ممثل رغم أنفه

أبخل عليكي بوجهي، تماماً كما قلبي.. فخلعت أقنعتي تباعاً لتريني كما أنا، لم أتأنق، لم أهتم بأن تريني جذاباً أو وسيماً، بل اكتفيت بأن تريني بعد هذا العمر حقيقياً.. وكانت تلك هي مفاجأتي الكبرى ودليلي الأصدق على حبي لكِ، فالمجاهرة بالحقيقة في زمننا يا حبيبتي مجازفةٌ بالذات ومقامرةٌ بالغد وتكاد أن تكون جريمة العصر، فهي كالتعري وسط عاصفةٍ ثلجية، والمشي حافياً في طريقٍ موحشٍ تكسوه الأشواك..

وأنا لا أملك من الحياة سوى حلمي وبوحي وحقيبةً من الأقنعة التي عشت معها كل دورٍ كما عاشه صاحبه، لذا وجدت في كل إنسانٍ شيئاً من نفسي وأشياءاً في نفسي، ترسبت، استقرت حتى باتت جزءًا مني، فشعرت بنبضهم في أعماقي حتى وإن لم يشعروا بي وأصبحت حكاياتهم حكاياتي، وعرفت معنى أن أكون (ممثلاً رغم أنفي)، أعيش دوماً تحت رحمة حبي لدوري، أسترق النظر مئات المرات كل يوم على تلك البذرة التي زرعتها على شرفتي، أنتظر براعمها منذ سبع سنوات حتى ذبل غصني ولم تورق بعد، تزورني أزهارها في منامي معانقةً مطمأنةً مشفقةً على قلبي من يتمه المزدوج في قربها وبعدها..

تباغتني في جوف الليل، عبر الأضواء الخافتة، بين الوجوه البعيدة كنجوم السماء، أعدها معهم، أداعب خصال شعرها فتخطفها من يدي دمعة هطلت على وجه القمر.. تحمل في غربتها ملوحة الزمن والبحر وقسوة أمواجٍ نأت عن شاطئي بلا ذنبٍ مني فأبيت أن أعاتبها، تهمس في وسط السكون.. سأعود، فأتمسك بالأمل وأخاف من تصديقه كي لا تكسرني الخيبة من جديد، أشد على كف الليل كي لا يتركني في مهب قلبٍ آخر ودورٍ آخر يسرقني من نفسي فيزيد من غربتي، وأرقي ووحدتي، والتصاقي بحكاياتٍ لا تشبه حكايتي، لأعيشها وأشعرها بكل جوارحي، وأغذيها من دمي وروحي ومشاعري التي أوشكت على التلاشي بين غيابٍ وغروب، وأحزانٍ أرسلها حنيناً عبر أثير الليل إلى من يهمه الأمر، إلى من ينتظر الفجر، إلى من يقطع المسافات بحثاً عن بقايا عطر، إلى حبٍ أخذ مني كل شيء ولا أعرف هل بت أكرهه بعد أن أحببته بهذا القدر..

أقنعتي هي سلاحي كما النسيان، أدواري التي فرضها القدر جعلتني أعيش أكثر من حياة، وأرى الكون بعينين لا تشبه تلك التي يرى بها الناس أشيائهم، فأحببت كثيراً واحترقت، ومِتُ مراراً ثم عدت، مرضت وشاخت أحاسيسي لكن قلبي عالقٌ في طفولته التي لم يتجاوز فاجعة رحيلها بكل تفاصيلها وصورها وروائحها وبرائتها، ولم يبقى منها سوى جواز سفر إلى ممالك الغربة الأبدية التي لا راحة للأرواح فيها، بل عذاب يتوالد من عذاب وحقيبة تستبدل بحقيبة وزمن يمضي إلى الأمام لكنه محشور في مؤخرة التاريخ، حيث يحمل كل شيء عكس معناه وتظهر في ملامحه نقيض سريرته، لاجىءٌ من حقبةٍ لأخرى ومن وطنٍ لآخر.. أحببتهم جميعاً ولا أعرف إن أحبوني، أحببت لياليهم وفقرهم وضعفهم ووجعهم ومرضهم وجوعهم الذي قربني من عيوبي وشعوري ببشريتي، فيما كرهت (الكمال) في مواطن ذكرتني بأنها تشع من انطفاء الآخرين..

وبين تلاطم الأزمنة وتعدد الألسنة وتنوع الشخصيات، وتضارب المشاعر بين ضحكٍ هستيري وبكاءٍ حارقٍ لا نهاية له، ينسل القلب فيولد من جديد، راقصاً بكل ما فيه من ألم على نايٍ حاد النغم عميق الشجن موغلٍ في حساسيته، يبحث عن صلحٍ مع نفسه، مع وجوهه وجذوره وحكاياه، ليدرك أنه لم يكن ليكون شيئاً آخر، وأن قصص من التحم بهم باتت قصته، فسكنته ومثلته وكرسته ممثلاً رغم أنفه..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...