خالد جهاد - خليل رعد.. رائد التصوير العربي

نعيش في زمننا الحالي وسط كمٍ هائل من المعلومات المتضاربة والمتفاوتة في صحتها بحيث يعرض كل منبر الخبر أو المعلومة بطريقته، أو يقدمها للناس من الزاوية التي تناسبه، وكذلك هو التاريخ.. فهو مزيج من المعلومات والأخبار والأحداث المتناقلة والمتوارثة منذ قرون إلى جانب آراء الباحثين والمختصين والذين يقدمون التاريخ أيضاً في كثيرٍ من الأحيان وفقاً لمعايير أو قناعات أو وجهة نظر (ليست بالضرورة) موضوعية أو صحيحة، كما قد تكون صحيحةً أيضاً ولكن بشكلٍ جزئي، ومن العوامل التي تؤكد أو تزيد من مصداقية أي معلومة تاريخية (على وجه الخصوص) بعد تدقيقها وعرضها على أصحاب الإختصاص هي وجود ما يدعمها ويؤكدها من آثار أو مخطوطات أو وثائق أو ما يندرج تحت هذه التصنيفات ويشير إلى حقبة أو زمن أو ثقافة أو حضارة كالرسائل والألواح والنقوش والصور، ولذا كان اكتشاف الصورة ثورةً حقيقية استطاعت أن تدخل التاريخ وتغيره وتصبح جزءًا منه ومن صناعته..

ودون شك فإن الصور على اختلاف أنواعها جزء هام من ذاكرة الشعوب ونوعٌ من التوثيق والتأريخ لمراحل هامة عاصرتها ومرت بها، ولذا فإن بعض الصور لا تقدر بثمن كونها نادرةً وغير قابلةٍ للتعويض بسبب قيمتها المعنوية والتاريخية والثقافية خاصةً إذا تم ترميمها ومعالجتها بصعوبة بعد الكثير من الوقت والجهد والحاجة إلى تقنيات وإمكانيات معينة لا تتوفر بسهولة، فإذا كانت الصورة بتلك الأهمية والتأثير بشكلٍ عام فكيف يكون الوضع لبلدٍ يعاني وضعاً استثنائياً كالوضع في فلسطين المحتلة، والذي تحظى الصور الأرشيفية الخاصة به وبتاريخه بمكانةٍ هامة لدى أبنائها ومحبيها وداعميها، وتكتسب كل معلومةٍ عنها مهما بدت بسيطة أهمية ً قصوى في التوعية بحقيقتها، وتفنيد الأكاذيب التي تقوم بها الدعاية المضادة من قبل الكيان الصهيوني وداعميه والهيئات التابعة له، ومن هنا يصبح الحديث عن تجربة عميد المصورين الفوتوغرافيين الفلسطينيين والعرب خليل رعد حاجةً ملحة لإستعادة الذاكرة الفلسطينية وتقديمها للأجيال الجديدة وتعريفهم بقيمة الإرث الذي سلب منهم..

