هذه كبرى المفارقات في حياتي..
رحلت الى النجف صغيراً.. لكن الحلم الذي رحل معي كان كبيراً كبيرا.. والمفارقة هنا ان الحلم هذا لم يستطع ان يعيش معي في النجف طويلاً.. لماذا؟.
-الف سبب وسبب يمكن ان يقدم لي نفسه بهذه المناسبة، فأتعرفه وأعرفه جيداً، لكن السبب الحقيقي، المباشر او غير المباشر، هو الوحيد الذي اجهله منذ البدء، وما ازال..
- ان اصير "شيخاً" مهيباً مرموقاً، كوالدي.. ذلك كان حلمي الاول، سبق كل احلامي سبق حتى احلام طفولتي وحين بدأت تتدفق بها ذاتي اخذ يحتويها جميعا، او هو: اخذ يلتهمها جميعا بشراسة..هذا الحلم لبسني قبل ان اجتاز سن الثامنة.. ولبستني معه العمامة والجبة قبل اوانهما "الطبيعي" العامامة والجبة كرمز للحلم ذاته اولاً، وكأداة إلزام لي بموجبات الحلم ثانيا..
قلت: حلمي؟
- لا ، عفوا ..ذلك كان، منذ البدء حلم أبي ، ثم أمي والاسرة ، ثم سائر العائلة في سائر جبل عامل..ومذ بدأ يتكون كحلم لي ، مات ابي.. لكن الحلم لم يمت ، لأنه صار حلمي.. مات ابي وفي نفسه لهفة ان يبقى طويلاً حتى يتحقق الحلم.. مات وأنا في الثانية عشرة، فأحسست ثقل الحلم يفيض عن طاقتي، ابي كان يبدو لي انه من اهل اليسر المادي، فإن منزلنا في "حداثا" لم يكن يخلو من الضيوف على مدار العام، ولم تكن الضايفة- مادة وطريقة –تنزل عن مستوى الضيافة المألوفة عن اهل اليسر في بلادنا في ذلك الزمن.. وظهر لي فور موت ابي اننا من اهل الفقر، لا من اهل اليسر، وفجأة رأيت أننا صرنا في مكان مكشوف جدا بين صفوف الفقراء من اهل بلادنا.. كيف اذن احمل الحلم، بعد؟
- في البداية حملته وحدي، اخذت اطوف به من بلدة الى بلدة، باحثاً له عن غذاء علمي اولي عند اهل العلم من بقايا الاجيال الدارسة في جبل عامل، مكتفياً بالاقل الاقل من ضرورات الغذاء الجسدي..
ثم كان "لابد من صنعاء".. وكانت "صنعاء" حينذاك هي النجف دار الهجرة الاولى لكل شيعي في العالم يحلم كحلمي ذاك.. الحلم سيبقى قاصراً، سيبقى فجاً ان لم تلفحه شمس النجف، سيتحول قزماً الى النهاية ان لم أدركه ، قبل فوات الاوان، بالهجرة سريعا الى النجف –وكانت الهجرة (1924)..
لم يستطع الحلم ان يعيش معي في النجف اكثر من عام واحد..
لن اقول: "لماذا" مرة اخرى، لأنني سأقول مرة اخرى ايضاً: ان السبب الحقيقي هو الوحيد الذي أجهله من بين الاسباب الكثيرة التي تعرض نفسها لي في مسافة طويلة من مسافات الذاكرة، كلما عرض لي هذا السؤال..
لكن، اذا كنت اجهل حتى الان ذلك السبب الحقيقي الخفي، فإني اعرف، وما نسيت قط، ان ذاك الحلم الطيب الاليف بدأ ينتابه الضمور والذبول في ذاتي، أي أخذ يفقد –شيئاً فشيئاً – صفته كحلم لي، ليعود اخيراً الى ما كاأنه في البدء: حلم الاسرة والعائلة في جيل عامل فحسب..
العام الاول لهجرة النجف، ما كاد ينقضي حتى رأيت خاطراً قاهراً صارماً يعترضني يريد ان يحملني على الاختيار الحاسم في مسألة دقيقة للغاية، وهي مسألة تحديد وجهة المصير:مصير حياتي كلياً..
كان علي ان اختار: إما قرار العودة الى الارتباط النهائي بذلك الحلم الذي حملني هو الى دار الهجرة، النجف: أي ان اقرر –منذ لحظتي تلك – متابعة السير في مسار "المهنة" التي كانت كل مطمح الحلم..وإما ان أقرر الانعطاف القاطع عن هذا المسار..الاختيار، لأنه لم يرتفع الى مستوى كونه احد طرفي الاختيار، ما كان يعنيني –في لحظتي – سوى ان اختار إما متابعة الخط المرسوم لي من قبل، وإما الانعطاف عنه، وان الى المجهول؟..
لم أتردد مطلقاً.. اخترت فوراً..
.. وانقطعت العلاقة المباشرة مع الحلم وغابت – تواً – من حياتي الى النهاية صورة "الشيخ المهيب المرموق" التي كانت هي نفسها صورتي كما رسمياً لي الحلم..
- الى المجهول؟..
- لا .سرعان ما تحول المجهول معلوماً..ذلك بفضل الحلم المنطفئ ذاته.. بفضله هو – نعم..فهو الذي اشعل في داخلي ، منذ الصغر ، لهفة الاسئلة، شهوة التطلع الى كل افق، نزعة التلفت الى كل الجهات، أي اشعل بي حافز المغامرة في طلب المعرفة حتى في اعمق غابات المجهول.. بفضل هذا الحلم الذاهب عني، أو الذاهب انا عنه بأختيار حاسم.. لكن الذهاب هنا ليس ذهاباً عن العمق والجذور، لم يكن الذهاب هنا انقطاعا عن العمق ، ولا انفصالاً عن الجذور.ز بفضل الحلم الذاهب نفسه، وجدت داخل عالمي المغلق آنذاك نافذة تنفتح على المجهول..فرأيت دربي مضيئاً وحددت هدف المسير واضحاً..
المجهول الذي صار معلوماً، هو العلم اذن..هو العلم، نهجاً وهدفاً معاً، كيف الدخول في هذا المجهول /المعلوم؟
كيف، وقد تحولت العلاقة مع الحلم الذاهب، أي مع طريقي الوحيد حينذاك الى العلم، تحولاً يعني انسداد هذا الطريق أمامي تلقائياً، كما هي طبائع الامور في مثل وضعي ذاك؟
لابد من الدخول.. هكذا قلت..
سأبقى في النجف.. سأتابع الدراسة في النجف..هكذا صممت ذلك هو الاختيار الثاني الحاسم: سأبقى.. سأتابع برغم كل الاسئلة المستنفرة في داخلي ضد هذا الاختيار، برغم كل الاثارات المحتملة في داخل ذاتي حيال هذا القرار، برغم كل المخارز التي ستتصوب الى خاصرتي عند كل خطوة سأتمكن من انتزاعها في مكاني ذاك من دار الهجرة: النجف..
سأبقى.. سأتابع لكن الهدف واحد احد، هو المعرفة، هو العلم دون " المهنة".. سأبقى وأتابع الدراسة النجفية حتى استكمال مراحلها جميعاً، أي حتى بلوغ القمة لهذه الدراسة.
وبقيت ، وتابعت بالفعل، وان حدثت خلال سني دراستي الاربع عشرة، اختراقات قصيرة وعابرة لهذا القرار/الاختيار..
القرار/الاختيار الاول، والقرار/الاختيار الثاني، احدثا في حياتي تغيرا دخل في عمقها الاعمق:امتلكت حريتي، أي امتلكت حقي بأن اقرر اين انا حيال نفسي، واين أنا حيال"الاخرة"؟ تحررت اذن.. واذا كنت بقيت، وتابعت، فقد صرت اشعر ان بقائي ومتابعتي صادران عن قراري واختياري..واذا كنت مضيت اقرأ وأدرس الكتب والعلوم نفسها التي يقرأون ويدرسون في النجف، فقد صرت اشعر انني اقرا وأدرس بقراري واختياري.. هذا الشعور وذاك فتحا لي ابوابا للدخول في عالم أوسع للقراءة والدرس..
