د. عبد الهادي التازي - مع ابن بطوطة في بلاد الهند والسند. -1-

إن من حق ابن بطوطة على معظم بلاد الدنيا أنم تخلد اسمـه في عواصمها الحافلة، وعلى شوارعها الآهلة، ذلك لأنه لولا ابن بطوطة لدرست معالـم تلك الممالك، ولاختفت رسوم تلك المسالك، وإذا كانت المعلومات التي قدمها الرحالة المغربي تظل في مجموعها المصدر والمرجع، فإنه (أي ابن بطوطـة) حلق بما قدمه عن الهند من فوائد وفرائض، وإن الذي يزور الهند إلى الآن، ليشعر أنه يعيش مع ابن بطوطة فيما أتحفنا به من حديث عن طريقة تحية الناس، وعن المانكو وعن الكاري والبايا والأرز وقصب السكر... وعن المحارق التي تنصب للهندوس، وعـن مدينة دهلي وما تضمه من مساجد ومعابد ومآثر... وعن أصل تَعَوَّدَ البلاد على استقبال الضيوف بمختلف أنواع الزهور، والتزام بعضهم بالاعتماد على النبـات فيمـا يتناولونه من طعام، وعادة الصاري (لباس النساء) إلى الآن، وعـن تنظيم البريد... التشريفات ... مما لم يصدقه المؤرخ المغربي ابن خلدون، ثم الزياني فأمسيا معا يحملان على رحالتنا ظلما وعدوانا...!
وقـد حُبِّبَ إلي أن اقتفي آثار ابن بطوطة بمناسبة زيارتي الأخيرة للقـارة الهندية، لقد دخـل ابن بطوطـة ما يسمى اليـوم بالجمهورية الهندية مـن الشمال عن طريق (بوهير) التي وصلهـا بعـد أن أمضى أياما في (مولتان)، حيث حضـر حفل الاستقبـال الفخم الـذي أعـد لقاضي ترمـذ قـوام الدين، وقـد كـان ورد صحبة أهله وعشيرته في زيارة للديار الهندسية المسلمة .
لقد سألوا ابن بطوطـة عند حدود البلاد عن الغرض من زيارته للهند، لما أن السلطان محمد شاه «أمر أن لا يدخل أحد بلاد الهند إلا إن كان برسم الإقامة» فأجاب ابن بطوطة: بأنه فعلا يعتزم المقام في خدمة سيد البلاد! فلما أخبرهم بذلك، استدعـوا القاضي والعدول، وكتبوا عليه عقدا بذلك ! .
وبمناسبة حديثه عن المآدب التي أقيمت لقاضي ترمذ، والتي كان له شرف حضور بعضها، ذكر وصفا لما كان يقدم من صنوف الطعام، وهنا يتعرض لذكر خبز الرقاق (PAPAR) الذي لا يخلو منه مطعم مرموق إلى الآن في كبريات المدن الهندية...
ولم يفت الرحالة المغربي ـ وهو يرتب تلك المآكل ـ أن يعرض للأبازير والزنجبيل الأخضر والأرز ولقمة القاضي، وكل هذه الأشياء مما يصمد إلى اليوم في حياة الهند اليومية.
وكـان مما أثار انتباه ابن بطوطة ظاهرة (الخدمـة) التي تستأثر بها تقاليد تلك الديار، ولا يقصد بالخدمة ما نتعارف عليه مما يؤديـه اللفـظ، ولكن القصد بالخدمـة هـو طريقة التعبير عن الإجلال والاحترام ...
وإذا كان ابن بطوطة قد أعطى فكرة عن هذه (الخدمة) في أثناء إقامته بالأراضي التابعة اليوم للاتحاد السوفياتي، فإنه اليوم يزيدها معنى ألآخر اكتسبته من البيئة ... وهي ـ أي الخدمة ـ عبارة عن حط الرأس نحو الركوع.
