في ندوة بقصر ثقافة الحرية؛ تحدثت زميلتنا الأديبة والدكتورة في الجامعة، فاختلف معها زميل من رواد القصر، ووقف وعارض فكرتها، فلم يعجبها حديثه فصاحت فيه:
- أنت اسمك إيه؟
فضحك الزميل قائلا لها:
- إيه يا دكتورة، هو أنا طالب عندك في الكلية؟!
وربما أفاقت الأستاذة، وتذكرت أنها ليست في مدرج الكلية التي تعمل بها، وأن محدثها ليس طالبا من طلبتها، وأنها الآن عضوة – مثل سائر الأعضاء – في ندوة أدبية.
أحكي هذه القصة لأؤكد على أن المهنة تؤثر على الشخص في معاملاته حتى خارج نطاق عمله.
فالخياط الذي يبل أصبعه ويمر به على الفتلة لكي يدخلها في سم الأبرة من وقت لآخر، يبل أصبعه وهو واقف في الشارع يتحدث مع أصحابه دون أن يحس.
ويسكن بجوار بيتي خياط بنطلونات، طوال جلسته في الشارع ينظر إلى بنطلونات الرجال المارين أمامه، يحدثك وعينيه على بنطلونك.
والحلاق يحدثك وهو ينظر إلى شعرك، خاصة لو كنت تحلق لدي حلاق غيره. وهناك من الأدباء من له لزمة فى الكلام نتيجة عمله بالتدريس. مثل الذى يقول بين عبارة وأخرى كلمة (بس بقى.. وبعدين ..) مما يشير الى أنه كان يقولها للطلبة تمهيدا لاستكمال الشرح، والأديبة التى تعمل فى متجر لبيع أدوات ومهمات وأجهزة الشغل فى البنايات تجدها تقول لزمتها الآتية:
- طب شوف أنت عايز إيه..أو.. شوف أنت تحب إيه؟
وقد كنت عضوا في رحلة أدبية إلى محافظة سوهاج ضمن وفد هيئة الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية. كنت شابا صغيرا، ومعي في الرحلة مجموعة من الشباب – في ذلك الوقت – شوقي بدر يوسف ، ومصطفي عبد الشافي – الذي حصل على الدكتوراة في الآداب فيما بعد – وأحمد فضل شبلول، مع مجموعة كبيرة من أدباء الإسكندرية الكبار. واستطاع المستشار فوزي عبد القادر الميلادي - نائب رئيس الهيئة في ذلك الوقت - أن يحجز لنا عربة في قطار السكة الحديد، وحدد فيها جلوس كل عضو في الوفد. فكان مقعدي بجوار المرحوم أنور جعفر الذي كان – كعادته – ينصح مصطفى عبد الشافي، ويوجهه، وصعدنا إلى القطار، وهو لم ينته من حديثه مع مصطفي عبد الشافي، فقال لي:
- أقعد مكان مصطفى إلى أن أكمل حديثي.
فذهبت إلى المكان وجلست في الداخل، وإذ بشاعر طويل وعريض، يصيح من منتصف العربة:
- قوم.
قال كلاما سخيفا لا أريد أن أذكره الآن.
فاسرع مصطفى عبد الشافي إلى مكانه. وجاء أنور جعفر وجلس في مكانه بجانبي، ولم يكتف هذا الشاعر بهذا، بل ظل يتحدث بصوت مرتفع يعرف أنني سأسمعه، معلقا على ما حدث:
- أنا عايز واحد دمه خفيف.
كُنت قد رأيته مرات عديدة، يقف بقامته المديدة، وبجسده الممتلئ يتحدث في الندوات، وعرفت وقتها إنه ناظر مدرسة ثانوية في الإسكندرية.وإنه ناظم للشعر، أقصى مكان ممكن أن ينشر فيه هو مجلة حائط، لكنني لم أتعود أن أرد على من هم أكبر مني سنا من كتاب الإسكندرية، فكلمته باللين.
تصرف هذا الشاعر معي وكأنني طالب في المدرسة التي كان ناظرا لها. ومن الممكن أن يسبه أو يحقر من شأنه أمام زملائه الطلبة، وهذا يحدث من بعض المدرسين والنظار في المدارس.
بالطبع لا أقصد أن كل نظار المدارس يتصرفون مع الناس بهذه الكيفية المغالى فيها، لكن أقصد أن تأثير المهنة تؤثر على المعاملات مع الآخرين – خارج مكان العمل - ولكن بدرجات متفاوتة.