في احدى لحظات الحوار مع النفس، قلت:
- هل تحررت حقا؟
كان الجواب واضحاً وبدهيا: نعم –اذن ، لماذا لا اتجاوز الخطوط الحمر الرادعة عن القدرات الاخرى وعن العلوم الاخرى، أي خارج القراءات والعلوم "الحلال" وحدها في عرف النظام الدراسي النجفي آنذاك؟.
اما الاجابة عن هذا السؤال ، فكانت حاضرة جاهزة عمليا قبل السؤال..اي ان الخطوط الحمر ذاتها كنت بدأت أقتلعها –واحدا واحدا- من مكانها التقليدي الفاصل بين " المحرمات" و" المباحث" من انواع المعرفة البشرية المعروفة عندنا حتى ذاك الحين..
لم يبق في اعتباري اذن، فاصل "يحرم" قراءة "أو معرفة" اوعلما في جانب ، و" يحلل" قراءة او معرفة او علما في جانب اخر، هذه مرحلة جديدة لتحولاتي الداخلية لكنها مرحلة تعرضت عندها –لحظة ما– لحالة من فقدان التوازن ..حالة خطرة كانت اولا انني تداركت الامر سريعاً، كاد اقتلاع " الفاصل" يحدث طغياناً للقراءات الحرة على القراءات النظامية، ولم تطل حالة الطغيان هذه، أي حالة فقدان التوازن.. بادرت لتنظيم "يوميات" القراءة والدرس لكي يتوافر لي التوازن، كان ضرورياً لي ذلك، لأنني حين اخترت البقاء في النجف ، انما اخترته لمتابعة الدراسة الخاصة بها، أي اخترت هذا اللون من المعرفة الذي تقدمه النجف.. كان قد استهواني مذ بدأت تتوضح لي معالمه التخصيصية هناك، في كل من علوم: النحو والمنطق والبلاغة واصول الفقه، والفقه الاسلامي، واستهواني - بالاخص – اسلوب التعامل بين المتعلم والمعلم والنص، وهو اسلوب يضع المتعلم فور حضوره احدى حلقات الدراسة، امام مسؤوليته الصارمة عن نفسه، أي عن شكل علاقته الاستيعابية مع المعلم ومع نص الكتاب الدراسي..اسلوب يدع المتعلم –بصورة تلقائية – متحرراً من التبعية لفكر المعلم او لفكر النص، ويوسع له فسحة الاستقلال الفكري، وحرية المناقشة الجدية مع المعلم ومع النص دون كوابح.. لابد اذن – من توفير الحالة القصوى للتوازن بين الافادة من مزايا الدراسة هذه، الافادة من ولوج ابواب المعرفة كل يوم، خارج نطاق الدراسة "النظامية" أينما وكيفما تيسر لي الولوج في أي باب من ابواب المعرفة..
كان الوصول الى الكتب والصحف الدورية الصادرة من مختلف البلدان العربية ومن مصر ولبنان بخاصة متيسرا في النجف أي خارج "اسوار" المحيط الدراسي الديني..كان يتوافر لنا هناك ان نقرأ كتابات المفكرين والعلماء والكتاب والمبدعين من رجال القرن التاسع عشر والثلث الاول فما فوق من القرن العشرين.. وكذلك الكتابات الفكرية والعلمية والادبية المترجمة.. عن مفكرين وعلماء وادباء عالميين..مادة القراءة "المحرمة" علينا آنذاك كانت من الغزارة بحيث يضيق وقتنا عن استيعابها ، ونحاول جهدنا ان لاندع لحظة من الزمن تتسرب من ايدينا هدراً دون كسب معرفة ما.
هذه المرحلة في حياتي هي مرحلة الخصب المعرفي.. قرأت فيها اشتاتاً من المعارف لا تنتظمها وحدة، بل يتخللها الاختلاف حتى التناقض ..كنت اقرأ الادب الرومانسي، مع الفكر العلمي ، مع الكتابات العلمية الخالصة، مع البحث الاجتماعي: نظرياً وميدانياً وذاكرتي للعهد الاول من هذه المرحلة تحتفظ باسماء اعلام وكتب ومجلات ما يزال لها وهجها الخاص عندي، برغم مسافة ما بيني وبينها الان، ذلك الوهج النفاذ الذي علمني كثيراً ومهد لي الطريق الى ماركس، ثم وصل بي الى ماركس..
كانت كلمة "الاشتراكية" تتردد كثيراً في قراءات هذه المرحلة، لاسيما منها القراءات "النهضوية" من كتابات نقولا حداد ،صاحب مجلة السيدات والرجال والباحث الاجتماعي وصاحب كتاب الاجتماع الذي رافقني وقتاً غير قصير في اواخر العشرينيات وكذلك روايات "فرح انطون" ذات النزعة الاجتماعية وكتابات إسماعيل مظهر وبحوثه التي تصدر في مجلته "العصور" المصرية المعروفة بأتجاهاتها المادية ..ثم النتاج الطليعي لشبلي شميل الذي قدم الى الفكر العربي والثقافة العربية ، اول مرة، نظرية التطور الدارونية، بكل ما يعنيه هذا النتاج من اسهام فعلي في التأسيس لمنهج للتفكير، في لغتنا وثقافاتنا ، يعتمد النظر المادي ويقوم على استيعاب أوليات القوانين الكونية لحركة تطور الطبيعة والمجتمع.
اسماعيل مظهر، وشبلي شميل هذان هما الاصل والاساس في تحولاتي الفكرية الاولى نوعياً وجذرياً، فأثرهما الاعمق في تكويني المنهجي والنظري ، يرتبط بقراءاتي المثابرة والجادة والممتعة لهما في السنوات الاولى لعهد التحرر من كابوس "المهنة" أي ما بين عامي 1925- 1927 ولست أنسى هنا سلامة موسى واثره بي في ذلك العهد، بما كان لكتاباته الفكرية –الاجتماعية ، حينذاك من اتصال ما بالفكر الاشتراكي الطوباوي ، ومجلة "المقتطف" بما كانت تعنى به من اضفاء للطابع العلمي الغالب على مجمل ما تنشره وقتئذ، ولا غير المقتطف من المجلات ،ولا الكتب الكثيرة الاخرى التي يعسر تعدادها الان.
قلت: كانت كلمة "الاشتراكية" تتردد كثيراً في قراءات هذه المرحلة، لكن الكلمة ظلت عندي –وقتاً ما – اشبه بـ" الطلسم" لا اعرف مدلولها العلمي ولاشيئاً من المفاهيم التي تشكل هذا المدلول..كيف تعاملت معها اذن؟
- لم تكن كلمة "الاشتراكية" وحدها تساوي "الطلسم" عندي، كل الكلمات ذات المدلولات الفكرية والعلمية والفلسفية بدأت علاقتي بها كـ طلسمات في سنوات العهد الاولي لهذه المرحلة.. لكن العلاقة تلك لم تجد لها استقراراً عندي، فقد جعلت احاربها حتى قهرتها، ثم تحولت " الطلسمات" في ذهني الى قناديل اضاءت حياتي.. ذلك بفضل القراءات الدؤوب باصرار والحاح في محاولات الفهم والكشف.. مع تكرار المحاولات مرات من غير ان اجد سأماً أو استسلم لعارض سأم، بل كثيراً ما كنت أجد عند كل محاولة جديدة نوعاً جديداً من الغبطة والمسيرة.. هذا وحده كان طريق الوصول الى المدلول العلمي للاشتراكية، أي الى الاشتراكية العلمية، بعد ان تجاذبتني " الاشتراكيات" بمختلف ألوانها الاخرى، حتى لونها "الغابي" الباهت والزائف، لكنه طريق كان مشحوناً بالقلق والجهد البالغ، وكان طويلاً وعسيراً، ثم كان الوصول الى نقطة الهدف بدفعات متقطعة، متباعدة..
