تحولت قصة حب " يونس" لأسطورة يفتخر بها حينا وسط أحياء القاهرة.. تفاصيلها منقوشة في الذاكرة .. حينما تدب قصة حب جديدة في الحي ، نسارع في جلسات النميمة برواية قصة " يونس" مضيفين إليها بما وسعه الخيال من تفاصيل.. حينما نعب شهيقا عميقا مليء بالغبار والحسد والحقد ،نتذكر رائحة شجرة "يونس " المسحورة التي منحت أهل الحي الصحة والحب .. حينما تندفع الدماء في رؤوسنا وتحمر العيون من الحسرة بسبب تبدل حالة الحي بفعل فاعل نترحم علي بيت " يونس" العريق.
" يونس " الذي أتحدث عنه هو جدي .. مات أو انتحر أو تبخر في السماء ، وهو ما زال في الأربعينيات من عمره " الله أعلم " ..
" يونس " شخصية اختلفت حولها الروايات والقصص .. وحتى لا يعشش في رؤوسكم اعتقاد خاطئ ، بأن قرابتي له تمنحني الحق في الجزم وحسم الخلاف حول أنه أقدم علي الانتحار أم أنه كان مخاويا للجان فهذا خارج قدراتي ، كل ما أعلمه هي أقاصيص من هنا وهناك .. لا تختلف كثيرا عن التي يلوكها العواجيز في جلساتهم أمام دكان "المحلاوي"..
وللدقة حاولت قدرنتؤ المستطاع نقل بعض الأقاصيص كما سمعتها.. تاركا لكم الحرية في تخيل القصة.
أقاصيص
يا فؤادي ..
يا فؤادي لا تسل أين الهوى
كان صرحا .. من خيال فهوى
ينساب صوت أم كلثوم من داخل حجرة والدي
صور قديمة متهالكة متناثرة في حجرة والدي المليئة بالكتب والكراكيب .. تطفح منها تفاصيل بيت جدي العريق ، ولمسات زوق جدتي ، وفي الخلفية تظهر شجرة صغيرة خضراء يانعة ، يقال عنها بأنها كانت مسحورة تنفث رائحة ربيع ومسك دائم ..
من طول النظر للصور كنا نسمع منها زئير متصاعد .. همسات .. ناقوس يدق .. تفاصيل مبعثرة تنطق وتتكلم بحواديت محملة بعبير منعش ..
كنا ننتظر ليالي الخميس من كل أسبوع بفارغ الصبر .. نتوخى الحذر حتى يحط الصمت بمخالبه علي الحي ، وتصاب أصوات ورش الميكانيكا المنتشرة بالسكتة القلبية ، نلتف حول والدي الذي يسارع برسم تعبيرات الخبير ببواطن الأمور على وجهه .. نجلس بقاماتنا القصيرة فوق سجادة مشغولة برموز غريبة .. بين ذهول عقول صغيرة عاجزة عن تخيل ما يرسمه من أساطير أو حكايات لا تصدق .. أفواهنا تتسع بأحجام كبيرة لا نهائية .
لتأكيد كل حدوتة كان يرويها .. كان والدي يدفعنا لنتفحص الصور القديمة .. نستنهض حواسنا في محاولة فاشلة لالتقاط تفاصيل وجه جدي وجدتي.. كل ما لفت نظرنا وجود رضيع يبتسم ويده اليمني تداعب شعيرات شنب جدي ، أخبرنا والدي بأنه لم يستكمل وقتها العامين أو الثلاثة على الأكثر..
من الأقصوصات التي شدتني ، وشعرت بأنها الأقرب للحقيقة ، يوم حط طائر "البوم" المعروف عنه أنه نذير الشؤم علي شجرة جدي .. يومها غابت الشمس عن الطلوع ، واحمرت السماء كأنها شخص مخنوق يعاني من احتباس أنفاسه.. يومها صدم جدي حينما وجد جدتي ملقاة فوق أرضية حجرة نومهما فاقدة الوعي .. حاول مرارا رفع جسدها المدكوك فوق السرير ولكنه فشل .. اقترب منها بوجهه الممصوص المليء بحفر الجدري اللعين..وجسده النحيل بارز العروق .. اقترب ناحية أنفها حتى تأكد من أنها مازالت علي قيد الحياة ..
