أنوار الأنوار ( أنوار سرحان ) - قريباً من حافة الجسر.. قصة قصيرة

إلى وطني من جديد

رائحةُ البخور تعبقُ في المكان وتتكدّس بكثافةٍ في الصّدر …. رائحةٌ عبقة تنزلقُ إلى أعماقي أكثر، كلّما اقتربتُ من مشارف البلدة.. تختلط بروائح التّوابل المختلفة… يغمرُني خشوعٌ غريب ، خشوعٌ مخاتل.. تتسلل معه رغباتٌ أخرى..اليومَ سيكونُ بإمكاني اقتناءُ معطفٍ رائع ..يجعلني أجملَ النساء في عينَي حبيبي وسام.

يُغريني حديثُ جارتنا العجوز أمّ أحمد التي لا تنفكّ تتغزل برخص الأسعار هذه الأيام ..تدغدغ حاجاتٍ عتّقتها في نفسي من سنين .. سأقتني معطفاً جلدياً فاخراً إذن ، لأبدو كما تمنّيتُ دوماً...

كنتُ اتفقت مع أمّ أحمد على أن نلتقي هناك عند نهاية الجسر، قالت إنها ستدلّني على المحلّ الذي يبيع أقمشةً تأخذ العقل ، ويعرض معاطفَ بسعر التراب ، والله رحمة كانت تردّد…

لا أحد يمكن أن يتكهّن ولو على وجه التقريب بسنّ أم أحمد. تبدو لي في أحيانٍ كثيرة أشبهَ بشجرة زيتونٍ ضاربةٍ بجذورها في رحم الأرض.. لا تبالغُ في الفرح ولا تبالغ في الحزن…ورغم أنني ككلّ جيرانِها، أعرفُ عن حياتها كلَّ شيءٍ تقريباً، فيخيَّلُ لي أنني لا أكاد أعرف عنها شيئا أيضاً.

أعرفُ أنها فقدت ابنها الأصغر إسماعيل في إحدى المظاهرات منذ سنين طويلة…ولكنها كانت تتجنبّ الحديث عنه، وكلّما جاء ذكره عرضاً، غيّرت مجرى الحديث شاخصةً إلى السماء…وإذا حدث وذكرَته، كانت لا تذكر إطلاقاً موته . كلّ ما في الأمر أنها تتحدّث عنه وكأنه مسافرٌ إلى حين، تحدّثك عن أصدقائه أو عن جهاز الراديو الذي اشتراه بسعر التراب ، أو عن حبّه لأغاني فيروز وغيرِها من الحكايات التي تتعمّد أن لا تطيل في خوض تفاصيلها….كأنما لم تستوعب موتَه بعدُ!!

الحافلةُ تقتربُ أكثر .. والروائحُ المحنّكة تخترق أنفي وتتوغّلُ في أعماقي .. يضوعُ في قلبي خدرٌ لذيذٌ .. يقطعُه وجود أولئك الحثالات .. ما الذي جاء بكم إلى هنا يا أبناء ال.. ؟؟ كم أمقت تلك السوالف المتدليّة حول وجوهكم .. كأنما ترمي في آذانكم وقراً فلا تسمعون شيئاً ممّا ينبغي لكم سماعه!

تجمهروا بكثافةٍ رهيبة.. .. يهزّون رؤوسهم.. يدسّون بعضَ الأوراق في ثنايا الجدار.. ويذرفون دموعاً كذّابةً عاهرة.. دموعَ تماسيح لا تحتاج ذكاءً لتدركَ كم هي مزيفةٌ وكاذبة..

أسيرُ مع النّازلين من الحافلة .. يجلدون أولئك البكّائين بنظراتِ ازدراء .. فيردّونها بأقسى منها.. يُقلقني ما يتبادلون من نظراتٍ صارخةٍ فتسحبني أمّ أحمد من يدي بسرعةٍ لنسير في طريقٍ تبدو قد خبرَته جيّداً. نعبر طريقنا من بين البيوت المتلاصقة ، رائحتها عتيقةٌ عريقة ، لكن منظرها المهترئ يثير احتجاجي : لماذا لا يرممونها؟؟!! تكاد تسقط فوق الرؤوس! تقرصني أم أحمد مستهجنةً سؤالي : يا بليدة!!

يستوقفنا شرطيٌّ يسأل بطاقة هويتي.. ويحدّق في وجهي يكاد يلتهمُ ملامحي .. ينظر في بطاقتي ، ثم يُغدقني بنظراتٍ متفحّصةٍ .. كأنما يبحث فيّ عما خبّأتُ وراء خماري من شعرٍ تدلّى في صورة بطاقتي بشكلٍ ساحر.. يعيد إليّ البطاقة فيما يراود حقيبتي.. يا ربّي! . تفتيش هنا أيضا؟؟!

أنتزع حقيبتي من بين يديه وأسير إلى تلك الروائح الساحرة.. من قال إنّ المرء بحاجةٍ للخمر حتى يسكر؟؟ تعتريني حالةٌ من السكر الحقيقي.. تتلاشى رغباتي في أيّ شيءٍ سوى ولوج ذاك المكان حتى العمق.. لم يعُد يعنيني اقتناءُ معطف.. لستُ بحاجة لمعطفٍ أصلاً .. فللمكان دفء أمّ حانية.. دفء ربيعٍ أزهرت لوزاته وتفتّحت ورداته.. دفءُ شمسٍ شباطيةٍ حميمة.. ترعى أبناءَ الأرض وتلفّهم بين ذراعيها بحبّ.. دفءُ صدرِ حبيبي وسام حين يضمّني إليه بحنانٍ فأدسّ رأسي في حضنه وأتيهُ في عبقه منتشيةً انتشاءً عميقاً ..

