تكشف هذه الصفحة المطوية من تاريخنا الأدبي الحديث، عن معالم علاقة أدبية مثمرة بين رائد مدرسة الديوان وقطبها الشهير الشاعر والمفكر عباس محمود العقاد (ت. 1964)، والشاعر الناقد عبدالرحمن صدقي (ت. 1973)، والدور المهم الذي أدّاه واحدٌ من أنبه شعراء هذا الاتجاه، فقد عُرف الشاعر صدقي بمراثيه الكثيرة لزوجته الإيطالية الأصل، المصرية المولد والنشأة (ماري كانيلا)، وبديوانه «من وحي المرأة» (1945) الذي ضمّ هذه المراثي، فصار أكبر ديوان في رثاء الزوجة، ولعله أوفرها شاعرية وفنًا رفيعًا.
خمسون عامًا هي عمر الصداقة بين صدقي والعقاد، كان خلالها الأول واحدًا من خاصّة أصدقاء الثاني، الذين يرثون للأصدقاء العاديين «لحرمانهم من التعاطف والتفاهم مع نفس أغنى ما تكون بالعطف والفهم لأصدقائها»، كما وصفها صدقي نفسه في مقالته «العقاد كما عرفته».
كان اللقاء الأول بينهما في منزل الأستاذ المازني أستاذ صدقي في الخديوية سنة (1913)، عندما ذهب الفتى ابن السابعة عشرة ليعود أستاذه حين رضّت قدمُه، وهناك راعه من العقاد قامته الفارعة، وسمت الوقار وسعة علمه وإحاطته، وما يبدو ظاهرًا للعيان من اعتداده بنفسه وقوة إرادته، ثم كانت الرغبة الملحة في القراءة له، فقرأ «خلاصة اليومية» الصادر سنة (1912)، وأهداه العقاد «الشذور» (1915)، والديوان الأول ( 1916)، وأخيرًا «الفصول» (1922)، وعند هذا يقول صدقي: «وهنا تجلت لي مواهب العقاد الشاعر، والعقاد الباحث الناقد، وقد كنت وأنا أقرأ شعره في الديوان الأول كأنني داخل في عالم مسحور، أما «الفصول» فقد وقفت حيالها وقفة المعجب المتعجب من متانة حججها وتماسك منطقها كأني بإزاء هرم من أهرام الجيزة، ثم جعلت رسالتي في الحياة أن أكتب عن كل كتاب يظهر للعقاد، وأن تكون حياتي الأدبية وقفًا على الدعوة له، ولم يكن هذا بدافع من الصداقة، ولكنه الإيمان بالرسالة» (العقاد لصدقي، الهلال.
آمن صدقي إذن برسالة العقاد الأدبية، وهذا هو مراد هذه السطور من التعرض لهذه العلاقة، وكان إيمانه بمبادئ الرسالة لا بالمواقف الشخصية، فقد وقعت النَّبْوة بينه وبين العقاد أكثر من مرة؛ ولكن ذلك لم يؤثر في حماسته للمبادئ، ففي أثناء نبوة من هذه النبوات، نشر العقاد كتابًا له، فتناوله صدقي كعادته بالحفاوة والتحليل، فتعجب الأستاذ مصطفى صادق الرافعي لذلك وكانت بينه وبين العقاد خصومات أدبية معروفة، فقال لصدقي: «فيمَ هذا التفاني وأنت فيما قرأته لك خير من العقاد»؟ فصاح صدقي في وجهه معاتبًا: «لا تخدعني عن نفسي»، وبلغ من دهشة الرافعي لهذا الإخلاص، أن روى للعقاد نفسه الواقعة ثم قال: «الحق أقول يا عقاد، إن أنصارك فئة قليلة، ولكن واحدهم بمقام الألف» (الهلال، أبريل 1964). وقريب من هذا، كانت نصيحة حافظ إبراهيم لصدقي عندما التقيا للمرة الأولى بمقهى دار الكتب: «إن العقاد يعقد على الناس الحياة، إنه لا يدع شيئًا على حاله في الشعر، وفي مقاييس النقد وفي منازع الفكر وفي سائر الأمور، نصيحتي إليك أن تنجو بحياتك منه»؛ لكننا نجد شاعرنا بعد ذلك يزور حافظًا في منزله بحلوان، في صحبة المازني والعقاد.
مقالات ودراسات
كتب صدقي عن العقاد وكتبه مقالات ودراسات عديدة، فقلّما ظهر كتاب للعقاد غير العبقريات إلا كتب عنه في صحيفة أو مجلة، فكتب على سبيل التمثيل عن كتاب الفصول (في المشكاة 1923)، وعن مطالعات في الكتب والحياة (في البلاغ (1924)، وعن العقاد الشاعر في المقطم 1928 ، وعن قصة سارة ووصفها بأنها قصة تحليلية (في البلاغ (1938) ، وعن المرأة عند العقاد في الهلال.