حكي والدي بأن الأطباء وقتها عجزوا أمام غيبوبتها .. ولم يجد جدي مفرا من اللجوء إلى "السر الباتع" في تعاويذ العرافين .. كل منهم جاء للبيت في صحبة عدد من الجان وأرواح الأموات ، ورغم ذلك كانت حالة جدتي تسوء ، وتحولت إلى كومة من اللحم المكور فوق سريرها النحاسي القديم .. راقدة بلا نبض .. بلا حراك .. جفون ملتحمة من طول انقباضهما، لا تشعر بإضاءة النجفة النحاسية المتدلية مباشرة فوق السرير ، وضوء النهار المخنوق المتسلل عبر الثقوب المنتشرة في الستائر السوداء.
انقطعت أخبار جدي عن الناس ، وأرسل والدي ليتربى ويترعرع وسط أولاد عمه .. يقال بأن الأمل لم يفارق جدي في شفاء جدتي .. يحكي العرافون بأنه كان يصعد علي السرير ويتمدد بجوارها ، ساندا رأسه علي يديه ، في وضع يكشف كل وجهها ، ويبدأ كعادته في رواية تفاصيل يومه .. كان يحكي بطريقة توحي لمن حوله أنها تسمعه وتنصت إليه..
دوت في الحي إشاعات وخرافات.. منبعها العرافين كل منهم يحيك حدوتة بما وسعه خياله من أساطير .. ووصل الحال ببعضهم أنهم اقسموا أن جدي مات يوم أن انقبضت السماء واحمرت .. وزيادة في التأكيد روى بعضهم أن ملاكا بعث في جسده وجاء ليحرث جدتي.
تناقل العرافين أن جدتي كانت تدمع كلما همس جدي في أذنها بتفاصيل قصة حبهما .. وقتها كان جسدها الهامد ينتفض .. يرتعش .. تخرج منه رائحة مسك وضوء يبهر العيون .. دموعها كانت تنساب وتنهمر في صمت .. حاول العرافين مرارا التصنت علي جدي كلما اقترب من أذنيها.. ولكنهم فشلوا في التقاط كلماته الغريبة..
قالوا بأن كلمات جدي كانت مغزولة من ألفاظ ساحرة ، تفقد العقل .. سمعوه يوشوشها وهو مبتسم وعينيه مغمضتين وكأنه محلق في السماء .. ولكن في أحيان كان يحدثها بصوت مسموع:-
" فاكره حبيبتي كوبري العاشقين.. جسدي كان ينتفض ويرتعش كلما كنت تحضنين يدي ، كلما التحمنا بجوار بعضنا .. أقول لك علي سر حينما كنت نتلامس كانت عيناي تغيم وأكاد يغمي على.. ترتفع دقات قلبي اشد من دقات طبلة ضخمة يسمعها العشاق المرصوصين حولنا وتتعداه للحي بأكمله..
فاكره حبيبتي .. تحول الكوبري لشريك.. شاركنا في مقابلاتنا .. دموعنا .. شجننا .. كل يوم نرسم من فوقه أحلامنا علي سطح الماء ، والأسماك تنصت .. تتراقص.. فاكره القلوب التي حفرناها علي ساتر الكوبري الحديدي" ..
أقصوصة
يا حبيبي كل شيء بقضاء ..
ما بأيدينا خلقنا تعساء ..
ربما تجمعنا أقدارنا ..
ذات يوم بعد ما عز اللقاء ..
جاء صوتها نذيرا من داخل الدكان
قهوة سادة .. سعال صدور أنهكتها السنين ، لكبار سن مرصوصين أمام دكان شيخ الحارة ، وسط ضجيج وصراخ يملأ أركان الحي .. " الله يرحم "يونس " لم نكن نسمع في زمنه كل ذلك " قالها شيخ الحارة قبل أن يجزم لنا بأنه الوحيد الذي يعرف الحكاية الأصلية ليونس .. كل يوم كنت أتعمد مراقبة ما يجرى في بيت يونس المواجه لبيتنا .. من فتحة موجودة في الشباك القديم ..
