرخهالوادي آشي)18(
وابن رشيد فيعصر يوم
الجمعة الثاني عشر لشعبان عام اثنين وتسعين وستمائةبحضرة تونس، رحمه الله
تعالىرحمة واسعة.
ثانيا: التعريف بكتاب«فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان:»
)15
(ابن رزين التجيبي حياته وآثاره (ص22ـ23.)
)16
(نفسه(ص28.)
)17
(برنامج الوادي آش(ص65.)
)18
(برنامج الوادي آشي (ص65.)
6
يعتبر كتاب«فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان»الذي لم يشر إليه من
تحدثوا عن ابن رزينفيتآليفه، ومن الغريبأنه الكتاب الوحيد الذي وصل إلينا
منها، ولعل السبب في ذلك موضوعه الطريف ألاوهو موضوع الغذاء الذي يهم
عامةالناس وخاصتهم في حياتهم اليومية؛ إذ به قوام أبدانهم، وعليه مدار معيشتهم.
وفي ذلك يقول الدكتور محمد بنشريفة:«إن التفاف الفقيه الأديب الراوية إلى هذا
الموضوع يدل على تمتعه بحس حضاري رفيع، وذوق مدني كبير، وحذق بيتي
عجيب، وهي صفات نلحظها من بداية الكتاب إلى نهايته، فمن ذلك براعة الاستهلال
في ديباجته)19(
إذ يقول:«الحمد لله الذي فضل نوع الإنسان على جميع الخلق،
وخصه بمزية﴿قلمنحرمزينةاللهالتيأخرجلعبادهوالطيِّباتمنالرِّزق﴾)20(
،
والذي وسع عباده إحسانا، وأفاض عليهم نعمهألوانا، وباين بين شهواتهم في المطاعم
اختراعا وافتنانا، وأباح لهم من بركة﴿كلوامنطيِّباتمارزقناكم﴾)21(
إنعاما
وامتنانا»)22(
.
ويقول ابن رزين التجيبي في الباعث على إقباله على الموضوع واهتمامه بالتأليف
فيه:«إن مما يهتزإليه الكريم، وتتفاوت فيه من ذوي الأقدار همم لا تبرح عنه ولا
تريم، الاهتمام بالأغذية التي هي قوام صحة الأبدان، وأول الأسباب في اعتدال مزاج
الإحكام من المجربة الصنعة تقتضيه ما على طبخها في والتأنق الإنسان،
والإتقان»)23(
.
ويذكر فيالفرق بين تأليفه وتآليف غيرهبقوله:«وقد رأيت كثيرا من الناس ألفوا
في الطبخ كتبا اقتصروا فيها على المشهور، وأغفلوا التنبيه على كثير من الأمور،
وللمشارقة في ذلك الكثير مما تمجه الآذان، إذ يأنفه أو يكاد يستقذره الإنسان،وهي
عندهم من أرفع المطاعم، ولعل هذا بحسب مائهم وهوائهم، وطبائعأغراضهم
وأهوائهم»)24(
.
)19
(ابن رزين التجيبي حياته وآثاره(ص152.)
)20
(سورة الأعراف الآية32.
)21
(سورة البقرة الآية172.
)22
(فضالة الخوان (ص29.)
)23
(نفسه (ص29.)
)24
(نفسه (ص30.)
7
ثم يشير إلى خصوصية الأندلسيين، وتطلعهم إلى التفوق على غيرهم، وتمسكهم
بعوائدهم بالرغم من مجاورتهم للنصارى، فيقول:«وإن تعصبت للصنف الأندلسي
فأقول:إنهم في هذا الباب وأشباهه أهل الحميات، وذوو التقدم وإن تأخرت أعصارهم
في اختراع الطيبات، وهذا على اقتصارهم، ومجاورتهم في أماكنهم وديارهم، لأعداء
الإسلام على تداني نارهم»)25(
.
كما أفصح ـ رحمه الله ـ عن سبب تأليفه بقوله:«وقد ألفت كتابي هذا من أنواع
الطبخ، واستوفيت فيه ما استحسنت أو اخترعت من كثير من الألوان، أتيت فيه من
الأندلسيات بكثير، واقتصرت من المشرقيات على المنتخب اليسير، وأضفت إليها من
المعلوم المشهور كل ما يدخل في أصناف الطبخ أو ما يتعلق به على الخصوص
والعموم: كالكوامخ والخلول، وغير ذلك مما أودعته في كثير من الفصول ...، وقد
سميته بـ«فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان»)26(
.
