تابعت النقاشات التي انصبت حول قصة حيزية على إثر تدخل الروائي الواسيني الأعرج وإثارته رواية أخرى عن حياتها مختلفة عن تلك المعروفة أو تلك التي وقع حولها إجماع "دبلوماسي" ربما نظرا لحساسية القصة. فاختلط النقاش بين من له رؤية تاريخية ومن له رؤية أخلاقية ومن له رؤية عصبية ومن له رؤية مشبعة "بالغيرة الأدبية"، حتى يبدو وكأن الرؤية الفنية ضاعت وسط هذه الجلبة... وآخر ما قرأت، رسالة لأستاذ ودكتور (هكذا عرف بنفسه) وجهها للروائي واسيني الأعرج، وهو حبيب مونسي. اخترت منها فقط ما أثار انتباهي :
"أشعر أنها ستكون أعظم أعمالك على الإطلاق".
هكذا ينطلق من" الشعور "، وهو طبعا ذلك الإحساس الذي غالبا ما تطغى عليه العاطفة الميالة إلى الذي عليه تنصب. شعور يمتلكه لدرجة أنه ينسى أن الأمر لا يعدو أن يكون سوى إحساس، ليمر إلى اليقين على ظهر "س" في "تكون" مبشرا بمستقبل قريب قد يكون صدور "العمل" في أقرب وقت. واي عمل!! عمل عظيم بل" أعظم على الإطلاق". وهكذا من الشعور إلى العظمة المطلقة، يزحلقنا الأستاذ الدكتور. وبطبيعة الحال له "حججه" :
الحجة الأولى :
"الهاجس الذي يسكن كبار الروائيين فيلبسهم أردية المؤرخين، وبزات المنقبين، ويرسلهم بشغفهم هذا في دروب القرى والمداشر، و على التلال والمفاوز بحثا عن إشارة، أو أثر،.."
يعتبر الروائي من اكبر الروائيين لأنه أصبح "مؤرخا ومنقبا وباحثا عن الأثر". وهو ما يذكرنا بروائيي القرن التاسع عشر بالغرب، من عرفوا بالروائيين الواقعيين أمثال بالزاك وفلوبير على سبيل الذكر. بل وقد يذكرنا بالروائي زولا وواقعيته الطبيعية لأنه كان يعتمد على الوثائق في كتاباته. لكن مع الإشارة أنهم لم يعرفوا كمؤرخين. لأن الجانب الفني هو الذي طغى على أعمالهم. إلى حدود الساعة الأمر يبدو عاديا. لكن حينما يقول :
الحجة الثانية :
"وأنك اليوم على غير عادتك لا تريد أن تكتب تاريخا بديلا..لا.. أنت الآن تهيم عشقا في حيزية الطيف، حيزية الإنسان، حيزية الحب المغتصب، حيزية وصراع الأعراش والأسر حيزية الجريمة التي لا تغتفر.."
هنا يبرئ الروائي من جبة المؤرخ فيركز على ما قد يجعل من الرواية عملا دراميا وفنيا حيث تتحرك الشخصيات في علاقات بينها تحكمها تناقضات مجتمع خاضع لعصبية إبن خلدون.
لكن سرعان ما ينفي هذا الجانب الفني في حجته الثالثة :
" أعرف أنك كذلك لا تريد أن تكتبها رواية يتسلى بها أغبياءُ يطلبون المتعة، أولئك الذين ينزلقون على سطح الأوراق ولا يتريثون عند أحمالٍ كان المؤلف يحملها على ظهره في كل رحلة، ويجرها وراءه في كل منزل."