لمحت أناس غرباء.. ملابسهم فضفاضة شفافة .. وجوههم قناديل من النور .. تضيء .. تشع .. ليس فيها تفاصيل أو معالم.. يتسحبون قبل الفجر إلى داخل بيت يونس ، حاملين أواني زجاجية شفافة تنتشر منها رائحة مسك ..
وأحيانا عديدة كانت زوجتي تهمس لي ، بأنها كانت تسمع صوت بدرية يتناهى إليها ، حينما كانت تتخبط في الظلام للوصول إلى مكان الوضوء .. كان يتناهى متدفقا .. رباني .. يعانق السماء .. وهى تهمس مع يونس فيتردد صوتهما .. ويحدث صدى صوت كالترانيم السماوية تهز مباني الحي..
صخب .. وعربة كارو تحمل فاكهة .. تنقلب فتملأ الحارة بحبيبات البرتقال .. الكل لا يعير البائع أدني اهتمام وهو يجمع رزقه ..
قاطع الحانوتي شيخ الحارة .. طالبا من الجالسين " أن يوحدوا الله " .. وقال بأنه بعد جلسة حظ تطاير فيها دخان المخدرات الأزرق .. شعشعت في رأسه الإقدام على خطوة تراوده منذ فترة ولكن خوفه من العواقب كان يمنعه ..هذه الخطوة كانت تتعلق بالتلصص علي " يونس " .. ليلتها عقد العزم وفي هدوء شديد تسلق شباك البيت الخلفي ، وحينما سمع أصوات غريبة ظل راكدا لفترة قصيرة ..
في خوف مازال محفور علي تجاعيد وجهه ورعشة شفاهه قال :-
" فجأة سمعت أصوات .. ودبيب .. وأنوار متحركة .. هممت برأسي فلمحت بدرية ترقد علي الكتف الأيمن ليونس.. ويده اليسرى تمر بين خصلات شعرها الأسود المتدلي علي كتفيها .. ومن حولهما كائنات غريبة تعزف موسيقي .. جعلتني أنعس وأغط في نوم عميق .. أيقظني وقوف يونس حاضنا بدرية ، وشعاع ضوء شديد يخرج منهما .. كشفني رغم اختفائي خلف حائط سميك .. بعدها أرتج البيت وكأن طبيب أسنان يخلع الضرس ، بدأ يتهيأ للتحليق مبتعدا عن الأرض ، وكدت أتعرض للموت بعد أن تم قذفني منه .. ومن يومها لا يعرف أحد عن البيت شيء ..
الأقصوصة
فإذا أنكر خل خله ..
وتلاقينا لقاء الغرباء ..
"يا جماعة أنتم مش عاوزين تصدقوا ليه .. مين قال أن يونس وبدرية هما اللي كانوا عايشين في الحي دول كانوا ملايكة" صاح بذلك خفير الكوبري .. رجل عجوز أحنى الزمن ظهره ، يرتدي جلباب قديم ، ويقطن في بيت متهدم ملاصق لبيت يونس .. صاح بها وهو مفترش الأرض ممدد ساقيه أمامه ، ساندا ظهره على جدار الدكان .. " ممكن تسمعوني .. أنا هأحكي لكم الحكاية اللي شوفتها بعيوني" .. قالها وعلي وجهة تعبيرات الجدية ..
" اعذروني لأن الذاكرة ضعفت ولا تسعفني في تذكر يوم وقوعها .. ولكن كانت في الأغلب يوم خميس .. وقتها كنت أتسامر مع زميلي أسفل الكوبري ونعب من دخان "الجوزة ".. وقتها رأيت وسمعت ما لا عقل يصدقه .. لم أكن قد رأيت يونس من فترة .. في ذلك اليوم لمحته من بعيد ، يرتدي ملابس غريبة منتصبا في منتصف كوبري العشاق .. يهذي بكلمات غريبة وأناشيد لها وقع صدي الأجراس والآذن .. على أثرها تجمعت أسماك غريبة على وجه الماء لتتصنت وتستمع .. أقسم لكم بأنني لأول مرة في حياتي أري مثلها في ضخامتها وألوانها..