ويزيد الدكتور محمد بنشريفة أنه«قد يكون ثمة أكثر من باعث على جمعه، فربما
ألفه بطلب من بعض بلدييه،أو برسم أحد مخدوميه في تونس، وقد يكون انبعث إلى
ومخالفة الضياع خشية والمغرب الأندلس تراث على الحفاظ بدافع تصنيفه
النسيان»)27(
.
ويتشكلالكتابمن توطئة تقليدية مشِّوقة ومِّرغبة، أوجزت بدقة وعناية،بعدها
ساق رحمه الله خطته في كتابه قائلا:«وقسمته إلى اثني عشر قسما:القسم الأول:في
الأخبازوالثرائد والأحساء وطعام الخبز وغير ذلك،والقسم الثاني:في أصناف
لحوم ذوات الأربع،والقسم الثالث:في لحوم الطير،والقسمالرابع:في اللون
المسمى بالصنهاجي وفي طبخ اللسان والكرش،والقسم الخامس:في الحيتان
والبيض،والقسم السادس:في الألبان وكل ما يكون منها،والقسم السابع:في البقول
وما ينسب إليها،والقسم الثامن:في أنواع الحبوب من الفول والحمص وغيرهما،
والقسم التاسع:في المعسلات وأنواع الحلوى،والقسم العاشر:في الكوامخ وما
ينضاف إليها من عمل الخلول وأنواع المري واستخراج الأدهان وإصلاح الزيت عند
)25
(نفسه (ص30ـ31.)
)26
(نفسه (ص31ـ32.)
)27
(ابن رزين التجيبي حياته وآثاره (ص38ـ39.)
8
فساده وإصلاح الأطعمة،والقسم الحادي عشر:في طبخ الجراد والقمرون،والقسم
الثانيعشر:في الغاسولات»)28(
.
وأمابنيته فهي محكمة التخطيط، دقيقة الترتيب، واضحة الأقسام والفصول،
متماسكة الأجزاء والعناصر، لا تداخل بينها ولا تنافر، عني المؤلف بصياغتها في
قالب يتفق والأهداف التي قصدها. فيقدم ألوان الأطعمة بأسلوب سهل لا يخلو من
مسحة أدبية، ويعتبر وصف هذه الألوان ثروة لغوية كبيرة، وفيها نسبة ملحوظة من
الأندلسية والمفردات المحلية، والأسماء الحضارية، والألفاظ المولدة الكلمات
والمغربية، فهو يختصر في بعض الأحيان ويطنب في أحيان أخرى إلى درجة
التكرار، رغم كونه يتحاشى الاجترار، ويكتفي بالإحالة إلى الفقرات أو الأقسام التي
أوردفيها اللون الموصوف، ومع ذلك فقد وقع هذا التكرار المقصود الذي نجد مثلا
منه في الفقرات الخاصة بالتفايا البيضاء والتفايا الخضراء واللوزية، والقسم الخاص
بالثرائد،الثريدة المسماة بشاشية ابن الربيع، والثريدة المصنوعة بالدجاجة، فاللونان
متشابهان نصا وحرفا إذا استثنينا العنوان،وغير ذلك)29(
.
ومن الملاحظ أيضا أننا نجد أطعمة معقدة غنية تحتاج إلى وقت طويل للتهيئة
والطبخ، إلى جانب أطعمة أخرى تمتاز ببساطتها وسهولة تحضيرها،نذكرمنها:
«الإبراهيمية»،و«الجوذابة»،و«رأس ميمون»،وخصوصا اللحوم المشوية أو
المحشوة الحيواناتكـ:«بالدجاج المحشو الكبش»،و«الحمام»،و«الفراخ»،
و«العصافير»،و«الزرازير»...الخ.
إلا أن أكثر هذه الألوان تعقيدا وأطولها وقتا وأشدها خطورة وأصعبها تحضيرا هو
المري النقيع أو المري المطبوخ، وكلاهما يتطلب مواد غنية،ومجهودات كثيرة،
وحرصا دقيقا، وعناية فائقةلإنجاحه،وهي أصعب عملية أوردها المؤلف في كتابه
إن لم تكن مستحيلة.وأغربالأطعمة في نظرنا اليوم هي تلك التي أشارإليها
منها: الخاص بالحيتان، القسم في المؤلف«الحوت بالمصطكي»و ،«الحوت
بالجوز»، و«الحوت بالعسل»...إلخ.
كما أنه استعرضمجموعة منالأواني الفخاريةوالنحاسية والقصديرية والذهبية
والزجاجية وغيرها،ذاكرا محاسنها ومساوئها، ومبينا ظروف صلاحيتها، وكأنه
)28
(نفسه (ص32ـ35.)