وقـد وقفت شخصيا، ومرات متعددة على هذا النوع من (الخدمة)، وبخاصة عند مقَدْم بعض قادة رجال الدين، حيث يقف بعضهم وقد قارن يديه معا، وطأطأ الرأس... وحيث يعمد بعضهم إلى حركة تشبه أن تدل على أنه يحاول أن يلتقط بيمناه ـ ومن حوالي ممر مولانا ـ ما يمكن أن يكون: هواء أو نورا، ويرفع يده اليمنى تلك في اتجاه قلبه ليمسح بها على صدره... !
ويلذ للرحالة المغربي أن يتتبع ما يقدم في المآدب باعتبـارها أكثر دلالة على بيئة الشعوب، فيتحدث عن عصير النبات (الجلاب) الذي يقدم في البداية كمـدخل للوجبة، وقال: إنهم يسمونه (الشربة)، ومن المعلوم أن كلا مـن اللفظين (الجلاب) و(الشربة) معروف اليوم أيضا في اللغات الأوربية: (Julep) و(Sorbet) .
ولـم يفت ابـن بطوطة أن يذكر ظاهـرة ما تزال إلى الآن مـلاحظة للغادين والرائحيـن في الشوارع الآهلـة، تلك تنـاول التنبول، أو مـا يسمى اليـوم (بان) (Pan) بتفخيم الباء، بعـد تنـاول الأكل، يعتبـرونه
مُهْضِاً... والتبنول في الأصل نبات من الفصيلة الفلفلية يمضغ ورقه، لكن هذا الورق اليوم أصبح بمثابة ظرف لعدة مواد تجعل فيه، منها ذهنيات، ومنها بهارات ومنبهات.
وتقـدم مع التنبول جوز الفوفل أو الأرك (AREC) كما نسميه نحن .
لقد قدم ابن بطوطة مدينة (أبو هر) أو(أبو هير) على أنها مدينة صغيرة، حسنة، كثيرة العمارة، وأنها ذات أشجار، ولكنها أشجار تختلف عما كان يعهده ببلاد المغرب... وكانت هـذه الإشارة منه مبررا للاستطراد والتخلص للحديث قليلا عن أشجار القارة الهندية وفواكهها، وهو استطلاع في محله، لأنـه قـدم للقارئ فـي منتصف القرن الثامن (الرابع عشر الميلادي) ما يمكن أن يحص به القارئ وهـو يعيش في بداية القرن الخامـس عشر الهجري. أو أواخـر القرن العشرين الميلادي.
وهكذا، فبعد أن ميز بين حجم النبق المغربي والنبق الهندي، حيث لاحظ كبر حكم هذا، وشدة حلاوته، خصص فصلا من رحلته لموضوع الأشجار والفواكه.
لقد كان في صدر الأشجار والفواكه التي استحقت منه التقديم، وهو مصيب في ذلك شجرة وفاكهة العنبة، (بتسكين النون)، وقد لاحظت أن بعض الناس في بلاد الشرق يحرفون النطق إلى (العبر) وما تزال كلمة (Ambé) إلى الآن محفوظة في إيران للتعبير عن هذا المربى اللذيذ الذي يستحسن تناوله مع الأرز كثيرا... ويتعلق الأمر بشجر المانك المشهور بآسيا وإفريقيا... ويعطيه هنا ابن بطوطة وصفا دقيقـا جعله يتحدث أيضا عما يصنع منه من مربى يعرف باسم (الكاري Curry) الذي أخذ شهرة عالمية كما هو معروف.