وصدقي هو الآخر يأخذ مكانًا في كتابات العقاد، كتب مقدمة ديوانيه «من وحي المرأة» و«حواء والشاعر»، وكتب عن «ألحان ألحان»، وغيرها من أعمال صدقي الأدبية. كما تولى العقاد تقديم الديوان الأول لصدقي إلى مجمع اللغة العربية حين منح المجمع جائزته لهذا الديوان سنة 1953. وقام صدقي بترجمة مختارات متفرقة من أشعار جوته، أوردها العقاد في كتابه البديع «تذكار جيتي»، وقال في هامشها: «هذه المختارات من ترجمة صديقنا الأديب الألمعي والمترجم الناقد عبدالرحمن صدقي».
وصدقي هو العشير القديم في قصة «سارة» القصة الوحيدة للعقاد الذي يعلم أين ذهب العقاد ومن أين عاد؟ وأنه لما رأى سكوت همام (أو العقاد) قال له يمازحه ويسليه: «علام أنت آسف يا صاح؟ هل تركت فيها من بقية وطر تشتهيها؟ هل عندها من متعة لم تستوف شبعك منها؟ فما بالك تأسى وتكتئب وقد أراحك الله من رفاتها بعد أن نعمت بروحها ولبابها؟» (سارة، دار المعارف، ص( 86)، ولكن همام العقاد) لم يسترح إلى هذا العزاء، فقد حطّ من تجربة حبه الباذخة، وإن كانت في طور الأفول، وربما زاد من وقع الكلمات على العقاد في تلك اللحظة، أنها صدرت من صديق قريب، ومهما يكن من شيء فقد كانت لصدقي مكانة خاصة لدى العقاد، ولم تكن هذه المكانة بخافية على أصدقائه ومريديه، ومنهم أبوهمام عبداللطيف عبدالحليم، فقد كان شاهد عيان على هذه المكانة، إذ يقول: «وقد أدركته أربع سنوات تعرفت فيها على العقاد، وكنت أرى إكبار العقاد لصاحبه صدقي، وكنت وقتها وربما لا أزال أدرك أن العقاد لا يضع امرأً في غير موضعه الذي يستأهله شعراء ما بعد الديوان، .
صداقة متبادلة
أما صداقة الشعر، فقد وجدتُ بعد مراجعة لدواوين الشاعرين عددًا من القصائد التي وجهها أحدهما للآخر، وهي جميعًا تؤكد هذه الصداقة. أرسل صدقي في يوم عرسه 4/2/1940 إلى الأستاذ العقاد علبة من علب الحلوى المعتاد إهداؤها للأصدقاء في الأعراس، وشفع الهدية بتحية شعرية، يحثه فيها على الزواج:
هذي هديةُ عُرْسي
إلى فتى «عَيْن شمس»
عدوَى تثاؤب عَمْروٍ
في يومنا مثلُ أمس
أنـــــــــعــــــِمْ بـــعـــــــــدوى زواجٍ
أعْدَى بحبٍّ وأُنْس
يا مبدعا ما تأسَّى
قد حان وقتُ التَّأسّي
فأجاب الأستاذ العقاد:
لم يُغْنِ تُرْسُكَ شيئًا
فهل سينفع تُرسي
إذا تـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــزوج «صــــــــــــدقـــــــــــــــــــي»
فلستُ أضمن نفسي
ولست أنجو ولو في
دار «المعرِّي» حبسي
فاهْنَأْ بعِرْسِ اختيارٍ
بعد اختبارٍ ودَرس
لولا فضائلُ فيها
ما كنتَ صاحبَ عِرْس
وبعد نيف وأربع سنوات، تلقى الأستاذ الكبير من صديقه قصائد ينعى فيها زوجته ومعها هذه المقطوعة:
أخي، منذ أعوامٍ تلألأَ مَسْكني
وشاع به ضحْكُ الرضا والتَيمُّنِ
لقد كان عُرْسي يومذاك، ومولدي
بكونٍ جديدٍ من هوىً وتَحنُّن
أخي، تلك أعيادي وأعيادُ زوجتي
وما حلَّ منها العيدُ إلا ذكرتَني
وأرسلتَ لي في كل عيد مُهنِّئًا
وباركتَ لي في جنّتي وغَبَطْتَني
مضَتْ هذه الأعيادُ من غير رجعةٍ
وهذي مراثي زوجتي اليومَ فارْثِني
فأجاب الأستاذ العقاد بقصيدة من عشرة أبيات، منها قوله:
أخي! ما عزائي أن أُهَوِّنَ فاجعًا
أراه وإن لم أَبْلُه غيرَ هيّن
ولكنْ عزائي هذه الحربُ زلزلتْ
