دعاء زيان - بنت الأكابر

قالت الأعين مقال لا يقوله خطيب ، هذا ما حدث في لحظات، رفعت حاجبيها الرفيعة المرسومة رمقتني بنظرة استخفاف:
- شرط!!!
- نعم ؛ سأرعاها مقابل عشرين جنيها في الساعة.
قال حسام بغضب مبالغ فيه :
- في الساعة؟!!!
أجابت ابنة الحسب والنسب بعنجهية :
- ليكن، أعطها .
أكملت، وقلبي يحدث دويا هائلا:
- وأقيم معكم في المنزل الفسيح حتي تشعر بالألفة .
أردفت الهيفاء سليلة الأكابر :
- ليكن أيضا ، لا نمتلك خيارا آخر .
يبدو حوارا عجيبا ، أليس كذلك؟ ولكنه ليس أعجب من الدنيا، وما تفعله بأفئدة العباد .
" تعب كلها الحياة " مقولة زوجي "جبريل"، الذي تمرس بالفقر، لم يفارقه حتي واراه الثرى، كان مكافحا من أجل لقيمات لا تسد جوع بطن ابن العام الواحد، أما أرواحنا فقد كانت كخرقة بليت و رتقت عشرات المرات منذ الصبا.
الضنك وقلة الحيلة كانا هما وسيلته للهروب من مطالبنا البسيطة، أقوال تثير الشفقة، لا تنتهي عن الفقر وقلة سعة اليد، أما عني طوال الوقت ساهمة، وأضرب كفا بكف.
نما في أحشائي منه ثمرتين "حسام، وثريا " دفعة واحدة في بداية ارتباطنا الأبدي ،كما قالت جدتي رحمها الله " البطن قلابة"؛ فشتان بينهما في الطباع والخلق. لم تحدث الهبة مرة أخري لا بالذكور ولا بالإناث.
- لم يكن هناك مفر من هجر الريف .
قالها متأففا سندي ووحيدي ابني "حسام".
وأردف :
- سأذهب للعاصمة حيث الفرص الذهبية ، هناك سأحقق الأمجاد .
نظرت له والحزن يدك عظامي
- وفقك الله يا ولدي ، لا تنسانا.
وقد نسى، علمنا من جارنا الحاج "يوسف أبو الفتوح" في خطاب أرسله له ولده "حسين" عن أحوال حسام بالتفصيل، فقد كان رفيقه في رحلته للبحث عن الثراء المفقود ،قال أنه بعد شهور من البحث بجدية، عُين بشركة استثمارية كبيرة، كمحاسب ضئيل الراتب ، بعد عام وبضعة شهور تمت ترقيته لمدير للفرع، مقابلات رسمية دولية، اجتماعات عاجلة كانت حياته الجديدة .

مرت خمسة أعوام ثم زادوا خمسة، العقرب يدور والزمن يهرول ، تزوجت ثريا أبن عمها "يوسف "، أثبت ولدي حضوره ببضع دقائق قضاها بين المدعوين والصمت يكاد يبتلعه.
أنجبت ثريا خمس زهور وزهرات ملأ عطرها الفواح ليالينا ، أما هو فيقبع في عالمه الذي صنعه، ورفض أن يجعلنا نراه ولو من وراء حجاب.
ما بالكون الشاسع يدوم علي حاله، جاءنا والحنق يملأ صدره ، ينظر لكل شيء بازدراء، انسلخ من جلده ،نسى أصله وفصله .
أخبرنا بأنه سكن دار عالية الجدران، فسيحة، يحرسها كلب بوليسي ، أسود اللون ، ضخم، اقتنى سيارة من الطراز الحديث، وجد فتاة أحلامه ،بنت الأكابر الهيفاء الممشوقة ،سلبت رشده عند رؤيتها ،حضر لإعلامنا بموعد الزيجة ،رفض حضورنا قال بصوت يعلوه الادعاء:
-السفر مشقة ، أخشي عليكم من متاعب الطريق.
عاجلته ببضع كلمات:
- إذن ، ثريا تكون بجوارك.
وكان رده قاسيا:
- يكفيها هم الأولاد .
جبريل كان صامتا، يحرك جفنيه بثقل مرير، لم يمر اليوم بسلام، رحل وتركني للويلات ،يبدو أن قلبه الطيب لم يتحمل تلك الحسرة .
حضر الجنازة ،بعد الدفن لم نجده بيننا ،علمنا أنه قد أتم الزيجة في موعدها ، لم يكترث لفجيعتنا.
زوجي الفقيد لم يوظف في الدولة لأحصل علي معاش بعد رحيله، لم يترك لي الطين ، فقط دار بالطوب اللبني كانت إرثي الوحيد، تكفلت ثريا الغالية بالزاد، ،هي أم البنين والبنات، والغلاء فوق رؤوسنا يحلق كالطير ،وزوجها العطوف أصيب بمرض عضال ،أصبح طريح الفراش.
قبل كل عيد كان يحضر ،علي وجهه ابتسامة ممسوخة، يدس في جيبي جنيهات قليلة لا تسد الحاجة لأيام، تراكمت الديون فوق كاهلي ، طلبت علي غير عادتي القليل من المال، رده كان متوقعا:
- زوجتي تحتاج لكثير من النقود، مربية ابنتي أجنبية، أدفع لها بالعملة الصعبة.
البكاء لم يعد يجدي نفعا، العمل وحده هو الحل ،أنا عجوز في الستين من يقبل بتوظيفي؟!
الشباب يعاني البطالة، مددت الكف للعابرين، ثريا دموعها تجري بلا توقف ، دواء يوسف باهظ الثمن ،تعمل ورديتين ، كلنا جياع والمرض حام في الأجواء وهو لا يبالي .
القدر رد له الصفعة، ابنته "كارما" ذات الخمس سنوات ، ترفض كل مربية، تصرخ كمرضي المصحات بلا توقف، أتي بها للريف مرغما لعلها تستجم وتهدأ، تلك نصيحة طبيبها الخاص.
بين راحتي هدأت الصبية واستكانت روحها، بعد شهر عادا لقصره المنيف، تفاقم عنفها، باتت تحطم كل ما طالته يداها الرقيقتين ، أعادها لي مرة أخري مجبرا، أشرقت كشمس تلوح في الأفق في ليال مظلمة .
الهيفاء زوجته التي لم نرها من قبل، حضرت ومعها أغراض الصغيرة كارما ، متزينة كعروس المولد ، تضع الأحمر والأخضر وحجابا لا يخفي شعرها الناعم ، فاحم السواد، أعطتني الأوامر ، نظرت لها بحدة :
موافقة؛ ولكن عندي شرط .
التفاعلات: خالد السيد علي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...