سلمى الخضراء الجيوسي - النوادر والمقامات وأساطير السماء والأرض

لقد استُخدِم جنس “الخبر” (مفرد الأخبار) في هذه المقتطفات استخداما واسعا. والخبر في العادة نادرة قصيرة، تشبه القصة القصيرة جدا في الزمن الحديث [1]. وغالبا ما يبدو الخبر حقيقيا أو يدور حول شخوص حقيقيين أو شبة حقيقيين، فهو لذلك بعيد خطوة واحدة من القصة الخيالية المحضة، ويوجد بكثرة في المجموعات الكبيرة والصغيرة لدى جامعي المقتطفات، سواء في العصر الوسيط أو الحديث. وتعكس نوادر الأخبار الحياة العربية الاجتماعية والفكرية: معتقداتها، وأعرافها، وتجاربها المختلفة بألوان تنوعها. وتبدأ هذه النوادر عادة بقائمة معنعنة من رواة كل خبر، وهي عادةٌ اقتضتها الحاجة إلى زعم “الحقيقة” في الرواية، وهو ما كان الإسلام يطلبه من المؤمنين، خاصة في مراحله المبكرة. وبهذه الطريقة، اتخذت الأخبار الخيالية شكل الحقيقة

حين يبحث المرء عن جوانب الحياة الاجتماعية العربية في العصر الوسيط، يجب أن يهتمّ بموضوع الصدق عند دراسة جنس الخبر. وسواء أكان الخبر الواحد قائما على الحقيقة أو الخيال، فإن جوانبه كشكل فني هي التي تهم الناقد ومؤرخ الأدب الذي يسعى في المقام الأول إلى ملاحظة تطور فن رواية القصة في اللغة العربية، وأسلوبها وبراعة سردها. أما أهم الجوانب الفنية في هذا الجنس فهي الدقة في التعبير، والبناء المغلق، وسرعة البديهة، والإيجاز الذي يقتضي تمكنا لغويا تاما. كان بعض الأخبار قصصا قصيرة أو أحداثا، وبعضها الآخر تعليقا موجزا ينطوي على حكمة أو فكاهة حول مختلف مناحي الحياة،[2] وبعضها طويل يروي أحداثا أو قصصا معقدة، وهي كلّها تتطور صوب نهاية محكمة. أما لغته فتفتقد في العادة إلى الحميمية التي تخاطب مشاعر المتلقي، وتثير الحماس أو الحنين إلى الماضي أو التعاطف العميق. ذلك أن هذه هي حصة القصّة الأموية والذاتية المحببة التي يثيرها بصورة خاصة شعر الغزل المصاحب للقصة. لكن على المرء أن يتذكر أن العصر الذي ازدهر فيه الخبر ازدهارا كبيرا، حين كانت السلطة العباسية في أوجها، كان عصرا واقعيا تخلّى كثيرا عن رومانسية العصر الأموي.
الخبر جنس عربي بامتياز، ويعزى وجوده إلى عدم تشجيع الإسلام للسرد الخيالي المحض، ولكنه يعزى أيضا إلى البراعة العربية القديمة منذ ما قبل الإسلام في التعبير الموجز الدالّ، بأقل ما يمكن من إطناب وضعف في السبك، وهو ما أصاب النثر العربي لاحقا. وهو أيضا نقيض الحكايات التي لا نهاية لها في كتاب التيجان، حيث تنمو القصة من الأخرى. أما الاهتمام بالكثرة من المؤلفات التي تحتوي على مئات النوادر،[3] فتأتي من حوافز إنسانية أخرى: حبّ رؤية نمط الحياة العربية، خاصة العباسية، تنبض بكل أنواع التجربة، وبروائح المكان وألوانه وإيقاعه؛ واهتمام المرء باختلاف المواجهات الإنسانية التي لا يخلو بعضها من تسلية، بل أحيانا ما يكون فيها عبث مضحك. إن هذه السرديات تلقي الضوء على تاريخ المكان والناس وحتى على صميم التجربة العباسية. والواقع أن التراث الثقافي والاجتماعي العربي كله، في واحدة من أغنى الحقب، ينطوي على كنز حقيقي من المعلومات في هذه المعاجم والمؤلفات الكثيرة.
لقد بدأت مبكرا مرحلة الصدق في الإسلام. فقد عكس القرن الإسلامي الأول انتباها كبيرا، أكان تلقائيا أم مفروضا، لمتطلبات العقيدة الجديدة في حثّه على نشر رسالة الدين الجديد حول العالم. وقد أشهر الإسلام هذه البقعة شبه المنسية من العالم وجلب لها الثروة والفتح. فقفزت الجزيرة العربية صوب العالم، ومن قسوة الصحراء وجدبها وصلت إلى بلاد الفاكهة والأزهار والمياه الجارية. وقد فتحت هذه الحركة الحاسمة آفاقا كثيرة للعرب الذين كانوا محاصرين في صحراء شبه الجزيرة العربية الواسعة والمجدبة في أغلبها، متغلبة إلى حدّ ما على الهوية القبلية للبدو العرب الذين بدأوا مرحلة الحياة الحضرية. وقد جاءت أيضا بشعور بالهوية العربية-الإسلامية الجديدة التي استمرت لذلك في البقاء حيّة في الضمير العربي.
يرتبط الخبر بالباحث والفقيه اللغوي، الأصمعي (124-216/741-831) (تختلف المصادر في تعيين سنة وفاته بعضها يذكر سنة 208هـ والبعض يذكر سنة 211هـ وآخرون يذكرون سنة 216هـ 213/828) وغيره من اللغويين من بعده، مثل ابن دريد (223-321/837-933). ومنذ القرن الرابع-العاشر أصبح واسع الانتشار. وقد استغرق الأمر عدة قرون قبل أن يتجه الإبداع العربي نحو الخيال مرة أخرى، متخذا منه ملاذا من ضغوط الحياة في تحليقات خيالية أخضعت المستحيل ووصلت إلى مواطن الخوارق الجامحة.


