جاسم عاصي - في حضرة الأب زوسيمــــا

{لو فارقتني صورة النصاعة في مسرى الأزمنة، فلي من بعد ذلك
العزلة والخلوة، وترك المجرى للهوى المستدام، فطريق السلامة
من سحر الوجود بمواجهة البرية التي لا تتسع إلا لما هو مرتقب وآمن}

(أليوشا كارامازوف)


حـــوار القدسية/

ــ أنا أليوشا وأنت تعرفني جيداً، وطالما تحاورنا في ما جرى ويجري آنذاك. وكنت برفقتك في العاصمة عمَّان لزيارة المكتبة المعمدانية،أتذكـــر هذا...؟
ــ أذكره جيداً،فقد عرفتك منذ خمسين سنة يا سليل عائلة كارامازوف، أي صدفة جميلة تلك التي أتاحت لي فرصة مشاهدتك من بين رفوف الكتب،تقلبها باحثاً عن كتاب.
ــ تماماً. ومن يومها لم أنسك قط.
ــ ولا أنا .. كنت أتحين الفرص لملاقاتك ، فأنت تشبهني في أشياء كثيرة.
ــ كنت مولعاً بكم ، خاصة راسكولنيكوف ومحنته مع دوائر المفتش العام. وكم تمنيت أن أعثر عليه لأخبّئه في أي مكان عنهم.
ــ أنت متصالح مع نفسك كما أرى، بدليل متابعتك لما سطره قلم فيدور.
ــ تشغلني الاستثناءات في الوجود،وليس ما أراه من قشور تغلف واقعنا. تزاحم مرٌّ على الغنائم لا يتوقف،لذا فقد انتبهت مبكراً لقول راسك..أنا لم أقتل عجوزاً شمطاء مرابية،بل قتلت نظاماً....أتجد أفضل من هذا القول يوجَّه إلى السلطة الجائرة. أنا أجده وصفاً وصورة لواقعنا.
ــ لا أرى مثلما ترى،لك زمنك ولي زمني، لكن تجمعنا خيوط تخص التسلط والجور،لقد جاهد فيدور في صناعتنا بإرادة ذكية وجريئة،مما جعلنا أكثر فعالية في رواياته وفعالياتنا تتركز في أن ما فعلناه وفكرنا به يمتد إلى أزمنة قادمة. إنه ذو نبوءة في ما كتب وسطَّر من أعمال.
ــ هذا صحيح جدًّا. فيدور خالق لرموز الحقائق التي أحاطتكم وتحيطنا الآن.
ــ التاريخ يعيد نفسه،خاصة في ما هو سيء من سلوك. نحن وأنتم نعاني من سوء النوايا وتكالب الإنسان على ما لا ينفع الآخر.
ــ هذا ما فكرت به،فهو تركنا نقلب الحقائق وندير الحياة بمرونة فكرية خالصة .
ــ أنت ما الذي فعله معك غير إضفاء صفة التبصر في خط العائلة؟مما دفعك إلى الاختيار الحر، وهو طريق الانتماء إلى الدير والتمسك بحياة الرهبنة بعيداً عن هرطقة الواقع. هل تعتقد أن دخولك الدير هرب من واقعٍ مرٍّ؟
ــ كلا..إنه اختيار ليس إلا.
ــ اختيار لطريق مغاير لما هو يشكل طابع العائلة. أليس كذلك؟
ــ هذا صحيح،وها أني أُصحح خطيئتي من وجودي وفق نظام عائلي مرتبك. لذا أقوم بتعميق العلاقة بزوسيما الأب الأكثر نصاعة مما أحاطوا بنا.