)29
(نفسه (ص17.)
9
طبيب يشخص الداء فيذكر العلاج،«وأقولإن أول مايجب أنيتجنب محاولة الطبخ
في المواضع الوخيمة الذميمة، وأن لا يطبخ في قدر الفخار مرتين، وقد حض بعض
الأطباء على ذلك وذكر أن الطبخ في أواني الذهب والفضة لو أمكن وأباحه الشرع
أفضل، وذكر أواني الفخار والحنتم، ونهى أن لا يطبخ في آنية الفخار غير مرة
واحدة وفي أواني الحنتم خمسا، ونهى عن الطبخ في أواني النحاس لرداءة جوهرها،
واستحب الطبخ في آنية الحديد إذا تعوهدت بالغسل والتنظيف والتحفظ من صدئها،
وذكر من خواصه أنه إذا أدام الإنسان الطبخ فيها أفادت فوائد جمة أقلها تقوية
الأعضاء على جميع الأفعال، وذكر أنه لابأس بأواني القصديرقدورا وصحافا،
ونهى أن تغطى الطعام بالصحاف بعد طبخه إلا بما يخرج منه البخار مثل المنخل،
فإنهم زعموا أن تلك الأبخرة إذا ترددت ولم تخرج أحدثت في الأطعمة قوة سمية
وخاصة السمك وكل ما يؤكل مشويا، وكذلك يجب تغطية القدور وغيرها عند الطبخ
فيها بأغطية مثقوبة ثقبا أدق ما يمكن. وأفضل ما يقلى فيه أواني الفضة والذهب
وأواني القصدير والرصاص بعد، ولا خير في أواني النحاس فإن كل ما يقلى فيها
رديء وخاصة ما هو كثير الدهنة مثل المرقاس والقلايا وأشباهها فإنها في طبعها من
الحدة والانحراف أمر ليس باليسير فكيف إذا نالها فساد من مزاج النحاس»)30(
.
وذلك ليس بغريب ما دمنا نعرف أن موضوع التغذية كان دائما مرتبطا بموضوع
الصحة البدنية والنفسية عند الأطباء وغيرهم حتى لا يكادون يذكرون اسم فاكهة أو
بقلة إلا ومعها مزاجها مع ذكر ضررها ونفعها.
فغاية المؤلف إذن هي تقديم نصائح طبية نفسية في موضوع شديد الحساسية
وعظيم الخطورة ما دامت الوقاية أحسن من العلاج.
ساهم التجيبي بتقديم الإرشادات والتحذيرات الطبية في تناول أصناف الأطعمة
ويرى أنه يجب تقديم كل ما هو غليظ وثقيل الهضم بتناوله أولا ليكون في قعر
المعدة؛ لأن قعرها أقوى على الهضم من أعلاها،وكذلكالألبان،والثرائد،والجبن،
والهرايس،والأطرية،ولحوم البقر والغنم،والقديد،والحوت،والحبوبالمقلوة،
وغيرها من أجل هضمه بالمعدة جيدا، ثم تقديم أطباق البقليات لتلين البطن، وكل أكلة
مملحة يجب أن تتوسط،وتؤخر الحلوى،والفواكه،والمشوياتإذا نضجت، ويذكر
)30
(نفسه (ص31.)
10
إعداد: حسناء بوتوادي
باحثة بوحدة علم وعمران
.
سأحاول من خلال هذا البحث إعطاء نبذة عن حياة المؤلف، ثم عرض وتعريف لكتاب «فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان»أثبت فيه أسباب تأليف الكتاب، وبيان موضوعه وأهميته، ومنهج المؤلف فيه وأسلوبه، وأخيرا ذكر بعضالنصوص الفريدة فيالطبيخ) (فضالة الخوان (ص6.
2
واعتمدت في دراسة الكتاب على طبعة دارالغرب الإسلامي،بيروت،الطبعة الأولى سنة1984م،بتحقيق وتقديم محمد بن شقرون، وأشرف على إعداده الدكتور إحسان عباس،فأسأل الله تعالى أن ينفع بهذا المقال كاتبه والقارئ فيه، إنه ولي ذلك سبحانه.
أولا: نبذة عن حياةالأديبابن رزين التجيبي:
ينتميابنرزينالتجيبيإلى أسرة أندلسية عريقة كانت على جانب من النباهة والوجاهة، وحظ من السراوةوالنبالة، ولهذا نعته بالحسيب كل من ابن رشيدالسبتي والعبدري.