كان الفن القصصي في بواكير الإسلام موضع شبهة بسبب المبالغات والفوضوية وإمكانية أن تنتشر هذه السرديات بعيدا عن تعاليم الإسلام. وقد أراد علماء الدين للمسلمين الجدد أن يركزوا على القرآن وسنة النبي، لأن فيهما كل شيء. بعد ذلك بزمن طويل، ذكر القاضي واللغوي والعالم الفقيه ابن الجوزي (511-597/1117-1200) ستة عوامل رئيسية رأى أنها اجتمعت على التغطية على فن رواية القصص: أولها أن الناس كانت تميل إلى رفض ما لم يكن موجودا أيام الرسول؛ وثانيها أن قصص الأقدمين كانت تعتبر غير دقيقة، خاصة ما يتعلق منها بالإسرائيليات [4]. أما العامل الثالث فهو أن الالتهاء برواية القصص سوف يصرف الناس عن النصوص الدينية؛ ورابع هذه العوامل أن في القرآن والسنة النبوية من كثرة القصص ما جعل تلك القصص غير الدقيقة غير لازمة. وخامسها أن بعض الرواة ممن اعتنقوا الإسلام أدخلوا في قصصهم عناصر يراد منها تغيير هوى العامة. وسادسها أن معظم رواة القصص، أكانوا جهلة أم ضعاف دين، لم ينتبهوا كفاية لصدق تلك القصص [5].
بعد ذلك توطد جنس الخبر زمنا طويلا و بقوة كبيرة كطريقة سردية رئيسية، حقيقةً كانت أم خيالا، وكوّن مواد عديدة في الكثرة من المقتطفات والمعاجم التي يزخر بها التراث العربي. وقد وُجد جنبا إلى جنب مع أجناس قصصية جديدة ابتدعها العرب أنفسهم أو اقتبسوها من البلاد المفتوحة، كالهند وفارس.
تبدو العلاقة بين الأدب العربي وعامة الناس جليّةً حتى أيام الجاهلية. وقد تأكد وجود تلك الصلة في وقت مبكر من ظهور الإسلام بظهور قصص الحب الرومنسي في العصر الأموي. وقد استمر في الأدب النثري الاهتمام ببسطاء العامة في المدن وبالبدو في الصحراء حتى بعد البروز التام في العصر العباسي لخليفة له مظهر الملوك وأبهتهم، ولطبقة عليا ذات كبر وقوة، ودوائر رسمية واسعة ذات بنية تحتية معقدة، وطبقة كبيرة من التجار الأغنياء، وبعد دخول الترف والتأنق المدني إلى حياة الطبقة العليا من المجتمع [6]. ومنذ تلك اللحظة أخذ كل من الشعر والنثر مسلكا مختلفا. فأما الشعر الرسمي فقد حافظ على منزلته السامية، بل عززها [7]، محافظا على البلاغة الرفيعة والجرْس الرنان في المديح والرثاء والهجاء، ومحققا سموّا محكما ومعقدا في جنس الفن للفن الذي كلف برسم الطبيعة بالكلمات (وهو ما بدأ في اللغة العربية حتى في العصر الجاهلي بالوصف الدقيق للصحراء وحيواناتها، لكنه ازدهر لاحقا خاصة في القرن الرابع-العاشر وما بعده في وصف الطبيعة الخصبة). والتجربة العربية في الفن القصصي تهزأ من تصنيفات نورثرُب فراي (Northrop Frye) غير المترابطة للفن القصصي عند العرب حسب المفاضلات والتدريجات المحضة لوضع البطل (وهي ليست صحيحة تماما بالنسبة إلى الغرب) [8]. وبالإضافة إلى تصويره نمطَ الحياة والعادات والاستعمالات اليومية للمتحضرين من العرب والمسلمين المتعرّبين الذين يعيشون في المدن المزدهرة من الإمبراطورية، فقد سجل الخبر التغير في اللغة لدى العباسيين [9]؛ ذلك أنه بينما بقي قادرا على البقاء في مستواه الرفيع الفصيح، كان قادرا أيضا على احتواء أصوات السوق وأصدائه ولغة دهماء العامة فيه. ويستطيع اللغويون المهتمون باللسانيات التاريخية أن يستفيدوا كثيرا من الفحص الدقيق لهذه السرديات النثرية. والحقيقة، حين حدث اختلاط عرقي ولغوي كبير في العصور العباسية، ترك التغيرُ اللغوي أثرَه أكثر ما ترك في السرد النثري، لا في الشعر.
وهكذا تمتع الخبر بتحرر رائع من قيود اللغة البليغة وشكلها، وهو ما لم يكن للشعر أن يتمتع به. ثم كان للنثر العربي لاحقا أن يُقيَّد بقيود عظيمة بانبعاث الأسلوب البلاغي الصعب المُرصّع بالقوافي الداخلية وزخرف القول. وسوف نرى هذا في الشكل المقيَّد للمقامات وفي رسالة الغفران، تلك الأطروحة البليغة المعقدة للشاعر العظيم أبي العلاء المعري (363-449/973-1057). لكن هذه البدعة انطلقت في اتجاهها بينما استمر اكتساب ثروة من المعرفة التاريخية والعلمية والاجتماعية واللغوية والأدبية من المجموعات العديدة للأخبار حول المواضيع العامة والمتخصصة. ولم يبدأ العرب والمستعربون النظر باهتمام أكثر لقيمة جنس الخبر، فيدرسون فنيته ومميزاته، إلا حديثا.
لقد خُطّت الكثرة من المجموعات والكتب الصغيرة باستخدام هذا الشكل. فنوادر الأصمعي وملاحه قد ظهرت في مجموعات الأخبار العظيمة. وقد عاش مختلف الكُتّاب في صميم الحقبة العباسية الصاخبة، حين كانت الظواهر الثقافية الحضرية قد أخذت شكلها، وحياة المدينة العربية قد اكتسبت سرعتها وإيقاعها وأعرافها، ناهلة المعرفة من خليط من الثقافات والأفكار وأنماط السلوك التي لا تتناغم تماما مع العادات القديمة قبل العباسية. كان الجاحظ (159-254/775-868) واحدا من هؤلاء البارزين، وهو كاتب ومؤلف ظهر مبكرا. وبالرغم من اهتمامه الشديد باللغة والأسلوب، فقد اهتم أيضا بالحياة المعيشة والطبيعة الإنسانية وطبيعة كل الموجودات. وقد ألف بعض أشهر المجموعات حول مواضيع عامة ومتخصصة، مسجلا نوادر عديدة وحكايات ممتعة. ونذكر له بشكل خاص كتاب البخلاء، الذي أخذنا منه هنا عددا من النوادر.
لقد عكس عمله في هذا الكتاب وفي كتبه الأخرى ليس فقط حسه الفكاهي وبراعته في التهكم، بل أيضا اهتمامه الكبير بعامة الناس، حتى بالأوباش، كجزء من اهتمامه العميق بالتصرف الإنساني ذاته. يكشف الكتاب المؤسسة المتينة لثقافة حضرية في المدن العباسية، وبروز طبقة وسطى تحفل بالشؤون المالية وتخزين الثروة لذاتها، وطبقة دنيا تحاول أن تبقى على قيد الحياة في بيئة انغمست في المكاسب المادية. هناك نوادر[10] جميلة مسجلة في البخلاء تصور شخصيات اجتماعية هامشية: أناسا بسطاء، ومحتالين طرفاء، وشحاذين، ولصوصا [11]. أما روح الفكاهة، فتعكس تغيرا كبيرا لدى الكاتب العربي منذ أيام بداوته حين كان مقيدا إلى المواقف الرزينة. فالصحراء تنتج القليل من الفكاهة، بينما تُظهر الآن حياةُ المدينة أثرَها على هذا الجانب من ردة الفعل الإنسانية، وهي عادة ما ترتبط بالثقافات الحضرية [12]. وقد كان هذا مقدمة لظهور المقامات لاحقا. حقا إن عمل الجاحظ إنجاز ثقافي عظيم قبل أكثر من قرن على نهاية الألفية.