في معظم مراحل هذا الطريق الطويل الى الاشتراكية العلمية، لم ألتق ماركس باسمه الا مرات قليلة وخاطفة.. القراءات الجاهدة والحائرة حول الاشتراكية.. في سنوات العهد الاول لهذه المرحلة، كانت بعيدة عن ماركس، أي بعيدة عن اسم ماركس اولاً، وبعيدة عن اشتراكية ماركس(الماركسية) ثانيا.. كثيرا ما كان مفهوم الاشتراكية يختلط في الكتابات العربية " بالنهضوية" اختلاطاً طريفاً، بمفاهيم متغايرة أو متناقضة ، وكثيراً ما كان جوهر قضية الاشتراكية، أي المسألة الطبقية، يزوغ خلال هذه الكتابات الى خارج القضية، أو يختفي كليا، وتبتعد الكتابة –بالطبع اذن – عن واقع الحركة الاجتماعية، أي عن رأس القوانين العاملة في تطوير المجتمع، اعني قانون التناقض الطبقي والصراع الطبقي، وأغرب اشكال الاختلاط بين المفاهيم، ان تعرض مبادئ الثورة البرجوازية الفرنسية كمبادئ للثورة البروليتارية الاشتراكية..
اول لقاء رواية "الدين والعلم والمال" لفرح انطون، وكانت الرواية هذه اقرب الى البحث "الفلسفي الاجتماعي" كما اعترف بذلك فرح نطون نفسه.
يعالج فرح، في هذه الرواية مشكلة العلاقة الطبقية التناقضية بين العمال وأرباب العمل، وهو يرى أهمية المشكلة جيداً، ويقترح لها –على لسان ممثل العمال – حلاً لا يتناسب مع مستوى اهميتها وشموليتها، وهو الحل القائل "باشراك العمال في ربح العمل" إضافة الى تشريعات الضمان الاجتماعي على نحو ما هو متبع في البلدان الرأسمالية المتطورة.. أي ان الحل المقترح لا يمس الملكية الخاصة لوسائل الانتاج، وبرغم ذلك يبادر الممثل العمالي، خلال الحوار مع ممثل أرباب العمل، الى القول متبجحاً:
- "هل تريدون منا فلاسفة؟ فأسمعوا رأي الفيلسوف كارل ماركس..
- "ما شاء الله؟ تستشهدون بأشد أنصاركم غلواً".. فيقول العمالي:
- لا بل نستشهد بفيلسوف من الفلاسفة، رأيه يناقض رأيكم في الملكية"..
صحيح ان هذه اول مرة التقي فيها ماركس.. لكن ماركس هذا، الذي التقيته عن فرح أنطون، لم استقبله بارتياح، ولم اشعر انه هو الذي سيخرجني من بلبلة المفاهيم المختلفة للاشتراكية، فماركس هذا هو –اولاً –فيلسوف منا" أي من هؤلاء العمال الذين يبتسرون –اعتباطاً- حل المشكلة الاجتماعية – الطبقية الكبرى بحيث ينحصر هذا الحل في " اشراك العمال في ربح العمل"..وهو مع ذلك –ثانيا – "من انصار العمال غلوا" وهو –ثالثاً- مع ذلك ايضا له رأي في الملكية يناقض رأي العمل..كيف تجتمع هذه التناقضات في شخص هو –الى ذلك كله- فيلسوف من الفلاسفة؟..
برغم هذه الهواجس المقلقة، وقع في نفسي ان ماركس، هذا لابد له شأن عظيم في القضية التي يتحدثون عنها كثيراً باسم الاشتراكية لكن كيف سأصل الى صاحب هذا الشأن العظيم بصورته الحقيقية دون الصورة المضطربة هذه؟.
بدءاً من هذا السؤال ، بدأت أدخل في العلاقة السليمة مع ماركس..
ومن هنا بدأ ماركس يدخل حياتي وما أزال في النجف..
لكن ماركس الماركسي، تأخر عني وصوله بضع سنين بعد اللقاء الاول، عند فرح أنطون، مع ماركس "غير الماركسي"..تأخر حتى انعقدت لي صلة خفية مع " الشيخ" حسين محمد الشبيبي (هو نفسه الشهيد الشيوعي المعروف الذي اعدمه النظام الملكي مع الشهيد الرفيق فهد في بغداد عام 1947).
في اواخر الثلاثينيات بدأت أدخل المرحلة الدراسية الاخيرة في النجف، وفي الوقت ذاته كنت اكتب اسبوعيا لمجلة " الهاتف" النجفية (صاحبها:الكاتب القاص جعفر الخليلي) مقالا او قصة.. كان هذا الحضور الادبي والفكري الاسبوعي يوسع أفق علاقاتي الادبية والفكرية الى ابعد من النجف.. لأن الهاتف كانت وقتئذ مجلة معظم المثقفين العراقيين.. في هذا الافق نفسه انعقدت صلتي بـ " الشيخ" الشيوعي (حسين محمد الشبيبي).. كنت القاه في النجف، واحيانا القاه في بغداد متسللا الى مكانه السري قرب جامع "الحيدر خانة"الشهير..
مرة سألت الشهيد الشبيبي رأيه في قضية وطنية كانت قضية الساعة في الاوساط السياسية العراقية حينذاك، فأخذ يبسط لي رأيه باستفاضة، مستشهداً خلال ذلك بمواقف ونصوص لينينية ..اذكر أنني اعترضته متسائلاً: لماذا لايستشهد بالماركسية؟ قال: اللينينية هي الماركسية مطبقة على الواقع الملموس تطبيقا ابداعيا تميز به لينين في عصر الثورة الاشتراكية العلمية المتحققة على الارض بالفعل.
منذ انعقاد هذه الصلة دخلت في صميم العلاقة الصحيحة أي العلمية مع ماركس " الماركسي".. وأخذت اقرأ العلم الماركسي، دفعة دفعة، ذات مرة دفع لي الرفيق الشهيد " الشبيبي" بنسخة من "البيان الشيوعي" على سبيل الاهداء، شرط ان اقرأها أكثر من مرة.. ولكي استحق شرف هذا الاهداء عشت مع البيان الشيوعي ، في هذه النسخة العزيزة يومين كاملين متتاليين، ثم رجعت اليه منشرح الصدر، مفعماً بفرح المعرفة باضوائها الجديدة الكاشفة، بقيت محتفظاً بهذه النسخة من " البيان الشيوعي" بحرص شديد وباعتزاز عميق، حتى فوجئت يوماً باختفائها، فحزنت كثيرا وبقي حزني يتجدد كلما تجددت ذكرى هذا الاختفاء..
قبل هذا حاولت الوصول الى ماركس "الماركسي" بوساطة "رأس المال" غير ان نتاج المحاولة كان ضئيلاً لأنها اعتمدت ترجمة للكتاب باسم "د. راشد البراوي" وهي اقرب ان تكون تلخيصاً غير ناجح.. بصدق وحرارة، حكاية ذلك الصراع الطويل المرهق والممتع معاً بين حلم الطفولة الذاهب وعلاقاته ونوازعه ورواسيه ، وبين المشروع المعرفي غير المحدود الذي جعلته البديل عن الحلم ذلك بقراري واختياري.. وهو المشروع الذي استمر يدفع بي، طوال اربعة عشر عاماً، من تحول فكري ونفسي الى اخر، حتى كان التحول الذي "تمظهر" اخيرا بوداع العمامة.
كانت هذه المرحلة العمل الكادح لكسب العيش/ الكفاف.. أي انها كانت مرحلة الرؤية الى الاشياء وطبائع الاشياء من داخلها او عن قرب منها، لا الرؤية الاخرى الباحثة –كانت – في "صفاء" المجردات من خارج الاشياء وطبائع الاشياء بعيدا عنها.. صار الكدح اليومي لكسب العيش /الكفاف بمثابة السلك الموصل بي الى الرؤية من الداخل، لأنه التعامل الحي مع آلية الحياة العملية –الاجتماعية ، أو لأنه الاندماج بالفعل في دينامية الحركة التي تنتج ظاهرات الحياة العملية – الاجتماعية. في هذه المرحلة الكادحة، اصبحت القراءات اكثر ضرورة لي منها في المراحل السابقة، واصبحت ايضاً تقتضيني اختيارا متميزا ومدققا لنوع المقروءات..وها قد وضعتني طبيعة العمل (التدريس في المدارس الثانوية الخاصة) امام ضرورات جديدة على هذا المثال: لقد صرت وسط العاصمة " بغداد" ووسط النشاط المركزي للحركة الثقافية العراقية، ووسط زحام العرض والطلب حول الكتاب في " سوق السراي" حيث تحفل المكتبات التجارية بكل جديد وقديم من الكتب والمنشورات ومن المؤلفات والترجمات ووسط النماذج المتنوعة من الكتاب والمفكرين والمبدعين ووسط قضايا ومشكلات ومفاهيم مستجدة مع متغيرات الحياة الكونية والعربية والعراقية بعد انخراط البشرية بأجمعها في مشاغل الحرب العالمية الثانية..