قلوبَ بني حواءَ في كل مأمن
ولكن عزائي هذه الفتنةُ التي
أطاشتْ رءوسَ الخلق مَنْ عاش أو فني
ولكن عزائي هذه الأرضُ علّمتْ
بنيها هوانَ العيشِ علْمَ التيقّن
قضاءٌ علينا في الحياة فراقُنا
لأحبابِنا حيثُ التقينا بموطن
ويهدي صدقي قصيدته «الحل السعيد لمشكل الشر القديم الجديد» إلى الأستاذ العقاد بمناسبة كتابه عن الشيخ الرئيس ابن سينا، يقول في مطلعها:
بُشْرى لكم ثم بشرى، أيُّها الناسُ
لا ضَيْرَ في شرِّ دنياكم ولا باسُ
وكان لقب «البطريق» هو اللقب الذي رضيه صدقي في «حديقة الحيوانات الآدمية» التي أسسها العقاد وأصدقاؤه، وكانوا يجتمعون في جزيرة الشاي، ثم انتقلوا بعد ذلك إلى دار العقاد. تضم هذه الحديقة المبتكرة نخبة من الأدباء ومحبي الفن، أُطلق على كل عضو من أعضائها اسم حيوان؛ لشبه متصور بينهما في الملامح أو العادات، وربما اجتمع فيها ما لا يجتمع في الواقع، فنجد الدب بجوار القرد وفرس البحر، والضبع في مؤاخاة مع الجدي، ثم نجد البطريق يتهادى أمام الزرافة والحمار الوحشي، ولا غرو؛ فإن الفن جماع للأشتات، ورباط بين المتفرقات، تتهاوى تحت سمائه الحدود وتنكسر القيود، وكأنه «أورفيوس» في الأساطير اليونانية القديمة يجمع الأحياء من كل فصيل، حين يشرع في العزف والغناء، فيسود الأمن ويحل الأمان، يقول العقاد واصفًا حديقة الحيوانات الآدمية هذه:
أورفيوسُ الفن سوّى بينها
فتلاقى الدُّبُّ فيها والقرودْ
وتغنّى فرسُ البحر بها
يا له من فرسٍ طلقِ النشيد!
ومشى الأرنبُ، والحوتُ لَهَا
صاحبا القاعين من لجٍ وبيد
وتآخى الجدي والضبعُ، وما
بين هذين سوى الثأر اللدود
ولَغَا «البطريقُ» فيها لغوَه
وهو من قطب جنوبيٍّ بعيد
وكأني بالزرافي اجتمعتْ
وحمير الوحش منها في صعيد
وآوى السنورُ والجرو إلى
نمرٍ فيها، على غير الوصيد
والسلحفاةُ تجاري عندها
أرنب البيداء والكلب الصيود
فُتحتْ أقفاصُها واختلطتْ
لا سدود، لا قيود، لا حدود
حيواناتٌ نماها آدم
وهي من أبنائه نسلٌ فريدْ
حيواناتٌ، ولكن بينها
كل ذي لبٍّ سماويٍّ رشيد
أورفيوسُ الفن سوّى بينها
فاستوى المنشدُ فيها والمعيد
في الحديقة الفكاهية التي ضمت صفوة من الأدباء والفنانين، ارتضى العقاد لقب «الزرافة»، وأخذ الموسيقار محمد حسن الشجاعي اسم «فرس البحر»، والرسام أحمد صبري «القرد»، أما «البطريق» فكان من نصيب الشاعر عبدالرحمن صدقي.
صدقي والبطريق
والبطريق أو البِنْجِوين طائر من طيور الماء، يمشي على الأرض مشية المختال المزهو، ويكسبه ثقله هدوءًا وجلالًا، ويجذب الأنظار بعاداته، وطريقة عيشه بين جماعته، حيث الألفة والأنس والنشاط، ويتميز بين الطيور بوفائه، وربما كان أكثرها وفاء، ويظهر استعدادًا للتضحية من أجل أنثاه، ومن أجل أفراخه، لأن العلاقة لم تنشأ في الأساس بينه وبين أنثاه إلا بعد تروٍ واختبار، وهكذا كان شاعرنا صدقي الذي تزوج بعد الأربعين بعد تردد ودرس. خلق ألوفا، وعاش عمرًا من الفن، قضاه بين الكتب والصور، والمسرح والأوبرات، وصادق الأدباء والفنانين من بلدان شتى، وفتن بالأنغام والأسفار، وتدرج في حياته الوظيفية سكرتيرًا، ثم وكيلاً، ثم مديرًا لدار الأوبرا الملكية، وكان يرى أنه إذا كانت مصر عاصمتها القاهرة، فإن دار الأوبرا هي عاصمة القاهرة الفنية.