وأذكر أنني كنت راكبا أتوبيس مع صديقي محمد عبد الله عيسى، وعند جامع سيدي بشر، تعطل الأتوبيس للحظات، ونظرنا من النوافذ فإذ الممثلة العظيمة سناء جميل وآخرون يمثلون في الشارع، فقال محمد عبد الله عيسى:
- ما تيجوا نمثل فيلم.
ونظر إلى راكب يلبس بذلة كاملة، ونظارة غامقة وقال له:
- حاديلك دور مدرس، شكلك يدل على أنك مدرس.
فقال الرجل في صوت خافت وفي حياء:
- أنا فعلا مدرس.
وحكى لي زميل في العمل بأن ابنه ضابط الشرطة يتعامل معهم في البيت، وكأنه في قسم شرطة.
ويقول عبد العليم القباني في كتابه " مع الشعراء أصحاب الحرف " عن مهنة الخياطة وعلاقتها بالكتابة:
والخياطة حرفة تعمل فيها اليد بغير جهد عضلي قاس، تذهب قسوته بطاقة صاحبها الذهنية والبدنية، كذلك لا تأخذ قسطا كبيرا من تفكير محترفها، ومن هنا فهو محافظ بأغلب طاقاته، ولهذا فهو دائم التفكير في غير صناعته، وإذن فلابد أن يشغل نفسه بأمر ما مما يشغل به الناس أنفسهم، وقد يكون - في تحريكه لذراعه بمتواليات منسقة في غير إجهاد – ما يساعده على تنظيم أفكاره وتنشيطها وتنسيقها في أثناء صمته الطويل. ولعله يفيد أيضا من مناقشاته لزبائنه وهم يمثلون مدارك مختلفة من الثقافة والعلم، ومن ثم كان كثير من الخياطين على جانب من سعة الأفق ودراية بجوانب الأدب.
وقد كنت أذهب كثيرا إلى شارع التتويج بالإسكندرية لمقابلة الكاتبين مصطفى بلوزة وسعيد بدر، حيث يمارسان خياطة ملابس النساء. كنت أبدأ بدكان مصطفى بلوزة، أعرض عليه كتاباتي، ويعرض عليّ كتاباته، ثم أذهب إلى دكان سعيد بدر. تجيئه زبونة – وزبائنه من الطبقة الراقية، فقد كان من أمهر الخياطين - أحاول أن أمشي، أو أن أخرج بمقعدي إلى الشارع، لكنه يصر على بقائي ويقول لي الكتابة عندي لا تقل مكانة عن الخياطة. ويحدث أن تساومه زبونة، وتنظر إلىّ لكي أتدخل لصالحها، لكنني لا أتدخل في هذه المسائل.
شكا لي سعيد بدر يوما من أنه لا يكسب من الأدب، بل ينفق عليه كثيرا، فقلت:
- لقد كسبت كثيرا من الأدب.
- كيف؟
- ممارستك للأدب جعل تصرفاتك راقية ومهذبة، وهذا يفيدك حتما في معاملاتك مع زبائنك.
وهذا حق، فقد جاء الإذاعي الكبير جمال توكل إلى بيت سعيد بدر في برنامج " أنا من هذا الحي" وحضر اللقاء المستشار فوزي الميلادي، ودكتور صيدلي صاحب صيدلية كبيرة في شارع التتويج، ومستشار يعمل في مكتب المحامي العام، وتحدثوا عن حي بحري. وقال لي المستشار فوزي الميلادي:
- إن سعيد بدر كان أفضل المتحدثين.
ومما تحكيه كتب التراث: إن الشاعر يحيي بن عبد العظيم الجمال أبو الحسين؛ كان جزارا، وقد سار مع أصدقائه الشعراء، يتحدثون عن الشعر والكتب، إلى أن وصلوا إلى دكان جزار فرحب بهم فهو يعرف أبو الحسين، ورغب أحد الشعراء أن يشتري لحماً. فقال الجزار – صاحب الدكان -:
- ما دمت صديقا لأبي الحسين، فهو الذي سيقطع اللحم لك بنفسه.
أراد الجزار أن يُكرم صاحبه أبو الحسين، فسلمه السكين؛ ليختار لصديقه الشاعر أجود أنواع اللحم، لكن أبا الحسين، ما أن أمسك بالسكين حتى سيطرت عليه مهنته، فاختار أسوء قطعة لحم لزميله.