لقد قال: «إن العنبة (أي المانك) تشبه أشجار النارنج، إلا أنهـا أعظم أجراما وأكثر أوراقا، وأوفر ظلالا... وثمرها على قدر الإجاص الكبير، فإذا كان أخضر قبل تمام نضجه أخذوا ما سقط منه، وجعلوا عليه الملح وصبروه كما يصبر الليم والليمون ببلادنا على نحـو ما يصبرون الزنجبيل الأخضر، وعناقيد الفلفل، ويأكلون ذلك مـع الطعام، يأخذون بإثر كل لقمـة يسيرا مـن هذه المملوحات، فإذا نضجت العنبـة في أوان الخريف اصفرت حبتها، فأكلـوها كالتفاح، فبعضهـم يقطعها بالسكين، وبعضهـم يمصها مصـا، وهي حلوة يمازج حلاوتهـا يسير حموضـة، ولها نواة كبيرة يزرعونهـا، فتنبث منها الأشجار، كما تزرع نوى النارنج وغيرها».
وهكذا يكون ابن بطوطة أول عربي على الإطلاق أعطى وصفا دقيقا لشجر (المانكو)، سواء عندما يخلل، فيقدم كمقبل! أو ينضج، فيقدم كفاكهة في ختام المائدة !
ومن المانكو ينتقل إلى ما سماه (شاكي وباركي)، ويقول:«إن ثمرها يخرج من أصل الشجرة، فما اتصل منه بالأرض فهو الباركي ، وحلاوته أشد، وطعمه أطيب، وما كان فوق الأرض فهو الشاكي، وثمره يشبه القرع الكبير...فإذا اصفر في إبان الخريف قطعوه وشقوه، فيكون في داخل الواحدة بذور شبه الخيار، بين البذرة والأخرى سفاق أصفر اللون، ولكل بذرة نواة تشبه الفول الكبير، وإذا شويت تلك النواة، أو طبخت، يكون طعمها كطعم الفول... » ويقول ابن بطوطة: « إن شاكي وباركي خير فاكهة ببلاد الهند».
ولا شك أنه يقصد بهذه الفاكهة ما يحمل اسم (Le jacquier)، ومن المعلوم أن ( الجاكيي) هذا جنس شجر من فاصلة الخبزيات، وهـو ينبت في المناطق الحارة.
وبعد (شاكي وباركي) يتعرض ابن بطوطة لفاكهة كانت تدعى( تاندو Tendau)، وهي ثمر شجر الآبنوس، وحباته في قدر حبات المشمش، ولونها في لونه كذلك، وهو في غاية الحلاوة، وأعتقد أن ابن بطوطة يقصد إلى ما يسمى اليوم (تشيكو)، وهـو فعلا ذو حلاوة بالغة، إلا أن بـه بذورا تحكي بذور الخروب، تجد في الواحدة ثلاثة بذور أو أكثر.
ومن فواكه الهند ما سماه الجمون، يعني (Djambau)، ويصف ثماره بأنها تشبه حبوب الزيتون، وأن لونها أسود كذلك، ونواها واحدة، وما تزال أطباق هذه الفاكهة تعرض على أبواب الدكاكين في بداية فصل الصيف لديهم،(أعني أبريل ـ مايه...) إلا أن طعمه لم يكن ـ بالنسبة إلي ـ على ما كنت أتوقعه من بريق لونه ولطيف شكله.
وتحدث ابن بطوطة عن النارنج الحلو الذي يتكاثر في الهند، ولكنه لم يغفل عن النوعين الآخرين من النارنج: الحامض والمتوسط بين الحلاوة والحموضة الذي كان يستسيغ تناوله.
ومن النارنج إلى « المهوى» التي قال عن أوراقها: إنها شبه أوراق الجوز، إلا أن فيها حمرة وصفرة، وقال عن ثمرها: إنه يشبه الإجاص الصغير وإنـه شديد الحلاوة، وإن في أعلى كل حبة منه حبة صغيرة تشبه حبة العنب، طعمها كطعمه... وهم ـ يقول ابن بطوطة ـ يسمون هذه الحبة أنكور،(Angôur) وهو لفظ فارسي الأصل على ما نبه عليه الذين تطوعوا بترجمة الرحلة إلى اللغات الأوربية والأسيوية، فأسدوا للتراث المغربي معروفا لا ينسى.