وهكذا صار لقب البطريق ألصق الألقاب بصدقي، ويمكن أن يضاف إليه وصف «الحزين»، وحين يصنع له الرسام بورتريها، نجده يتألف من جسم بطريق كبير، يحمل وجهًا واضح القسمات كوضوح وفائه، وله عينان واسعتان وادعتان، تكشفان ما في سريرته من حزن شفيف، وأنف روماني أنوف كأنه ثائر من الثوار الأقدمين، وإن تكن ثورته من النوع الداخلي الدفين، وشعر أسود ظل وفيًا لصاحبه فلم يتحالف مع المشيب، رغم بلوغه السبعين، يعرض الرسام عليه هذه الصورة فيكتب تحتها صدقي هذه الأبيات:
يا قوم لا بحثٌ ولا تحقيقُ
إن شئتموا أنا ذلك البطريقُ
أنا ذلك الطيرُ المهيضُ جناحُه
يمشي وحلمُ جناحِه التحليق
أنا ذلك الطير الألوفُ فكل مَنْ
لاقى على وجه البسيط صديق
أنا ذلك اللاغي وفي ملغاتِه
معنىً لدى أهل الفنون عميق
يا قوم، أنصف واصفٌ منطيق
أن قال إنّي ذلك البطريق
وينتقل العقاد إلى رحمة الله، في الثاني عشر من مارس 1964، فيرثيه صدقي بقصيدة سماها «مناجاة إلى روح العقاد»، يقول في مطلعها:
ودَدْتُــــــــــــــــــــــــــكَ وُدا لا ودادَ يـــــــعــــــــــــادلُــــــــــــه
تبادِلُني إيّاه أو لا تُبادلُه
ودادٌ نسيتُ الذاتَ فيه كأنني
مجرّدَ ودٍ لا الودادُ وحاملُه
كل هذا التقدير المتبادل، لم يمنع صدقي في يوم من الأيام من أن تكون له مآخذ على كتابات العقاد، ولا أن تكون له شخصيته الأدبية المستقلة، فإكبار العقاد لا يعني بحال أن يصبح المرء ظلًا له، كما أن العقاد مستغن بنفسه، وليس بحاجة إلى ظلال تقف خلفه أو أمامه، بل بحاجة إلى أقلام منصفة تأخذ منه وتضيف إليه، وهناك أكثر من مثال، اختلف فيه رأي صدقي مع رأي العقاد، تحكمه في ذلك مقاييس ذوقه النقدي، وليس مجرد المخالفة، وهذا مثل يغني عن أمثله، فقد كتب صدقي مقالة عن ديوان «هدية الكروان» وبعد أن أفاض في العرض والتحليل، وخصّ قصائد الغزل بحديث طويل، ختم مقالته ببعض ملاحظاته، يقول: «ونحب، ونحن بمعرض الإشارة إلى أغاني الغزل أن نعرض تحت أنظار شاعرنا الكبير أن بعض المقطوعات كالمنديل والفنجان والرقية وساعي البريد، لا تقع في نفوسنا موقع سائر أغانيه، ولسنا نجهل أن من بين شعراء الشرق والغرب من عالجوا أمثال هذه العادات الشعبية والمواضيع الدارجة في شعرهم، ولكنها بعد دون العقاد، وتناولها على هذه الصورة فيه ترخص ظاهر» (الرسالة،.
هكذا تميزت هذه العلاقة في خطوطها القريبة والبعيدة، وإن كان صدقي وقع في منطقة حرجة بالنسبة لعلاقته بمدرسة الديوان، فلم يكن واحدًا من الرواد كالعقاد وشكري والمازني حتى ينال شرف الريادة، وكذلك لم يكن من جيل التلاميذ الصرحاء الذين عرفوا بهذه الصفة، ولكنه وقع في منطقة أشبه «بمنطقة الأعراف»، تلك المنطقة المظلمة بعض الشيء في الحركات الأدبية، والمجهولة أو المتجاهلة كثيرًا عند التأريخ للأدب، وهي تندرج في أذهان البعض تحت عبارة «لو علمتم ما في الغيب لاخترتم الواقع»، والغيب الشعري هنا مهما كانت درجته من الجودة والاعتبار، يجب أن يكون معلومًا، وأن يأخذ حقه من الضوء والدرس، فقمم الجبال لا تصنع وحدها خريطة دقيقة المعالم، فهناك دائما هضاب وتلال، لا يمكن إغفالهما بأي حال.
وفي مقاربة تجنح إلى التصنيف والتحديد، وضع الأستاذ العقاد أدب صدقي، وضم إليه زميله في المدرسة الخديوية علي أدهم الأديب والمفكر فيما بعد، في مكانة بين الشباب والشيوخ، وأنهما من دلائل النهضة الأدبية الحديثة، ومظاهر نجاحها: «فهما قد نشآ إبان النهضة الأدبية الحديثة التي قامت على أسسها الطبيعية وأسبابها المعقولة، ومن مزايا هذه النهضة أنها جمعت ذخيرتها من احتكاك الثقافات، فكان لأدبائها زاد من الأدب الأوربي عامة والأدب الإنجليزي خاصة، فاستفادوا صحة الأسلوب وجودة اللغة، واستفادوا سعة الموضوعات ودقة الأداء، وسلموا من اللوثة الأخيرة التي أعقبت جيلهم». (آراء في الآداب والفنون،
إن امتداد العلاقة بين العقاد وصدقي في الزمن خمسين عاما، وتعدد آفاقها (نقداً ومتابعة ومساجلات)، ورسوخها في الحياة (العشير القديم) تجعل من صدقي واحدًا من «الأصدقاء الأخصاء»، فهو ذلك الصديق الذي وافقت ثقافته وذوقه ومنحاه الفكري، ثقافة وذوق وفكر العقاد، فمضى مع الأستاذ، يدعو لمبادئه الفكرية والأدبية وينسج من نفس نسيجه، ولعل أظهر ثمرة أطلعتها هذه العلاقة هي ثمرة الشعر، فقد كان شعر صدقي ترجمة أمينة لمبادئ جماعة الديوان الفنية، كما كان مجددًا في نقده وفي دراساته، ليضيف صفحة مهمة إلى كتاب الأدب الكبير، لا يمكن أن نمر بها مرور العابرين ■
خمسون عامًا هي عمر الصداقة بين صدقي والعقاد، كان خلالها الأول واحدًا من خاصّة أصدقاء الثاني، الذين يرثون للأصدقاء العاديين «لحرمانهم من التعاطف والتفاهم مع نفس أغنى ما تكون بالعطف والفهم لأصدقائها»، كما وصفها صدقي نفسه في مقالته «العقاد كما عرفته».