قراءاتي في هذه المرحلة اذن "تحولت" هي ايضاً..صار يعنيني، اكثر فأكثر ، أن اقرأ من الفكر النظري ما يكون له اتصال ، أي اتصال بمضمون الواقع القائم، أي بالمجرى العام والخاص لمسار المعركة الدائرة آنذاك، وطنياً وقومياً وأممياً ودولياً، خلال سنوات الحرب هذه.. اذن ، كان لابد من لينين، كان لابد ان أسترشد هنا بكلمة الشهيد حسين محمد الشبيبي من ان اللينينية هي الماركسية، مطبقة على الواقع الحي الملموس، وكان الواقع الحي الملموس الذي جاءت به الحرب الكونية الثانية، يحتاج أشد الحاجة الى الماركسية مطبقة بتوجيه لينيني، كان لابد لي من لينين.. فهذا وقت اللينينية ماركسيا، أي هذا وقت الماركسية بتطبيقات قائد اول ثورة اشتراكية علمية في تاريخ البشرية اطلاقاً.. هكذا تحولت قراءاتي الفكرية في هذه المرحلة..تحولت الى لينين من ندائه الشهير الى شعوب الشرق حتى الاستعمار اعلى مراحل الرأسمالية". وقد اسعدتني مصادفة رائعة، في تلك الظروف نفسها، بالاطلاع على ترجمة غير منشورة، لدى احد المثقفين الشيوعيين العراقيين لكتاب لينين: "الدولة والثورة" وكان من الطبيعي –مع ذلك- ان اضيف الى القراءات اللينينية قراءات مميزة من الفكر القومي العربي لأبرز الشخصيات المتخصصة وقتئذ بالتنظير لهذا الفكر..
وبعد.. فأين انا اذن، في مرحلة الاربعينيات من مسألة الانتماء؟.
الحقيقة ان هذا السؤال استوقفني مرات بعد رحلة الاربعينيات أي بعد العودة الاخيرة الى وطني الاول: لبنان، وهذه أول مرة احس فيها الحاجة الى وضوح الجواب:
- كانت مجريات حياتي الدراسية ، منذ انطفاء الحلم الاول الذي حملني الى دار الهجرة العلمية: النجف، حتى اللقاء البهي مع ماركسية لينين، او مع لينينية ماركس – كانت كل هذه المجريات تتسلسل بي- طبيعياً وبهدوء- الى الانتماء الماركسي اللينيني بشكليه او بمضمونه الفكري والعضوي..
اما الانتماء الفكري، فلم يكن يحتاج عندي الى ارادة مباشرة، في زمن مباشر.. فهو جاءني بالارادة البطيئة الخفية، بالتراكمات المعرفية الهادئة، بالتحولات الكيانية السرية.. كان الانتماء الفكري يتكون في داخلي مع تكوين اصوله الثوابت: " الاتجاهات المادية "الهلامية" في تفكيري قبل التقائي نص ماركس او انجليز أو لينين.
اما مسألة الانتماء العضوي (الحزبي) فهي وحدها كانت العقدة لقد تأخر عني هذا الانتماء، او تأخرت عنه.. برغم ان الناس كانوا يستعجلونني اليه، كانوا يستبقون الى تسميتي "شيوعيا" قبل ان اكون شيوعياً، سبقتني هذه التسمية الى بيروت قبل ان اعود اليها عودتي الاخيرة (9/6/1949).. فور وصولي بيروت وجدتني فيها شيوعياً خطراً، وهنا ادركت سر الاستعجال بي نحو " الشيوعية" هنا عرفت ان هؤلاء المستعجلين في بيروت، هم جماعة نوري السعيد في لبنان..كان يعنيهم جدا- كما تبين – ان اكون شيوعياً، حينذاك دفاعا عن سيدهم نوري السعيد هذا أي قصدا لافتعال "مبرر" لابعادي عن العراق قسرا قبل ان ينقضي اسبوع واحد على عودته الى كرسي رئاسة الوزراء، وقد كان الشعب العراقي نفسه قد ابعده عن الحكم والسيطرة نحو سنتين، بفضل الوثبة الوطنية المجيدة التي قامت بها جماهير الشعب العراقي بقيادة قواه الوطنية والديمقراطية والتقدمية في نهاية عام 1947، وانتصرت انتصارا باهراً باسقاطها مشروع المعاهدة المعرفة باسم " معاهدة بورت سماوث" التي كان عقدها الحكم العراقي وقتذاك مع الحكومة البريطانية، وكان من شأن هذه المعاهدة ان تفرض على العراق قيوداً سياسية وعسكرية جديدة تتناقض مع سيادته الوطنية، ومع مصالح شعبه ومطامحه الديمقراطية والتقدمية..
لم اكن شيوعيا بعد لكن كنت كاتباً وطنياً اكتب موقفي الوطني بصراحة وجراءة كل يوم في صحف بغداد، لاسيما جريدة "الرأي العام" اليومية، (صاحبها شاعرنا الاكبر الجواهري).. وقد اتفق ان كتبت مقالاً بعنوان " نوري السعيد" بين العقل والعاطفة" (مجلة الحضارة)، تعليقا على تصريح له " ينصح"فيه شعب العراق ان يركن الى " العقل" بدل " العاطفة" بعد اسبوع واحد على نشر المقال عاد نوري السعيد الى الحكم، وبعد اسبوع واحد من عودته فوجئت بقرار الابعاد فوراً..
في منتصف الاربعينيات كان انتمائي الفكري يدعوني الى الانتماء العضوي.. لكن لم استطع الاجابة للدعوة وقتذاك.. لمااذ؟ هل عن خوف أو جبن، او انتهازية؟.
- استطيع القول الان قطعا، ان لاشيء كان، وما زال، وسيبقى حتى النهاية بعيداً وغريباً عني، كمثل الخوف، والجبن والانتهازية ويقيني ان الجيل العراقي الذي عايشته في تلك المرحلة الحاسمة في حياتي، يشهد لي بذلك دون تردد..
التفكير بالانتماء العضوي لم يكن بعيداً عني و قتذاك لقد استحوذ علي وقتا ما، كهم يومي بين همومي الكبيرة لكن لم يخرج الامر عن حدود التفكير، كان يسكنني التردد ومعه الحيرة المرهقة..
ذات مرة قلت لنفسي: كفى، ولنقطع رأس التردد والحيرة.. في اللحظة نفسها قررت ان انتمي لأحد الاحزاب العراقية غير اليسارية.. ذهبت الى صديق لي اعرف اخلاصه وصدقه، مستشيراً.
ضحك الصديق، وصارحني: انا اعرفك وافهمك دع عنك هذا.. فضحكت وصارحته: شكراً يا صديقي العزيز..
ثم جاءت احداث الوثبة الوطنية العراقية (نهاية عام 1947) وانخرطت في هذه الاحداث في التظاهرات الجماهيرية، وفي النضالات السياسية، وفي الكتابة اليومية لصحف، لقد هزتني التجربة العظيمة، وهزني دم الشهيد جعفر الجواهري، شقيق شاعرنا الجواهري، وصاحب وحي قصيدته الشهيرة:
اتعلم، أم أنت لاتعلم
بأن جراح الضحايا؟
جاءت احداث الوثبة، وهزتني التجربة.. واكتشفت خلالها اموراً خطيرة، فقررت الانتماء، ولكن..
جاء أمر ابعادي عن العراق من نوري السعيد، قبل ان يصير الانتماء عضوياً بالفعل.. واذا كان هذا الابعاد القسري الغاشم قد حرمني شرف الانتماء العضوي في العراق، فانه لم يستطع ان يحرمني شرف هذا الانتماء في لبنان..
اما هذا التحول السعيد الاخير في حياتي، فله قصة اخرى، ولنا مع هذه القصة السعيدة موعد اخر.
* (الطريق حزيران عام 1984 –عدد خاص بمئوية ماركس).