ويعتاد الهنود تجفيف تلك الحبوب في الشمس، وقد وجد فيها رحالتنا المغربي ما يعوض فقدانه للتين الذي كان يتمتع بكمية هائلة منه بشمال المغرب، حيث يقع مسقـط رأسه: ( طنجة)، ذلك التين الذي قال عنه: إنه لا يوجد ببلاد الهند، ولعله كان يقصد إلى أنه عزيز الوجود، على نحو ما قاله بالنسبة للعنب، وقد شاهدناهما كذلك بالهند.
و(المهوى) التي يذكرها ابن بطوطة تقابل في التعليقات الغربية بكلمة ( Bassia Latifolia)، وهي على كل حال ليست ما يقدم للضيف بعد الطعام مما يحمل اسم المخواس (Mukhwas): مجموعة من التوابل والمكسرات المهضمة.
ومما يذكر عن (المهوى) أنه يثمر مرتين في السنـة، وأنهـم يستخرجون الزيت من نواه، ويستصبحون به.
ومن فواكه الهند ما سماه (كسيرا) وتقابل في اللغات الغربية بكلمات (Cacîrou. Scripuskyoor) ، وقد قال عنها: إنهم يحفرون عليها الأرض، وإنها شبيهة بالقسطل، وهي شديدة الحلاوة.
وقد ختم ابن بطوطة هذا الفصل من الأشجار باستدراك أن شجر الرمان يوجد بالهند على نحو ما هو ببلاد المغرب، إلا أنه يثمر هناك مرتين في السنة... وأفاد أن الهنود يسمونه (أنارAnâr)، وأنه (أي ابن بطوطة) يعتقد أن هذا وهو الأصل في تسمية زهر الرمان بالجلنار، لأن جل (Gul) بالفارسية معناها: الزهر، وأنار معناها: الرمان.
وبهذا نرى ابن بطوطة يبرهن على أن معلوماته في الفارسية بلغت بحيث أخذ يستطيع فك الكلمة المركبة، وإعطاء معانيها.
وبعد هذه المعلومات القيمة عن أشجار الهند، يعطي تفصيلات عن جل الحبوب التي تزرع بأرض الهند، سواء منها ما يزرع في موسم الخريف، أو موسم الربيع، حيث إن الزراعة عندهم موسمان اثنان: أحدهما: عندما ينزل المطـر في نهاية القيظ: حيـث يزرعون(الكودرو Kudhroû) ، نوع من أنواع الدخن، وهـو أكثرها بتلك البلاد، و(القال ـ Kâl) الذي يشبه حب ( أنيلي) المعـروف عنـدنا بالمغرب، و(الشاماخ ـ Panicum Colonum) الذي يصعـد مـن غير زراعة، والذي قال عنـه: إنه طعـام الصالحين والمساكين، حبـوب صغيرة جدا تدق في المهاريس بعـد تشميسها، فيبقى اللب الأبيض الـذي يصنعـون به ـ مع حليب الجواميس ـ ما يشبه أن يكون عصيدة ، وقد كانت هذه العصيدة من الأطعمة المحببة لدى ابن بطوطة أثناء إقامته بالهند، وربما صنعوا من الشاماخ الخبز أيضا.
ومن الحبوب (الماش Phoseolus max) الذي وصفه بأنه نوع من الجلبان، ويباع اليوم على نحو ما يباع الحمص المقلي ببعض البلاد.
ومن الملاحظ أن (الماش) يقدم إلى اليوم في بعض جهات العراق، وخاصة منها الجهات الآهلة بالشيعة، وقد كنت أسمع من بعض الزملاء أن تناوله كعشاء مما يساعد على الاستمتاع بأحلام لذيذة! وقد جرب فصح على نحو ما تردده الأقوال السائرة في المنطقة.