كان اللقاء الأول بينهما في منزل الأستاذ المازني أستاذ صدقي في الخديوية سنة (1913)، عندما ذهب الفتى ابن السابعة عشرة ليعود أستاذه حين رضّت قدمُه، وهناك راعه من العقاد قامته الفارعة، وسمت الوقار وسعة علمه وإحاطته، وما يبدو ظاهرًا للعيان من اعتداده بنفسه وقوة إرادته، ثم كانت الرغبة الملحة في القراءة له، فقرأ «خلاصة اليومية» الصادر سنة (1912)، وأهداه العقاد «الشذور» (1915)، والديوان الأول ( 1916)، وأخيرًا «الفصول» (1922)، وعند هذا يقول صدقي: «وهنا تجلت لي مواهب العقاد الشاعر، والعقاد الباحث الناقد، وقد كنت وأنا أقرأ شعره في الديوان الأول كأنني داخل في عالم مسحور، أما «الفصول» فقد وقفت حيالها وقفة المعجب المتعجب من متانة حججها وتماسك منطقها كأني بإزاء هرم من أهرام الجيزة، ثم جعلت رسالتي في الحياة أن أكتب عن كل كتاب يظهر للعقاد، وأن تكون حياتي الأدبية وقفًا على الدعوة له، ولم يكن هذا بدافع من الصداقة، ولكنه الإيمان بالرسالة» (العقاد لصدقي، الهلال.
آمن صدقي إذن برسالة العقاد الأدبية، وهذا هو مراد هذه السطور من التعرض لهذه العلاقة، وكان إيمانه بمبادئ الرسالة لا بالمواقف الشخصية، فقد وقعت النَّبْوة بينه وبين العقاد أكثر من مرة؛ ولكن ذلك لم يؤثر في حماسته للمبادئ، ففي أثناء نبوة من هذه النبوات، نشر العقاد كتابًا له، فتناوله صدقي كعادته بالحفاوة والتحليل، فتعجب الأستاذ مصطفى صادق الرافعي لذلك وكانت بينه وبين العقاد خصومات أدبية معروفة، فقال لصدقي: «فيمَ هذا التفاني وأنت فيما قرأته لك خير من العقاد»؟ فصاح صدقي في وجهه معاتبًا: «لا تخدعني عن نفسي»، وبلغ من دهشة الرافعي لهذا الإخلاص، أن روى للعقاد نفسه الواقعة ثم قال: «الحق أقول يا عقاد، إن أنصارك فئة قليلة، ولكن واحدهم بمقام الألف» (الهلال، أبريل 1964). وقريب من هذا، كانت نصيحة حافظ إبراهيم لصدقي عندما التقيا للمرة الأولى بمقهى دار الكتب: «إن العقاد يعقد على الناس الحياة، إنه لا يدع شيئًا على حاله في الشعر، وفي مقاييس النقد وفي منازع الفكر وفي سائر الأمور، نصيحتي إليك أن تنجو بحياتك منه»؛ لكننا نجد شاعرنا بعد ذلك يزور حافظًا في منزله بحلوان، في صحبة المازني والعقاد.
مقالات ودراسات
كتب صدقي عن العقاد وكتبه مقالات ودراسات عديدة، فقلّما ظهر كتاب للعقاد غير العبقريات إلا كتب عنه في صحيفة أو مجلة، فكتب على سبيل التمثيل عن كتاب الفصول (في المشكاة 1923)، وعن مطالعات في الكتب والحياة (في البلاغ (1924)، وعن العقاد الشاعر في المقطم 1928 ، وعن قصة سارة ووصفها بأنها قصة تحليلية (في البلاغ (1938) ، وعن المرأة عند العقاد في الهلال.
وصدقي هو الآخر يأخذ مكانًا في كتابات العقاد، كتب مقدمة ديوانيه «من وحي المرأة» و«حواء والشاعر»، وكتب عن «ألحان ألحان»، وغيرها من أعمال صدقي الأدبية. كما تولى العقاد تقديم الديوان الأول لصدقي إلى مجمع اللغة العربية حين منح المجمع جائزته لهذا الديوان سنة 1953. وقام صدقي بترجمة مختارات متفرقة من أشعار جوته، أوردها العقاد في كتابه البديع «تذكار جيتي»، وقال في هامشها: «هذه المختارات من ترجمة صديقنا الأديب الألمعي والمترجم الناقد عبدالرحمن صدقي».