تطالعنا القبةُ المذهَّبة بمنظرها الخلاب.. بدَت كعروسٍ باهرةِ الجمال.. وطافحة الثقة والغرور.. وقفت ببهاءٍ وصمودٍ وتجلٍّ..مزدانةً بصوت ترتيل الشيخ عبد الباسط ينبعث عميقاً ممتزجاً مرةً بموسيقى سامي يوسف “حسبي ربي جل الله “.. ومتقاطعاً مرةً مع نداءات الباعة المتجوّلين في الباحة ..

لا أعرف كيف حفرنا لنا طريقاً وسط كلّ هذا الزحام ، لنلجَ تلك العتبةَ التي على سعتها ضاقت بمن سعَوا للدخول أو الخروج…. الزخارف المنقوشة بجميع الألوان كلوحةٍ اجتمع على صنعها ألفُ فنّان.. فبصم كلٌّ منهم بأجمل ما عنده حتى غدا المكان متحفاً مضيئا يتدفق جمالاً وسحراً فنيا أصيلاً.. يعبق عطراً نفاذاً .. يتوغّل في أعماقي فيحيلني امرأةً لم أعرفها قبلا.. .. وخشوعٌ صادقٌ يملؤني هذه المرة.. محا من خيالي أيَّ أمر آخر.. سوى التمتّع بسحر المكان.. فللصلاة هنا طعمٌ آخر.. طعم الخشوع.. ورائحة الزهد.. حتى نسيتُ كل ما كنتُ سأدعو به.. نسيتُ زواجي من وسام .. نسيتُ أمنياتي وأحلامي التي لا تنتهي . ودعوتُ فقط أن يمّحي وجودهم من هنا.. رائحتهم تدنّس بهاء المكان.. ومنظرهم يشوّه جماله.. التفّوا حول المصلين بثيابهم الزرقاء .. وخيولهم التي بدت متآمرةً معهم.. يرقبون المصلّين بغيظٍ ونقمةٍ واضحة.. بينما أسرع المصلّون لإنهاء صلاتهم ثم لا أدري كيف في لحظةٍ التمّت كل هذه الأعداد منهم.. ومن أين أتى كل هؤلاء.. وجلسوا يُصغون السمعَ لشيخٍ له من النور ما لأولئك الشيوخ الذين رسمَتهم أمي في حكاياتها دوماً مذ كنتُ صغيرةً ، كلما أرادت أن تحكي عن شيخٍ طيب ، يعرف الله جيداً كما كانت تقول . ..هيئته تشعّ هيبةً ووقاراً .. ..و بنبرته الهادئة الرزينة ، راح يحكي عن ذاك المكان الرائع وعن بطلٍ فارسٍ حّرره يوما .. رائحةُ رجولته تغمر المكان.. والجدرانُ بلبناتها الكبيرة العتيقة تكاد تشهد بعظمته وتاريخه . حديثُه يحفر في القلوب غيرَ آبه بما تجمّع من آلاتٍ وعدّةٍ عند البوابة الواسعة لم يبدُ واضحا إن كانت للهدم أو للبناء ..

في لحظةٍ أسرعت أعدادٌ هائلةٌ من الشرطة تطالب الجميع بمغادرة المكان.. خيولٌ تصول وتجول الباحةَ مغبّرةً الأجواء.. نظراتٌ قادحة من تحت حطّاتٍ وخُمُر.. تنطلق لتصطدم بنظرات المتجمعين هناك .. صيحاتٌ عبرية تطالب بإخلاء المكان.. وهتافاتٌ أخرى تتعالى : “كّلنا فداك يا أقصى”.. أيدٍ تلوّح في الهواء.. وألسنٌ تحتدّ زاجرةً.. ونظراتٌ تشتدّ قسوةً وحنقاً.. سبابٌ وشتائم.. وهتافات متداخلة.. وازدحام شديد.. تجمّعات .. صيحات وصرخات تعلو.. بينما رحت أبحث عن وجه جارتنا العجوز أم أحمد وسط الزحام….

فجأةً لعلع صوت طلقاتٍ نارية …الكلّ يجري…الأجساد تتلاطم، أجرى ولا أعرف إلى أين…فرامل تحرث الطريق…أتبيّن الجسر عند الناحية الأخرى….ماذا حصل ؟؟؟ ما الذي يحدث.

امرأةٌ مذعورة صفراء كالليمون تقترب مني محتميةً بي : - ابني…ابني تركته عند الجهة الأخرى…أمسك يديها بقوّة…يا إلهي …أقف وانظر هناك…عرق الذعر وأصوات أحذية ثقيلة وبكاء أطفالوصراخ…صراخ…صراخ.
حين وصلت…رأيت أمّ أحمد منكمشة على نفسها عند حافة الجسر….

أجري صوبها….يا أم أحمد ….هل أصابك مكروه ؟؟؟ مالك …ردّي علي …يا أم أحمد…لا تخافي, إنهم يخيفون المتظاهرين فقط…لا تخافي …والله ما حصل شيء…

رفعت برأسها …دموعٌ عزيزة تبلّل وجهها….

- مالك يا أم أحمد…لماذا تبكين ؟

- اسماعيل مات….اسماعيل مات, كانت تردد وهي تنوح ضاربةً رأسَها بيديها….

اسماعيييييييييييييييييييييييييييل ماااااااااااااااااااااااات.


* أنوار سرحان - الجليل


** نقلا عن بيتنا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...