ومن الحبوب المنج (Mung de Clusuis) الذي يشبه الماش، إلا أن حبوبه مستطيلة ولونه صافي الخضرة، وهم يطبخونه بالأرز ممزوجا بالسمن، ويعرف باسم (كشري Kichiry)، الذي يتناولونه يوميا على نحو الحريرة بالبلاد المغربية، وربما كان القصد إلى (الكُشَرِي) الذي يتناوله إخواننا في مصر، وخاصة في بالأحياء الشعبية على مقربة مـن الأزهر، وينطقون بـه (بضـم الكاف وفتح الشين)، ومنها اللوبيا والموت، (بضم الميم)، وهي الكودرو، إلا أن حبوبه أصغـر وهو من علف الدواب على نحو ما يفعلونه بالحمص الذي يقدمونه كذلك لدوابهم في بعض الأحيان.
ويعطي ابن بطوطة بعد هذا معلومات عن زراعة القمح والشعير والعدس والأرز الذي يزرع ثلاث مرات في العام، وكذا عن السمسم وقصب السكر، ويختم هذا الفصل بوصف أرض الهند بأنها طيبة التربة.
ومن مدينة (أبو هير)، اجتاز ابن بطوطة صحراء في أطرافها جبال منيعة، تسكنها طائفة من كفار الهنود المتمردين على الحكم.
ويغتنم الرحالة المغربي هـذا المقطع ليقدم لنا الوضع في بـلاد الهند على ما كانت عليه في ذلك العهد: عهد السلطان محمد شاه، النصف الأول مـن القرن الثامن المـوافق للنصـف الأول مـن القرن الرابع عشر.
إن أكثرية بلاد الهند هي ممن لا يدينون بالإسلام على خلاف بلاد السند (باكستان الحالية)، لكن من أولئـك الهنود ـ وهـم كثرة ـ يعتبرون مـن رعايا السلطان، وتحت ذمـة المسلمين، يسكنون القرى وعليهم حاكم مسلم يسميه ابن بطوطة العامل الذي تدخل القرية تحت إقطاعه بَيْدَ أن فيهم عصاة محاربين، يمتنعون بالجبال، وينزلون أحيانا إلى قطع الطريق على المارة.
وما من شك في أن الذي حمل ابن بطوطة على تقديم هذا التنبيه ما تعرض له رفاقه من مداهمة عدد من هؤلاء القطاع للركب الذي اشتبك مع المغيرين عليه في غزوة ضارية أسفرت عن مقتل عدد منهم حملت رؤوسهم إلى حصن أبي بكهر( Baqhar) حيث علقت على جدرانه عظة وعبرة. ومن حصن أبي بكهر إلى مدينة (أجودهن AJODHAN)، التي كانت بيد الشيخ فريد الدين البذاوني، الذي أنعم عليه سلطان الهند ـ وكان شيخا له ـ بإدارة هذه المدينة .
وبانصراف ابن بطوطة من هذه المدينة سمع ـ لعله لأول مرة في حياته، ـ بحديث المحارق بالمنتشرة ببلاد الهند، والمعدة لإحراق الأموات من الهندوس، والواقـع أنه حديث بالنسبة للمسلمين غريب، بل إنه مهول.
ولا يستطيع الزائر للهند أن يجد مقارنة بين المقبرة الإسلامية والمحرقة الهندوسية، إلا بأن الأولى تتميز عادة بوجود قطع من اللحد على أبوابها استعدادا لتلبية الحاجيات، بينما توجد عند باب المحرقة أكوام من الأحطاب والأعواد، فيها اليابس جدا، وهو مخصص للأغنياء، وفيها المتوسط اليبوسة، وهو من نصيب الطبقة المتوسطة، وفيها الحطب اليانع الذي يقنع به الفقراء. قد أغرتني حكاية ابن بطوطة عن مشاهدته لعملـية الإحراق، أغرتني على الحضور في عمليات متوالية للإحراق، حيث تتولى أعز شخصية على روح الراحـل فقي الأسرة، تتولى عملية إشعال الحطب الذي يرتب ترتيبا يحيط بالميت، والذي يـرش بمـادة ملتهبة تختلف قـوة وطاقة بحسب المركز المالي أيضا للميت.