وصدقي هو العشير القديم في قصة «سارة» القصة الوحيدة للعقاد الذي يعلم أين ذهب العقاد ومن أين عاد؟ وأنه لما رأى سكوت همام (أو العقاد) قال له يمازحه ويسليه: «علام أنت آسف يا صاح؟ هل تركت فيها من بقية وطر تشتهيها؟ هل عندها من متعة لم تستوف شبعك منها؟ فما بالك تأسى وتكتئب وقد أراحك الله من رفاتها بعد أن نعمت بروحها ولبابها؟» (سارة، دار المعارف، ص( 86)، ولكن همام العقاد) لم يسترح إلى هذا العزاء، فقد حطّ من تجربة حبه الباذخة، وإن كانت في طور الأفول، وربما زاد من وقع الكلمات على العقاد في تلك اللحظة، أنها صدرت من صديق قريب، ومهما يكن من شيء فقد كانت لصدقي مكانة خاصة لدى العقاد، ولم تكن هذه المكانة بخافية على أصدقائه ومريديه، ومنهم أبوهمام عبداللطيف عبدالحليم، فقد كان شاهد عيان على هذه المكانة، إذ يقول: «وقد أدركته أربع سنوات تعرفت فيها على العقاد، وكنت أرى إكبار العقاد لصاحبه صدقي، وكنت وقتها وربما لا أزال أدرك أن العقاد لا يضع امرأً في غير موضعه الذي يستأهله شعراء ما بعد الديوان، .
صداقة متبادلة
أما صداقة الشعر، فقد وجدتُ بعد مراجعة لدواوين الشاعرين عددًا من القصائد التي وجهها أحدهما للآخر، وهي جميعًا تؤكد هذه الصداقة. أرسل صدقي في يوم عرسه 4/2/1940 إلى الأستاذ العقاد علبة من علب الحلوى المعتاد إهداؤها للأصدقاء في الأعراس، وشفع الهدية بتحية شعرية، يحثه فيها على الزواج:
هذي هديةُ عُرْسي
إلى فتى «عَيْن شمس»
عدوَى تثاؤب عَمْروٍ
في يومنا مثلُ أمس
أنـــــــــعــــــِمْ بـــعـــــــــدوى زواجٍ
أعْدَى بحبٍّ وأُنْس
يا مبدعا ما تأسَّى
قد حان وقتُ التَّأسّي
فأجاب الأستاذ العقاد:
لم يُغْنِ تُرْسُكَ شيئًا
فهل سينفع تُرسي
إذا تـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــزوج «صــــــــــــدقـــــــــــــــــــي»
فلستُ أضمن نفسي
ولست أنجو ولو في
دار «المعرِّي» حبسي
فاهْنَأْ بعِرْسِ اختيارٍ
بعد اختبارٍ ودَرس
لولا فضائلُ فيها
ما كنتَ صاحبَ عِرْس
وبعد نيف وأربع سنوات، تلقى الأستاذ الكبير من صديقه قصائد ينعى فيها زوجته ومعها هذه المقطوعة:
أخي، منذ أعوامٍ تلألأَ مَسْكني
وشاع به ضحْكُ الرضا والتَيمُّنِ
لقد كان عُرْسي يومذاك، ومولدي
بكونٍ جديدٍ من هوىً وتَحنُّن
أخي، تلك أعيادي وأعيادُ زوجتي
وما حلَّ منها العيدُ إلا ذكرتَني
وأرسلتَ لي في كل عيد مُهنِّئًا
وباركتَ لي في جنّتي وغَبَطْتَني
مضَتْ هذه الأعيادُ من غير رجعةٍ
وهذي مراثي زوجتي اليومَ فارْثِني
فأجاب الأستاذ العقاد بقصيدة من عشرة أبيات، منها قوله:
أخي! ما عزائي أن أُهَوِّنَ فاجعًا
أراه وإن لم أَبْلُه غيرَ هيّن
ولكنْ عزائي هذه الحربُ زلزلتْ
قلوبَ بني حواءَ في كل مأمن
ولكن عزائي هذه الفتنةُ التي
أطاشتْ رءوسَ الخلق مَنْ عاش أو فني
ولكن عزائي هذه الأرضُ علّمتْ
بنيها هوانَ العيشِ علْمَ التيقّن
قضاءٌ علينا في الحياة فراقُنا
لأحبابِنا حيثُ التقينا بموطن
ويهدي صدقي قصيدته «الحل السعيد لمشكل الشر القديم الجديد» إلى الأستاذ العقاد بمناسبة كتابه عن الشيخ الرئيس ابن سينا، يقول في مطلعها:
بُشْرى لكم ثم بشرى، أيُّها الناسُ
لا ضَيْرَ في شرِّ دنياكم ولا باسُ
وكان لقب «البطريق» هو اللقب الذي رضيه صدقي في «حديقة الحيوانات الآدمية» التي أسسها العقاد وأصدقاؤه، وكانوا يجتمعون في جزيرة الشاي، ثم انتقلوا بعد ذلك إلى دار العقاد. تضم هذه الحديقة المبتكرة نخبة من الأدباء ومحبي الفن، أُطلق على كل عضو من أعضائها اسم حيوان؛ لشبه متصور بينهما في الملامح أو العادات، وربما اجتمع فيها ما لا يجتمع في الواقع، فنجد الدب بجوار القرد وفرس البحر، والضبع في مؤاخاة مع الجدي، ثم نجد البطريق يتهادى أمام الزرافة والحمار الوحشي، ولا غرو؛ فإن الفن جماع للأشتات، ورباط بين المتفرقات، تتهاوى تحت سمائه الحدود وتنكسر القيود، وكأنه «أورفيوس» في الأساطير اليونانية القديمة يجمع الأحياء من كل فصيل، حين يشرع في العزف والغناء، فيسود الأمن ويحل الأمان، يقول العقاد واصفًا حديقة الحيوانات الآدمية هذه:
أورفيوسُ الفن سوّى بينها
فتلاقى الدُّبُّ فيها والقرودْ
وتغنّى فرسُ البحر بها
يا له من فرسٍ طلقِ النشيد!