لقد استُغل استخدام الخبر كثيرا في كتاب الأغاني الشهير لأبي الفرج الأصفهاني (284-355/897-966)[13] وفي مؤلفات ومعاجم أخرى مشهورة.
غير أن سرديات أبي علي التنوخي (327-384/938-994) كانت خلاصة للمعرفة واتساع الرؤية وممتعة جدا؛ فالخبر هنا قصة قصيرة مثيرة وذات طبيعة مسرحية. وللتنوخي عدة كتب منها الفرج بعد الشدة، الذي يدور حول أحداث أناس حقيقيين، وغالبا ما يذهب إلى النصيحة وذكر الأمثلة من النصوص الدينية، لكنه خال من الفكاهة عموما. غير أنه يعكس الأسرار الحميمة للحياة السياسية، وطغيان الحكام والرعب الذي يصبونه في قلوب الناس من جميع مناحي الحياة. أما أبرز عمل له، فكتابه الواقع في ثمانية مجلدات ممتعة ومثقفة، “نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة، حول مغاز ثقافية واجتماعية عامة. أما كتابه الثالث، ” المستجاد من فعلات الأجواد”، فعن مغزى آخر متخصص. ومن المثير أن نرى كيف يستخدم الكاتب في الكتابين الأوليين كلمات من العامية المعاصرة، مثيرا شعورا بالألفة والبداهة للقصص؛ بينما يعود إلى لغة أسمى في كتابه الثالث حول موضوع الكرم وحسن الضيافة، وهو من المثل العربية القديمة المقدسة منذ العصر الجاهلي. وهناك ميزة عظيمة أخرى لهذه الكتابات تتمثل في الاهتمام الواضح بالعامة. إن هذه ظاهرة عامة في الكتابات العربية في ذلك الزمن، كما بحثنا أعلاه. وكذلك صُوّر الإنسان الفرد كشخص تلقائي بمشاعره ونزواته ومذاقه وخياراته، وهو موقف ينقلب إلى عكسه فورا حين يصور المؤلف ردود الفعل المدروسة والمتكلفة لدى الخلفاء رجال السلطة.
بيد أن للخبر، من حيث هو شكل، حدودا أهمها حقيقة مجاله الضيق في تنوع التقنية. لكن الكُتّاب العرب المبدعين وجدوا لاحقا طرقا أخرى عديدة لتنويع تقنياتهم القصصية، وبعضهم أصبح أصيلا إلى أقصى الحدود.

جهنم والجنة
هذه هي قصة الإسراء والمعراج التي تصور معراج الرسول إلى السماء ليلا، بادئا بإسرائه من المسجد الحرام في مكة المكرمة قاصدا المسجد الأقصى المبارك في بيت المقدس، ليعود بعدها إلى مكة ثانية في الليلة عينها. إنها قصة صعود النبي إلى السماء ليقف بين يدي ربه، يقوده في رحلته ذلك الملاك جبريل. وفي صعوده إلى السماء استطاع أن يشاهد عذاب جهنم وجمال جنة الفردوس المنير. إن هاتين الرحلتين الليليتين اللتين حدثتا في ليلة واحدة هما من بين قلة من حكايات العجائب في الإسلام. ولقد اكتسبتا على الفور شعبية كبيرة، مما يدل على هيام الناس بالمعجزات والعجائب، فانتشرتا انتشارا واسعا حتى خارج عالم الإسلام، وهو أيضا دالٌّ على انبهار الناس عامة بالمعجزات وخوارق الطبيعة. ولقصة المعراج عدة روايات تحمل الكثير من الروعة في وصف الجنة وجهنم. وفيما يلي مقتطف مما كتبه عبدالوهاب لؤلؤة [14]:
حسب عدة روايات في السرد الإسلامي، لقد رأى النبي جهنم من حيث وقف في السماء الثالثة. وهي ذات عدة طبقات حيث ألقي بالمذنبين بحسب درجة خطاياهم. وجهنم في مكان عميق تحت بيت المقدس، مركز الأرض. ولها شكل يشبه المحقان المقلوب، وسلسلة من القيعان الدائرية المركزية هابطة من الأعلى إلى الأسفل. [كذلك] لها سبعة أبواب. أما الجنات فسبع أيضا، مما يدل على الأهمية الخاصة للعدد سبعة في الثقافة الإسلامية. وللجنة في الإسلام أربعة أنهر. أما الرحلة فإلى العرش المقدس حيث يبهر الضوء العيون. وأما الصعود فمن بيت المقدس.
طبيعي جمال الجنّة في الإسلام، خاصة في التركيز على الضوء والصوت في العملين: فالضوء دائما باهر، والصوت إما من الطبيعة، كأصوات الأشجار والطيور، أو صوت التسبيح بحمد الله. … [فالآية التي تقول] “الله نور السموات والأرض” هي أصل التسبيح والترتيل عند المسلمين، استنادا إلى ذلك الوصف القرآني. والأضواء مفعمة بالألوان… والملائكة تظهر كذلك في أنوار رائعة [15].
لقد اقتبس أبو العلاء المعري لاحقا من قصة المعراج كتابه، “رسالة الغفران”، وكذلك فعل الشاعر الأندلسي، ابن شهيد (383-449/992-1035) في كتابه، “التوابع والزوابع″. وقد تُرجمت إلى لغات كالكَتالونية والفرنسية واللاتينية. ويرى بعض المهتمين إمكانية وجود أثر لها على الملهاة الإلهية. وقد كتب عبد الواحد لؤلؤة، في دراسته أعلاه، بشكل كامل عن التشابه الكبير بين الروايتين العربية والإيطالية وعن الظن في اقتباس دانتي للأسطورة الإسلامية بحيث لا يترك مجالا للشك بحقيقة ذلك.