كما أرى هذا بجلاء،وها إني في حضرة الأب، أنظر باتجاهه وهو يرقد بهدوء ووقار على سريره المتواضع،حيث بدا منكبًّا على مجلسه منذ أن أعلن وتنبأ بدنو زمن مغادرة الدنيا نحو ملكوت السلام الأخير،فالذي حفلت فيه حياته داخل الأديرة بأن زرعت في ذاكرته تراتيل الإيمان التي وسمت شخصيته وأكسبته قيماً عليا حمته من الزلل وارتكاب الخطيئة،كما ابتلى بها الكثيرون الذين يُحيطون بالمدينة،وقسم من قاطني الأديرة،خاصة في ما تجسد في التسلط وظلم الآخر وارتكاب الموبقات باسم الرب. إنهم يرددون خطابات زائفة ، ويعملون على تشويه الحقائق،لذا كانت مثل هذه الصفات قد كثفت حزنك المكبوت يا أخي أليوشا،حزنك على فراق حامي الإيمان والصابر على زلل الأزمنة ، مما زاد من كثافة حزنك وأساك أمام حدث مرتقب كهذا، فالذي يربطك بالأب زوسيما أكبر من ارتباطه بالأب كارامازوف،كذلك أخواك ديمتري وإيفان، فأنت تميل إلى إيفان بالرغم من إلحاده وعدم إيمانه القاطع بوجود الرب، لأنك توازن بين فعل الإيمان وفعل الوجود الإنساني،فللدين موضعه،وللفكر غيره،حتى لو كان مغايراً لما تعتقد،كذلك نما هذا الانطباع من الانفتاح على الأخ الأكبر بفعل آراء الأب زوسيما الذي أكد لك باستمرار أقواله الأثيرة ( لا تكره يا بني الأخ إيفان وسواه من الملحدين والعلمانيين،بل ابد احترامك لآرائهم وتواصلْ معهم،لأن هذا يعمق إيمانك،ويزيد من صلابة العلاقة مع الإنسانية. بني؛ الحياة معناها التقارب والمحبة ونبذ الكراهية) لكن الأب انتبه إلى ملامح الحزن التي انطبعت بوضوح على صفحة وجهك. قال:
ــ ما لي أراك هكذا؟
أجبت :
ــ لا شيء يا أبتي..!
ــ لا تحاول إخفاء ما تحس فيه عني أنا الأٌقرب لوجودك؟
ــ لا شيء يحزنني سوى فراقك يا أبتي.
ــ هذا مصير الجميع،ونحن نلاقي مصيرنا كما هم خلق الله،فجلالته لا ُيفرّق بين خلقه.
ــ وأنا من لي بعدك يا أبتي؟
ــ لك الأب والأُخوة!
ــ وهل تعتقد بهذا؟
ابتسم الأب بمرارة ثم مال بنظره نحو جهة أُخرى وهو يرقد على فراش ناصع البياض كالوفر،لا يحرك سوى يديه ورأسه،والأهم الواضح أنه يستطيع إدارة عينيه باتجاهات متعددة. قال مستدركا دون أن ينظر إليك:
ــ لك الله يا بني.
لاحظت البحة التي شابت صوته،قلت على عجالة ومرارة:
ــ لا تبك يا أبَه، سأتدبر الأمر بنفسي.
ــ لك الأُخوة، فمل إليهما؟
ــ سوف أُحاول باستمرار، بالرغم من أنهما مشغولان بما يعتقدان ويحتاجان.
ــ هذا جيد.
ــ لكنهما مختلفان حد الاختصام.
ــ على ماذا اختلفا ؟
ــ اختلفا على شيء متكهن وليس واقعياً.
ــ ما هو؟
ــ مقتل الأب.
ــ وأنت ماذا تعتقد؟
ــ أنا لا أتهم أحداً بقدر ما أدرك أن مصير أبي صنعه بنفسه. لقد قتل نفسه بأفعاله المشينة.
ــ هل ترى هذا بجد؟
ــ نعم .. كان طمعه وفسقه طريقه.
ن سارا به نحو التهلكة.
ــ هل دفعتك مثل هذه الأخطاء إلى الدير؟
ــ ربما أيقظت حسي باتجاه حياة أُخرى غير حياة العائلة.