ولد المؤلفـ حسب الوادي آشيفي البرنامج)2(، والعبدري في رحلته)3(ـ بمرسية «في حدود سنة خمسوعشرين وستمائة»؛ في بدايات الربع الثاني من القرن السابع الهجري، وكانت شمس الإسلام في شرق الأندلسحينئذ تؤذن بالغروب، فدلائل التفرق والتخاذلفي عهد الطوائف الثلاثة لم تعد خافية، ونذر المد المسيحي أصبحت تتوالى يوما بعد يوم، ومخايل الاستيلاء على هذه البلاد أمست تتضح عاما إثر عام، ولهذا فإن الزمن الذي أتى فيه أبو الحسن ابن رزين كان زمن فتن ومحن، وقد اقترنت سنوات صباه بضياع بلدان الأندلس، وجلاء أهلها عنها، في ظروف صعبة، كما أنه فجعفي صغره بوفاة والده، وشاءت الأقدار أن يتولى رعايته وتربيته وتعليمه ولد مولى جده، وابن عمتهفي نفس الوقت، ونعني بهأبا القاسم أحمد بن أبي الحسن نبيل)4)، وقد ذكره ابن رزين في معرض سرد شيوخهمن ملء العيبة فقال فيه:
«القاضي العدل أبو القاسم أحمد بن أبي الحسن نبيل مولى جدي للأب أبي القاسم بن محمد التجيبي رحمهما الله وهو ابن عمتي الذي تولاني بعد أبي رحمهما اللهصغيرا، واختصني اختصاص بنوة أوجب من حقها كبيرا، فارتويت سجله، ورويتفضل حديثه وحديث فضله»)5(
)2 ((ص65.))3 ((ص252.))
4
(ابن رزين التجيبي حياته وآثاره، دراسة وتحقيق محمد بنشريفة (ص14.)
)5
(رحلةابن رشيد نقلا عن ابن رزين التجيبي حياته وآثاره (ص15.)
3
ونجد في كتاب صلة الصلة لابن الزبير)6( والذيل والتكملة لابن عبد الملك)7( أن هذا القاضي الفاضل عاش في مرسية وولي القضاء في عدد من مدن شرق الأندلس، منها: بلده مرسية، ودانية، ولقنت، قبل الجلاء الذي كان بعد سنة640هـ، ثم انتقل عقب هذا التاريخ إلى سبتة مهاجرا مع من هاجر إليها من أهل الأندلس، وأصبح فيها قاضيا «واستمرت ولايته على القضاء بها محمود السيرة، مرضيالطريقة، عدلا في
أحكامه إلى أن توفي عند طلوع الشمس من يوم الخميس أول يوم من ربيع الأول عام تسعة وستين وستمائة»)8(
.
ونستطيع من خلال ذلك أن نعرف ـ إلى حد ما ـ أين وكيف قضى ابن رزين فترة صباه وشبابه، لأنه كان مرتبطا بالشيخ المذكور، فلابدأنه صحبه معه أثناء قضائه في المدن الأندلسية المذكورة. ومعأنه ترك وطنه قبل أن يتجاوز العشرين بكثير فإن ما وعته ذاكرته وشاهدته عينه من أحوال بلده وأوصافه وعوائده يبدو شيء منه في كتابه«فضالة الخوان»)9(.
أما المرحلة الثانية في حياة ابن رزين فهي التي قضاها في سبتة بعد نزوحه إليها من الأندلس، وكانت هذه المدينة المغربية ملجأ لعدد كبير من المهاجرين الأندلسيين الذين غلبوا على بلدانهم، ولاسيما من أهل شرق الأندلس، إذ كان على رأس سبتة وال من أصل بلنسيكان في خدمة الموحدين، وهو أبو علي الحسن بن أحمد ابن خلاص، ولذلك أصبحت سبتة في أواخر عهد هذا الرئيس البلنسي مقصدا لبعض
أعلام شرق الأندلس، مثل: أبي عبد الله محمد ابن الجنان، وصهره أبي القاسم ابن نبيل ولى أمر صاحبنا ابن رزين، وأبي المطرف أحمد ابن عميرة،وابن الرميمي الذي كان وزيرا لابن هود الذي أوى إلى سبتة بأهله وحاشيته وأنزله ابن خلاص في بساتين بنيونش)10(.
