كان الطريق من باب كلية الآداب إلى المدرجات الجديدة التي تحوي قسم الصحافة يستغرق مني أكثر من نصف ساعة، وبالطبع كنت إما آخر الواصلين، أو في كثير من الأحيان لا أصل إلى المحاضرة، وبالتالي المكان الوحيد الصالح للجلوس هو مقصف الكلية حيث يجلس أبو حسين خلف نافذة بيع الشاي مبتسماً شامتاً.
أما لماذا كل هذا الوقت للوصول إلى المحاضرة، فيعود السبب إلى كثرة الأصحاب والأصدقاء الذين يعترضون طريقي، ولمن يعرف المكان فإن المسافة لا تتجاوز مائة متر أو تقل.
كان الرفاق من جميع الشرائح والطبقات والطوائف، ومن مختلف المحافظات، وحتى من مختلف الجنسيات العربية، وأما حديث المقصف فيقتصر على ثلة محبي الشعر والثقافة والمسرح، ومن الذين يرون في الواقع السوري السياسي والاقتصادي مادة للنقد والاعتراض، وكانوا في أغلبهم من المدمنين على القراءة، وعشاق القصائد الممنوعة، ويتبادلون سراً كتباً ممنوعة على شاكلة (الصراع على سورية)، وكاسيتات مظفر النواب، ويمررون من تحت الطاولة قصائد منشورة في صحف ممنوعة من التداول، ومن ثم يبدأ استعراض فحولة من يحفظ أكثر مقولات غاندي وماركس، وشعر محمود درويش، وبعض الغزل المملح بالسياسة، وبعض قصص جميل حتمل، ورواية مشاغبة لحيدر حيدر... وهكذا كان الهمس والتحدي عناوين مرحلة أسست لوجوه حاضرة بيننا الآن ككتاب وصحفيين ومثقفين.
كانت الطاولات تلك مشاريع بشر قادمين إلى تاريخ هذا البلد، وقامات ستشكل لغة جديدة تضاف إلى القاموس المتنوع لهذا الشعب، ومع ذلك كانوا في أغلبهم نسخاً عن شخصيات تلفزيونية مرت في أعمال درامية متنوعة (من أبواب المدينة للمرحوم أسامة أنور عكاشة) وبعضاً من وجوه فيلم محمد ملص (أحلام المدينة).
اليوم، وعلى بعد ثلاثة عقود من تلك الأيام أسأل: أين هم رفاق الطاولات والمائة متر الطويلة؟ بعضهم مات على طريق سفر قبل أن يطبع كتابه الأول، وأحدهم صار عضواً في اتحاد الكتاب العرب شاعراً جميلاً، وآخر سيناريستاً مهماً، ورابع صحفياً هائلاً، وخامس كتب ما شاء من الشعر ثم صار طبيباً مخبرياً... وآخرون لم يعودوا إلى المكان والظهور.
الآن، ونحن نحتكم إلى لغة جديدة في هذا القاموس الكبير ثمة من استنهِضَ من سباته الطويل، وثمة من أطاح بكل المقولات التي آمن بها في سبيل أمنه الشخصي، وضيق حلمه، وأرضه الصغيرة، وثمة من نسي في حمى الصراعات عاداته وصوته، وآخرون استعاروا لسان آخرين سخروا منهم حتى الثمالة ذات يوم بعيد.
الآن، ثمة من ارتد إلى سروال أبيه الضيق، وثمة حيرة في رؤوس كبيرة فيمن تنتصر له، كثر من يضعون رِجلاً هنا، ورِجلاً هناك، وفي لحظته التاريخية يسطر البيانات والبلاغات التي تتهم كل الأطراف وتسايرها، تلعن وتسبح في الوقت نفسه، مع الجميع وضد الجميع.
ثمة من يراهن على بعض الكعكة في قادمات الأيام، وأما لماذا تبدل الصوت واللسان، فالمبررات مهنة أولئك الذين يجدون في ذاكرتهم الأدبية والحسية ما يرددونه على الملأ، وفي السر يمارسون ادعاءات الطاولة القديمة، ويقرؤون على بعضهم قصائد النفاق والنقيق.
ثمة من لا يجد الآن في يده بعض الكلام القديم، ولا بعض العطر من يد امرأة أوسعها ذات يوم شعراً من أجل ليلة عابرة، وهناك من يقبضون أثمان المواقف المتقافزة، هذا وطني أعبده، وهذا حزبي أفديه، وتلك طائفتي حصتي، وهذه عشيرتي ملاذي، وهذه حارتي أعشقها.
