في الشرق العربي يخجلُ الإنسان من فتح الهدايا، يتركها مكانها حتى يغادر الضيف، ثم يفتحها، ينظرُ إليها يلعنُ الضيف ويرمي بالهدية.
مرت سنوات عليه في الغرب، تَعَلَّم خلالها كيف يفتحُ هدية، كيف يبتسم، يشكر مقدمها وكيف يستخدمُها حالاً بوجود الضيف إذا ما اقتضت الحاجة.
كان يوماً ساحلياً، صيفياً بامتياز، كان الضجر سبباً للأحلام، كانت الأقدام القذرة وهي تدوسك يومياً دون أن تراها سبباً للخوف وكانت الإخصاءات اليومية سبباً للحقد والبغض. لعل استعمال كلمات مثل "ضجر"، "خوف"، "إخصاء"، "حقد" و"كراهية" سيختفي ذات يوم كما اختفت في بعض البلدان البعيدة.
كان يوماً حاراً، ينبحُ فيه إسفلت الشارع الوحيد المحفّر ضجراً، هو وثلة من الأصدقاء والمعارف سيلتقون في مدرسة الجامع، هناك سَتُقام بطولة للشطرنج كما أخبروهم في اجتماع الشبيبة.
ولأنه ـ كمراهق ـ مثل غيرهِ يحلمُ بالانتماء كان ذاك الحدث الشطرنجي أمراً مسلياً له، حدث يحمل في طياته مِعْوَلاً لعزق الضجر ولنَّحْت يومٍ لا يشبه الأيام الأخرى.
ارتدى في ذلك النهار أجمل ما لديه لمناسبات من هذا النوع، بلوزة قديمة وبنطالاً بنياً ضيقاً كان قد فصّله قبل سنتين في ورشة الخياط سمير، بحثَ عن حذاءٍ أنيق يليق بالمناسبة فلم يجد سوى حذاء "الفتوة العسكرية"، كان للحذاء في ذاك النهار المشمس رائحة كريهة تشبه رائحة العبارات التي دأب مدرب الفتوة حبيب على تلقينهم إياها بلا مللٍ أو كلل.
عبارات توجب على كل التلاميذ ترديدها غيباً دون أخطاء وإلّا فإن عقوبة "حلاقة الشعر على الصفر" بالانتظار:
"وبما أن قوة الجيش في نظامه، فقد اقتضى ذلك أن يحوز القائد على طاعة مرؤوسيه التامة وخضوعهم في كل الأوقات، وأن تُنفذ الأوامر بحذافيرها دون تردد أو تذمر، فالسلطة التي تصدرها مسؤولة عنها."
ولأنّ رائحة الحذاء كريهة ارتأى انتعال شحاطة البلاستيك الجميلة بتشققاتها وغَذَّ السَّيْرَ إلى الجامع، أخذت أصابع قدميه تتعرَّقُ، تتزحلق وتأبّى معانقة البلاستيك، راح بدوره يعيد الأصابع بقوةِ ضغط ودفعٍ أمامية إلى حضن الشحاطة.
لا يتجرَّأ الإنسان على المشي حافياً في مدن وحارات الشرق الشعبية عن قصد، في بلدان أخرى ينتظر الناس الشمس كي يمشوا حُفَاة عُراة وكأنهم في يوم قيامة.
وصل إلى الجامع، هناك اجتمع الأولاد والشباب، في الشرق العربي لا تلعب الأنثى الشطرنج علانية، تبتعد المرأة هناك عن الشطرنج مسافة طويلة، السبب غير مفهوم. أيعود ذلك لقلة وقتها أم لعدم قدرتها على التركيز أم لغياب التشجيع أم لتفاحة اللعبة!؟
في الجامع ضَرَبوا الْقُرْعة، تَقَارع المُتنَازعون شطرنجياً في مستويين، مستوى الأولاد ومستوى الشباب، خسر من خسر وفاز من فاز، أُعلِنت أسماء الفائزين بالمراكز الأولى وكان من بينهم، كانوا فرحين حالمين ببضع هدايا وكانوا جوعى وعطشى للماء.
طلبت القيادة من المشاركين الجلوس في حلقة كما في اجتماع حزبي، في البداية تكلم أحد الأبطال القياديين طويلاً عن انتصارات حزبه الوهمية ثم هَنَأ الأوائل، جاءت الهدايا مغلفةً كالعادة بورق الجريدة، حصل كل من الفائزين على هديته، تناول هديته، ضاق الجامع على سعادته، ودّ الهروب إلى البيت شوقاً كي يفتحها.