قبل أن أنهض لصعود السلم المؤدي إليه ، سمعت صرخة مدوية أحدثت برق في السماء ، ورجت العاشقين فوق الكوبري ، ممن وقفوا مذهولين ينظرون يصرخون ينادون بأن شخص رمي نفسه .. حينما هممت بخلع جلبابي للقفز إلى الماء لنجدته ، وجدت تلك الأسماك تحمل يونس إلى الشاطئ القريب.. جسده كان دافئا .. يخرج من وجهه نور مشرق .. سارع زميلي بطلب الإسعاف ، ولكن فجأة تصاعد من جسده بخار ملأ المكان ، وبدأت ساقيه ورأسه تتبخر في الهواء وشيئا فشيئا انتهى بأكمله ..
لم يصدقني وقتها أحد من أهل الحي .. بعد شهر من تلك الحادثة لمحت "يونس" يدخل بيته .. تعجبت .. كاد يغمي علي من الصدمة .. صحت عليه .. لم يرد .. ابتسم ودخل المنزل ..
بعد شهور وعلى ما أتذكر كان يوم خميس .. لمحت " بدرية " تقف في نفس المكان فوق كوبري العاشقين .. تهذي بنفس كلمات " يونس " .. تخرج منها في شكل ترانيم .. أسفل الكوبري شاهدت نفس الأسماك الضخمة الملونة وهى تتراقص علي نغمات صوتها .. بعد دقائق حدث ما جري مع يونس حملت الأسماك جسدها ناحية الشاطئ .. وفجأة خرج منها نور ثم تبخرت ..
بعدها بشهر لمحتها تدخل البيت .. من صدمتي جريت ناحيتها .. التفتت ناحيتي مبتسمة وأغلقت الباب خلفها ..
أقصوصة
ومضي كلا إلى غايته ..
لا تقل شئنا .. فإن الحظ شاء..
صراخ .. عويل ينهمر علينا من أحد الشبابيك ، الناس في الحارة يستكملون طريقهم وكأنهم مغيبين ، لا أحد يلتفت ناحية مصدر الصوت أو يعره ادني انتباه .. أولاد في الشارع يلعبون .. ونساء يتسابقن ناحية بيوتهن .. لم يتحرك أحد من الجالسين .. أو حتى يكلف نفسه بسؤال الشباب العائد من هناك ..
ترحم أحد العواجيز على أيام " يونس " .. بعد أن تحول الحي لساحة من الزعيق.. إلى ساحة من القتال .. ومعارك بين الأزواج ..
تتذكر يا شيخ الحارة الشجرة المسحورة .. قالها العجوز بعد أن لمعت عينيه الغائرتين داخل وجهه الذي برزت منه العظام .. لم يعرف أحد لها نوع .. أو أصل .. زرعها يونس بعد زواجه من بدرية عند مدخل البيت.. كانت براقة .. تنفث رائحة تشبه المسك والنشادر .. دائما ما كانت خضراء .. تدب فيها الحياة.
انتشر بين الناس خبر سحرها وقدرتها على علاج المرضى .. تحولت إلى مزار يقصده المرضى من أهل الحي ، ممن يحتار الأطباء في علاجهم وشفائهم .. يقصد أهل المريض بيت "يونس" ، يقطف لهم إحدى الأوراق من أغصان الشجرة .. وبمجرد أن يتجرع المريض قطرات من مائها تدب في قلبه الحياة وينجو من الموت .
كانت الطيور المهاجرة الضعيفة .. تقصدها وتأوي إليها كل عام .. تشعر بداخل أغصانها بالأمان .. والدفيء .. وتميل إلى رائحتها التي كانت تخترق جدران الحوائط ، وتصل إلى داخل البيوت .. الفقيرة .. ذات الأثاث القديم المتهالك .. فتنشر بين سكانها الهدوء والأمان .
حينما مرضت بدرية .. بدأت الشجرة في الضعف والوهن .. واصفرت أوراقها وضعفت رائحتها .. من يومها وأحوال الحي انقلبت .. زادت المشاكل بين الأزواج .. وتناحر الأطفال والشباب بين أركانها..
