محمود قرني - في ذكري رحيل ابراهيم فهمي صاحب القمر بوبا : التجاهل يطاله وعبد الحكيم قاسم ويحيي الطاهر عبدالله

ثلاثة عشر عاما مرت الآن علي رحيل الكاتب إبراهيم فهمي حيث رحل عن عالمنا في منتصف عام 1994 وكان لم يزل في الثانية والأربعين من عمره، في لحظة كان فيها في قمة عطائه الأدبي، ومع ذلك فقد ترك لنا إبراهيم فهمي عددا من الأعمال التي أثرت القصة المصرية والعربية بالكثير لا سيما مجموعته الأولي التي شدت إليه الانتباه وحققت له الكثير من الحضور وهي القمر بوبا ، وهي مجموعة تعتمد علي إعادة انتاج الاسطورة المجتمعية النوبية حيث مسقط رأس الكاتب، وهي المجموعة التي تلتها مجموعة من الأعمال المهمة أيضا مثل بحر النيل ، و العشق أوله القري و رمش الصبايا بالاضافة إلي كتاب نثري وحيد هو النوبة أرض العطر والذهب وهو كتاب تاريخي وتسجيلي عن تاريخ النوبة وعاداتها وتقاليدها، وخصوصية ناسها.وينتمي إبراهيم فهمي إلي جيل الثمانينيات في مصر، وينحدر من أسرة فقيرة، وكان يعمل موظفا صغيرا بإحدي الشركات، ثم انتدب للعمل بهيئة الكتاب، وقد لاقي شظفا وفقرا نادرين حتي رحيله، حتي أنه لم يستطع إكمال مشروع الزواج المتأخر الذي كان قد اعتزم أن ينهض به مع إحدي صديقاته بهيئة الكتاب.وقد ميزت إبراهيم فهمي لغته السحرية الفريدة التي تعاملت مع السرود بوعي بالغ، وظلت وظيفة اللغة القشيبة التي تمتلك بلاغتها الخاصة عاملا من عوامل رفد القص وحركة الشخوص، دون أن تتعرض بنية الحكي للتعثر المعتاد في مثل هذه الحالات.ويعتبر إبراهيم فهمي وريثا شرعيا لكاتبين أساسيين في هذا السياق هما يحيي الطاهر عبدالله، ومحمد إبراهيم مبروك في مجموعته الوحيدة والفريدة عطش لماء البحر ، ثم بعد ذلك محمد مستجاب وسعد الدين حسن وكانا مجايلين له وإن تجاوزاه في العمر بسنوات قليلة.وقد كان الانجاز الحاسم للكتابة الروائية والقصصية في نصف القرن الأخير، هو نقل الكتابة من منطقة العلم الشامل الأعلي الذي يمتلكه الراوي، مع استخدام المناهج السردية صاحبة التوجهات المتعددة التي تعبر عن علم محدود بالحقائق أو المدركات التي لا تدعي ملكية الصواب دائما وكان استخدام الأسطورة لدي بعض الكتاب – مثل إبراهيم فهمي وفي هذا الإطار – يحمل معني تفسيريا هدفه الأعلي تعميق الفعل الإبداعي، وإثراء الحقيقة المجردة بالمعني الواقعي الاجتماعي، وهو ما ساهم في إعادة انتاج بعض المشاهد التراثية المضيئة.وربما كانت القصة القصيرة – كفن من الفنون الجديدة نسبيا علي العربية – تجاوزت الخطاب الروائي بدرجات متفاوتة للحلول محل الكثير من الرطانات والقوالب النظرية التي أسست لها الرواية دون النظر لمستوي ما تم طرحه إبان ريادة يوسف إدريس للقصة القصيرة ونجيب محفوظ للرواية، وربما كان إفراغ هذه القوالب وصبها في أنماطها الإبداعية تحت وطأة الضرورة والرغبة في الوجود، خلق نوعا من العبث والفوضي لدي الكثيرين، تحت مسميات عدة، بعد أن أفرز الرواد قانونهم الطبيعي بفعل التراكم، هذا رغم ما أنجزه هذا العبث من تنوع ساهم – رغم مشاكله – في إثراء الحركة الإبداعية في الفترة الأخيرة.