ــ هذا مصيرك ..أنت ابن بار.
ــ ليس إلى الدير أبتي أولاً، وإنما العمل على اختيار طريق غير طريقهم.
ــ وهل تعتقد أنك اخترت الصحيح؟
ــ أرى مثل هذا، والدليل أني انفتحت على حياتك ومناخ الدير الذي وفّر لي سبل
الخلاص من ارتكاب الخطيئة..كم تؤرقني الخطيئة.
ــ ومن يا ترى يتحملها؟
ــ الكثير من الأفراد والجماعات. هل تعتقد أبتي أن كل ما يدور حولنا صحيح؟
ــ المقياس لضبط الصحيح من الخطأ متماهٍ مع الخطيئة،لأنها مربحة في الدنيا.
ــ هذا ما يدفعني للقطيعة مع الحياة،والذهاب إلى طريق الله.
ــ لا تثقل نفسك بهموم كبيرة كهذه،خذ ما يؤهلك لحمل أحزانك.
ــ أُحاول،لكن ما جرى هو أكبر،خاصة موت أخي سميرداكوف المسكين
ــ لا شك أنه عاش حياة ثقيلة كما ذكرت.
ــ ومن أثقلها عليه هو أبي بتأنيبه المستمر وتذكيره بأنه ابن الخطيئة. ولم ينتبه إلى نفسه
وما ارتكبه من خطيئة متعمداً ومدفوعاً بغريزته المريضة.
ــ كيف؟!
ــ كان يعنفه ويذكّره بأنه ابن زنى، وكأنه لم يكن السبب في خلق شخصيته المعقدة.
ــ الله يتغمده برحمته.
ــ إن موته غدا عذاباً أزليًّا لي ..عذاباً كبيراً يحتاج إلى عزاء،بينما أُخوتي لم يبالوا بموته
انتحاراً. الكل كانوا يعذبونه بفاحش الكلام باستمرار خاصة أبي كارامازوف.
ــ لا حقَّ لهم بتعذيبه مطلقاً .إنه فعل يُغضب الرب.
ــ كانوا يعتفدونه،ويذكرونه بصدفة وجوده غير الشرعي، بالرغم من أنه الأخ لنا
من الأب، فكيف تسمح ضمائرهم على تعنيفه وإهانته
ــ الذي أثاره،وحسب روايتك،هو الأب.
ــ تماماً يا أبتي.
ــ اسمح لي بالقول وأنا على فراش الموت،إن كارامازوف الأب هو الخطيئة التي لا يمكن
أن تُغتفر. إن حسابه عند الرب يوم تقوم الساعة.
انزويت لحظتها في زاوية من الغرفة، بعيداً قليلاً عن سرير الأب وبدأت بالنحيب الذي أثّر به فراح يشاركك النحيب مردداً:
ــ كلنا خطاؤون، ولكن المؤمن من يعترف بخطئه في حضرة الرب، فهو الذي يغفر له خطأه.
واصلت نحيبك كامرأة ثكلى،كان نحيباً مشوباً ببحة ناعمة الأثر كصوت فتاة صغيرة،قال الأب الذي أحبك بصورة لا يحوز عليها سوى المتصوف الذي يتعلق بالأشياء كتعلقه بالرب:
ــ لا تنتحب يا بني فقد فطَّرت قلبي،اعمل على إزالة الخطيئة من هذا العالم الذي شاع فيه
الخطأ واضمحل الصحيح،تسيّد الفارغ وانزوى المليءُ بحب الله.
ــ هذه مشيئة الوجود.
ــ بل مشيئة الإنسان المتجبر الذي لا رحمة عنده سوى عذاب الغير ونهب حقوقه.
ستشهد البشرية جملة ارتكاباً للخطايا ومنها الحروب بشتى صورها. الإنسان جُبل
على ظلم الآخر وسلب حقوقه.