ومشى الأرنبُ، والحوتُ لَهَا
صاحبا القاعين من لجٍ وبيد
وتآخى الجدي والضبعُ، وما
بين هذين سوى الثأر اللدود
ولَغَا «البطريقُ» فيها لغوَه
وهو من قطب جنوبيٍّ بعيد
وكأني بالزرافي اجتمعتْ
وحمير الوحش منها في صعيد
وآوى السنورُ والجرو إلى
نمرٍ فيها، على غير الوصيد
والسلحفاةُ تجاري عندها
أرنب البيداء والكلب الصيود
فُتحتْ أقفاصُها واختلطتْ
لا سدود، لا قيود، لا حدود
حيواناتٌ نماها آدم
وهي من أبنائه نسلٌ فريدْ
حيواناتٌ، ولكن بينها
كل ذي لبٍّ سماويٍّ رشيد
أورفيوسُ الفن سوّى بينها
فاستوى المنشدُ فيها والمعيد
في الحديقة الفكاهية التي ضمت صفوة من الأدباء والفنانين، ارتضى العقاد لقب «الزرافة»، وأخذ الموسيقار محمد حسن الشجاعي اسم «فرس البحر»، والرسام أحمد صبري «القرد»، أما «البطريق» فكان من نصيب الشاعر عبدالرحمن صدقي.
صدقي والبطريق
والبطريق أو البِنْجِوين طائر من طيور الماء، يمشي على الأرض مشية المختال المزهو، ويكسبه ثقله هدوءًا وجلالًا، ويجذب الأنظار بعاداته، وطريقة عيشه بين جماعته، حيث الألفة والأنس والنشاط، ويتميز بين الطيور بوفائه، وربما كان أكثرها وفاء، ويظهر استعدادًا للتضحية من أجل أنثاه، ومن أجل أفراخه، لأن العلاقة لم تنشأ في الأساس بينه وبين أنثاه إلا بعد تروٍ واختبار، وهكذا كان شاعرنا صدقي الذي تزوج بعد الأربعين بعد تردد ودرس. خلق ألوفا، وعاش عمرًا من الفن، قضاه بين الكتب والصور، والمسرح والأوبرات، وصادق الأدباء والفنانين من بلدان شتى، وفتن بالأنغام والأسفار، وتدرج في حياته الوظيفية سكرتيرًا، ثم وكيلاً، ثم مديرًا لدار الأوبرا الملكية، وكان يرى أنه إذا كانت مصر عاصمتها القاهرة، فإن دار الأوبرا هي عاصمة القاهرة الفنية.