وتأتي في هذا الإطار مجموعة إبراهيم فهمي القمر بوبا ، وكذلك مجموعته الأخيرة رمش الصبايا التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بعد وفاته بأشهر قليلة لذلك لم تلق أدني اهتمام، وتطرح المجموعة مساحات من التنوع والتعدد الثقافي الذي طرحته القصة منذ حقبة السبعينيات وحتي الآن، حيث تطرح قصص المجموعة تمايزات المكان وخصوصية الأسطورة واللغة، ويبدو الارتباط الفاعل بين الخلفية الحضارية للمكان وملامحه من خلال كائناته، التي لا تتشابه ولا تذوب عبر أصوات الآخرين، وهذا مما يميز ضمير المخاطب الذي يجتر الذات من خلال اللغة الشعبية والهامش الفقير الذي مسخه الواقع لأبطاله وهو ما يبدو جليا منذ القصة الأولي بالمجموعة مثل حظر التجول غير سار علي العشاق ، حيث يبدو الكاتب من خلالها ساقطا في الروغ والهذيان الذي يتمالك المحب الواحد المتوحد، الذي تتمحور حوله الدراما، بمن في ذلك الحبيبة، والتي تبدو كأحد المحاور.يقول الكاتب في المقطع الرابع: تراني تبدأ الدنيا من عندي وتنتهي حيث أنا، ويكون يوما يصالحني ويوما يخونني، قبل أن أري شمس نهاره يخونني ، ص9.علي هذا المستوي تبدو مسيرة القص في اتجاه واحد نحو التصاعد يجعل الصراع القائم بين الذات والعالم من خلال التمثيل بكائنات القص هامشية الدلالة.كذلك تأتي قصة البهلول ثاني قصص المجموعة، عن احدي شخصيات مقهي شهير بوسط مدينة القاهرة هو مقهي زهرة البستان ، لكنها في سياق القص تأتي مختلفة بدرجة مفارقة، إذ لم يكن هذا البهلول هو أحد مثقفي المقهي، بل هو أحد المخبولين المختلين عقليا والمستأنسين في الوقت ذاته، وقد استطاع الكاتب استخدام هذا النموذج عبر استدعاء رمزه في التراث الشعبي الذي دائما ما يربط بين الخيل وبين كونهم من أهل الحظوة أو المكشوف عنهم الحجاب، وهو ما يمكنهم ـ فيما بعد ـ من رؤية ما لا نراه نحن عامة البشر نظرا لطهارة نفوسهم من دنس الدنيا وأغراضها، لذلك فإن هذه الشخصيات مباح لها الاطلاع علي كافة الأسرار التي لا يمكن لشخص كامل الأهلية الاطلاع عليها، وهي تمثل حالة من حالات القبول الاجتماعي العام لأصحاب المقام من الفقراء المجاذيب كصورة من صور الخلاص والمعرفة النهائية .وقد جاءت الشخصية المثقفة التي تمثل نموذج الصفوة نوعيا، هي المفجر الحقيقي لدراما القص، حيث تمثل النموذج النقيض اجتماعيا وفكريا واقتصاديا، يظهر ذلك جليا عبر عدد من المفارقات عندما يخلع البهلول كل ملابسه ليسير عاريا تماما أمام المقهي، بل أحيانا ما يجري وسط الجموع بهذا الشكل، بلا هدف واضح ليعود أدراجه بعد قليل ليرتدي أرديته في وضع مقلوب، وقد ساد الاعتقاد الشعبي، ولا يزال، تفسيرات وهمية كثيرة عن القدرة الجنسية لهؤلاء المعتوهين في مجتمع مغلق تسوده السرية في مثل هذه العلاقات، وهو ما يدفع النموذج المتعالي الذي تمثله شخصية المثقف النقيض، إلي النظر بشغف الي أعضائه الجنسية بينما البهلول يهم بخلع كل ملابسه، وهكذا يكشف القاص عن مناطق الغموض في التركيبة المتعينة والشعبية لشخصية المجذوب، وقد اختار الكاتب لغة موفقة للتعبير عن هذا الموقف، تلك اللغة التي تتراوح بين الشائع والعام والغريب تعبيرا عن هذه الحالة وهذا المستوي من الوعي الشعبي، في مقابل لغة صفوية متعالية فيها الكثير من الادعاء مثل خلع أهه ، معقول، حاجة فانتستيك خالص ، وأحيانا يا اي سوفاج ، بيخلع كده، علتول ويرد الراوي أيوه من غير إحم ولا دستور .أما عن لغة إبراهيم فهمي فقد تميزت عبر مجموعاته الأربع بالكثافة الشديدة والتداعيات وهو الأمر الذي يستغرق الكثير من أزمنة القص عنده، حتي لتبدو القصة في بعض الأحيان نسيجا لغويا فحسب، وربما كانت هذه الكثافة هي السبب المباشر في توقف وظيفة السرد وسكونيتها، وهو ما يؤثر علي البناء المحض بمعناه التقني ويجعل العمل القصصي نوعا من الاستغراقات الصوفية والروحانية فحسب.