جهة الأساطير
مع نهاية العصر الأموي، كان لدى العرب عدة أنواع من الأجناس القصصية الفخمة التي تعكس البناء المكتنز للأدب المكتوب. من أول تلك الأعمال كليلة ودمنة، وهي مجموعة من أساطير ترجمها ابن المقفع (102-139/720-756) من الترجمة الفارسية لمجموعة هندية. وقد استخدم ابن المقفع، وهو فارسي مستعرب ومعتنق جديد للإسلام، أسلوبه الفصيح البليغ وتمكنه من اللغة لإنتاج نص خالد نال عددا كبيرا من الدراسات النقدية وبعض التراجم، ولم يفقد سحره حتى اليوم. لقد كانت الأساطير جذابة للكُتّاب في الكثير من الثقافات، وقد استخدمت كثيرا للتعبير عن ملاحظات الإنسان للحياة والأخلاق. تدور كليلة ودمنة حول الأجوبة التي زُعم أن وزير دبشليم، أحد ملوك الهند، أعطاه إياها. وقد كان هذا الوزير فيلسوفا برهميا يدعى بيدبا. وكانت أجوبته على شكل أساطير تمثل فيها الحيوانات وتتكلم، مطلقة إشارات ذكية للحياة والتجربة الإنسانية. والغاية في كل حكاية إلقاء الضوء على منحى أو أكثر من مناحي الحياة، أو وضع حلول لمشاكل يواجهها الناس، أو إعطاء درس حول التصرف الصحيح. وقد تحقق هذا بمقارنة وضع أو عمل إنساني بحادثة حدثت ببعض الحيوان، أو بتكرار فكرة قالها آخر، وبالتعبير عن حالة عاطفية وقع فيها ثالث، ولكنها كلها حقيقةً تمثل تجربة إنسانية فيدرك القارئ مغزاها فورا. وبالرغم من أن الغاية من هذه الأساطير تعليمية، فإنها عادة ممتعة وغالبا ساحرة. والإتيان بالحكمة العميقة من ألسنة الحيوان يجعل تذوقها أسهل، لأن الحيوانات قادرة دائما على استثارة مزيد من العطف وقليل من العداء لدى الناس. أما في عصر يتسم بالاضطراب والخطر، كذلك الذي عاش فيه ابن المقفع، والذي قتل فيه بوحشية وهو في ريعان الشباب على يد الدولة العباسية، فاللجوء إلى هذا النحو من المواربة كان طريقة جد ذكية للتغطية على نقد المرء للأوضاع السائدة. وعلى مدى الكتاب، كان الملك دبشليم يقترح موضوعا على بيدبا، أو يعرض مسألة، فيرد بيدبا بجواب كأن يقول، مثلا: حين رأى الأسد العظام في عرينه… ثم يمضي في رواية الأسطورة.
لقد كانت هذه الأساطير ناجحة بامتياز، سواء أكان ترجمها ابن المقفع كلها أو جزءا منها، وكتب الجزء الآخر بنفسه، كما يميل إلى ذلك بعض الباحثين [16]. لقد عاش العرب في الصحراء قريبا من الحيوانات، فكان لها دور كبير في حياتهم. وفي أدب الجاهلية، صُوِّرت الحيوانات بتفصيل دقيق، منها ما كان صيدا أو صيادا، ومنها ما كان مصدرا للطعام أو مطية للسفر يُعتمد عليها للبقاء على قيد الحياة في الصحراء. وقد بلغ وصف الشعراء البدو لها أبعادا مثالية ورمزية. لذلك، فإن الإشارات والترميزات الموجودة في عمل ابن المقفع كانت متناسبة مع المعاملة (oblique) التي خصها بها الشعراء الكبار، من أمثال لبيد في الجاهلية، وذي الرمة في العصر الأموي (077-117/696-735)، معطين إياها توصيفا دقيقا جدا.
والأساطير مشهورة أيضا في الأدب الغربي، خاصة أساطير العبد الإغريقي أيسوب في القرن السادس قبل الميلاد.
لقد أُتبعت أساطير ابن المقفع العربية لاحقا في العصر العباسي بمحاولات أخرى تكاد تشبه النمط ذاته، وهي التي رأيناها في ألف ليلة وليلة، وغالبا ما كانت روايتها تُكرّر بشكل لافت. وقد كتبت فريال غزول مقالا مفصلا عن استخدام الأساطير في ألف ليلة. وكذلك كتبت عن تبني إخوان الصفا الفلاسفة لها، مما يدل على استمرارية هذا الجنس في العربية الفصحى والتقدير له. وفي ألف ليلة، تصور الأساطير أنماط السلوك عند الناس، وتبدي النصيحة ضد الضعف لدى البشر. بيد أن لإدخال الأساطير في أعمال إخوان الصفا اعتبارا مهما، إذ تُخدَم الفلسفةُ بقوة الأساطير رمزا ومجازا. وفي التعريف بمرادهم، يقول الإخوان:
لقد جعلنا [مقاصدنا] قصصا على لسان الحيوان لتكون أوقع أثرا وأوضح خطابا وأكثر جذبا وأشهى على المسامع، ولتكون أحسن مثلا [17]. لكن للإخوان، كما تقول فريال غزول، غاية أخرى علمية. فقد حاولوا أن يشرحوا أن الأشياء، حسب نظرية أصول الأجناس، لم تخلق دفعة واحدة، بل إنها، لحكمة من الله، خلقت بالتدريج، أولها النبات، ثم الحيوان، وبعدها الإنسان [18].


جهة المقامات
من المثير أن نلاحظ التغير في التقنية واللغة والأسلوب الذي حدث في النثر الخلاق بعد العصر الأموي، سابقا كثيرا ما حدث للتقنية الشعرية المعاصرة. ولعل أعظم تغيير ألمّ بالشعر كان ابتعاده البطيء عن الأعراف الشعرية في الجاهلية، خاصة في وصف الحيوان والمضارب المهجورة [19]. وبالرغم من أن العناصر الأخرى في القصيدة كانت عرضة للتغيير، خاصة في العصر العباسي، فإن النشاط في النثر الخلاق كان أسرع كثيرا وأعمق جذرا. فالأفكار والأجناس المبتدعة في النثر، واللغة والأسلوب، كلها تشير إلى المدى الواسع المفتوح أمام النثر، مقارنة بحدود الشعر الحازمة وتاريخه الصلب.
أنتجت الطريقة المفتوحة للإبداع في النثر الأدبي في القرن الرابع-العاشر المقامات، التي هي جنس مدني محض، ويُعتبر الجنس الثالث في الأدب السردي، وهو جنس عربي أصيل. والمقامات حكايات عن المشردين تقدم تجارب ساخرة، وعادة ما تصور حياة الأفاقين المتجولين، وكثيرا ما تدور حول المحتالين. بيد أنها، تحت السطح الساخر، تنطوي على نقد اجتماعي حاد.
يعد بديع الزمان الهمذانيّ (356-398/968-1008) أبا المقامة الذي أوصل الفكاهة والتهكم اللذين نجدهما عند كاتب كالجاحظ، خاصة في كتابه، البخلاء إلى شكل أدبي جديد، وبهذا يكون أنتج جنسا قصصيا جديدا كليا.
ما يلاحظه المرء بشكل مثير جدا في المقامات أنها، مَثَلُها مَثَلُ عدد لا بأس به من الحكايات الأخرى في العصر العباسي، كانت أيضا تصور حياة الطبقات الدنيا وأخلاقها، فيفضي بها الأمر إلى رسم أضداد الأبطال، سابقةً بقرون عدة هذا النوع من البطل الذي قدمه الفن القصصي الأوروبي. وبطبيعة الحال، كان الجاحظ، ذلك العبقري العظيم في القرن الثالث للهجرة (الثامن الميلادي)، قد أمعن النظر بصورة طبيعية في هذا النوع، معطيا إياه انتباها كاملا من لدن مراقب محيط بالحياة من حوله. إن دخول هذا النوع من الشخوص: من غوغاء، ولصوص، وأضداد أبطال، ومحتالين، ومنبوذين، ومتشردين، وبلهاء سذّج ينطلي عليهم أي شيء، ومهرجين، ومحدثي نعمة، إلى الفن القصصي العربي إنما يدل على النمو السريع للمدنية، وعلى حنكة قفزت فوق التقسيمات الاجتماعية طويلة الأمد حين كانت أعناق الفن القصصي تشرئبّ إلى الطبقات العليا وحدها، تاركة وراءها الآخرين في الدرجة الثانية أو ما دونها، بلا قيمة حقيقية في السرد.
للهمذاني أن يفتخر بأنه كاتبٌ ذو نوع خاصٍّ من الأصالة، كاتبٌ ابتدع شكلا قصصيا جديدا ونجح فيه نجاحا باهرا. ولم تقتصر مغامرته على اختلاق خطة تنظيمية غير مسبوقة للجنس، ولكنه أيضا تصرف بالمضمون بطريقة تأتي بمعالجة جميلة لمضمون محض قصصي مبني حول شخوص متخيلين. فالخبر، كما رأينا، كان دائما ذا ميل للحقيقة ويدور حول شخوص حقيقيين أو شبه حقيقيين. غير أن الهمذاني بهذا العطاء المزدوج كان قادرا على عرض إضافة جديدة ومثيرة للأشكال المحدودة في الفن القصصي في العالم، معطيا هيكلا ومادة للتغير الثقافي والاجتماعي والأدبي العظيم الذي حدث في الجوانب المختلفة من الحياة العربية في العصر الوسيط.
لقد خاض الكُتّاب قبل الهمذاني تجربة النمط الساخر لمدة طويلة؛ وكان الجاحظ ابتدع صلات قريبة من هذا النمط ونجح فيه نجاحا رائعا. أما الهمذاني، فقد جاء بهذا النمط الساخر بكليّته إلى الفن القصصي، وفي هذا إشارة واضحة إلى إحساس متغير لا رجعة عنه، عاكسا اختلافا كبيرا مع ما لدى الشعر من مُثُلٍ وخطاب مترفع. وأما شخوص المقامات المتنوعون المختارون من الخلفية الاجتماعية للمجتمع العباسي، فقد كانوا، باستثناء نادر [20]، لا تدركهم عين الشاعر الفصيح، مترفعا عنهم لا يعيرهم اهتماما. وكان التقديم الناجح للمقامات، من حيث الهدف والنمط والنية، تراجعا عن التركيز المفرط على الفخامة والعظمة الاجتماعية؛ وقد أنشأ هذا شقا لعله تامٌّ بين الشعر الرسمي وبين النثر القصصي في القرن الرابع للهجرة من غير ترابط عفوي بينهما.
في المقامات الإحدى والخمسين الباقية للأجيال القادمة (يزعم الكاتب أنه كتب أربعمئة) يبدي الهمذاني رؤية بعيدة، وبراعة في استخدام اللغة، وقدرة عظيمة على الوصف، وتمكنا من الكتابة في مواضيع شتى. أما فيما يتعلق بالأسلوب واللغة، فمقامات الهمذاني في العادة بليغة فصيحة (وهو أمر مغاير لموضوعاتها البسيطة)، معتمدة على السجع، منسابة انسيابا إيقاعيّا، وتقتبس أحيانا من الشعر وسيلة للإيضاح أو الزخرفة. وفي بنية مقامته، هناك شخصيّتان، الرئيسي يسميه الهمذاني أبا الفتح الإسكندري، وهو من يقوم بالمغامرات المختلفة ويصفها بلغة عالية فصيحة على لسان راويته المسمى عيسى بن هشام. والأخير هو من يرويها للقارئ أو المستمع.