ــ الرب لن يرحمهم ولا يغفر لهم أخطاءهم. فليشبعوا من الحيازة والاحتواء ما شاؤوا.
ــ أبتي أني اتذكر عذاب سميرداكوف،تماماً كما كان عذابك وأنت تشاهد مصرع أول إنسان
شنقاً في حضرة القيصر.
ــ لا تذكرني بذلك يا بني، فهو عذاب لي. بالله عليك لا تذكرني؟
ــ أعد لي صورة ما شاهدت؟ هذه رغبتي.
ــ وأنا لا ألغي لك رغبة،فأنت ولدي البار.
ــ أنا ممتن منك.
ــ سأكرر روايتها بالرغم من أن فيها عذاباً لي ولك!
ــ لا بأس، لنتعذب أكثر،كي يغفر لنا الرب خطيئتنا ويزيد من نقاء سريرتنا؟
ــ العذاب والحزن أفضل من الفرح المزيف.
ــ حقاً أبتي.. نحن نعيش كذبة كبيرة ومفجعة.
ــ لنعدإلى ما طلبت في وصف مشهد مفجع كما ذكرت. كنت أنظر إلى الرجل الذي أحكم حبل الشنق على رقبة ذاك الإنسان الذي بدا لي لحظتها لا حول له ولا قوة،بدا كالأبله،وحين لقنته وجدته يرتجف ويهتز جسده كغصن شجرة وسط ريح عاصفة،كان يبدو عليه الندم، ولكن من يلاحظ ذلك..؟هل القيصر الذي يرى في موته أمامه مشهداً للفرجة وتطبيقاً لقانون أرضي،وصورة لعدالة حكمه؟لقد تلاشت الرحمة من قلوب هؤلاء. تجدهم قبل ذلك ذوي قلوب مرهفة،لكنهم ما أن يتسلطوا وتحين لهم الفرصة في التحكم بمصير الآخرين حتى تجدهم يترفعون عن ماضيهم، بل يتناسون وجوده تماماً،وحين تحاول تذكيرهم ينتقمون منك بأبشع السلوك. إننا نعيش في غابة لا قانون إنساني يحكمها. لاحظته فوجدت غياب الكثير من التصورات عما يجري. غاب عن باله أن الحكم للقيصر الآن وليس لله، وحده يغيب عن وجوده كجسد ويتوارى وراء شعور مبهم،يكشفه الصمت أو الذهول. كأنه لا يصدق ما يجري له. هكذا رأيته وأنا ألقِّنه الاعتراف بالخطيئة،ورجاء الرب أن يغفر له ما ارتكب. أحسست أنه يود أن يقول ؛ إني لم أرتكب ما يغضب الله، هم حكموا علي هكذا. أرجوك يا أبي أن تقنعهم بالعدول عن قتلي بهذه الطريقة المؤلمة...أرجوك،لكني لم أستطع عمل شيء من هذا، وما أن انتهيت من تلقينه،حتى تلقفه القائمون على الشنق. حملوه جسداً مرتخياً ، رفعوه على منصة الإعدام ووضعوا رأسه في الكيس،ثم ثبتوا حبل الشنق المتين والخشن حول رقبته..رأيته يا بني يسقط وطالت عندي ميتته. كان ينازع ويقاوم الاختناق،والجميع يتفرجون ببلاهة فرضتها عليهم سلطة الحاكم الجائر. كيف لنا أن نتشفى من ابن جنسنا أمام دعي جبار ومفتر ينتحل الدين وسيلة تفيد العلة النفسية التي ابتلى بها القيصر. ألم أقل لك إننا أمام خطيئة كبيرة؟!لم تدم مقاومته كثيراً،بل سكن جسده وطالت رقبته وتدلى لسانه. كادت أنفاسه تنقطع وتضيق قبل أن يسكن تماماً كالشاة المعلقة على مسمار التشريح،انصرف الجمهور بعد أن داوى عللهم بموت المسكين،ولم يبق سوى الحرس والقيصر الذي لم يغادر المكان، بل اقترب مني متسائلا...لِمَ سجدت يا أبانا لهذا المجرم؟فكرت في قوله، لكني لم أخضع لسطوته بقدر ما تمسكت برضا الرب. أجبته بكل جرأة..إني لم أسجد له ، بل سجدت لعذاباته...كان يُفترض أن يُعاقب بوسيلة أُخرى،لكن سيدي شرّعت لحكم جديد جائر عند الرب..... وغادرنا المكان،بينما بقي الإنسان معلقاً يزوره من امتلك الفضول للفرجة.