ولقد حضر ابن بطوطة عادة إقدام الأرملة على إحراق نفسها مع زوجها الراحل بمحضر البراهمة كبراء الهنود، وبعد إذن السلطان. ويذكر الرحالة المغربي أن أسرة الأرملة التي تهب نفسها للنار تحرز ـ في نظر الهنود ـ على الشرف، وتنسب للوفاء، الأمر الذي يدل على أن العادة كانت كمالية، وليست من قبيل الواجب.
وإذا كانت المحرقة التي شاهدها ابن بطوطـة «مظلمة، كثير المياه، متكاثفة الظلال» حيث نصبت أربع قباب تحتوي كل واحدة منها على صنم، وحفر بين القباب صهريج تظلله الأشجار، فإن المحارق اليوم ـ على ما شاهدنا ـ نظمت، بحيث يوجد هناك عـدد من الأماكن، فيها العاري، وفيها المسقف، وفيها ما هـو منخفض.
وبالرغم مـن تدرب الرحالـة المغربي وتمـرسه على رؤية الأهـوال، فإن حضـوره ذات يوم عملية إحـراق الأرامـل، أثر على أعصابه، وغشي عليه، حتى اضطـر أصحابه لإنعاشه بصـب الماء على وجهه.
ومن الطريف أن نسمع ابن بطوطة يتحدث عن بعضهم وقد نزلنا ووصلنا لتلك القباب، إلى ذلك الصهريج ليتجردن ويتصدقن بمكان عليهن مـن ثياب وحلي، ويتلفعـن في(صاري): ثوب غير مخيط من قطن خشن يربطن طرفه على وسطهن، ويرسلـن بطرفه الآخر على رأسهن كتفهن، حيث نزلت الواحدة تول الأخرى في محرقة منخفضة، وصبت عليها كمية من الكنجت (Condjud) (يعني زيت الجلجلان)، حيث يكون في استقبالها عدد من الرجال يحملون حزم الحطب الرقيق، وآخرون يحملون قطعا كبيرة من العـود، بينما دأب أصحـاب الطبول والأبواق على إثارة الحماس، وتغطية المأساة. وقد تقدما إحـداهن وهي تقرن بين يديها تحية للنـار، على العادة الهندية، ورمت بنفسها بين ألسن النيران التي اشتدت برمي بعض الرجـال ما بأيديهم من حطب، وتلا هـذا، دور أصحاب الحطب الثقيل، ليمنع تحرك الأرملة التي تلاشى صوتها مع ضجيج المشيعين.
ولم يفت ابـن بطوطـة أن يتتبع رمـاد الجثث المحترقة، ليذكر أنهـم يرمون بـه في نهر الكنك، يعني ( Le Cange)، الذي يقولون: إنهم من أودية الجنة، وبهذه المناسبة يتحدث عما سمعـه عـن أن بعض الهنود يتقدم ليلقي بنفسه في ذلك النهر، وهو يقول لمن حواليه: «لا تظنوا أفعل ذلك لقلة مال، وإنما قصدي التقرب إلى كساي( Krichna)».
لقد كان الرحالة المغربي أول مـن تحدث من العرب عن حالة الإحراق بالهنـد وكان أول من تحدث أيضا ـ في مقطع لاحق ـ عـن استعانة المحروقين بـدهن الصندل، الـذي يعوضـه اليوم البنزين الممتـاز.


عبد الهادي التازي

العدد 287 جمادى 1-جمادى 2-رجب 1412/ يناير فبراير 1992





تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...