ظريفة ومرحة دوما، تلك هي المقامة. إنها لوحة لتجربة واحدة، ولمغامرة كاملة بحد ذاتها، تركز على العمل والحوار معا، عمل محدود بالوقت والمكان، عمل مسرحي مكثّف، وحوار خادع مسلٍّ في أغلبه. أما عالم المشاكل لدى بطل الحكاية، وهو عادة رجل محتال، فغالبا ما يخفف حدوده المقيّدة حيث يتجاوزها البطل منتصرا. بلى، إنه سيد زمنه ومصيره.
كان لعمل الهمذاني أن يستمر ويزدهر. ذلك أن كُتّابا آخرين أخذوا عنه طريقة المقامة مغيرين أسماء الأبطال. وسرعان ما رحل هذا الجنس الذي ابتدعه إلى المغرب جاذبا له عدة كُتّاب أندلسيين، كالشاعر الشهير ابن شُهيد (382-426/992-1035). غير أن أشهر خلف للهمذاني كان أبا محمد القاسم بن علي الحريري (446-516/1054-1112) في المشرق، وهو من جعل من شكل المقامة وسطا للتمرين العظيم في البراعة اللغوية، فملأ مقاماته بالزخارف وابتداعات الصنعة. وقد ركزت مقاماته على تجريب مستمر في روعة الأسلوب وفي تضمين المجازات المعقدة. ومقاماته أطول من مقامات الهمذاني وهي تحف فنية في البراعة اللغوية. فكان الحريري من امتد أثره على الكُتّاب العرب من بعده، حتى القرن التاسع عشر عند بداية النهضة الأدبية العربية حين كتب حصته من المقامات بعض أوائل رواد النهضة، مثل نصيف اليازجي (1800-1883) وأحمد فارس الشدياق (1801-1887) [21].