رحلت الى النجف صغيراً.. لكن الحلم الذي رحل معي كان كبيراً كبيرا.. والمفارقة هنا ان الحلم هذا لم يستطع ان يعيش معي في النجف طويلاً.. لماذا؟.
-الف سبب وسبب يمكن ان يقدم لي نفسه بهذه المناسبة، فأتعرفه وأعرفه جيداً، لكن السبب الحقيقي، المباشر او غير المباشر، هو الوحيد الذي اجهله منذ البدء، وما ازال..
- ان اصير "شيخاً" مهيباً مرموقاً، كوالدي.. ذلك كان حلمي الاول، سبق كل احلامي سبق حتى احلام طفولتي وحين بدأت تتدفق بها ذاتي اخذ يحتويها جميعا، او هو: اخذ يلتهمها جميعا بشراسة..هذا الحلم لبسني قبل ان اجتاز سن الثامنة.. ولبستني معه العمامة والجبة قبل اوانهما "الطبيعي" العامامة والجبة كرمز للحلم ذاته اولاً، وكأداة إلزام لي بموجبات الحلم ثانيا..
قلت: حلمي؟
- لا ، عفوا ..ذلك كان، منذ البدء حلم أبي ، ثم أمي والاسرة ، ثم سائر العائلة في سائر جبل عامل..ومذ بدأ يتكون كحلم لي ، مات ابي.. لكن الحلم لم يمت ، لأنه صار حلمي.. مات ابي وفي نفسه لهفة ان يبقى طويلاً حتى يتحقق الحلم.. مات وأنا في الثانية عشرة، فأحسست ثقل الحلم يفيض عن طاقتي، ابي كان يبدو لي انه من اهل اليسر المادي، فإن منزلنا في "حداثا" لم يكن يخلو من الضيوف على مدار العام، ولم تكن الضايفة- مادة وطريقة –تنزل عن مستوى الضيافة المألوفة عن اهل اليسر في بلادنا في ذلك الزمن.. وظهر لي فور موت ابي اننا من اهل الفقر، لا من اهل اليسر، وفجأة رأيت أننا صرنا في مكان مكشوف جدا بين صفوف الفقراء من اهل بلادنا.. كيف اذن احمل الحلم، بعد؟
- في البداية حملته وحدي، اخذت اطوف به من بلدة الى بلدة، باحثاً له عن غذاء علمي اولي عند اهل العلم من بقايا الاجيال الدارسة في جبل عامل، مكتفياً بالاقل الاقل من ضرورات الغذاء الجسدي..
ثم كان "لابد من صنعاء".. وكانت "صنعاء" حينذاك هي النجف دار الهجرة الاولى لكل شيعي في العالم يحلم كحلمي ذاك.. الحلم سيبقى قاصراً، سيبقى فجاً ان لم تلفحه شمس النجف، سيتحول قزماً الى النهاية ان لم أدركه ، قبل فوات الاوان، بالهجرة سريعا الى النجف –وكانت الهجرة (1924)..
لم يستطع الحلم ان يعيش معي في النجف اكثر من عام واحد..
لن اقول: "لماذا" مرة اخرى، لأنني سأقول مرة اخرى ايضاً: ان السبب الحقيقي هو الوحيد الذي أجهله من بين الاسباب الكثيرة التي تعرض نفسها لي في مسافة طويلة من مسافات الذاكرة، كلما عرض لي هذا السؤال..
لكن، اذا كنت اجهل حتى الان ذلك السبب الحقيقي الخفي، فإني اعرف، وما نسيت قط، ان ذاك الحلم الطيب الاليف بدأ ينتابه الضمور والذبول في ذاتي، أي أخذ يفقد –شيئاً فشيئاً – صفته كحلم لي، ليعود اخيراً الى ما كاأنه في البدء: حلم الاسرة والعائلة في جيل عامل فحسب..
العام الاول لهجرة النجف، ما كاد ينقضي حتى رأيت خاطراً قاهراً صارماً يعترضني يريد ان يحملني على الاختيار الحاسم في مسألة دقيقة للغاية، وهي مسألة تحديد وجهة المصير:مصير حياتي كلياً..
كان علي ان اختار: إما قرار العودة الى الارتباط النهائي بذلك الحلم الذي حملني هو الى دار الهجرة، النجف: أي ان اقرر –منذ لحظتي تلك – متابعة السير في مسار "المهنة" التي كانت كل مطمح الحلم..وإما ان أقرر الانعطاف القاطع عن هذا المسار..الاختيار، لأنه لم يرتفع الى مستوى كونه احد طرفي الاختيار، ما كان يعنيني –في لحظتي – سوى ان اختار إما متابعة الخط المرسوم لي من قبل، وإما الانعطاف عنه، وان الى المجهول؟..
لم أتردد مطلقاً.. اخترت فوراً..
.. وانقطعت العلاقة المباشرة مع الحلم وغابت – تواً – من حياتي الى النهاية صورة "الشيخ المهيب المرموق" التي كانت هي نفسها صورتي كما رسمياً لي الحلم..
- الى المجهول؟..
- لا .سرعان ما تحول المجهول معلوماً..ذلك بفضل الحلم المنطفئ ذاته.. بفضله هو – نعم..فهو الذي اشعل في داخلي ، منذ الصغر ، لهفة الاسئلة، شهوة التطلع الى كل افق، نزعة التلفت الى كل الجهات، أي اشعل بي حافز المغامرة في طلب المعرفة حتى في اعمق غابات المجهول.. بفضل هذا الحلم الذاهب عني، أو الذاهب انا عنه بأختيار حاسم.. لكن الذهاب هنا ليس ذهاباً عن العمق والجذور، لم يكن الذهاب هنا انقطاعا عن العمق ، ولا انفصالاً عن الجذور.ز بفضل الحلم الذاهب نفسه، وجدت داخل عالمي المغلق آنذاك نافذة تنفتح على المجهول..فرأيت دربي مضيئاً وحددت هدف المسير واضحاً..
المجهول الذي صار معلوماً، هو العلم اذن..هو العلم، نهجاً وهدفاً معاً، كيف الدخول في هذا المجهول /المعلوم؟
كيف، وقد تحولت العلاقة مع الحلم الذاهب، أي مع طريقي الوحيد حينذاك الى العلم، تحولاً يعني انسداد هذا الطريق أمامي تلقائياً، كما هي طبائع الامور في مثل وضعي ذاك؟
لابد من الدخول.. هكذا قلت..
سأبقى في النجف.. سأتابع الدراسة في النجف..هكذا صممت ذلك هو الاختيار الثاني الحاسم: سأبقى.. سأتابع برغم كل الاسئلة المستنفرة في داخلي ضد هذا الاختيار، برغم كل الاثارات المحتملة في داخل ذاتي حيال هذا القرار، برغم كل المخارز التي ستتصوب الى خاصرتي عند كل خطوة سأتمكن من انتزاعها في مكاني ذاك من دار الهجرة: النجف..
سأبقى.. سأتابع لكن الهدف واحد احد، هو المعرفة، هو العلم دون " المهنة".. سأبقى وأتابع الدراسة النجفية حتى استكمال مراحلها جميعاً، أي حتى بلوغ القمة لهذه الدراسة.
وبقيت ، وتابعت بالفعل، وان حدثت خلال سني دراستي الاربع عشرة، اختراقات قصيرة وعابرة لهذا القرار/الاختيار..
القرار/الاختيار الاول، والقرار/الاختيار الثاني، احدثا في حياتي تغيرا دخل في عمقها الاعمق:امتلكت حريتي، أي امتلكت حقي بأن اقرر اين انا حيال نفسي، واين أنا حيال"الاخرة"؟ تحررت اذن.. واذا كنت بقيت، وتابعت، فقد صرت اشعر ان بقائي ومتابعتي صادران عن قراري واختياري..واذا كنت مضيت اقرأ وأدرس الكتب والعلوم نفسها التي يقرأون ويدرسون في النجف، فقد صرت اشعر انني اقرا وأدرس بقراري واختياري.. هذا الشعور وذاك فتحا لي ابوابا للدخول في عالم أوسع للقراءة والدرس..