ليست لدينا أخبارمفصلة ولا تواريخ محددة حول هذه المرحلة الثانية من مراحل حياة ابن رزين، فلا نعرف متى كانت هجرته إلى سبتة ولا تاريخ وصوله إليها،)6( أشار إلى هذه الترجمة ابن عبد الملك، وهي في القسم المفقود من صلة الصلة.)7 ((1/553ـ554.))8 (الذيل والتكملة (1/553ـ554.) )9 (ابن رزين التجيبي حياته وآثاره (ص51ـ16.) )10( أبو المطرف أحمد ابن عميرةالمخزومي (ص137)، وابن رزين التجيبيحياته وآثاره(ص18.)
فالنصوص التي بين أيدينا في ذلك عامة ومجملة؛ يقول ابن رشيد متحدثا عن خروج ابن رزين من بلده مرسية ولجوئه إلى سبتة«وانتقل منها ـ فيما أراه ـ قبل الدجن القديم بمرسية وكان هذا الدجن في شوال عام أربعين وستمائة وسكن سبتة مدة مع ابن عمته القاضي العدل أبي القاسم أحمد بن أبي الحسن نبيل مولى جد الشيخ أبي الحسن»)11(
.
وينبغي أن يكون الانتقال المذكور في حدود سنة645هـ، إذ في هذا التاريخ كان ابن رزين موجودا في سبتة، ونستفيد ذلك من خبر لقائه بابن عميرة المخزومي بسبتة، ونحن نعرف أن أبا المطرفكان بهذه المدينة في سنة646هـ.
لا نعرف على سبيل التحديد كم مكث ابن رزين في سبتة، وكل ما لدينا في ذلك ما أخبرنا به ابن رشيد أن ابن رزين أقام مدة مع ابن عمته القاضي أبي القاسم أحمد بن نبيل، ويزيد قائلا:«ثم انتقل إلى بجاية عام ثمانية أو تسعة وأربعين وستمائة»)12(
.
ونفهم من هذا أنه اضطر إلى الانفصال عن مربيه ابن نبيل الذي آثر المقام في سبتة وولي قضاءها في ظل العزفيين بعد سنة661هـ)13(، واستمر على ذلك حتى وفاته سنة669هـ)14(
.
ولسنا ندري سبب انتقال ابن رزين من سبتة وانفصاله عن مربيه أبي القاسم ابن نبيل الذي أصبح قاضيا فيسبتة، ولا نظن إلا أنه فارقه راضيا مرضيا، فهر يذكره بكل خير ويترحم عليه، ويعترف بما له عليه من حقوق، ونحسب أن الرغبة في طلب العلم والاستزادة منه والتعلق بصحبة شيوخه، هي سبب انتقالهمن سبتة،ولاسيما أن الشيوخ الذين كان يرغب في صحبتهم انتقلوا إلى إفريقية بعد أن أقاموا فترة في سبتة، ومنهم ابن الجنان صهر مربيه، وابن عمته ابن نبيل، وابن عميرة، وابن الأبار.
ومهما يكن من أمر فإننا نجده في بجاية سنة655هـ، وهذه المدينة كانت على عهد الحفصيين تأتي في الرتبة الثانية بعد تونس عاصمة مملكتهم. ولقد أقبل ابن رزين )11 (رحلة ابن رشيد نقلا عن ابن رزين التجيبي حياته وآثاره (ص18.) )12 (نفسه.)13
(الذيل والتكملة (1/554)، ولعلذه ولذذي قضذاء سذذبتة بعذد ابذذن المحلذي الذذذي دام علذى قضذذائها حتذى وفاتذذه فذذي
التاريخ المذكور.
)14 (الذيلوالتكملة (1/554.)
5
بمجرد حلوله بهذه المدينة على ما كان بصددهمن السماع والرواية والدراسة، وساعده على ذلك وجود عدد من أعداد العلماء الذي أشرنا إليهم وفي طليعتهم ابن الأبار الذي كان منفيا يومئذ في بجاية منصرفا إلى التصنيف والتدريس)15(
.
أما الرحلة الرابعة والأخيرة فهي التي استقر بها في تونس وهي تمتدمن سنة
6
هـ إلى وفاته سنة692هـ، وهذه هي مرحلةنضجه العلمي وخصبه الفكري، وفي هذه المرحلة تزوج ـ فيما نحسب ـ وفيها تقلد بعض الشهادات المخزنية، وخلالها أيضا ألف مجموعة من المؤلفات القيمة التي لم يصلنامنها ـ فيما يبدو ـ إلا مؤلفه في الطبيخ، ومع ذلك فقد استمر على نهمه العلمي في نشدان الروايات، واستدعاء الإجازات)16(
.