ــ كانت شجاعة منك يا أبي.
ــ ليست شجاعة،وإن كانت كذلك برأيك، فقد استمددتها من قوة إيماني بالله الذي علمني قول الحق وفضح الخطيئة التي ترتكب أمامنا يوميًّا باسم الدين. هل ترى يا بني كما أرى أنك تتعذب لسميرداكوف وهو واحد.
ــ صحيح أنه واحد، ولكنه إنسان مهما كانت وسيلة وجوده في هذا العالم المبني
على الخطيئة. كان موته شنقاً أيضاً،قتل نفسه،لأنه كان يدرك مبلغ الإهانات والزجر
الذي كان يكيلهما له أبي الظالم.
ــ لا تقل هذا بخصوص الأب،هذا يغضب الرب. اتركه وحساب الله يوم لا ينفع سوى
العمل الصالح.
ــ أبي لقد سبب بتصرفاته ونزواته بخلق المشاكل،وزرع الفرقة بين أولاده.
ــ هذا سلوكه،والرب خيّره بين فعل الخير والشر.
ــ لكنه اختار الثاني؟!
ــ هذا ما وضعه أمام الإغراء.
ــ تقصد قضم التفاحة؟
ابتسم الأب لقولك الذكي معلقاً وماسكاً يدك بقوة وحرارة:
ــ لقد نضجت مبكراً يا أليوشا، أنا أخاف عليك.
ــ لا تخف،فقد عزمت على فهم الأشياء بإعادة قراءة التاريخ.
ـ وهل تجد في نفسك قدرة على مثل هذه القراءة؟
ــ بالمثابرة سوف أدرك الحقيقة التي تلحق بي العذاب في حياتي!!
ــ أنت تشبهني إلى حد كبير.
ــ أنت رمزي جرَّاء ما اقتسمت معك من عذاب في الحياة.
ــ لا تتصور أن الأشياء تأتي بسهولة،ففي كل مدرك خسارة لا تؤثر كثيراً بقدر
ما تترك أثراً على وجود الشخص.
ــ وأنت وكما أعرف عانيت كثيرا!
ــ هذه هي الحياة، فمن أراد الوصول إلى الحقيقة،عليه أن يتحمل تبعات بحثه
ولا يضجر. فهو اختيار ذاتي،وأنا اخترت الطريق الشائك برغبتي. أتمنى أن
تكون رغبتك كذلك.
ــ لقد اخترت وكفى.
ابتسم الأب،وفهمت أنك حظيت على رضاه.