وكأنه يؤطر المتلقي ليختار حسب نظرته أو طريقة تلقيه الرواية، نظرة تبدو وكأنها مغلفة بما كان يسمى" بالواقعية الاشتراكية "، حيث تصبح المتعة شيئا غير مرغوب فيه وكأنه يقول لا" للذة النص" التي اصر عليها بارث والبنيويون الذين غلبوا" الكيف " على" الكم". وهكذا يبدو الأستاذ الدكتور وكأنه يطالب القارئ أن يكون هو أيضا "مؤرخا ومنقبا وعالم اجتماع" كما هو الكاتب، ما يبدو وكأن الأستاذ يتناقض في أقواله. ثم ما يلبث أو يستقر على رأي حتى يجرنا إلى حجة ثالثة :
"إنك تريد أن يكون الكتاب كتابا خالصا لحيزية، لا للتاريخ، ولا للرواية، وللأدب، وإنما كتابا يعيد بناء زمن مضى، وتعثرت أيامه بين أقدام العابرين في حيها، في نفسها، في أحلامها..."
فيبوح ربما بما قاله له الروائي، وهذا ما نفهمه من قوله : "تريد أن يكون الكتاب....". وبطبيعة الحال فإنه يتقاسم رأيه. فنفهم على أن هذا الكتاب، ولم يستعمل كلمة" رواية"، " كتاب خالص لحيزية وليس للتاريخ ولا للرواية بل ولا للأدب.." فهل يتعلق الأمر ب: سيرة غيرية. سيرة حيزية؟ فإذا كان الأمر كذلك، فإن السيرة الغيرية إما أن تكون تقريرية وتوثيقية تخدم التاريخ، من وجهة نظر الأستاذ الدكتور، الذي تحدث عن "إعادة بناء زمن مضى" ما يحيلنا على" البنائية" كما عرفها دوركهايم وجان بياجيه، والروسي ليف فيغو تسكي، وهي نظرية في علم الاجتماع، وفي هذه الحالة فإن المسؤولية ضخمة جدا لابد من مراعاة الحساسيات الاجتماعية المحلية، لأن الروائي أصبح عالم اجتماع. واما أن تصبغ بالحكي الروائي فتخضع للأدبي، وهذا يتطلب براعة في التخييل وتوظيف الرموز والابتعاد عن كل ما هو مباشر بدءا من الإسم... اللهم إذا كانت هناك مفاجأة في إبداع جنس آخر...!!!
وفي الأخير لابد من القول إن هذه النقاشات تشكل غنى فكريا بجميع مرجعياته المحلية والكونية، المعممة والأكاديمية ما أحوجنا إليها لبناء مجتمع متسامح وديمقراطي يجعل من الإبداع منهاجا لحياته...
محمد العرجوني
"أشعر أنها ستكون أعظم أعمالك على الإطلاق".
هكذا ينطلق من" الشعور "، وهو طبعا ذلك الإحساس الذي غالبا ما تطغى عليه العاطفة الميالة إلى الذي عليه تنصب. شعور يمتلكه لدرجة أنه ينسى أن الأمر لا يعدو أن يكون سوى إحساس، ليمر إلى اليقين على ظهر "س" في "تكون" مبشرا بمستقبل قريب قد يكون صدور "العمل" في أقرب وقت. واي عمل!! عمل عظيم بل" أعظم على الإطلاق". وهكذا من الشعور إلى العظمة المطلقة، يزحلقنا الأستاذ الدكتور. وبطبيعة الحال له "حججه" :
الحجة الأولى :
"الهاجس الذي يسكن كبار الروائيين فيلبسهم أردية المؤرخين، وبزات المنقبين، ويرسلهم بشغفهم هذا في دروب القرى والمداشر، و على التلال والمفاوز بحثا عن إشارة، أو أثر،.."
يعتبر الروائي من اكبر الروائيين لأنه أصبح "مؤرخا ومنقبا وباحثا عن الأثر". وهو ما يذكرنا بروائيي القرن التاسع عشر بالغرب، من عرفوا بالروائيين الواقعيين أمثال بالزاك وفلوبير على سبيل الذكر. بل وقد يذكرنا بالروائي زولا وواقعيته الطبيعية لأنه كان يعتمد على الوثائق في كتاباته. لكن مع الإشارة أنهم لم يعرفوا كمؤرخين. لأن الجانب الفني هو الذي طغى على أعمالهم. إلى حدود الساعة الأمر يبدو عاديا. لكن حينما يقول :
الحجة الثانية :
"وأنك اليوم على غير عادتك لا تريد أن تكتب تاريخا بديلا..لا.. أنت الآن تهيم عشقا في حيزية الطيف، حيزية الإنسان، حيزية الحب المغتصب، حيزية وصراع الأعراش والأسر حيزية الجريمة التي لا تغتفر.."