وله تواليف، منها:«نظم الفريد في منتخب الأدب الطارف والتليد»، و«جنى
الزهر وسنا الزهر»، و«الأخبار التونسية في الأحبار الفرنسية»، و«الدرر الثمينة
في خبر القل وفتح قسنطينة»)17(
.
وقد وصف ابن رشيد الحال التي وجده عليها سنة685هـ ـ686هـ فقد زاره في
بيته وسجل ما شاهده من رقة حاله فقال:«دخلت منزله يوما عائدا فما رأيت فيه ما
له قيمة، ولا ما يستر أهله عن أعين النظار إلا سترا دريسا كنسج العنكبوت المهلهل،
نفعه الله بذلك، وكان مع ذلك متحملا متجملا»كما ذكر أنه«كان مقدورا عليه صابرا
على الفقر المدقع مع سراوة ونزاهة وسخاء نفس»، وأنه«لم يحصل من الدنيا على
ما يقيم به أوده، أو يعول به أهله وولده».وهذه حال كما نرى من ابتلي بالخمول بعد
العز، والفقر بعد الغنى، من جراء ذلك الجلاء الذي نهب فيه المال والمتاع، وذهبت
الذخائر والأعلاق.
كانت وفاة ابن رزين حسب ماأرخهالوادي آشي)18(
وابن رشيد فيعصر يوم
الجمعة الثاني عشر لشعبان عام اثنين وتسعين وستمائةبحضرة تونس، رحمه الله
تعالىرحمة واسعة.
ثانيا: التعريف بكتاب«فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان:»
)15
(ابن رزين التجيبي حياته وآثاره (ص22ـ23.)
)16
(نفسه(ص28.)
)17
(برنامج الوادي آش(ص65.)
)18
(برنامج الوادي آشي (ص65.)
6
يعتبر كتاب«فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان»الذي لم يشر إليه من
تحدثوا عن ابن رزينفيتآليفه، ومن الغريبأنه الكتاب الوحيد الذي وصل إلينا
منها، ولعل السبب في ذلك موضوعه الطريف ألاوهو موضوع الغذاء الذي يهم
عامةالناس وخاصتهم في حياتهم اليومية؛ إذ به قوام أبدانهم، وعليه مدار معيشتهم.
وفي ذلك يقول الدكتور محمد بنشريفة:«إن التفاف الفقيه الأديب الراوية إلى هذا
الموضوع يدل على تمتعه بحس حضاري رفيع، وذوق مدني كبير، وحذق بيتي
عجيب، وهي صفات نلحظها من بداية الكتاب إلى نهايته، فمن ذلك براعة الاستهلال
في ديباجته)19(
إذ يقول:«الحمد لله الذي فضل نوع الإنسان على جميع الخلق،
وخصه بمزية﴿قلمنحرمزينةاللهالتيأخرجلعبادهوالطيِّباتمنالرِّزق﴾)20(
،
والذي وسع عباده إحسانا، وأفاض عليهم نعمهألوانا، وباين بين شهواتهم في المطاعم
اختراعا وافتنانا، وأباح لهم من بركة﴿كلوامنطيِّباتمارزقناكم﴾)21(
إنعاما
وامتنانا»)22(
.
ويقول ابن رزين التجيبي في الباعث على إقباله على الموضوع واهتمامه بالتأليف
فيه:«إن مما يهتزإليه الكريم، وتتفاوت فيه من ذوي الأقدار همم لا تبرح عنه ولا
تريم، الاهتمام بالأغذية التي هي قوام صحة الأبدان، وأول الأسباب في اعتدال مزاج
الإحكام من المجربة الصنعة تقتضيه ما على طبخها في والتأنق الإنسان،
والإتقان»)23(
.
ويذكر فيالفرق بين تأليفه وتآليف غيرهبقوله:«وقد رأيت كثيرا من الناس ألفوا
في الطبخ كتبا اقتصروا فيها على المشهور، وأغفلوا التنبيه على كثير من الأمور،
وللمشارقة في ذلك الكثير مما تمجه الآذان، إذ يأنفه أو يكاد يستقذره الإنسان،وهي
عندهم من أرفع المطاعم، ولعل هذا بحسب مائهم وهوائهم، وطبائعأغراضهم
وأهوائهم»)24(
.
)19
(ابن رزين التجيبي حياته وآثاره(ص152.)
)20
(سورة الأعراف الآية32.
)21
(سورة البقرة الآية172.
)22
(فضالة الخوان (ص29.)
)23
(نفسه (ص29.)
)24
(نفسه (ص30.)