رسالة الغفران
لقد كانت رسالة الغفران، تلك الأطروحة المعقدة ذات البلاغة الرفيعة للشاعر الشهير أبي العلاء المعري (363-449/973-1057)، ردا على خطاب جاءه من كاتب يدعى علي بن القارح يتضمن أسئلة تدور حول البدعة والإيمان، ويكشف عن موقف رجعي وربما عن انحياز في تعليقاته الناقدة على بعض الرموز الأدبية، فاستثار المعري وحمله على كتابة رسالة الغفران. إنها سرد لرحلة متخيلة إلى العالم الآخر أرسل المعري عليها ابن القارح فصوره زائرا للجنة وللجحيم كليهما، حيث يقابل شعراء وأدباء ولغويين ورواة ويحاورهم. وإذ شعر المعري بالتحدي لما في خطاب ابن القارح من ادعاء، فقد ابتدع هذه الرحلة إلى العالم الآخر لكي يكشف مؤهلات ابن الفارض المتواضعة ولكي يتباهى بسعة معرفته بالثقافة العربية، وتمكنه من اللغة العربية وقواعدها وبلاغتها، وإتقانه فقه الدين، وخبرته بالأخبار وبالشعر العربي في الجاهلية والإسلام، وباتساع ثقافته العامة. إن هذا العمل الجليل، الذي كان تجريبا عظيما في الثقافة والبراعة اللغوية، كان أيضا مغامرة أدبية رئيسية في أنه نجح في تحويل جنس الرسائل إلى شكل أدبي جديد، ذي خصائص قصصية مميزة.
كان صوت المعري هو الذي يروي ويصف. فأما البطل الرئيسي، ابن القارح، فيتحرك ما بين الجنة وجهنم، ومع كل حركة هناك أحداث قصصية تحدث، وهي في الأغلب مما يثير اهتمام القارئ الحقيقي. وأما الراوية، فيتبع خطوات البطل، مراقبا كل خطوة له، مطلعا على كل محادثة يجريها مع سكان العالم الآخر، وهو، أي الراوية، يعلم كل ما يدور في أذهان الناس المعنيين.
لقد كانت هذه فرصة ملائمة للمعري لكي يقول الكثير من ملاحظاته عن الأفكار والمذاهب المنتشرة في عصره. وهو، من بين أشياء أخرى، يهاجم ساخرا عدة معتقدات دينية، منها صوفية الحلاج.
أما الطبيعة القصصية في هذا العمل فتتجلى في تكونها من أحداث قصصية مختلفة في كل قطاع من الرحلة، حيث تحتفظ كل حادثة بتكاملها؛ وفي هذا اختلاف كبير مع الاتجاه المعقد لدى كل من كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة، حيث غالبا ما تتشعب كل قصة فيهما إلى فرع جديد قبل انتهائها. ويحتفظ السرد بتوازن فني بين الوصف والحوار، ويُسيَّر الحوار بطريقة تظهر حذلقة ابن الفارض، وادعاءه، وأنانيته، واحتفاله بالمتع الجسدية، وتظهر كذلك علم المعري الجمّ وقدرته الساخرة. وبالرغم من صعوبة اللغة المستعملة في هذه الأحداث، فإن فيها سحرا وإمتاعا للقارئ، حتى بعد مرور هذا الزمن الطويل.
تبعت خطى رسالة الغفران في اللغة العربية كتاباتٌ عديدة من الجنس عينه، أشهرها رسالة التوابع والزوابع لابن شُهيد (992-1035) في الأندلس. كان ابن شهيد أصغر من المعري، وقد توفي في سن مبكرة نسبيا، وكان متيقظا تماما للتجارب الأدبية في المشرق، ومسرعا إلى اتباعها. واتباع ابن شهيد لرسالة أبي العلاء يؤكد صدورها قبل عام 1035 م.
كثيرا ما قيل إن رسالة الغفران قد تكون الأساس التي بنى عليه دانتي الملهاة الإلهية (التي صدرت في القرن الرابع عشر للميلاد)؛ وهي رحلة أخرى إلى العالم الآخر. وإنه لغريب حقا أن معظم المؤرخين الأوروبيين الذين كتبوا تاريخ الآداب الوليدة المختلفة التي تطورت في الألفية الثانية حول الأندلس وشواطئ المتوسط لم يُبدوا قط أيّ محاولة لتفحص التأثيرات التي لا بد فعلت فعلها في بعض الإسهامات الأدبية في هذه اللغات؛ منها أغاني التروبادور، والشعر الغنائي في جنوب إيطاليا، خاصة في صقلية، التي حكمها العرب أكثر من 200 عام حتى نهاية القرن الحادي عشر للميلاد. لكن الدخول في تفاصيل هذه التأثيرات سوف ينأى بنا عن موضوع هذه الأطروحة. بيد أن من غير الممكن أن تزدهر حضارة زمنا طويلا في مكان ما، حيث تصل إلى ذرى رائعة، ثم لا تترك أثرا من حولها [22].

رواية مبكرة
تعدّ الرواية الفلسفية، حيّ بن يقظان، للفيلسوف الأندلسيّ ابن طفيل (502-571/1110-1185) إحدى كنوز الأدب العربي القديم. إنها خليط من التأمل الفلسفي والرواية القصصية، وقد حافظت على تميزها الأدبي والفكري طوال الزمن.
“حيّ بن يقظان قصة رجل ترعرع في جزيرة مهجورة ووصل إلى أعلى درجات نفاذ البصيرة فلسفيا ودينيا بفضل قدراته الخَلْقية وتجاربه وإدراكه وتأمله” [23].
تبدأ القصة بولادة ابن حيان تلقائيا من الطين على الشاطئ، فتقوم غزالة برعايته، وهي قصة معروفة من قبل لمؤسسي روما. ثم تموت الغزالة/أمه قبل أن يبلغ سن الحلم. وإذ نشأ في الطبيعة، أخذ في تقليد الحيوانات، لكنه كان يقضي وقته في دراسة الطبيعة.

أما البطل الثاني في الرواية، أسال، فقد جاء من جزيرة أخرى، وعلّم حيّاً كلام البشر، وحين شرح لحيٍّ دينه، وجد الرجلان أنهما يشتركان معا في العقيدة ذاتها. بعد ذلك، قام حيّ بزيارة جزيرة أسال حيث وجد الناس هناك مؤمنين إيمانا سطحيا، وهمهم شهواتهم، “فحاول عبثا أن يفتح عيونهم على حقائق دنياهم وبث الحكمة فيهم. لذلك تركهم هو وأسال وقررا أن ينعزلا في تلك الجزيرة ليقضيا بقية حياتهما متعبدين”[24].
إنها لرواية عربية أصيلة فريدة، وقصة تجمع الفلسفة والبصيرة والأدب معا؛ وهي وسيلة لبعض الفلاسفة لتبيان أفكارهم الفلسفية بالقصص والحكايات والرموز. ذلك أن المتصوفة يستطيعون بالرموز أن يعبّروا عما يجيش في أنفسهم من مشاعر، وأن يقولوا ما لا يمكن قوله باللغة العادية، وأن يصفوا ما لا سبيل إلى وصفه. وهم فيما هم فيه يعتمدون على أمثلة حسية ملموسة من العالم الخارجي، وغالبا على صور من شعر الغزل الدنيوي ومتع الحياة على الأرض، فيستخدمونها برفعها لتعني العشق الروحي.
ذلك أن العشق غاية العشق. لكن العاشق الصوفي متسام، وعشقه مفعم بالأفكار والمعاني والنكهة الموجّهة صوب غاية فريدة. إنه أقوى وأسمى من أيّ عشق آخر. ولا ريب في أن المتصوفة سادة العشق والحقيقة الكامنة في العشق؛ فقد أعطوا أروع الأمثلة للآمال الروحية المدهشة. ولقد واجه التصوف الإسلامي كثيرا من الاعتراض بسبب هذه التعبيرات والصور الحسية. نستطيع أن نصف هذه الرواية بأنها “قصة الحياة الإنسانية في الطبيعة، أو أنها مغامرة العقل الإنساني في العالم”. وابن طفيل يصوّر بحذق كبير بعض المراحل التي تمر بها حياة الإنسان أو عقله.
إن تلاقي حيٍّ وأسال، الذي يظهر في جزيرة حيّ حين يغدو الأخير ناضج الفكر، وتناغمهما اللاحق يرمزان إلى تلاقي العقل الفلسفي والشرائع التي جاء بها الأنبياء. وإن فشله مع سكان الجزيرة الأخرى يرمز إلى عدم قدرة دهماء العامة على فهم غايات الفلاسفة وتفكيرهم المجرد.
لذا أراد ابن طفيل أن يلمّح إلى فهمه للحياة والبعث وإلى طبيعة الثواب والعقاب ورغبته في نقد المجتمع الذي يعيش فيه.
إن حيّ بن يقظان رواية حسنة الكتابة منظمة، ولكنها لم تحفز الكُتّاب الآخرين إلى كتابة الرواية. والسبب واضح؛ ذلك أن رواية كتبها أديب فيلسوف، كما كان الحال في رواية حيّ بن يقظان، لم يكن القصد منها نشرها بين العامة، بل لكي تُقرأ باعتبارها تفكيرا فلسفيا. كذلك فإن القرن الحادي عشر لم يكن فيه ما يُسهّل إنتاج سرد قصصي طويل على المستوى الشعبي [25].