الأب في عزلته/
العزلة بدت أكثر قوة في بلورة حياة الأب، وهو يراقب العالم الذي سيفارقه من خلال وجود أليوشا معه،وقد فوضه أن يكون شاهداً على السر في حياته التي حفلت بالمتغيرات. غير أن أهمها تلك التي عانى منها وهو يتدرج في الكهنوتية،حتى غدا شيخا طاعناً في السن،فما عليه إلا أن استعد لفراقه إلى الأبد، يغيب عن عالم موحش ليس فيه سوى ما يخالف تعاليم الرب،لولا أليوشا الذي أعاد له شيئاً من التوازن والتكيّف منزويًا في الدير يراقب عبر الابن ما يدور حوله. وحين يسمع ما يدلي به أليوشا من انطباعات يجد فيها نوعاً من المطابقة مع تصوراته وأحاسيسه إزاء ما يشكل رؤيته لمسيرة حياته وهو يتدرج في مساره في الدير مذ كان شاباً يهفو إلى الحياة الواسعة،والتي حفلت بمتغيرات لا تتناسب مع رغباته الروحية،تماماً كما هي عليه مشاعر الفتى الذي لازمه يوميًّا. كثيراً ما راقبه دون أن يحسسه بما ينوي من فعل، فلا يجد غير النقاء الذي حاز عليه،ونبهه عليه الأب الشيخ الذي ارتضى العزلة ورفض مواجهة الآخرين. رآه يتعبد بصمت،فسار على هديه. وها هو يعثر على صورته في صورة الفتى الذي انكب على مجالسته في أحايين كثيرة. وحين كان يسأله
ــ ولِمَ لا تذهب إلى حيث أُسرتك؟
فيجيب بعد تأمل في السؤال:
ــ بينهم يموت الهدوء!
ــ الهدوء نحن نصنعه.
ــ وغيرنا يبدِّده.
ــ غيرنا موجود في كل الأزمنة.
ــ يزيد في زمان ويقل في آخر.
ــ هذا حال الدنيا منذ وجد الإنسان على الأرض.
ــ وهل يفكر الجميع بمثل ما تُفكر وتعتقد؟
ــ المعتقد مسألة شخصية،والتفكير بهذا محض تشكيل للشخصية.
ــ ما زلت أتذكر قولك؛من أننا نسعى لإكمال الجزء الأكبر من وجودنا بسد الفراغ الحاصل في معارفنا،وأقصد المعرفي.
ــ يكون هذا ضمن شخصيتنا في الوجود، ودرجة مساهمتنا في تغير الأشياء،
خاصة ردع الخطأ.
ــ الخطأ نسبي أبي.
ــ صحيح لكننا نعرف ثمة الخطأ المؤثر والمعرقل،والآخر الذي يبني الحياة بفعل
وضوح الرؤى.
ــ كنت تردد ونحن نردد معك؛إن عدم امتلاك الإرادة يؤدي إلى الخسارة.
ــ لا بدَّ أن تكون إرادتنا هي المهيمنة على سلوكنا ومسيرتنا،وإلا خسرنا كل
ما يُفيد وجودنا.
ــ وهل هذا يتعلق برسالتنا كرهبان؟
ــ بل قل في صميم رسالتنا. نحن قدوة لمن يريد الحياة.
ــ الإنسان صانع كل شيء وفق رغباته.
ــ وأنت ماذا ترى؟
ــ أرى أن ما يصنعه الإنسان الآن خارج إرادتنا نحن المحفوفين بالخوف والوجل.
ــ أجدك كثير اليأس.
ــ ليس الأمر متعلقًاً بي وبغيري،وإنما في الظواهر المحيطة. نحن مسلوبو الإرادة.
ــ إرادتنا تأتي من علاقتنا بالرب يا ولدي.
ــ وهؤلاء أليس لهم نفس الرب؟
ــ بلى.. لكنهم يختلفون في الإيمان الصحيح والمجرد.
ــ إيمانهم مرتبط بمصالحهم. وما يقومون به ليس له علاقة بالعدالة، بقدر ما
يرتبط بالمصالح. المصلحة الذاتية قاتلة صاحبها إذا تعدت مقياسها.
ــ لا يشغلك أمرُهم،بل قوِّ علاقتك بالرب وتعاليمه،واعمل ما يرضي
الله، تعش مطمئنًّا لا يداهمك الشك والقلق.