ها هي أيامنا المتوترة تفضح كم نحن ننتمي إلى إيماننا الذي صدرناه صورة لنا طوال عقود، وها نحن نسقط أمام أول اختبار حقيقي لما أسميناه ذات يوم مبادئ.
الآن... الوطن لا يحتاج المرايا، يا أصدقاء الطاولات البعيدة.
أما لماذا كل هذا الوقت للوصول إلى المحاضرة، فيعود السبب إلى كثرة الأصحاب والأصدقاء الذين يعترضون طريقي، ولمن يعرف المكان فإن المسافة لا تتجاوز مائة متر أو تقل.
كان الرفاق من جميع الشرائح والطبقات والطوائف، ومن مختلف المحافظات، وحتى من مختلف الجنسيات العربية، وأما حديث المقصف فيقتصر على ثلة محبي الشعر والثقافة والمسرح، ومن الذين يرون في الواقع السوري السياسي والاقتصادي مادة للنقد والاعتراض، وكانوا في أغلبهم من المدمنين على القراءة، وعشاق القصائد الممنوعة، ويتبادلون سراً كتباً ممنوعة على شاكلة (الصراع على سورية)، وكاسيتات مظفر النواب، ويمررون من تحت الطاولة قصائد منشورة في صحف ممنوعة من التداول، ومن ثم يبدأ استعراض فحولة من يحفظ أكثر مقولات غاندي وماركس، وشعر محمود درويش، وبعض الغزل المملح بالسياسة، وبعض قصص جميل حتمل، ورواية مشاغبة لحيدر حيدر... وهكذا كان الهمس والتحدي عناوين مرحلة أسست لوجوه حاضرة بيننا الآن ككتاب وصحفيين ومثقفين.
كانت الطاولات تلك مشاريع بشر قادمين إلى تاريخ هذا البلد، وقامات ستشكل لغة جديدة تضاف إلى القاموس المتنوع لهذا الشعب، ومع ذلك كانوا في أغلبهم نسخاً عن شخصيات تلفزيونية مرت في أعمال درامية متنوعة (من أبواب المدينة للمرحوم أسامة أنور عكاشة) وبعضاً من وجوه فيلم محمد ملص (أحلام المدينة).
اليوم، وعلى بعد ثلاثة عقود من تلك الأيام أسأل: أين هم رفاق الطاولات والمائة متر الطويلة؟ بعضهم مات على طريق سفر قبل أن يطبع كتابه الأول، وأحدهم صار عضواً في اتحاد الكتاب العرب شاعراً جميلاً، وآخر سيناريستاً مهماً، ورابع صحفياً هائلاً، وخامس كتب ما شاء من الشعر ثم صار طبيباً مخبرياً... وآخرون لم يعودوا إلى المكان والظهور.
الآن، ونحن نحتكم إلى لغة جديدة في هذا القاموس الكبير ثمة من استنهِضَ من سباته الطويل، وثمة من أطاح بكل المقولات التي آمن بها في سبيل أمنه الشخصي، وضيق حلمه، وأرضه الصغيرة، وثمة من نسي في حمى الصراعات عاداته وصوته، وآخرون استعاروا لسان آخرين سخروا منهم حتى الثمالة ذات يوم بعيد.
الآن، ثمة من ارتد إلى سروال أبيه الضيق، وثمة حيرة في رؤوس كبيرة فيمن تنتصر له، كثر من يضعون رِجلاً هنا، ورِجلاً هناك، وفي لحظته التاريخية يسطر البيانات والبلاغات التي تتهم كل الأطراف وتسايرها، تلعن وتسبح في الوقت نفسه، مع الجميع وضد الجميع.
ثمة من يراهن على بعض الكعكة في قادمات الأيام، وأما لماذا تبدل الصوت واللسان، فالمبررات مهنة أولئك الذين يجدون في ذاكرتهم الأدبية والحسية ما يرددونه على الملأ، وفي السر يمارسون ادعاءات الطاولة القديمة، ويقرؤون على بعضهم قصائد النفاق والنقيق.
ثمة من لا يجد الآن في يده بعض الكلام القديم، ولا بعض العطر من يد امرأة أوسعها ذات يوم شعراً من أجل ليلة عابرة، وهناك من يقبضون أثمان المواقف المتقافزة، هذا وطني أعبده، وهذا حزبي أفديه، وتلك طائفتي حصتي، وهذه عشيرتي ملاذي، وهذه حارتي أعشقها.
ها هي أيامنا المتوترة تفضح كم نحن ننتمي إلى إيماننا الذي صدرناه صورة لنا طوال عقود، وها نحن نسقط أمام أول اختبار حقيقي لما أسميناه ذات يوم مبادئ.
الآن... الوطن لا يحتاج المرايا، يا أصدقاء الطاولات البعيدة.