السيرة
كان لتضمين الأسطورة في القصة ولأحداث العجائب والغرائب التي تقف جنبا إلى جنب مع قصص البطولة الخارقة أو الحكمة الثاقبة أن يعاد إحياؤها لاحقا بقوة كاملة خاصة عند صعود الملاحم الشعبية. ولم تكن الملاحم الشعبية، كجنس، ثمرة مبكرة للخيال المبدع العربي، بالرغم من وجود بعض صفاتها في أيام العرب وفي كتاب التيجان في ملوك حمير. غير أن الملاحم الشعبية العربية الحقيقية ظهرت بصورة أساسية في عصر المماليك وبين القرنين الثالث عشر والسادس عشر في العصر العثماني، إذ كانت الحياة في هذين العصرين تعاني من التهافت السياسي وسيطرة الأعاجم [26].
إن الملاحم الشعبية العربية أصيلة وفردية، وفيها تنويعات على الفكرة والنتيجة، بالرغم من أنها لا تزال تحتفظ بالصفات الملحمية العامة مشتركة بينها جميعا. والموضوعان الرئيسيان فيها هما المغامرة والحب، ولكن فيها أيضا حروب وفرصة عظيمة لإظهار مناقب الشجاعة، والبراعة الجسدية، والاستقامة الخلقية، وغالبا ما تكون مختلطة بالسحر والأحداث الخارقة للقدرة البشرية.
استطاعت قصص السيرة هذه أن تحافظ على جزء من جاذبيتها في العالم العربي حتى يومنا هذا: ذلك أنها لا تزال تروى في المقاهي في بعض المدن العربية القديمة كدمشق، وفي القرى والمواطن الأقل تمدنا في العالم العربي. ونصوصها موجودة في كثير من المكتبات التي تعنى بالمخطوطات الشرقية. لكن معظمها طبع في المدن المختلفة، خاصة القاهرة. وهناك الآن باحثون في الأدب العربي متخصصون فيها ويُعلِّمونها في الجامعات العربية.
هناك عدد من قصص السيرة الملحمية في التراث العربي، لعل أشهرها ما هو آت [27]:

[1] ملحمة عنترة بن شداد (في حوالي 4.000 صفحة).
[2] ملحمة حمزة البهلوان (في حوالي 2.000 صفحة).
[3] الملحمة الهلالية (سيرة بني هلال)، وهي في نصين: نص نثري من حوالي ألفي صفحة، وآخر شعري جمعه وسجله الشاعر عبدالرحمن الأبنودي، ويقع في ربع مليون رباعية شعرية.
[4] ملحمة الأميرة ذات الهمة، وولدها الأمير عبدالوهاب (في حوالي 5.000 صفحة).
[5] ملحمة الظاهر بيبرس (في حوالي 5.000 صفحة).
[6] ملحمة علي الزيبق، التي تشبه قصة روبن هود.
[7] ملحمة سيف بن ذي يزن، في القرن الرابع عشر، وهي تعكس سيطرة التفكير الخرافي على الواقعي.
ولقد ضمنا في مقتطفاتنا هذه جزءا مأخوذا من الملحمة الأخيرة. وسيف بن ذي يزن هذا كان شخصية تاريخية، ملكا يمانيا ظهر قبل الإسلام، ذا مآثر كثيرة منسوبة إليه. وقد حُوِّلت قصته في القرن الرابع عشر للميلاد إلى قصة حب رائعة، سيرة تتضمن طيفا كاملا من قصص العجائب والغرائب، بعضها باهر حقا، وتروي أسطورة تختلط فيها أحداث خرافية ذات درجات متفاوتة من الأعمال الخارقة للقدرة الإنسانية والتجارب الإنسانية الواقعية، وفيها ما يلزم من مكونات البطولة المستندة إلى السحر الذي تبزّ به هذه الملحمة كل ما عداها. إنها تصور مآثر سيف الإعجازية، خاصة في عشقه وحياته الشخصية المعقدة. وتقدم هذه الملحمة سيف بن ذي يزن باعتباره مسلما [28].