يومها عرف أليوشا طريقه من بوصلة كلامه ورغبته في عدم الانتماء للواقع. فهو شبيه له في حقبة الشباب،لذلك وجد نفسه بمعزل عن الجميع،إلا ما فرضته العلاقات في الأديرة التي عاش داخلها. قال مع نفسه لا بدَّ أن تكون مراقبتي له صحيحة وحذرة،على العكس مما وجده في حياته يعاني من العزلة والتنسك وأداء طقوس عبادة الرب،وتذكر تعاليمه،لكي لا تسقط عنه المهابة والجلال. تحرك في مجاله،معدًّا نفسه لمواجهة الفتى إذا ما عاد إلى الدير للتواصل مع اعترافاته التي ألزمته ساعة الفراق بما يأتي من قدرة على البوح دون وجل أو خوف،فالرب رقيب على لساننا بمثل أفعالنا. سوف أُجاهد من أجل تبصير الفتى بما يتوجب الأخذ به دون مراءاة أو دجل. الدجل والنفاق والكذب من صنع الفجوة بين الدين والإنسان. في نفسي رغبة لزيادة كشف المستور والمحذور في ما هو قائم في حياتنا. لم يبق لي غير حياة الفتى الذي دفعته أجواء الأُسرة إلى ما يُحمد عقباه،فراح يبحث عن مستقر خارج أُسرته،وخيراً اختار الدير مكاناً للأمان وهدوء البال والقلب. استرخى في مكانه. تكبل بالحزن وهو ينظر إلى وجه الأب وهو يومئ إلى الخلاص فتكثف حزنه وضاق صدره ، وهو يحبس ثورة البكاء. اكتفى بالنظر إلى وجه الأب الذي مدَّ يده قليلاً وبسطها على طرف السرير،فعرف أليوشا ماذا يعني هذا،مد يده وأمسك كف الأب بقوة، لاحظها تفتقد للحرارة،بعد أن أخذ جسده يرتعش قليلاً. وحين استقر الجسد، مدَّ كفه وأغمض عينيه، وتمنى لو يصرخ ويبكي بقوة علّه يستعيد لوضعه المرتبك.. اتزانه.
وجه البرية/
لم يستطع الفتى أليوشا حضور مراسيم تشييع ودفن الأب زوسيما، فقد أصر على موقفه لا بدافع خفي دال على خفايا،بقدر ما داهمته رهبة الفقدان بعد طول ما كان يقدمه الأب من اعترافات كشفت عن الحياة وتقلباتها،والعقل وما كان يفرزه من عمق ودلالات على مستويات تطور حياته وتدرجه في الرهبنة، التي علمته الكثير الذي سوف يفيده في لاحق الأزمنة. لكن السؤال الذي يلح عليه،والذي كثيراً ما طرحه على الأب ومفاده:من لي بعد فراقك يا أبتي؟ وكان الجواب دائماً يتكرر:لك الله يا بنيَّ. بقي في الدير منزوياً متأملاً،وحين عاد الرهبان إلى الدير ،انسلَّ من بينهم خارجاً بحذر وحزن. راح يواصل سيره نحو المقبرة،متداخل المشاعر والأحاسيس،حتى أدرك بنايتها ذات الواجهة المتوَّجة بقوس رخامي أبيض مرتفع البنيان يعلوها صليب كبير صافي البياض. أسرع بعد أن استفسر عن موقع قبر الأب. جلس بالقرب منه منحني القامة،واضعاً خده على تراب القبر الذي انبعث منه عطر أخَّاذ،واصل بكاءه بصمت في البدء،سرعان ما تحول إلى نشيج عال،وهو يكرر قوله الدائم : من لي بعدك يا أبي؟ وكأنه يسمع الجواب المتكرر : لك الله يا بني! استيقظ من غفوته على القبر. ودون أن يشعر،وبدوافع خفية تخيّر الخروج عن الضاحية،فليس له من أحد يحميه من نفسه في الدير،فهو غريب بينهم. واصل السير متعثراً من التعب،حتى شارف نهاية المدينة،حيث انفتحت البرية أمامه بكل رحابة صدر،مما شجعه على الاستمرار في السير،يداعب وجهه هواء نقي منبعث من بعيد، ومن كل الجهات،كان الفجر قد بدأ انبلاجه،فقد كانت ليلته حافلة بالهدوء الذي لم يبلغه إلا بوجود الأب ، وهو يجلس إلى جانب سريره، منصتاً إلى حديثه الذي طال ... وطال مدركاً مستلهما العبر والدروس التي غلفت قلبه وروحه. البرية هذه سيتقاسمها وحيداً متوحداً مع رؤاه التي نماها في ذاته الأب حديثًاً طال زمنه .كان يرصد المسافات على امتدادها وبعدها،حتى لمح نقطة راكدة في البعيد،بدت تكبر .. وتكبر حتى بانت ملامح بناء صغير على شكل قبة رخامية الحجر. بدا بياضها طاغياً وسط سكون وصفاء وجه البرية. راح يسرع نحوها بلهفة،شاعراً بالظمأ واللهفة لملاقاة أحد يُبعد عنه الوحشة التي داهمته فجأة. لم يكن يستعد بعد للسياحة في فيافيها الممتدة بلا نهاية. سأل نفسه. هل يضيع هكذا وسط كون واسع الأبعاد؟،كلما امتد معها تمتد وتتواصل باتساعها ، كما لو أنها تفتح صدراً واسعاً ورحيماً مليئاً بالحنان والدفء. حين أدرك معالم البناية بانت ملامحها؛بناية صغيرة يطغي عليها بياض الحجر وصلابته،واجهه باب مفتوح يشع منه ضوء باهر،وبخطوات قصار دخل إلى رحبة المكان،فإذا بجوف عامر بالضوء الذي زاد من بياض الأشياء. رأى شيخا طاعناً في السن، يرتدي ملابس بيضاء وذا لحية بيضاء مسترسلة،يجلس على فراش متواضع. هب من جلسته حين شاهد مقدمه،فرحاً تملأ محياه ابتسامة راضية،فاتحاً ذراعيه....أهلاً بولدي أليوشا؛استغرب من معرفته باسمه ونطقه مرحِّباً .احتضنه بذراعيه مردداً : لقد فارقنا الأب زوسيما أليس كذلك؟ فوداعاً ليوم نلتقي في ملكوت الرب. أجلسه إلى جانبه وراح يمعن النظر وبوجهه المشرق سأله:
ــ إلى أين أنت ذاهب؟
ــ لا أدري يا أبي!
ــ سوف تدري مثلما فعلنا. كنا لا ندري ، لكننا عرفنا الطريق إلى الاستقرار.
ــ كانت لكم دوافع،ولي أُخرى.
ــ لا نختلف في الدوافع ولا في النتائج،نحن على حال واحدة.
ــ الرب من يحسم أمرنا.
ــ هذا صحيح والرب يقول لك امكث هنا خيراً من الضياع في البرية.
شعر بالاطمئنان لقوله :
ــ هل ترى هذا؟
ــ نعم بني، نتقاسم المكان الذي منحنا إياه الرب.
فرح لهذا الخاطر،وعلى عجالة قام من جلسته،مولياً وجهه صوب مدخل المكان. وقف متأملاً امتداد الفيافي،حيث الشمس بدأت تكشف عن جمال وسحر البرية فامتلأ قلبه بالفرح،كأنه فرح لهذا الخاطر،وعلى عجالة قام من جلسته،مولياً وجهه صوب مدخل المكان. وقف متأملاً امتداد الفيافي،حيث الشمس بدأت تكشف عن جمال وسحر البرية فامتلأ قلبه بالفرح،كأنه يرى الأب زوسيما يلوح له بذراع مغطاة بقماش الثوب الكهنوتي. ابتسم ..وابتسم،متأملا ما سوف تسفر عن حياته القادمة.
جاسم عاصي

____________________________
أُيلول 2021ــ كانون الثاني2022

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...