وجاءت الضيافة أخيراً، حبات شوكلاته رخيصة اشتراها القيادي من أحد دكاكين الضيعة المنتشرة في كل مكان، سالت حبة الشوكولا بين أصابعه قبل مداعبة لسانه، مسحَ أصابعه سراً بجريدة الهديَّة، هم يتحدثون عن التوازن مع العدو وهو يداعب الهديَّة، تحسَّست أصابعه كتاباً، ابتسم في سره، وخاطب نفسه: "ولما لا! مما يشكو الكتاب، لعله رواية من روايات الكاتب "حنا مينه" ولعله مجلة "ميكي".
أخيراً أعلن المشرفون عن نهاية الصلاة طالبين من الحضور مغادرة الجامع.
في طريقه إلى البيت مزَّقَ الجريدة لفرط سعادته، وجد في داخلها كتيباً بغلافٍ أبيضٍ رخيص، كان قد اقترب من دكان بائع المشبك والنمورة حين راحت الرائحة تفوح في الجوّ، بقيت الجريدة المُمزَّقة بين أصابعه، لم يرمِها في الشارع، ليس حُباً بالبيئة ولكن خوفاً فهي بالنتيجة جريدة الحزب الرسمية.
هبط المساء حنوناً، وصل إلى البيت، ترك شحاطته البلاستيكية المُتعَبة خلف الباب، غسلَ قدميه، دخلَ إلى بهو الغرفة الكبيرة المفتوحة على السماء، تتوسَّطه شجرة التوت الشامخة، سمع أخواته يتحدَّثن عن انقطاع الماء، عن ضرورة جلبه من بئر الجيران، كان في طفولته العميقة شاهداً على حفر وتوسيع وتنظيف البئر القديم، كان ولم يتجاوز الخامسة من عمره فخوراً بزنود أبيه القوية التي صنعت بئراً للجيران.
لمحته أخته، لمحت حزنه وخيبة أمله، دخل إلى غرفة الجلوس والطعام والدراسة والنوم، روى لها الحكاية، نظرَ إلى هديته وقرأ عنوان الكتاب المكتوب بخطٍ واضح "من أقوال وخطابات الأب الخالد".
تناولَ قلم البيك الأزرق، بدأ مراسم السِباب واللعنة، شطب الأقوال كلها، الخطابات كلها، خوزق بقلمه الكلمات كلها، ثَقّبَ الصفحات ثم تركَ مهمة إخفاء الهديَّة لأخته، لتدفنها حرقاً ولكن سراً، نام في ذاك المساء كنوم الخائف، "عين تنام لتصحو عين" طويلاً وهي تبكي على هديَّة.
علي دريوسي
www.facebook.com
مرت سنوات عليه في الغرب، تَعَلَّم خلالها كيف يفتحُ هدية، كيف يبتسم، يشكر مقدمها وكيف يستخدمُها حالاً بوجود الضيف إذا ما اقتضت الحاجة.
كان يوماً ساحلياً، صيفياً بامتياز، كان الضجر سبباً للأحلام، كانت الأقدام القذرة وهي تدوسك يومياً دون أن تراها سبباً للخوف وكانت الإخصاءات اليومية سبباً للحقد والبغض. لعل استعمال كلمات مثل "ضجر"، "خوف"، "إخصاء"، "حقد" و"كراهية" سيختفي ذات يوم كما اختفت في بعض البلدان البعيدة.
كان يوماً حاراً، ينبحُ فيه إسفلت الشارع الوحيد المحفّر ضجراً، هو وثلة من الأصدقاء والمعارف سيلتقون في مدرسة الجامع، هناك سَتُقام بطولة للشطرنج كما أخبروهم في اجتماع الشبيبة.
ولأنه ـ كمراهق ـ مثل غيرهِ يحلمُ بالانتماء كان ذاك الحدث الشطرنجي أمراً مسلياً له، حدث يحمل في طياته مِعْوَلاً لعزق الضجر ولنَّحْت يومٍ لا يشبه الأيام الأخرى.
ارتدى في ذلك النهار أجمل ما لديه لمناسبات من هذا النوع، بلوزة قديمة وبنطالاً بنياً ضيقاً كان قد فصّله قبل سنتين في ورشة الخياط سمير، بحثَ عن حذاءٍ أنيق يليق بالمناسبة فلم يجد سوى حذاء "الفتوة العسكرية"، كان للحذاء في ذاك النهار المشمس رائحة كريهة تشبه رائحة العبارات التي دأب مدرب الفتوة حبيب على تلقينهم إياها بلا مللٍ أو كلل.
عبارات توجب على كل التلاميذ ترديدها غيباً دون أخطاء وإلّا فإن عقوبة "حلاقة الشعر على الصفر" بالانتظار:
"وبما أن قوة الجيش في نظامه، فقد اقتضى ذلك أن يحوز القائد على طاعة مرؤوسيه التامة وخضوعهم في كل الأوقات، وأن تُنفذ الأوامر بحذافيرها دون تردد أو تذمر، فالسلطة التي تصدرها مسؤولة عنها."