فقد ولد خليل رعد في بلدة (بحمدون) اللبنانية عام ١٨٥٤، وترعرع في القدس
حيث تعلّم فيها التصوير صدفةً بعد ترجمته لمخطوطاتٍ تاريخية مصوّرة، وتتلمذ على يد المصور الأرمني غرابيد كريكوريان حيث كان الأرمن ذائعي الصيت في مجال التصوير الفوتوغرافي إلى جانب العديد من المجالات الأخرى التي برعوا فيها فأضافوا من خبرتهم وثقافتهم إلى مختلف الدول التي استقروا على أرضها، وكان ذلك قبل دراسته لفن التصوير في بازل السويسرية والتي بدأ بعدها مسيرته في عام ١٨٩١ من خلال استوديو أنشأه في شارع يافا في مدينة القدس في الإتجاه المقابل لإستديو معلمه السابق حيث أصبح أول مصورٍ فلسطيني وعربي، فترك خليل رعد بصمةً مميزة في مجاله حيث قدم ما يزيد على ٣٠٠٠ صورةٍ تم التقاطها بحرفية وفن وذوقٍ عالٍ استطاع أن يوثق لمرحلة هامة من التاريخ الفلسطيني، وامتازت بالتنوع الذي عززه كونه مصوراً معتمداً من السلطنة العثمانية وكان توثيق الحرب العالمية الأولى هو مشروعه التوثيقي الأول، كما كان مقرباً من العسكري العثماني جمال باشا وهو ما مكّنه من التنقل بسهولة بين مصر وسوريا ولبنان وفلسطين، واستطاع من خلاله أن يلتقط العديد من الصور لأفرادٍ من الجيش العثماني وأخرى للإنتداب البريطاني عدا عن تصويره للإحتفالات التي تقام في المواسم الدينية في القدس، كما وثق لزيارة الإمبراطور الألماني وليم الثاني للقدس عام ١٨٩٨..

وأكسب رصد عدسة خليل رعد للحياة الإجتماعية للشعب الفلسطيني باكراً قيمةً كبرى، حيث قامت بتوثيق تنوعه الثقافي واحتفائه بالزي التراثي من خلال صورٍ شخصية للكثير من الرجال والنساء والأطفال في مطلع القرن العشرين في أماكن مختلفة من فلسطين، وتنقل في أرشيفه الحافل بين الوجوه والأماكن حيث مر بميناء يافا وعمالها الذين يقطفون برتقالها الذي اشتهرت به، وتوقف عند بحيرة طبريا ليرصد عائلةً تبحر في قاربٍ وسط مياهها، كما رصد في صور ٍأخرى رجلاً يقف على ضفاف نهر الأردن، ثم مرت عدسته بمدينة بيت لحم لتعود إلى مدينة القدس وتقدم لنا نظرةً بانورامية تحفظها بالشكل الذي كانت عليه عام ١٩٣٣ إلى جانب العديد من المدن الفلسطينية..

وعندما اشتد القتال وعمت الفوضى والدمار سائر فلسطين إثر نكبتها عام ١٩٤٨ تعرّض استوديو التصوير التابع لخليل رعد للهدم وقرّر حينها الهروب مع زوجته إلى أريحا، لكن الأوضاع الأمنية لم تستقر مما دفعه إلى النزوح بإتجاه لبنان وليعود إلى مسقط رأسه بلدة (بحمدون) التي ظل فيها حتى رحيله عام ١٩٥٧، وقد نجحت ابنته السيدة (روز رعد مشبك) وزوجها روبرت في العثور على أرشيف النيجاتيف من الغرفة المظلمة، وقيل في حينه أنّ إنقاذ الأرشيف تمّ بمساعدة صديق والدها ايطالي الجنسية، والذي تمكن من دخول المنطقة عدة مرات عقب وقف إطلاق النار لأنه كان يعمل في دكان كتب لدى السيد بولس سعيد والذي كان قريباً من استوديو رعد بالقدس حيثُ تمكن من نقل الأرشيف إلى روز، وقد تبرعت ابنته بالأرشيف لمؤسسةٍ تعليمية فلسطينية بعد وفاة والدها خليل رعد، وتشمل المحفوظات التاريخية حوالي ٣٠٠٠ نيجاتيف..

وبالعودة إلى هذا الإرث الخالد الذي تملكه حالياً مؤسسة الدراسات الفلسطينية ندرك كم تساهم الثقافة والفنون والآداب في حفظ تراث الشعوب وتاريخها وحمايته من الإندثار أو التشويه أو الطمس أو التغيير، حيث يتحول العمل المتقن، الجاد، الراقي والإحترافي إلى وثيقة ٍ تستمد مصداقيتها من الواقع الذي تعكسه وإسم من أنجزه والرسالة التي اقترنت بهما..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...