- أنت اسمك إيه؟
فضحك الزميل قائلا لها:
- إيه يا دكتورة، هو أنا طالب عندك في الكلية؟!
وربما أفاقت الأستاذة، وتذكرت أنها ليست في مدرج الكلية التي تعمل بها، وأن محدثها ليس طالبا من طلبتها، وأنها الآن عضوة – مثل سائر الأعضاء – في ندوة أدبية.
أحكي هذه القصة لأؤكد على أن المهنة تؤثر على الشخص في معاملاته حتى خارج نطاق عمله.
فالخياط الذي يبل أصبعه ويمر به على الفتلة لكي يدخلها في سم الأبرة من وقت لآخر، يبل أصبعه وهو واقف في الشارع يتحدث مع أصحابه دون أن يحس.
ويسكن بجوار بيتي خياط بنطلونات، طوال جلسته في الشارع ينظر إلى بنطلونات الرجال المارين أمامه، يحدثك وعينيه على بنطلونك.
والحلاق يحدثك وهو ينظر إلى شعرك، خاصة لو كنت تحلق لدي حلاق غيره. وهناك من الأدباء من له لزمة فى الكلام نتيجة عمله بالتدريس. مثل الذى يقول بين عبارة وأخرى كلمة (بس بقى.. وبعدين ..) مما يشير الى أنه كان يقولها للطلبة تمهيدا لاستكمال الشرح، والأديبة التى تعمل فى متجر لبيع أدوات ومهمات وأجهزة الشغل فى البنايات تجدها تقول لزمتها الآتية:
- طب شوف أنت عايز إيه..أو.. شوف أنت تحب إيه؟
وقد كنت عضوا في رحلة أدبية إلى محافظة سوهاج ضمن وفد هيئة الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية. كنت شابا صغيرا، ومعي في الرحلة مجموعة من الشباب – في ذلك الوقت – شوقي بدر يوسف ، ومصطفي عبد الشافي – الذي حصل على الدكتوراة في الآداب فيما بعد – وأحمد فضل شبلول، مع مجموعة كبيرة من أدباء الإسكندرية الكبار. واستطاع المستشار فوزي عبد القادر الميلادي - نائب رئيس الهيئة في ذلك الوقت - أن يحجز لنا عربة في قطار السكة الحديد، وحدد فيها جلوس كل عضو في الوفد. فكان مقعدي بجوار المرحوم أنور جعفر الذي كان – كعادته – ينصح مصطفى عبد الشافي، ويوجهه، وصعدنا إلى القطار، وهو لم ينته من حديثه مع مصطفي عبد الشافي، فقال لي:
- أقعد مكان مصطفى إلى أن أكمل حديثي.
فذهبت إلى المكان وجلست في الداخل، وإذ بشاعر طويل وعريض، يصيح من منتصف العربة:
- قوم.
قال كلاما سخيفا لا أريد أن أذكره الآن.
فاسرع مصطفى عبد الشافي إلى مكانه. وجاء أنور جعفر وجلس في مكانه بجانبي، ولم يكتف هذا الشاعر بهذا، بل ظل يتحدث بصوت مرتفع يعرف أنني سأسمعه، معلقا على ما حدث:
- أنا عايز واحد دمه خفيف.
كُنت قد رأيته مرات عديدة، يقف بقامته المديدة، وبجسده الممتلئ يتحدث في الندوات، وعرفت وقتها إنه ناظر مدرسة ثانوية في الإسكندرية.وإنه ناظم للشعر، أقصى مكان ممكن أن ينشر فيه هو مجلة حائط، لكنني لم أتعود أن أرد على من هم أكبر مني سنا من كتاب الإسكندرية، فكلمته باللين.
تصرف هذا الشاعر معي وكأنني طالب في المدرسة التي كان ناظرا لها. ومن الممكن أن يسبه أو يحقر من شأنه أمام زملائه الطلبة، وهذا يحدث من بعض المدرسين والنظار في المدارس.
بالطبع لا أقصد أن كل نظار المدارس يتصرفون مع الناس بهذه الكيفية المغالى فيها، لكن أقصد أن تأثير المهنة تؤثر على المعاملات مع الآخرين – خارج مكان العمل - ولكن بدرجات متفاوتة.