ولأنّ رائحة الحذاء كريهة ارتأى انتعال شحاطة البلاستيك الجميلة بتشققاتها وغَذَّ السَّيْرَ إلى الجامع، أخذت أصابع قدميه تتعرَّقُ، تتزحلق وتأبّى معانقة البلاستيك، راح بدوره يعيد الأصابع بقوةِ ضغط ودفعٍ أمامية إلى حضن الشحاطة.
لا يتجرَّأ الإنسان على المشي حافياً في مدن وحارات الشرق الشعبية عن قصد، في بلدان أخرى ينتظر الناس الشمس كي يمشوا حُفَاة عُراة وكأنهم في يوم قيامة.
وصل إلى الجامع، هناك اجتمع الأولاد والشباب، في الشرق العربي لا تلعب الأنثى الشطرنج علانية، تبتعد المرأة هناك عن الشطرنج مسافة طويلة، السبب غير مفهوم. أيعود ذلك لقلة وقتها أم لعدم قدرتها على التركيز أم لغياب التشجيع أم لتفاحة اللعبة!؟
في الجامع ضَرَبوا الْقُرْعة، تَقَارع المُتنَازعون شطرنجياً في مستويين، مستوى الأولاد ومستوى الشباب، خسر من خسر وفاز من فاز، أُعلِنت أسماء الفائزين بالمراكز الأولى وكان من بينهم، كانوا فرحين حالمين ببضع هدايا وكانوا جوعى وعطشى للماء.
طلبت القيادة من المشاركين الجلوس في حلقة كما في اجتماع حزبي، في البداية تكلم أحد الأبطال القياديين طويلاً عن انتصارات حزبه الوهمية ثم هَنَأ الأوائل، جاءت الهدايا مغلفةً كالعادة بورق الجريدة، حصل كل من الفائزين على هديته، تناول هديته، ضاق الجامع على سعادته، ودّ الهروب إلى البيت شوقاً كي يفتحها.
وجاءت الضيافة أخيراً، حبات شوكلاته رخيصة اشتراها القيادي من أحد دكاكين الضيعة المنتشرة في كل مكان، سالت حبة الشوكولا بين أصابعه قبل مداعبة لسانه، مسحَ أصابعه سراً بجريدة الهديَّة، هم يتحدثون عن التوازن مع العدو وهو يداعب الهديَّة، تحسَّست أصابعه كتاباً، ابتسم في سره، وخاطب نفسه: "ولما لا! مما يشكو الكتاب، لعله رواية من روايات الكاتب "حنا مينه" ولعله مجلة "ميكي".
أخيراً أعلن المشرفون عن نهاية الصلاة طالبين من الحضور مغادرة الجامع.
في طريقه إلى البيت مزَّقَ الجريدة لفرط سعادته، وجد في داخلها كتيباً بغلافٍ أبيضٍ رخيص، كان قد اقترب من دكان بائع المشبك والنمورة حين راحت الرائحة تفوح في الجوّ، بقيت الجريدة المُمزَّقة بين أصابعه، لم يرمِها في الشارع، ليس حُباً بالبيئة ولكن خوفاً فهي بالنتيجة جريدة الحزب الرسمية.
هبط المساء حنوناً، وصل إلى البيت، ترك شحاطته البلاستيكية المُتعَبة خلف الباب، غسلَ قدميه، دخلَ إلى بهو الغرفة الكبيرة المفتوحة على السماء، تتوسَّطه شجرة التوت الشامخة، سمع أخواته يتحدَّثن عن انقطاع الماء، عن ضرورة جلبه من بئر الجيران، كان في طفولته العميقة شاهداً على حفر وتوسيع وتنظيف البئر القديم، كان ولم يتجاوز الخامسة من عمره فخوراً بزنود أبيه القوية التي صنعت بئراً للجيران.
لمحته أخته، لمحت حزنه وخيبة أمله، دخل إلى غرفة الجلوس والطعام والدراسة والنوم، روى لها الحكاية، نظرَ إلى هديته وقرأ عنوان الكتاب المكتوب بخطٍ واضح "من أقوال وخطابات الأب الخالد".
تناولَ قلم البيك الأزرق، بدأ مراسم السِباب واللعنة، شطب الأقوال كلها، الخطابات كلها، خوزق بقلمه الكلمات كلها، ثَقّبَ الصفحات ثم تركَ مهمة إخفاء الهديَّة لأخته، لتدفنها حرقاً ولكن سراً، نام في ذاك المساء كنوم الخائف، "عين تنام لتصحو عين" طويلاً وهي تبكي على هديَّة.
علي دريوسي
Ali Daryusi
Ali Daryusi is on Facebook. Join Facebook to connect with Ali Daryusi and others you may know. Facebook gives people the power to share and makes the world more open and connected.