الهوامش:
[1] راجع دراسة غيرت فان غِلدر (Geert Van Gelder) “الإيجاز والقصص القصيرة في العربية الفصحى” (Brevity and Short Stories in Classical Arabic)؛ وكذلك دراسة أنطونِلا غِرسِتّي (Antonella Ghersetti) “النوادر العربية والسرد الموجز في العصر الوسيط” (Arabic Anecdotes and Medieval Narratio Brevis)، وكلا الدارستين في كتابي المحرر القادم، القصة العربية في القرون الوسطى.
[2] مثل التعبير القصير التالي لأعرابية “قال الأصمعي قلت لأعرابية ما تعدّون العشق فيكم قالت العناق والضمة والغمزة والمحادثة. ثم قالت يا حضري فكيف هو عندكم قلت يقعد بين شعبها الأربع ثم يجهدها قالت يا ابن أخي ما هذا عاشق هذا طالب ولد وسئل أعرابي عن ذلك فقال مص الريق ولثم الشفة والأخذ من أطايب الحديث فكيف هو فيكم أيها الحضري فقال العفس الشديد والجمع بين الركبة والوريد ورهز يوقظ النائم ويشفي القلب الهائم فقال بالله ما يفعل هذا العدو الشديد فكيف الحبيب الودود”. “روضة المحبين ونزهة المشتاقين” لابن قيم الجوزية. طبعات مختلفة.
[3] مثل ذلك الذي نجده في كتاب ابن الجوزي، أخبار الحمقى والمغفلين؛ ومجموعة المحسن التنوخي (ت 384/994)، الفرج بعد الشدة، المليء بالحكمة والنصائح الدينية ووصف القهر والعنف الذي يمارسه على الناس الحكام والمسؤولون. وللتنوخي أيضا: المستجاد من فعلات الأجواد؛ وهناك ثالث للرقام البصري (ت 321/933)، العفو والاعتذار، الذي يعنى بشكل رئيسي بمختلف معاني العفو والاعتذار؛ وهو يتحدث عن المجرمين وكيف كان يعفو عنهم، معطيا بذلك صورة واضحة للشخصية العربية في تلك الأزمان؛ وعن الكثرة من العادات الاجتماعية وعادات الحكام والرعية، وكذلك عن عادات الناس في خصامهم واختلافهم، واصفا بعض كبار الشخصيات التاريخية، كالحجاج، عامل الأمويين على البصرة، والشاعر الفرزدق؛ وهناك كتاب المكافأة الرائع لابن الداية (ت 330/941؟). ومع تطور حياة المدينة، كتبت كتب عن مواضيع جنسية وأحيانا محظورة، مثل كتب الكاتب الموسوعي، شهاب الدين التيفاشي (580-651/1184-1253)، نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب، وهو يحتوي على تفاصيل الممارسات الجنسية في زمنه؛ وهناك كتاب عودةالشيخ إلى صباه، وغير ذلك.
[4] نورد هنا مثلا واحدا: قصة خدعة داوود لأوريا حين أرسله “ليقاتل لعله يقتل، فيتزوج زوجته”. كانت هذه القصة مرفوضة مبدئيا من قبل المسلمين الذين كانوا يعتبرون من المستحيل أن تكون صحيحة لأنها تعطي مثلا بالغ السوء. فالأنبياء، كما يقول المسلمون الجدد يجب أن يكونوا أعلى من مثل هذا التصرف. راجع ابن الجوزي: كتاب القصاص والمذكرين، بيروت، 1969، ص 10.
[5] المصدر السابق، 10-11.
[6] في كتابي، مقتطفات من الفن القصصي العربي، راجع المجتزأ من رواية جرجي زيدان، الأمين والمأمون، ص 1047-1056،التي تصف الموكب الفخم للسيدة زبيدة، أم الأمين، زوجة هارون الرشيد، خاصة ص 1049-1050.
[7] بدأ الشعر الشعبي في وقت مبكر في الأندلس وفي المشرق، خاصة في بغداد؛ إلا أن الشعراء والنقاد لم يعترفوا به كشعر حقيقي، بل كان يسمى حسب جنسه: موشح، زجل، إلخ.
[8] راجع كتابه (Anatomy of Criticism) [تشريح النقد]، من أربع مقالات، منشورات جامعة برنستُن، برنستن، 1957، المقالة الأولى، راجع الفصل الأول بصورة خاصة.
[9] طرأت تغيرات كثيرة على اللغة العربية في العصر العباسي، وذلك باستحداث مئات الكلمات والتعبيرات المشتقة، وبتدفق أعداد كبيرة من الكلمات آتية من لغات أخرى، خاصة تلك المتعلقة بالطعام واللباس والاستعمالات المدنية والحضرية الجديدة الآتية من المراكز الحضرية المفتوحة للعالم المحيط.
[10] راجع عماد إسماعيل وجلال الخياط وعلي عباس، محررون، مختارات من أثر الجاحظ، بغداد، 1980.
[11] حول الشحاذين واللصوص، كتب عملين إضافيين: حيل المكدين، وحيل اللصوص، مبتدعا أوضاعا جميلة.
[12] من الممتع تتبع صعود الفكاهة ونشوئها عند نهاية العصر الأموي. حول هذا الموضوع، راجع عبدالكريم اليافي، دراسات في الأدب العربي، دمشق، 1963، الفصل عن “تطور المجتمع من خلال تطور الفكاهة، ص 489-624.
[13] هناك دراسة لهلري كِلباترِك (Hilary Kilpatrick) تساعد كثيرا في إضاءة طريقة هذه الأخبار وما ترمي إليه، “سياق معنى الأخبار وتعزيز مكانتها في كتاب الأغاني” (Context and Enhancement of the Meaning of Akhbar in the Kitab al-Aghani)، أرابكان السفر 38، 1991.
[14] في دراسته، “أصداء الإسراء والمعراج في الملهاة الإلهية”، في كتابي القادم، القصة العربية في العصرالوسيط.
[15] المصدر السابق.
[16] لمحمود ذهني مناقشة طويلة حول هذه النقطة، محاولا بمنطق أن يثبت أن جزءا على الأقل من فصول هذا الكتاب من إبداع ابن المقفع. راجع الفصل الطويل عنه، …. ص 150-201.
[17] هذا ما اقتبسته فريال غزول في مقالتها البينة حول الأساطير المستخدمة في ألف ليلة وليلة، وفي رسائل إخوان الصفا. راجع، “قصص الحيوان بين موروثنا الشعبي وتراثنا الفلسفي”، في مجلة فصول، عدد خاص عن التراث، خريف 1994، ص 134-152. والاقتباس في ص 136.
[18] المصدر نفسه، ص 145.
[19] حين قرأ الشاعر الأموي العظيم، ابن الرمة، بائيته في المربد، وهي من أحسن شعره، سأل الفرزدق، وكان قد أعجبته القصيدة، لم لا يعد من فحول الشعراء،. فكانت إجابة الفرزدق تشي بابتعاد شعراء المدن كالفرزدق عن الأعراف الجاهلية، قال “لأنك لا تزال تصف الرسوم والمطايا”. غير أن هذه الأعراف أثبتت أنها صلبة لا تلين عند بعض الشعراء، مثل الشريف الرضي، الذي جاء بعد قرون لاحقة.
[20] لقد غاير الشاعر الثانوي، أبو دُلف الخزرجي، في القرن الرابع-العاشر الاتجاه المترفع لدى كبار الشعراء. فقصيدته الساسانية تصف وصفا تاما حياة المهمشين في المجتمع، ومنهم أولئك البارعون في فن الكدية التي ارتبطت في هذه القصيدة وكتابات أخرى بعدها ببني ساسان في فارس. راجع كتاب بوزويرث ذي المجلدين، العالم السفلي في العصر الوسيط، بنو ساسان في المجتمع والأدب العربي، (C. E. Bosworth, The Medieval Underworld, the banu Sasan in Arabic Society and Literature)، لايدن، 1976. بيد أن هذا النوع من الشعر لأبي دلف وغيره قليل لم يقدر له أن يغدو تقليدا في الشعر.
[21] للمزيد عن المقامات، راجع عبدالله شيخ موسى، “الحقيقة والخيال في مقامات الهمذاني: أبو العنبس الصيمري وأبو الفتح الإسكندري”، وكذلك ديفن ستيورت، “المقامات العربية التقليدية والرواية التشردية” (Classical Arabic Maqamat and the Picaresque Novel) في كتابي القادم، (The Classical Arabic story).
[22]
[23] راجع ج. بيرغل، “ابن طفيل وروايته ابن يقظان: نقطة تحول في الكتابة الفلسفية العربية”، (J. C. Burgel, “Ibn Tufail and his Hayy Ibn Yaqzan: a Turning Point in Arabic Philosophical Writing) في إرث إسبانيا المسلمة، تح. سلمى الخضراء الجيوسي، لايدن، بريل، 1992، ص 831.
[24] المصدر السابق.
[25] بالإضافة إلى دراسة بيرعغل عن ابن طفيل أعلاه، راجع مقال عبدالفتاح كيليتو، “الدخيل: حيّ بن يقظان”، (The Intruder: Hayy ibn Yaqzan) في كتابي القادم، القصة العربية في العصر الوسيط.
[26] راجع ما يقوله محمد رجب النجار عن هذا في مقاله، “القصص الملحمية في التراث العربي، بناؤها، وأهميتها، ووظيفتها” (Epic Stories in the Arab Heritage, Structure, Significance and Function)، في كتابي القادم، القصة العربية في العصر الوسيط.
[27] للاطلاع على وصف مفصل للملاحم الشعبية، راجع المصدر أعلاه.
[28] راجع مقدمة هاري نوريس (Harry Norris) لكتاب سيف بن ذي يزن، ملحمة شعبية عربية، (Sayf Ben Dhi Yazan, an Arab Folk Epic)، إنديانا، منشورات جامعة إنديانا، بلومنغتن وإنديانابولِيس، 1996.



* سلمى الخضراء الجيوسي
ناقدة‭ ‬وشاعرة‭ ‬من‭ ‬فلسطين‭ ‬مقيمة‭ ‬في‭ ‬أميركا
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...