وماتت الشجرة بعد موت يونس وبدرية .. وتحول الحي إلى ساحة معارك
هذه الأقاصيص تجعلني لا أجزم أن يونس مات أم أنتحر ..
* عن الاهرام
" يونس " الذي أتحدث عنه هو جدي .. مات أو انتحر أو تبخر في السماء ، وهو ما زال في الأربعينيات من عمره " الله أعلم " ..
" يونس " شخصية اختلفت حولها الروايات والقصص .. وحتى لا يعشش في رؤوسكم اعتقاد خاطئ ، بأن قرابتي له تمنحني الحق في الجزم وحسم الخلاف حول أنه أقدم علي الانتحار أم أنه كان مخاويا للجان فهذا خارج قدراتي ، كل ما أعلمه هي أقاصيص من هنا وهناك .. لا تختلف كثيرا عن التي يلوكها العواجيز في جلساتهم أمام دكان "المحلاوي"..
وللدقة حاولت قدرنتؤ المستطاع نقل بعض الأقاصيص كما سمعتها.. تاركا لكم الحرية في تخيل القصة.
أقاصيص
يا فؤادي ..
يا فؤادي لا تسل أين الهوى
كان صرحا .. من خيال فهوى
ينساب صوت أم كلثوم من داخل حجرة والدي
صور قديمة متهالكة متناثرة في حجرة والدي المليئة بالكتب والكراكيب .. تطفح منها تفاصيل بيت جدي العريق ، ولمسات زوق جدتي ، وفي الخلفية تظهر شجرة صغيرة خضراء يانعة ، يقال عنها بأنها كانت مسحورة تنفث رائحة ربيع ومسك دائم ..
من طول النظر للصور كنا نسمع منها زئير متصاعد .. همسات .. ناقوس يدق .. تفاصيل مبعثرة تنطق وتتكلم بحواديت محملة بعبير منعش ..
كنا ننتظر ليالي الخميس من كل أسبوع بفارغ الصبر .. نتوخى الحذر حتى يحط الصمت بمخالبه علي الحي ، وتصاب أصوات ورش الميكانيكا المنتشرة بالسكتة القلبية ، نلتف حول والدي الذي يسارع برسم تعبيرات الخبير ببواطن الأمور على وجهه .. نجلس بقاماتنا القصيرة فوق سجادة مشغولة برموز غريبة .. بين ذهول عقول صغيرة عاجزة عن تخيل ما يرسمه من أساطير أو حكايات لا تصدق .. أفواهنا تتسع بأحجام كبيرة لا نهائية .
لتأكيد كل حدوتة كان يرويها .. كان والدي يدفعنا لنتفحص الصور القديمة .. نستنهض حواسنا في محاولة فاشلة لالتقاط تفاصيل وجه جدي وجدتي.. كل ما لفت نظرنا وجود رضيع يبتسم ويده اليمني تداعب شعيرات شنب جدي ، أخبرنا والدي بأنه لم يستكمل وقتها العامين أو الثلاثة على الأكثر..
من الأقصوصات التي شدتني ، وشعرت بأنها الأقرب للحقيقة ، يوم حط طائر "البوم" المعروف عنه أنه نذير الشؤم علي شجرة جدي .. يومها غابت الشمس عن الطلوع ، واحمرت السماء كأنها شخص مخنوق يعاني من احتباس أنفاسه.. يومها صدم جدي حينما وجد جدتي ملقاة فوق أرضية حجرة نومهما فاقدة الوعي .. حاول مرارا رفع جسدها المدكوك فوق السرير ولكنه فشل .. اقترب منها بوجهه الممصوص المليء بحفر الجدري اللعين..وجسده النحيل بارز العروق .. اقترب ناحية أنفها حتى تأكد من أنها مازالت علي قيد الحياة ..