وأذكر أنني كنت راكبا أتوبيس مع صديقي محمد عبد الله عيسى، وعند جامع سيدي بشر، تعطل الأتوبيس للحظات، ونظرنا من النوافذ فإذ الممثلة العظيمة سناء جميل وآخرون يمثلون في الشارع، فقال محمد عبد الله عيسى:
- ما تيجوا نمثل فيلم.
ونظر إلى راكب يلبس بذلة كاملة، ونظارة غامقة وقال له:
- حاديلك دور مدرس، شكلك يدل على أنك مدرس.
فقال الرجل في صوت خافت وفي حياء:
- أنا فعلا مدرس.
وحكى لي زميل في العمل بأن ابنه ضابط الشرطة يتعامل معهم في البيت، وكأنه في قسم شرطة.
ويقول عبد العليم القباني في كتابه " مع الشعراء أصحاب الحرف " عن مهنة الخياطة وعلاقتها بالكتابة:
والخياطة حرفة تعمل فيها اليد بغير جهد عضلي قاس، تذهب قسوته بطاقة صاحبها الذهنية والبدنية، كذلك لا تأخذ قسطا كبيرا من تفكير محترفها، ومن هنا فهو محافظ بأغلب طاقاته، ولهذا فهو دائم التفكير في غير صناعته، وإذن فلابد أن يشغل نفسه بأمر ما مما يشغل به الناس أنفسهم، وقد يكون - في تحريكه لذراعه بمتواليات منسقة في غير إجهاد – ما يساعده على تنظيم أفكاره وتنشيطها وتنسيقها في أثناء صمته الطويل. ولعله يفيد أيضا من مناقشاته لزبائنه وهم يمثلون مدارك مختلفة من الثقافة والعلم، ومن ثم كان كثير من الخياطين على جانب من سعة الأفق ودراية بجوانب الأدب.
وقد كنت أذهب كثيرا إلى شارع التتويج بالإسكندرية لمقابلة الكاتبين مصطفى بلوزة وسعيد بدر، حيث يمارسان خياطة ملابس النساء. كنت أبدأ بدكان مصطفى بلوزة، أعرض عليه كتاباتي، ويعرض عليّ كتاباته، ثم أذهب إلى دكان سعيد بدر. تجيئه زبونة – وزبائنه من الطبقة الراقية، فقد كان من أمهر الخياطين - أحاول أن أمشي، أو أن أخرج بمقعدي إلى الشارع، لكنه يصر على بقائي ويقول لي الكتابة عندي لا تقل مكانة عن الخياطة. ويحدث أن تساومه زبونة، وتنظر إلىّ لكي أتدخل لصالحها، لكنني لا أتدخل في هذه المسائل.
شكا لي سعيد بدر يوما من أنه لا يكسب من الأدب، بل ينفق عليه كثيرا، فقلت:
- لقد كسبت كثيرا من الأدب.
- كيف؟
- ممارستك للأدب جعل تصرفاتك راقية ومهذبة، وهذا يفيدك حتما في معاملاتك مع زبائنك.
وهذا حق، فقد جاء الإذاعي الكبير جمال توكل إلى بيت سعيد بدر في برنامج " أنا من هذا الحي" وحضر اللقاء المستشار فوزي الميلادي، ودكتور صيدلي صاحب صيدلية كبيرة في شارع التتويج، ومستشار يعمل في مكتب المحامي العام، وتحدثوا عن حي بحري. وقال لي المستشار فوزي الميلادي:
- إن سعيد بدر كان أفضل المتحدثين.
ومما تحكيه كتب التراث: إن الشاعر يحيي بن عبد العظيم الجمال أبو الحسين؛ كان جزارا، وقد سار مع أصدقائه الشعراء، يتحدثون عن الشعر والكتب، إلى أن وصلوا إلى دكان جزار فرحب بهم فهو يعرف أبو الحسين، ورغب أحد الشعراء أن يشتري لحماً. فقال الجزار – صاحب الدكان -:
- ما دمت صديقا لأبي الحسين، فهو الذي سيقطع اللحم لك بنفسه.
أراد الجزار أن يُكرم صاحبه أبو الحسين، فسلمه السكين؛ ليختار لصديقه الشاعر أجود أنواع اللحم، لكن أبا الحسين، ما أن أمسك بالسكين حتى سيطرت عليه مهنته، فاختار أسوء قطعة لحم لزميله.