في احدى لحظات الحوار مع النفس، قلت:
- هل تحررت حقا؟
كان الجواب واضحاً وبدهيا: نعم –اذن ، لماذا لا اتجاوز الخطوط الحمر الرادعة عن القدرات الاخرى وعن العلوم الاخرى، أي خارج القراءات والعلوم "الحلال" وحدها في عرف النظام الدراسي النجفي آنذاك؟.
اما الاجابة عن هذا السؤال ، فكانت حاضرة جاهزة عمليا قبل السؤال..اي ان الخطوط الحمر ذاتها كنت بدأت أقتلعها –واحدا واحدا- من مكانها التقليدي الفاصل بين " المحرمات" و" المباحث" من انواع المعرفة البشرية المعروفة عندنا حتى ذاك الحين..
لم يبق في اعتباري اذن، فاصل "يحرم" قراءة "أو معرفة" اوعلما في جانب ، و" يحلل" قراءة او معرفة او علما في جانب اخر، هذه مرحلة جديدة لتحولاتي الداخلية لكنها مرحلة تعرضت عندها –لحظة ما– لحالة من فقدان التوازن ..حالة خطرة كانت اولا انني تداركت الامر سريعاً، كاد اقتلاع " الفاصل" يحدث طغياناً للقراءات الحرة على القراءات النظامية، ولم تطل حالة الطغيان هذه، أي حالة فقدان التوازن.. بادرت لتنظيم "يوميات" القراءة والدرس لكي يتوافر لي التوازن، كان ضرورياً لي ذلك، لأنني حين اخترت البقاء في النجف ، انما اخترته لمتابعة الدراسة الخاصة بها، أي اخترت هذا اللون من المعرفة الذي تقدمه النجف.. كان قد استهواني مذ بدأت تتوضح لي معالمه التخصيصية هناك، في كل من علوم: النحو والمنطق والبلاغة واصول الفقه، والفقه الاسلامي، واستهواني - بالاخص – اسلوب التعامل بين المتعلم والمعلم والنص، وهو اسلوب يضع المتعلم فور حضوره احدى حلقات الدراسة، امام مسؤوليته الصارمة عن نفسه، أي عن شكل علاقته الاستيعابية مع المعلم ومع نص الكتاب الدراسي..اسلوب يدع المتعلم –بصورة تلقائية – متحرراً من التبعية لفكر المعلم او لفكر النص، ويوسع له فسحة الاستقلال الفكري، وحرية المناقشة الجدية مع المعلم ومع النص دون كوابح.. لابد اذن – من توفير الحالة القصوى للتوازن بين الافادة من مزايا الدراسة هذه، الافادة من ولوج ابواب المعرفة كل يوم، خارج نطاق الدراسة "النظامية" أينما وكيفما تيسر لي الولوج في أي باب من ابواب المعرفة..
كان الوصول الى الكتب والصحف الدورية الصادرة من مختلف البلدان العربية ومن مصر ولبنان بخاصة متيسرا في النجف أي خارج "اسوار" المحيط الدراسي الديني..كان يتوافر لنا هناك ان نقرأ كتابات المفكرين والعلماء والكتاب والمبدعين من رجال القرن التاسع عشر والثلث الاول فما فوق من القرن العشرين.. وكذلك الكتابات الفكرية والعلمية والادبية المترجمة.. عن مفكرين وعلماء وادباء عالميين..مادة القراءة "المحرمة" علينا آنذاك كانت من الغزارة بحيث يضيق وقتنا عن استيعابها ، ونحاول جهدنا ان لاندع لحظة من الزمن تتسرب من ايدينا هدراً دون كسب معرفة ما.
هذه المرحلة في حياتي هي مرحلة الخصب المعرفي.. قرأت فيها اشتاتاً من المعارف لا تنتظمها وحدة، بل يتخللها الاختلاف حتى التناقض ..كنت اقرأ الادب الرومانسي، مع الفكر العلمي ، مع الكتابات العلمية الخالصة، مع البحث الاجتماعي: نظرياً وميدانياً وذاكرتي للعهد الاول من هذه المرحلة تحتفظ باسماء اعلام وكتب ومجلات ما يزال لها وهجها الخاص عندي، برغم مسافة ما بيني وبينها الان، ذلك الوهج النفاذ الذي علمني كثيراً ومهد لي الطريق الى ماركس، ثم وصل بي الى ماركس..
كانت كلمة "الاشتراكية" تتردد كثيراً في قراءات هذه المرحلة، لاسيما منها القراءات "النهضوية" من كتابات نقولا حداد ،صاحب مجلة السيدات والرجال والباحث الاجتماعي وصاحب كتاب الاجتماع الذي رافقني وقتاً غير قصير في اواخر العشرينيات وكذلك روايات "فرح انطون" ذات النزعة الاجتماعية وكتابات إسماعيل مظهر وبحوثه التي تصدر في مجلته "العصور" المصرية المعروفة بأتجاهاتها المادية ..ثم النتاج الطليعي لشبلي شميل الذي قدم الى الفكر العربي والثقافة العربية ، اول مرة، نظرية التطور الدارونية، بكل ما يعنيه هذا النتاج من اسهام فعلي في التأسيس لمنهج للتفكير، في لغتنا وثقافاتنا ، يعتمد النظر المادي ويقوم على استيعاب أوليات القوانين الكونية لحركة تطور الطبيعة والمجتمع.
اسماعيل مظهر، وشبلي شميل هذان هما الاصل والاساس في تحولاتي الفكرية الاولى نوعياً وجذرياً، فأثرهما الاعمق في تكويني المنهجي والنظري ، يرتبط بقراءاتي المثابرة والجادة والممتعة لهما في السنوات الاولى لعهد التحرر من كابوس "المهنة" أي ما بين عامي 1925- 1927 ولست أنسى هنا سلامة موسى واثره بي في ذلك العهد، بما كان لكتاباته الفكرية –الاجتماعية ، حينذاك من اتصال ما بالفكر الاشتراكي الطوباوي ، ومجلة "المقتطف" بما كانت تعنى به من اضفاء للطابع العلمي الغالب على مجمل ما تنشره وقتئذ، ولا غير المقتطف من المجلات ،ولا الكتب الكثيرة الاخرى التي يعسر تعدادها الان.
قلت: كانت كلمة "الاشتراكية" تتردد كثيراً في قراءات هذه المرحلة، لكن الكلمة ظلت عندي –وقتاً ما – اشبه بـ" الطلسم" لا اعرف مدلولها العلمي ولاشيئاً من المفاهيم التي تشكل هذا المدلول..كيف تعاملت معها اذن؟
- لم تكن كلمة "الاشتراكية" وحدها تساوي "الطلسم" عندي، كل الكلمات ذات المدلولات الفكرية والعلمية والفلسفية بدأت علاقتي بها كـ طلسمات في سنوات العهد الاولي لهذه المرحلة.. لكن العلاقة تلك لم تجد لها استقراراً عندي، فقد جعلت احاربها حتى قهرتها، ثم تحولت " الطلسمات" في ذهني الى قناديل اضاءت حياتي.. ذلك بفضل القراءات الدؤوب باصرار والحاح في محاولات الفهم والكشف.. مع تكرار المحاولات مرات من غير ان اجد سأماً أو استسلم لعارض سأم، بل كثيراً ما كنت أجد عند كل محاولة جديدة نوعاً جديداً من الغبطة والمسيرة.. هذا وحده كان طريق الوصول الى المدلول العلمي للاشتراكية، أي الى الاشتراكية العلمية، بعد ان تجاذبتني " الاشتراكيات" بمختلف ألوانها الاخرى، حتى لونها "الغابي" الباهت والزائف، لكنه طريق كان مشحوناً بالقلق والجهد البالغ، وكان طويلاً وعسيراً، ثم كان الوصول الى نقطة الهدف بدفعات متقطعة، متباعدة..