حكي والدي بأن الأطباء وقتها عجزوا أمام غيبوبتها .. ولم يجد جدي مفرا من اللجوء إلى "السر الباتع" في تعاويذ العرافين .. كل منهم جاء للبيت في صحبة عدد من الجان وأرواح الأموات ، ورغم ذلك كانت حالة جدتي تسوء ، وتحولت إلى كومة من اللحم المكور فوق سريرها النحاسي القديم .. راقدة بلا نبض .. بلا حراك .. جفون ملتحمة من طول انقباضهما، لا تشعر بإضاءة النجفة النحاسية المتدلية مباشرة فوق السرير ، وضوء النهار المخنوق المتسلل عبر الثقوب المنتشرة في الستائر السوداء.
انقطعت أخبار جدي عن الناس ، وأرسل والدي ليتربى ويترعرع وسط أولاد عمه .. يقال بأن الأمل لم يفارق جدي في شفاء جدتي .. يحكي العرافون بأنه كان يصعد علي السرير ويتمدد بجوارها ، ساندا رأسه علي يديه ، في وضع يكشف كل وجهها ، ويبدأ كعادته في رواية تفاصيل يومه .. كان يحكي بطريقة توحي لمن حوله أنها تسمعه وتنصت إليه..
دوت في الحي إشاعات وخرافات.. منبعها العرافين كل منهم يحيك حدوتة بما وسعه خياله من أساطير .. ووصل الحال ببعضهم أنهم اقسموا أن جدي مات يوم أن انقبضت السماء واحمرت .. وزيادة في التأكيد روى بعضهم أن ملاكا بعث في جسده وجاء ليحرث جدتي.
تناقل العرافين أن جدتي كانت تدمع كلما همس جدي في أذنها بتفاصيل قصة حبهما .. وقتها كان جسدها الهامد ينتفض .. يرتعش .. تخرج منه رائحة مسك وضوء يبهر العيون .. دموعها كانت تنساب وتنهمر في صمت .. حاول العرافين مرارا التصنت علي جدي كلما اقترب من أذنيها.. ولكنهم فشلوا في التقاط كلماته الغريبة..
قالوا بأن كلمات جدي كانت مغزولة من ألفاظ ساحرة ، تفقد العقل .. سمعوه يوشوشها وهو مبتسم وعينيه مغمضتين وكأنه محلق في السماء .. ولكن في أحيان كان يحدثها بصوت مسموع:-
" فاكره حبيبتي كوبري العاشقين.. جسدي كان ينتفض ويرتعش كلما كنت تحضنين يدي ، كلما التحمنا بجوار بعضنا .. أقول لك علي سر حينما كنت نتلامس كانت عيناي تغيم وأكاد يغمي على.. ترتفع دقات قلبي اشد من دقات طبلة ضخمة يسمعها العشاق المرصوصين حولنا وتتعداه للحي بأكمله..
فاكره حبيبتي .. تحول الكوبري لشريك.. شاركنا في مقابلاتنا .. دموعنا .. شجننا .. كل يوم نرسم من فوقه أحلامنا علي سطح الماء ، والأسماك تنصت .. تتراقص.. فاكره القلوب التي حفرناها علي ساتر الكوبري الحديدي" ..
أقصوصة
يا حبيبي كل شيء بقضاء ..
ما بأيدينا خلقنا تعساء ..
ربما تجمعنا أقدارنا ..
ذات يوم بعد ما عز اللقاء ..
جاء صوتها نذيرا من داخل الدكان
قهوة سادة .. سعال صدور أنهكتها السنين ، لكبار سن مرصوصين أمام دكان شيخ الحارة ، وسط ضجيج وصراخ يملأ أركان الحي .. " الله يرحم "يونس " لم نكن نسمع في زمنه كل ذلك " قالها شيخ الحارة قبل أن يجزم لنا بأنه الوحيد الذي يعرف الحكاية الأصلية ليونس .. كل يوم كنت أتعمد مراقبة ما يجرى في بيت يونس المواجه لبيتنا .. من فتحة موجودة في الشباك القديم ..
لمحت أناس غرباء.. ملابسهم فضفاضة شفافة .. وجوههم قناديل من النور .. تضيء .. تشع .. ليس فيها تفاصيل أو معالم.. يتسحبون قبل الفجر إلى داخل بيت يونس ، حاملين أواني زجاجية شفافة تنتشر منها رائحة مسك ..