هنا يبرئ الروائي من جبة المؤرخ فيركز على ما قد يجعل من الرواية عملا دراميا وفنيا حيث تتحرك الشخصيات في علاقات بينها تحكمها تناقضات مجتمع خاضع لعصبية إبن خلدون.
لكن سرعان ما ينفي هذا الجانب الفني في حجته الثالثة :
" أعرف أنك كذلك لا تريد أن تكتبها رواية يتسلى بها أغبياءُ يطلبون المتعة، أولئك الذين ينزلقون على سطح الأوراق ولا يتريثون عند أحمالٍ كان المؤلف يحملها على ظهره في كل رحلة، ويجرها وراءه في كل منزل."
وكأنه يؤطر المتلقي ليختار حسب نظرته أو طريقة تلقيه الرواية، نظرة تبدو وكأنها مغلفة بما كان يسمى" بالواقعية الاشتراكية "، حيث تصبح المتعة شيئا غير مرغوب فيه وكأنه يقول لا" للذة النص" التي اصر عليها بارث والبنيويون الذين غلبوا" الكيف " على" الكم". وهكذا يبدو الأستاذ الدكتور وكأنه يطالب القارئ أن يكون هو أيضا "مؤرخا ومنقبا وعالم اجتماع" كما هو الكاتب، ما يبدو وكأن الأستاذ يتناقض في أقواله. ثم ما يلبث أو يستقر على رأي حتى يجرنا إلى حجة ثالثة :
"إنك تريد أن يكون الكتاب كتابا خالصا لحيزية، لا للتاريخ، ولا للرواية، وللأدب، وإنما كتابا يعيد بناء زمن مضى، وتعثرت أيامه بين أقدام العابرين في حيها، في نفسها، في أحلامها..."
فيبوح ربما بما قاله له الروائي، وهذا ما نفهمه من قوله : "تريد أن يكون الكتاب....". وبطبيعة الحال فإنه يتقاسم رأيه. فنفهم على أن هذا الكتاب، ولم يستعمل كلمة" رواية"، " كتاب خالص لحيزية وليس للتاريخ ولا للرواية بل ولا للأدب.." فهل يتعلق الأمر ب: سيرة غيرية. سيرة حيزية؟ فإذا كان الأمر كذلك، فإن السيرة الغيرية إما أن تكون تقريرية وتوثيقية تخدم التاريخ، من وجهة نظر الأستاذ الدكتور، الذي تحدث عن "إعادة بناء زمن مضى" ما يحيلنا على" البنائية" كما عرفها دوركهايم وجان بياجيه، والروسي ليف فيغو تسكي، وهي نظرية في علم الاجتماع، وفي هذه الحالة فإن المسؤولية ضخمة جدا لابد من مراعاة الحساسيات الاجتماعية المحلية، لأن الروائي أصبح عالم اجتماع. واما أن تصبغ بالحكي الروائي فتخضع للأدبي، وهذا يتطلب براعة في التخييل وتوظيف الرموز والابتعاد عن كل ما هو مباشر بدءا من الإسم... اللهم إذا كانت هناك مفاجأة في إبداع جنس آخر...!!!
وفي الأخير لابد من القول إن هذه النقاشات تشكل غنى فكريا بجميع مرجعياته المحلية والكونية، المعممة والأكاديمية ما أحوجنا إليها لبناء مجتمع متسامح وديمقراطي يجعل من الإبداع منهاجا لحياته...
محمد العرجوني