في معظم مراحل هذا الطريق الطويل الى الاشتراكية العلمية، لم ألتق ماركس باسمه الا مرات قليلة وخاطفة.. القراءات الجاهدة والحائرة حول الاشتراكية.. في سنوات العهد الاول لهذه المرحلة، كانت بعيدة عن ماركس، أي بعيدة عن اسم ماركس اولاً، وبعيدة عن اشتراكية ماركس(الماركسية) ثانيا.. كثيرا ما كان مفهوم الاشتراكية يختلط في الكتابات العربية " بالنهضوية" اختلاطاً طريفاً، بمفاهيم متغايرة أو متناقضة ، وكثيراً ما كان جوهر قضية الاشتراكية، أي المسألة الطبقية، يزوغ خلال هذه الكتابات الى خارج القضية، أو يختفي كليا، وتبتعد الكتابة –بالطبع اذن – عن واقع الحركة الاجتماعية، أي عن رأس القوانين العاملة في تطوير المجتمع، اعني قانون التناقض الطبقي والصراع الطبقي، وأغرب اشكال الاختلاط بين المفاهيم، ان تعرض مبادئ الثورة البرجوازية الفرنسية كمبادئ للثورة البروليتارية الاشتراكية..
اول لقاء رواية "الدين والعلم والمال" لفرح انطون، وكانت الرواية هذه اقرب الى البحث "الفلسفي الاجتماعي" كما اعترف بذلك فرح نطون نفسه.
يعالج فرح، في هذه الرواية مشكلة العلاقة الطبقية التناقضية بين العمال وأرباب العمل، وهو يرى أهمية المشكلة جيداً، ويقترح لها –على لسان ممثل العمال – حلاً لا يتناسب مع مستوى اهميتها وشموليتها، وهو الحل القائل "باشراك العمال في ربح العمل" إضافة الى تشريعات الضمان الاجتماعي على نحو ما هو متبع في البلدان الرأسمالية المتطورة.. أي ان الحل المقترح لا يمس الملكية الخاصة لوسائل الانتاج، وبرغم ذلك يبادر الممثل العمالي، خلال الحوار مع ممثل أرباب العمل، الى القول متبجحاً:
- "هل تريدون منا فلاسفة؟ فأسمعوا رأي الفيلسوف كارل ماركس..
- "ما شاء الله؟ تستشهدون بأشد أنصاركم غلواً".. فيقول العمالي:
- لا بل نستشهد بفيلسوف من الفلاسفة، رأيه يناقض رأيكم في الملكية"..
صحيح ان هذه اول مرة التقي فيها ماركس.. لكن ماركس هذا، الذي التقيته عن فرح أنطون، لم استقبله بارتياح، ولم اشعر انه هو الذي سيخرجني من بلبلة المفاهيم المختلفة للاشتراكية، فماركس هذا هو –اولاً –فيلسوف منا" أي من هؤلاء العمال الذين يبتسرون –اعتباطاً- حل المشكلة الاجتماعية – الطبقية الكبرى بحيث ينحصر هذا الحل في " اشراك العمال في ربح العمل"..وهو مع ذلك –ثانيا – "من انصار العمال غلوا" وهو –ثالثاً- مع ذلك ايضا له رأي في الملكية يناقض رأي العمل..كيف تجتمع هذه التناقضات في شخص هو –الى ذلك كله- فيلسوف من الفلاسفة؟..
برغم هذه الهواجس المقلقة، وقع في نفسي ان ماركس، هذا لابد له شأن عظيم في القضية التي يتحدثون عنها كثيراً باسم الاشتراكية لكن كيف سأصل الى صاحب هذا الشأن العظيم بصورته الحقيقية دون الصورة المضطربة هذه؟.
بدءاً من هذا السؤال ، بدأت أدخل في العلاقة السليمة مع ماركس..
ومن هنا بدأ ماركس يدخل حياتي وما أزال في النجف..
لكن ماركس الماركسي، تأخر عني وصوله بضع سنين بعد اللقاء الاول، عند فرح أنطون، مع ماركس "غير الماركسي"..تأخر حتى انعقدت لي صلة خفية مع " الشيخ" حسين محمد الشبيبي (هو نفسه الشهيد الشيوعي المعروف الذي اعدمه النظام الملكي مع الشهيد الرفيق فهد في بغداد عام 1947).
في اواخر الثلاثينيات بدأت أدخل المرحلة الدراسية الاخيرة في النجف، وفي الوقت ذاته كنت اكتب اسبوعيا لمجلة " الهاتف" النجفية (صاحبها:الكاتب القاص جعفر الخليلي) مقالا او قصة.. كان هذا الحضور الادبي والفكري الاسبوعي يوسع أفق علاقاتي الادبية والفكرية الى ابعد من النجف.. لأن الهاتف كانت وقتئذ مجلة معظم المثقفين العراقيين.. في هذا الافق نفسه انعقدت صلتي بـ " الشيخ" الشيوعي (حسين محمد الشبيبي).. كنت القاه في النجف، واحيانا القاه في بغداد متسللا الى مكانه السري قرب جامع "الحيدر خانة"الشهير..
مرة سألت الشهيد الشبيبي رأيه في قضية وطنية كانت قضية الساعة في الاوساط السياسية العراقية حينذاك، فأخذ يبسط لي رأيه باستفاضة، مستشهداً خلال ذلك بمواقف ونصوص لينينية ..اذكر أنني اعترضته متسائلاً: لماذا لايستشهد بالماركسية؟ قال: اللينينية هي الماركسية مطبقة على الواقع الملموس تطبيقا ابداعيا تميز به لينين في عصر الثورة الاشتراكية العلمية المتحققة على الارض بالفعل.
منذ انعقاد هذه الصلة دخلت في صميم العلاقة الصحيحة أي العلمية مع ماركس " الماركسي".. وأخذت اقرأ العلم الماركسي، دفعة دفعة، ذات مرة دفع لي الرفيق الشهيد " الشبيبي" بنسخة من "البيان الشيوعي" على سبيل الاهداء، شرط ان اقرأها أكثر من مرة.. ولكي استحق شرف هذا الاهداء عشت مع البيان الشيوعي ، في هذه النسخة العزيزة يومين كاملين متتاليين، ثم رجعت اليه منشرح الصدر، مفعماً بفرح المعرفة باضوائها الجديدة الكاشفة، بقيت محتفظاً بهذه النسخة من " البيان الشيوعي" بحرص شديد وباعتزاز عميق، حتى فوجئت يوماً باختفائها، فحزنت كثيرا وبقي حزني يتجدد كلما تجددت ذكرى هذا الاختفاء..
قبل هذا حاولت الوصول الى ماركس "الماركسي" بوساطة "رأس المال" غير ان نتاج المحاولة كان ضئيلاً لأنها اعتمدت ترجمة للكتاب باسم "د. راشد البراوي" وهي اقرب ان تكون تلخيصاً غير ناجح.. بصدق وحرارة، حكاية ذلك الصراع الطويل المرهق والممتع معاً بين حلم الطفولة الذاهب وعلاقاته ونوازعه ورواسيه ، وبين المشروع المعرفي غير المحدود الذي جعلته البديل عن الحلم ذلك بقراري واختياري.. وهو المشروع الذي استمر يدفع بي، طوال اربعة عشر عاماً، من تحول فكري ونفسي الى اخر، حتى كان التحول الذي "تمظهر" اخيرا بوداع العمامة.
كانت هذه المرحلة العمل الكادح لكسب العيش/ الكفاف.. أي انها كانت مرحلة الرؤية الى الاشياء وطبائع الاشياء من داخلها او عن قرب منها، لا الرؤية الاخرى الباحثة –كانت – في "صفاء" المجردات من خارج الاشياء وطبائع الاشياء بعيدا عنها.. صار الكدح اليومي لكسب العيش /الكفاف بمثابة السلك الموصل بي الى الرؤية من الداخل، لأنه التعامل الحي مع آلية الحياة العملية –الاجتماعية ، أو لأنه الاندماج بالفعل في دينامية الحركة التي تنتج ظاهرات الحياة العملية – الاجتماعية. في هذه المرحلة الكادحة، اصبحت القراءات اكثر ضرورة لي منها في المراحل السابقة، واصبحت ايضاً تقتضيني اختيارا متميزا ومدققا لنوع المقروءات..وها قد وضعتني طبيعة العمل (التدريس في المدارس الثانوية الخاصة) امام ضرورات جديدة على هذا المثال: لقد صرت وسط العاصمة " بغداد" ووسط النشاط المركزي للحركة الثقافية العراقية، ووسط زحام العرض والطلب حول الكتاب في " سوق السراي" حيث تحفل المكتبات التجارية بكل جديد وقديم من الكتب والمنشورات ومن المؤلفات والترجمات ووسط النماذج المتنوعة من الكتاب والمفكرين والمبدعين ووسط قضايا ومشكلات ومفاهيم مستجدة مع متغيرات الحياة الكونية والعربية والعراقية بعد انخراط البشرية بأجمعها في مشاغل الحرب العالمية الثانية..