إلا أن هذه السكونية جعلت قدرة الكاتب علي الاستدعاءات التاريخية والأسطورية ممثلة أفضل تمثيل للمكان وعلاماته، مع ربطها بالراهن وخلق جدلية موازية لجدلية الماضي، وهو ما يبدو جليا في قصة المجموعة والتي تحمل عنوانها رمش الصبايا ، حيث استخدم الكاتب مفردات علي درجة عالية من العصرنة والراهنية، علي نحو متناثر ومتضافر مع الفلكلور في نقل جهاز العرس، بجانب مراكب الشمس، والمقاهي والأطباء والحركة اليومية المتدفقة للبشر، رغم اللغة التاريخية التي يؤكد عليها الحكي الشعبي بكافة موروثاته مثل استخدامه مثلا لفن الموال لا سيما فن الواو مثل افتح الصفحة يا صاحبي علي جريدة اليوم ، رمش عين الحبيب جرحني ، قريب أيها البعيد مني ، إيه يا صاحبي ولا كل من خط بالقلم فنان ، ورغم هذه الأنا المجروحة علي مستوي اللغة، إلا أننا لا نخطئ انسحاقها أمام هذا السيل الأسود في صندوق الحكايات الذي يتنبأ فيه الكاتب من خلال تشوفاته بقصة موته، كما حدثت تفصيلا، بداية من طرح الدم بانفجار في الرئة الي قدم رجل غريب في بيت غريب، ثم مقبرة مفتوحة الأبواب في مقابل الصدقة، وهي بالفعل قصة موت إبراهيم فهمي الحقيقية التي رواها قبل أن تحدث، حيث يقول صورتك علي الحائط يا صاحبي، أحب أن أكلمها فتحرك الوجع في جسدي يخرج الدم طوفانا من صدري، أول مرة أري لون دمي، والنزيف بركان، الدم علي الكتب، علي الورق، علي الحوائط، والحجرة سجن من أربعة جدران، أغمس أصبعي في دمي، وأكتب مقطعا من قصة ما احتملت أبدا أكتب: يا أبو خليل في ساعة شيء خفت أن تكتبه وأنت علي وجه الحياة، أكتب والمحابر دمك، والورق جدران .ويبدو هنا اختيار الذات نوعاً من التفاعل الإيجابي في القص لدي الكاتب، يجعل المنولوج الداخلي مدفوعا للتنامي في دفعات شعورية لا تنتهي سوي بانتهاء أفق اللغة التي لا تنتهي بطبيعتها، إنه لا يسمح لأبطاله بالفعل، لأنه يفعل من أجلهم ويأكل من أجلهم ويشعر من أجلهم ويتكلم عنهم، وهو لا شك عزل للأفكار المتداولة عبر مواقف الشخوص، وتبدو محاولة ربطها بما تحيل إليه خارجها محاولة متعسفة، لأنها شخوص تسبح في المطلق الذي يتماس – في نفس الوقت – مع المحتوي السياسي والاجتماعي للحظة، رغم ما يكلل تلك اللحظة من إحساس دائم بالزوال.وتأتي قصة مكابدات العاشق وقصة الفنجال من حظ العذاري كمنولوجين داخليين ممتدين، يعبران أشد التعبير عن التوحد الذي يميز لغة إبراهيم فهمي، حتي لتكاد اللغة أن تتطابق مع النص، رغم أنها بالتأكيد ليست بديلا عنه، وكل ذلك لا يقلل من تميز الأعمال الأربعة التي قدمها إبراهيم فهمي وحاز عنها ما يشبه الإجماع علي مكانته.لقد مر الآن ما يقارب عقدا ونصف العقد علي رحيل فهمي، ومع ذلك ليس ثمة انتباه – علي أي نحو – بما أنجزه، وقد نفدت كل أعماله بالفعل، ولم يعد لها وجود، في الوقت الذي لم تتحرك فيه أي من الهيئات الكبري لوزارة الثقافة لطباعة أعماله في كتاب واحد، وهو – علي كل حال – أمر لا يدعو إلي الغرابة أو الدهشة، فقد لاقي مصير إبراهيم فهمي الكاتب الكبير الراحل عبدالحكيم قاسم الذي تجاهلته كل الهيئات الثقافية، وقد سبق للدكتور سمير سرحان أن رفض طباعة أعماله الكاملة أكثر من مرة عندما كان رئيسا لهيئة الكتاب علي الرغم من قيامه بطباعة الأعمال الكاملة لعدد من أنصاف وأرباع الكتاب، بل قام بطبع كافة المقالات التي كان يكتبها الكاتب الراحل ثروت أباظة بجريدة الأهرام وقد استغرقت ما يقرب من الأربعة مجلدات، ولم توزع نسخة واحدة رغم طباعتها منذ عدة سنوات. إن الهيئات الثقافية المصرية مطالبة برفع الغبن عن إبراهيم فهمي وعبدالحكيم قاسم ويحيي الطاهر عبدالله، وكل الراحلين الذين قدموا انجازا ملموسا لثقافتهم الوطنية والعربية.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...