7
ثم يشير إلى خصوصية الأندلسيين، وتطلعهم إلى التفوق على غيرهم، وتمسكهم
بعوائدهم بالرغم من مجاورتهم للنصارى، فيقول:«وإن تعصبت للصنف الأندلسي
فأقول:إنهم في هذا الباب وأشباهه أهل الحميات، وذوو التقدم وإن تأخرت أعصارهم
في اختراع الطيبات، وهذا على اقتصارهم، ومجاورتهم في أماكنهم وديارهم، لأعداء
الإسلام على تداني نارهم»)25(
.
كما أفصح ـ رحمه الله ـ عن سبب تأليفه بقوله:«وقد ألفت كتابي هذا من أنواع
الطبخ، واستوفيت فيه ما استحسنت أو اخترعت من كثير من الألوان، أتيت فيه من
الأندلسيات بكثير، واقتصرت من المشرقيات على المنتخب اليسير، وأضفت إليها من
المعلوم المشهور كل ما يدخل في أصناف الطبخ أو ما يتعلق به على الخصوص
والعموم: كالكوامخ والخلول، وغير ذلك مما أودعته في كثير من الفصول ...، وقد
سميته بـ«فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان»)26(
.
ويزيد الدكتور محمد بنشريفة أنه«قد يكون ثمة أكثر من باعث على جمعه، فربما
ألفه بطلب من بعض بلدييه،أو برسم أحد مخدوميه في تونس، وقد يكون انبعث إلى
ومخالفة الضياع خشية والمغرب الأندلس تراث على الحفاظ بدافع تصنيفه
النسيان»)27(
.
ويتشكلالكتابمن توطئة تقليدية مشِّوقة ومِّرغبة، أوجزت بدقة وعناية،بعدها
ساق رحمه الله خطته في كتابه قائلا:«وقسمته إلى اثني عشر قسما:القسم الأول:في
الأخبازوالثرائد والأحساء وطعام الخبز وغير ذلك،والقسم الثاني:في أصناف
لحوم ذوات الأربع،والقسم الثالث:في لحوم الطير،والقسمالرابع:في اللون
المسمى بالصنهاجي وفي طبخ اللسان والكرش،والقسم الخامس:في الحيتان
والبيض،والقسم السادس:في الألبان وكل ما يكون منها،والقسم السابع:في البقول
وما ينسب إليها،والقسم الثامن:في أنواع الحبوب من الفول والحمص وغيرهما،
والقسم التاسع:في المعسلات وأنواع الحلوى،والقسم العاشر:في الكوامخ وما
ينضاف إليها من عمل الخلول وأنواع المري واستخراج الأدهان وإصلاح الزيت عند
)25
(نفسه (ص30ـ31.)
)26
(نفسه (ص31ـ32.)
)27
(ابن رزين التجيبي حياته وآثاره (ص38ـ39.)
8
فساده وإصلاح الأطعمة،والقسم الحادي عشر:في طبخ الجراد والقمرون،والقسم
الثانيعشر:في الغاسولات»)28(
.
وأمابنيته فهي محكمة التخطيط، دقيقة الترتيب، واضحة الأقسام والفصول،
متماسكة الأجزاء والعناصر، لا تداخل بينها ولا تنافر، عني المؤلف بصياغتها في
قالب يتفق والأهداف التي قصدها. فيقدم ألوان الأطعمة بأسلوب سهل لا يخلو من
مسحة أدبية، ويعتبر وصف هذه الألوان ثروة لغوية كبيرة، وفيها نسبة ملحوظة من
الأندلسية والمفردات المحلية، والأسماء الحضارية، والألفاظ المولدة الكلمات
والمغربية، فهو يختصر في بعض الأحيان ويطنب في أحيان أخرى إلى درجة
التكرار، رغم كونه يتحاشى الاجترار، ويكتفي بالإحالة إلى الفقرات أو الأقسام التي
أوردفيها اللون الموصوف، ومع ذلك فقد وقع هذا التكرار المقصود الذي نجد مثلا
منه في الفقرات الخاصة بالتفايا البيضاء والتفايا الخضراء واللوزية، والقسم الخاص
بالثرائد،الثريدة المسماة بشاشية ابن الربيع، والثريدة المصنوعة بالدجاجة، فاللونان
متشابهان نصا وحرفا إذا استثنينا العنوان،وغير ذلك)29(
.
ومن الملاحظ أيضا أننا نجد أطعمة معقدة غنية تحتاج إلى وقت طويل للتهيئة
والطبخ، إلى جانب أطعمة أخرى تمتاز ببساطتها وسهولة تحضيرها،نذكرمنها:
«الإبراهيمية»،و«الجوذابة»،و«رأس ميمون»،وخصوصا اللحوم المشوية أو
المحشوة الحيواناتكـ:«بالدجاج المحشو الكبش»،و«الحمام»،و«الفراخ»،
و«العصافير»،و«الزرازير»...الخ.