وأحيانا عديدة كانت زوجتي تهمس لي ، بأنها كانت تسمع صوت بدرية يتناهى إليها ، حينما كانت تتخبط في الظلام للوصول إلى مكان الوضوء .. كان يتناهى متدفقا .. رباني .. يعانق السماء .. وهى تهمس مع يونس فيتردد صوتهما .. ويحدث صدى صوت كالترانيم السماوية تهز مباني الحي..
صخب .. وعربة كارو تحمل فاكهة .. تنقلب فتملأ الحارة بحبيبات البرتقال .. الكل لا يعير البائع أدني اهتمام وهو يجمع رزقه ..
قاطع الحانوتي شيخ الحارة .. طالبا من الجالسين " أن يوحدوا الله " .. وقال بأنه بعد جلسة حظ تطاير فيها دخان المخدرات الأزرق .. شعشعت في رأسه الإقدام على خطوة تراوده منذ فترة ولكن خوفه من العواقب كان يمنعه ..هذه الخطوة كانت تتعلق بالتلصص علي " يونس " .. ليلتها عقد العزم وفي هدوء شديد تسلق شباك البيت الخلفي ، وحينما سمع أصوات غريبة ظل راكدا لفترة قصيرة ..
في خوف مازال محفور علي تجاعيد وجهه ورعشة شفاهه قال :-
" فجأة سمعت أصوات .. ودبيب .. وأنوار متحركة .. هممت برأسي فلمحت بدرية ترقد علي الكتف الأيمن ليونس.. ويده اليسرى تمر بين خصلات شعرها الأسود المتدلي علي كتفيها .. ومن حولهما كائنات غريبة تعزف موسيقي .. جعلتني أنعس وأغط في نوم عميق .. أيقظني وقوف يونس حاضنا بدرية ، وشعاع ضوء شديد يخرج منهما .. كشفني رغم اختفائي خلف حائط سميك .. بعدها أرتج البيت وكأن طبيب أسنان يخلع الضرس ، بدأ يتهيأ للتحليق مبتعدا عن الأرض ، وكدت أتعرض للموت بعد أن تم قذفني منه .. ومن يومها لا يعرف أحد عن البيت شيء ..
الأقصوصة
فإذا أنكر خل خله ..
وتلاقينا لقاء الغرباء ..
"يا جماعة أنتم مش عاوزين تصدقوا ليه .. مين قال أن يونس وبدرية هما اللي كانوا عايشين في الحي دول كانوا ملايكة" صاح بذلك خفير الكوبري .. رجل عجوز أحنى الزمن ظهره ، يرتدي جلباب قديم ، ويقطن في بيت متهدم ملاصق لبيت يونس .. صاح بها وهو مفترش الأرض ممدد ساقيه أمامه ، ساندا ظهره على جدار الدكان .. " ممكن تسمعوني .. أنا هأحكي لكم الحكاية اللي شوفتها بعيوني" .. قالها وعلي وجهة تعبيرات الجدية ..
" اعذروني لأن الذاكرة ضعفت ولا تسعفني في تذكر يوم وقوعها .. ولكن كانت في الأغلب يوم خميس .. وقتها كنت أتسامر مع زميلي أسفل الكوبري ونعب من دخان "الجوزة ".. وقتها رأيت وسمعت ما لا عقل يصدقه .. لم أكن قد رأيت يونس من فترة .. في ذلك اليوم لمحته من بعيد ، يرتدي ملابس غريبة منتصبا في منتصف كوبري العشاق .. يهذي بكلمات غريبة وأناشيد لها وقع صدي الأجراس والآذن .. على أثرها تجمعت أسماك غريبة على وجه الماء لتتصنت وتستمع .. أقسم لكم بأنني لأول مرة في حياتي أري مثلها في ضخامتها وألوانها..