قراءاتي في هذه المرحلة اذن "تحولت" هي ايضاً..صار يعنيني، اكثر فأكثر ، أن اقرأ من الفكر النظري ما يكون له اتصال ، أي اتصال بمضمون الواقع القائم، أي بالمجرى العام والخاص لمسار المعركة الدائرة آنذاك، وطنياً وقومياً وأممياً ودولياً، خلال سنوات الحرب هذه.. اذن ، كان لابد من لينين، كان لابد ان أسترشد هنا بكلمة الشهيد حسين محمد الشبيبي من ان اللينينية هي الماركسية، مطبقة على الواقع الحي الملموس، وكان الواقع الحي الملموس الذي جاءت به الحرب الكونية الثانية، يحتاج أشد الحاجة الى الماركسية مطبقة بتوجيه لينيني، كان لابد لي من لينين.. فهذا وقت اللينينية ماركسيا، أي هذا وقت الماركسية بتطبيقات قائد اول ثورة اشتراكية علمية في تاريخ البشرية اطلاقاً.. هكذا تحولت قراءاتي الفكرية في هذه المرحلة..تحولت الى لينين من ندائه الشهير الى شعوب الشرق حتى الاستعمار اعلى مراحل الرأسمالية". وقد اسعدتني مصادفة رائعة، في تلك الظروف نفسها، بالاطلاع على ترجمة غير منشورة، لدى احد المثقفين الشيوعيين العراقيين لكتاب لينين: "الدولة والثورة" وكان من الطبيعي –مع ذلك- ان اضيف الى القراءات اللينينية قراءات مميزة من الفكر القومي العربي لأبرز الشخصيات المتخصصة وقتئذ بالتنظير لهذا الفكر..
وبعد.. فأين انا اذن، في مرحلة الاربعينيات من مسألة الانتماء؟.
الحقيقة ان هذا السؤال استوقفني مرات بعد رحلة الاربعينيات أي بعد العودة الاخيرة الى وطني الاول: لبنان، وهذه أول مرة احس فيها الحاجة الى وضوح الجواب:
- كانت مجريات حياتي الدراسية ، منذ انطفاء الحلم الاول الذي حملني الى دار الهجرة العلمية: النجف، حتى اللقاء البهي مع ماركسية لينين، او مع لينينية ماركس – كانت كل هذه المجريات تتسلسل بي- طبيعياً وبهدوء- الى الانتماء الماركسي اللينيني بشكليه او بمضمونه الفكري والعضوي..
اما الانتماء الفكري، فلم يكن يحتاج عندي الى ارادة مباشرة، في زمن مباشر.. فهو جاءني بالارادة البطيئة الخفية، بالتراكمات المعرفية الهادئة، بالتحولات الكيانية السرية.. كان الانتماء الفكري يتكون في داخلي مع تكوين اصوله الثوابت: " الاتجاهات المادية "الهلامية" في تفكيري قبل التقائي نص ماركس او انجليز أو لينين.
اما مسألة الانتماء العضوي (الحزبي) فهي وحدها كانت العقدة لقد تأخر عني هذا الانتماء، او تأخرت عنه.. برغم ان الناس كانوا يستعجلونني اليه، كانوا يستبقون الى تسميتي "شيوعيا" قبل ان اكون شيوعياً، سبقتني هذه التسمية الى بيروت قبل ان اعود اليها عودتي الاخيرة (9/6/1949).. فور وصولي بيروت وجدتني فيها شيوعياً خطراً، وهنا ادركت سر الاستعجال بي نحو " الشيوعية" هنا عرفت ان هؤلاء المستعجلين في بيروت، هم جماعة نوري السعيد في لبنان..كان يعنيهم جدا- كما تبين – ان اكون شيوعياً، حينذاك دفاعا عن سيدهم نوري السعيد هذا أي قصدا لافتعال "مبرر" لابعادي عن العراق قسرا قبل ان ينقضي اسبوع واحد على عودته الى كرسي رئاسة الوزراء، وقد كان الشعب العراقي نفسه قد ابعده عن الحكم والسيطرة نحو سنتين، بفضل الوثبة الوطنية المجيدة التي قامت بها جماهير الشعب العراقي بقيادة قواه الوطنية والديمقراطية والتقدمية في نهاية عام 1947، وانتصرت انتصارا باهراً باسقاطها مشروع المعاهدة المعرفة باسم " معاهدة بورت سماوث" التي كان عقدها الحكم العراقي وقتذاك مع الحكومة البريطانية، وكان من شأن هذه المعاهدة ان تفرض على العراق قيوداً سياسية وعسكرية جديدة تتناقض مع سيادته الوطنية، ومع مصالح شعبه ومطامحه الديمقراطية والتقدمية..
لم اكن شيوعيا بعد لكن كنت كاتباً وطنياً اكتب موقفي الوطني بصراحة وجراءة كل يوم في صحف بغداد، لاسيما جريدة "الرأي العام" اليومية، (صاحبها شاعرنا الاكبر الجواهري).. وقد اتفق ان كتبت مقالاً بعنوان " نوري السعيد" بين العقل والعاطفة" (مجلة الحضارة)، تعليقا على تصريح له " ينصح"فيه شعب العراق ان يركن الى " العقل" بدل " العاطفة" بعد اسبوع واحد على نشر المقال عاد نوري السعيد الى الحكم، وبعد اسبوع واحد من عودته فوجئت بقرار الابعاد فوراً..
في منتصف الاربعينيات كان انتمائي الفكري يدعوني الى الانتماء العضوي.. لكن لم استطع الاجابة للدعوة وقتذاك.. لمااذ؟ هل عن خوف أو جبن، او انتهازية؟.
- استطيع القول الان قطعا، ان لاشيء كان، وما زال، وسيبقى حتى النهاية بعيداً وغريباً عني، كمثل الخوف، والجبن والانتهازية ويقيني ان الجيل العراقي الذي عايشته في تلك المرحلة الحاسمة في حياتي، يشهد لي بذلك دون تردد..
التفكير بالانتماء العضوي لم يكن بعيداً عني و قتذاك لقد استحوذ علي وقتا ما، كهم يومي بين همومي الكبيرة لكن لم يخرج الامر عن حدود التفكير، كان يسكنني التردد ومعه الحيرة المرهقة..
ذات مرة قلت لنفسي: كفى، ولنقطع رأس التردد والحيرة.. في اللحظة نفسها قررت ان انتمي لأحد الاحزاب العراقية غير اليسارية.. ذهبت الى صديق لي اعرف اخلاصه وصدقه، مستشيراً.
ضحك الصديق، وصارحني: انا اعرفك وافهمك دع عنك هذا.. فضحكت وصارحته: شكراً يا صديقي العزيز..
ثم جاءت احداث الوثبة الوطنية العراقية (نهاية عام 1947) وانخرطت في هذه الاحداث في التظاهرات الجماهيرية، وفي النضالات السياسية، وفي الكتابة اليومية لصحف، لقد هزتني التجربة العظيمة، وهزني دم الشهيد جعفر الجواهري، شقيق شاعرنا الجواهري، وصاحب وحي قصيدته الشهيرة:
اتعلم، أم أنت لاتعلم
بأن جراح الضحايا؟
جاءت احداث الوثبة، وهزتني التجربة.. واكتشفت خلالها اموراً خطيرة، فقررت الانتماء، ولكن..
جاء أمر ابعادي عن العراق من نوري السعيد، قبل ان يصير الانتماء عضوياً بالفعل.. واذا كان هذا الابعاد القسري الغاشم قد حرمني شرف الانتماء العضوي في العراق، فانه لم يستطع ان يحرمني شرف هذا الانتماء في لبنان..
اما هذا التحول السعيد الاخير في حياتي، فله قصة اخرى، ولنا مع هذه القصة السعيدة موعد اخر.
* (الطريق حزيران عام 1984 –عدد خاص بمئوية ماركس).