إلا أن أكثر هذه الألوان تعقيدا وأطولها وقتا وأشدها خطورة وأصعبها تحضيرا هو
المري النقيع أو المري المطبوخ، وكلاهما يتطلب مواد غنية،ومجهودات كثيرة،
وحرصا دقيقا، وعناية فائقةلإنجاحه،وهي أصعب عملية أوردها المؤلف في كتابه
إن لم تكن مستحيلة.وأغربالأطعمة في نظرنا اليوم هي تلك التي أشارإليها
منها: الخاص بالحيتان، القسم في المؤلف«الحوت بالمصطكي»و ،«الحوت
بالجوز»، و«الحوت بالعسل»...إلخ.
كما أنه استعرضمجموعة منالأواني الفخاريةوالنحاسية والقصديرية والذهبية
والزجاجية وغيرها،ذاكرا محاسنها ومساوئها، ومبينا ظروف صلاحيتها، وكأنه
)28
(نفسه (ص32ـ35.)
)29
(نفسه (ص17.)
9
طبيب يشخص الداء فيذكر العلاج،«وأقولإن أول مايجب أنيتجنب محاولة الطبخ
في المواضع الوخيمة الذميمة، وأن لا يطبخ في قدر الفخار مرتين، وقد حض بعض
الأطباء على ذلك وذكر أن الطبخ في أواني الذهب والفضة لو أمكن وأباحه الشرع
أفضل، وذكر أواني الفخار والحنتم، ونهى أن لا يطبخ في آنية الفخار غير مرة
واحدة وفي أواني الحنتم خمسا، ونهى عن الطبخ في أواني النحاس لرداءة جوهرها،
واستحب الطبخ في آنية الحديد إذا تعوهدت بالغسل والتنظيف والتحفظ من صدئها،
وذكر من خواصه أنه إذا أدام الإنسان الطبخ فيها أفادت فوائد جمة أقلها تقوية
الأعضاء على جميع الأفعال، وذكر أنه لابأس بأواني القصديرقدورا وصحافا،
ونهى أن تغطى الطعام بالصحاف بعد طبخه إلا بما يخرج منه البخار مثل المنخل،
فإنهم زعموا أن تلك الأبخرة إذا ترددت ولم تخرج أحدثت في الأطعمة قوة سمية
وخاصة السمك وكل ما يؤكل مشويا، وكذلك يجب تغطية القدور وغيرها عند الطبخ
فيها بأغطية مثقوبة ثقبا أدق ما يمكن. وأفضل ما يقلى فيه أواني الفضة والذهب
وأواني القصدير والرصاص بعد، ولا خير في أواني النحاس فإن كل ما يقلى فيها
رديء وخاصة ما هو كثير الدهنة مثل المرقاس والقلايا وأشباهها فإنها في طبعها من
الحدة والانحراف أمر ليس باليسير فكيف إذا نالها فساد من مزاج النحاس»)30(
.
وذلك ليس بغريب ما دمنا نعرف أن موضوع التغذية كان دائما مرتبطا بموضوع
الصحة البدنية والنفسية عند الأطباء وغيرهم حتى لا يكادون يذكرون اسم فاكهة أو
بقلة إلا ومعها مزاجها مع ذكر ضررها ونفعها.
فغاية المؤلف إذن هي تقديم نصائح طبية نفسية في موضوع شديد الحساسية
وعظيم الخطورة ما دامت الوقاية أحسن من العلاج.
ساهم التجيبي بتقديم الإرشادات والتحذيرات الطبية في تناول أصناف الأطعمة
ويرى أنه يجب تقديم كل ما هو غليظ وثقيل الهضم بتناوله أولا ليكون في قعر
المعدة؛ لأن قعرها أقوى على الهضم من أعلاها،وكذلكالألبان،والثرائد،والجبن،
والهرايس،والأطرية،ولحوم البقر والغنم،والقديد،والحوت،والحبوبالمقلوة،
وغيرها من أجل هضمه بالمعدة جيدا، ثم تقديم أطباق البقليات لتلين البطن، وكل أكلة
مملحة يجب أن تتوسط،وتؤخر الحلوى،والفواكه،والمشوياتإذا نضجت، ويذكر
)30
(نفسه (ص31.)
10
إعداد: حسناء بوتوادي
باحثة بوحدة علم وعمران