قبل أن أنهض لصعود السلم المؤدي إليه ، سمعت صرخة مدوية أحدثت برق في السماء ، ورجت العاشقين فوق الكوبري ، ممن وقفوا مذهولين ينظرون يصرخون ينادون بأن شخص رمي نفسه .. حينما هممت بخلع جلبابي للقفز إلى الماء لنجدته ، وجدت تلك الأسماك تحمل يونس إلى الشاطئ القريب.. جسده كان دافئا .. يخرج من وجهه نور مشرق .. سارع زميلي بطلب الإسعاف ، ولكن فجأة تصاعد من جسده بخار ملأ المكان ، وبدأت ساقيه ورأسه تتبخر في الهواء وشيئا فشيئا انتهى بأكمله ..
لم يصدقني وقتها أحد من أهل الحي .. بعد شهر من تلك الحادثة لمحت "يونس" يدخل بيته .. تعجبت .. كاد يغمي علي من الصدمة .. صحت عليه .. لم يرد .. ابتسم ودخل المنزل ..
بعد شهور وعلى ما أتذكر كان يوم خميس .. لمحت " بدرية " تقف في نفس المكان فوق كوبري العاشقين .. تهذي بنفس كلمات " يونس " .. تخرج منها في شكل ترانيم .. أسفل الكوبري شاهدت نفس الأسماك الضخمة الملونة وهى تتراقص علي نغمات صوتها .. بعد دقائق حدث ما جري مع يونس حملت الأسماك جسدها ناحية الشاطئ .. وفجأة خرج منها نور ثم تبخرت ..
بعدها بشهر لمحتها تدخل البيت .. من صدمتي جريت ناحيتها .. التفتت ناحيتي مبتسمة وأغلقت الباب خلفها ..
أقصوصة
ومضي كلا إلى غايته ..
لا تقل شئنا .. فإن الحظ شاء..
صراخ .. عويل ينهمر علينا من أحد الشبابيك ، الناس في الحارة يستكملون طريقهم وكأنهم مغيبين ، لا أحد يلتفت ناحية مصدر الصوت أو يعره ادني انتباه .. أولاد في الشارع يلعبون .. ونساء يتسابقن ناحية بيوتهن .. لم يتحرك أحد من الجالسين .. أو حتى يكلف نفسه بسؤال الشباب العائد من هناك ..
ترحم أحد العواجيز على أيام " يونس " .. بعد أن تحول الحي لساحة من الزعيق.. إلى ساحة من القتال .. ومعارك بين الأزواج ..
تتذكر يا شيخ الحارة الشجرة المسحورة .. قالها العجوز بعد أن لمعت عينيه الغائرتين داخل وجهه الذي برزت منه العظام .. لم يعرف أحد لها نوع .. أو أصل .. زرعها يونس بعد زواجه من بدرية عند مدخل البيت.. كانت براقة .. تنفث رائحة تشبه المسك والنشادر .. دائما ما كانت خضراء .. تدب فيها الحياة.
انتشر بين الناس خبر سحرها وقدرتها على علاج المرضى .. تحولت إلى مزار يقصده المرضى من أهل الحي ، ممن يحتار الأطباء في علاجهم وشفائهم .. يقصد أهل المريض بيت "يونس" ، يقطف لهم إحدى الأوراق من أغصان الشجرة .. وبمجرد أن يتجرع المريض قطرات من مائها تدب في قلبه الحياة وينجو من الموت .
كانت الطيور المهاجرة الضعيفة .. تقصدها وتأوي إليها كل عام .. تشعر بداخل أغصانها بالأمان .. والدفيء .. وتميل إلى رائحتها التي كانت تخترق جدران الحوائط ، وتصل إلى داخل البيوت .. الفقيرة .. ذات الأثاث القديم المتهالك .. فتنشر بين سكانها الهدوء والأمان .
حينما مرضت بدرية .. بدأت الشجرة في الضعف والوهن .. واصفرت أوراقها وضعفت رائحتها .. من يومها وأحوال الحي انقلبت .. زادت المشاكل بين الأزواج .. وتناحر الأطفال والشباب بين أركانها..
وماتت الشجرة بعد موت يونس وبدرية .. وتحول الحي إلى ساحة معارك
هذه الأقاصيص تجعلني لا أجزم أن يونس مات أم أنتحر ..
* عن الاهرام