وهكذا صار لقب البطريق ألصق الألقاب بصدقي، ويمكن أن يضاف إليه وصف «الحزين»، وحين يصنع له الرسام بورتريها، نجده يتألف من جسم بطريق كبير، يحمل وجهًا واضح القسمات كوضوح وفائه، وله عينان واسعتان وادعتان، تكشفان ما في سريرته من حزن شفيف، وأنف روماني أنوف كأنه ثائر من الثوار الأقدمين، وإن تكن ثورته من النوع الداخلي الدفين، وشعر أسود ظل وفيًا لصاحبه فلم يتحالف مع المشيب، رغم بلوغه السبعين، يعرض الرسام عليه هذه الصورة فيكتب تحتها صدقي هذه الأبيات:
يا قوم لا بحثٌ ولا تحقيقُ
إن شئتموا أنا ذلك البطريقُ
أنا ذلك الطيرُ المهيضُ جناحُه
يمشي وحلمُ جناحِه التحليق
أنا ذلك الطير الألوفُ فكل مَنْ
لاقى على وجه البسيط صديق
أنا ذلك اللاغي وفي ملغاتِه
معنىً لدى أهل الفنون عميق
يا قوم، أنصف واصفٌ منطيق
أن قال إنّي ذلك البطريق
وينتقل العقاد إلى رحمة الله، في الثاني عشر من مارس 1964، فيرثيه صدقي بقصيدة سماها «مناجاة إلى روح العقاد»، يقول في مطلعها:
ودَدْتُــــــــــــــــــــــــــكَ وُدا لا ودادَ يـــــــعــــــــــــادلُــــــــــــه
تبادِلُني إيّاه أو لا تُبادلُه
ودادٌ نسيتُ الذاتَ فيه كأنني
مجرّدَ ودٍ لا الودادُ وحاملُه
كل هذا التقدير المتبادل، لم يمنع صدقي في يوم من الأيام من أن تكون له مآخذ على كتابات العقاد، ولا أن تكون له شخصيته الأدبية المستقلة، فإكبار العقاد لا يعني بحال أن يصبح المرء ظلًا له، كما أن العقاد مستغن بنفسه، وليس بحاجة إلى ظلال تقف خلفه أو أمامه، بل بحاجة إلى أقلام منصفة تأخذ منه وتضيف إليه، وهناك أكثر من مثال، اختلف فيه رأي صدقي مع رأي العقاد، تحكمه في ذلك مقاييس ذوقه النقدي، وليس مجرد المخالفة، وهذا مثل يغني عن أمثله، فقد كتب صدقي مقالة عن ديوان «هدية الكروان» وبعد أن أفاض في العرض والتحليل، وخصّ قصائد الغزل بحديث طويل، ختم مقالته ببعض ملاحظاته، يقول: «ونحب، ونحن بمعرض الإشارة إلى أغاني الغزل أن نعرض تحت أنظار شاعرنا الكبير أن بعض المقطوعات كالمنديل والفنجان والرقية وساعي البريد، لا تقع في نفوسنا موقع سائر أغانيه، ولسنا نجهل أن من بين شعراء الشرق والغرب من عالجوا أمثال هذه العادات الشعبية والمواضيع الدارجة في شعرهم، ولكنها بعد دون العقاد، وتناولها على هذه الصورة فيه ترخص ظاهر» (الرسالة،.
هكذا تميزت هذه العلاقة في خطوطها القريبة والبعيدة، وإن كان صدقي وقع في منطقة حرجة بالنسبة لعلاقته بمدرسة الديوان، فلم يكن واحدًا من الرواد كالعقاد وشكري والمازني حتى ينال شرف الريادة، وكذلك لم يكن من جيل التلاميذ الصرحاء الذين عرفوا بهذه الصفة، ولكنه وقع في منطقة أشبه «بمنطقة الأعراف»، تلك المنطقة المظلمة بعض الشيء في الحركات الأدبية، والمجهولة أو المتجاهلة كثيرًا عند التأريخ للأدب، وهي تندرج في أذهان البعض تحت عبارة «لو علمتم ما في الغيب لاخترتم الواقع»، والغيب الشعري هنا مهما كانت درجته من الجودة والاعتبار، يجب أن يكون معلومًا، وأن يأخذ حقه من الضوء والدرس، فقمم الجبال لا تصنع وحدها خريطة دقيقة المعالم، فهناك دائما هضاب وتلال، لا يمكن إغفالهما بأي حال.
وفي مقاربة تجنح إلى التصنيف والتحديد، وضع الأستاذ العقاد أدب صدقي، وضم إليه زميله في المدرسة الخديوية علي أدهم الأديب والمفكر فيما بعد، في مكانة بين الشباب والشيوخ، وأنهما من دلائل النهضة الأدبية الحديثة، ومظاهر نجاحها: «فهما قد نشآ إبان النهضة الأدبية الحديثة التي قامت على أسسها الطبيعية وأسبابها المعقولة، ومن مزايا هذه النهضة أنها جمعت ذخيرتها من احتكاك الثقافات، فكان لأدبائها زاد من الأدب الأوربي عامة والأدب الإنجليزي خاصة، فاستفادوا صحة الأسلوب وجودة اللغة، واستفادوا سعة الموضوعات ودقة الأداء، وسلموا من اللوثة الأخيرة التي أعقبت جيلهم». (آراء في الآداب والفنون،
إن امتداد العلاقة بين العقاد وصدقي في الزمن خمسين عاما، وتعدد آفاقها (نقداً ومتابعة ومساجلات)، ورسوخها في الحياة (العشير القديم) تجعل من صدقي واحدًا من «الأصدقاء الأخصاء»، فهو ذلك الصديق الذي وافقت ثقافته وذوقه ومنحاه الفكري، ثقافة وذوق وفكر العقاد، فمضى مع الأستاذ، يدعو لمبادئه الفكرية والأدبية وينسج من نفس نسيجه، ولعل أظهر ثمرة أطلعتها هذه العلاقة هي ثمرة الشعر، فقد كان شعر صدقي ترجمة أمينة لمبادئ جماعة الديوان الفنية، كما كان مجددًا في نقده وفي دراساته، ليضيف صفحة مهمة إلى كتاب الأدب الكبير، لا يمكن أن نمر بها مرور العابرين ■