العود الخامس
صيف 67
مع كل عودة إلى أرض الوطن تأخذنى قدماى إليها, أبوابها الحديدية موصدة, أمشى أحاذى أسوارها, أنظر من خلف القواطع الحديدية, إنها ساحة مدرستنا "القاهرة الابتدائية"، لا تزال الفصول هي ذاتها الفصول, وهرج ومرج التلاميذ ساعة دخولهم الفصول, صوت المعلمات والتلاميذ يمتزج فى ذاكرتى, أسوارها الملتفة تلم حكايات شجية, فتنداح خيالات الماضى البعيدة حين تقف مدرستنا تكتب بيد وتمسح بأخرى, توزع الأسئلة وتتلقى الإجابات, كانت هى مرآتنا مع كل حركة أو نأمة تأتي بها, اتجهت نحو النافذة العريضة وألقت بالطباشير من يدها, شخصت بعيداً فشخصنا معها, كانت العربات تسير في بطء وقد اكتظت بالجنود فى موكب حزين لا أنسى ملامح وجوههم, ملابسهم, قبعاتهم التى كانوا دوماً يلوحون لنا بها, ونحن نعتلى سور مدرستنا المطلة على معسكرهم, ومرات كثيرة نمد أيدينا إليهم فتطال أيديهم الحانية علينا, يلاحقوننا بابتساماتهم, في ذلك اليوم غاب نهارهم.. غابت شمسهم إلى حيث لا ندري, كانت قلوبنا الصغيرة لا تستطيع أن تدرك حجم ما سيحدث من المأساة, وكل ما بقي من ذاكرتنا أن مدرستنا وقفت تستند على جدار النافذة, وكأنها تتشبث بالقواطع الحديدية, انضممنا إليها تلوح لهم بمنديلها ونحن رفعنا مناديلنا نلوح بها ونرفع شارات النصر, تكشف أسناننا البيضاء عن ابتسامات تلونت بالبراءة, وقفنا جميعاً نودعهم, بكينا, وبكت معلمتنا, ولوحنا لهم بالأكف الصغيرة بالمناديل البيضاء المطرزة بيد أمهاتنا, كنا نود لو ننثرها وروداً ولكن أسلاك النوافذ حالت بيننا وبينهم, وقفت هى يحول ما بينها وبينهم نوافذ وجدران وموكب لا يتوقف عن سيره, قوافل الجنود تتجه إلى الجبهة حيث سيناء هناك, وحيث غزة هنا تلقي بأبنائها في قتال مع اخوانهم في مصر للتصدي لعدو متربص بأرضهم.
***
عدت إلى بيتنا والمشاهد كلها أمامى, نظرات الجنود فى موكبهم الجنائزى مودعين ملوحين لنا لم تفارقنى, كل شئ بات متغيراً أمامى حتى جيراننا من الأسر المصرية بدأوا فى لم متاعهم استعداداً للرحيل، أجراس الحرب تقرع من بعد وطبوله باتت وشيكة, ولكن تظل ساحات لعبنا وضحكات طفولتنا فى النسمات الندية تكسر حاجز الصمت والريبة, وحالات ترقب لا تتوقف حيث واقع يحيط بأهلنا, دوما أبحث عن أبى فى أنحاء حديقتنا وأركان بيتنا, ألاحقه بنظراتى دون أن يشعر بوجودى إلا كعابرة أو لاهية بألعابى أو دفاترى أنظمها, أرتبها, ولكن اليوم كانت الأحداث تتدافع تباعاً, يتحرك أبي مسرعاً عبر الغرف والردهات يرفع النوافذ الزجاجية من مطارحها ويزج بها تحت الأسرة، اقتربت منه:
- لماذا تنزع النوافذ يا أبى؟
لم يعرنى اهتماماً, مضى كمن يسابق الوقت, أمى تقف تتناول منه وترص الشبابيك الزجاجية, ثم ما يلبث يدور فى أنحاء البيت الكبير ينظر ما تم عمله وما ينوى عليه, يحمل فى يده لفافة لاصق, أخذ يسحبها ويلصقها على المرايا وفتحات النوافذ الزجاجية الضيقة التى استحال انتزاعها, التصقت بأمى أهمس لها في خوف وترقب:
- لِمَ يلصق أبى اللاصق بالزجاج؟
- يخاف يا بنتى لو حدثت الحرب واخترقت بيتنا قذيفة, أن يتناثر الزجاج فيؤذينا.
كان وقع كلماتها غريباً على نفسى, ولكنى أيقنت أن ما سيمر بنا هى تجربة لا نعلمها جميعنا, إنها حالة يسمونها الحرب, ولا نعلم حتى ذلك الوقت ماذا تعني كلمة حرب هذه, كل ما يطمئننا أن أبي معنا يضمنا ويحتوي قلقنا وخوفنا..
صوت المذياع لم يتوقف عن سرد البيانات العسكرية بيان رقم1 بيان رقم 10 بيان رقم...، وأبى يقف أمام المذياع, ومع أصوات تصلنا, قذائف وطلقات نار, حتى يبدأ فى شد البطاطين الرمادية وتثبيتها فوق فتحات الشبابيك, وأمى حائمة هائمة فى غرفة الخزين بين أجولة الدقيق وحبات الفريك والعدس لتؤكد على غذاء يلبي احتياجاتنا في أيام هي الحرب القادمة إلينا, والصغار يلاحقونها بأنفاس لاهثة ودقات صدور واجفة..
***
فى حديقتنا ألعابنا كانت كلها حربية, نحفر الخنادق, ونلم عيدان الدوالى المترامية نصنع منها البنادق, وأحجار نلملمها فى أيدينا قنابل, وأصواتنا تجأر فى البدء لهجوم لنعدو نحو خنادق حفرناها نلوذ بها من الطلقات المتوالية من حناجرنا, يطول بنا الوقت مرات ونحن نغرس عيوننا فى طين الأرض وتجويفات حفرناها ضيقة تكاد تتسع لأجسادنا الصغيرة, ننظر منها إلى سمائنا الزرقاء, وطيور تعبر الى أغصان الأشجار حيث أعشاش لها, يومها عصفت بنا صفارات ونفاثات تسبق سرعة أصواتنا, حدبنا على حفرنا الضيقة, نرفع هاماتنا بحرص وريبة, نرقب سماءً كانت لنا زرقاء صافية, أسراب هى الطيور الجوارح, نسور البرارى تزمجر وتخلف وراءها دخاناً أسود يرسم صورة الحرب التى اقتربت منا أكثر وأكثر..
هبت أمى تنادى بصوت سكنه الخوف وكل أشباح الموت المترصد لنا:
- هيا إلى الداخل.
تعدو فى الحديقة تبحث عنا في عين فزعة حتى ظهرنا لها, لمتنا كدجاجة تضم فراخها, وظلت نظرات خوفنا شاخصة فى سمائنا من فتحات النوافذ وتعود الأسراب مرة أخرى فتتحول نظراتنا إلى فزع يدك عظامنا, صوت أبى يهدهد خوفنا:
- الليلة ستنام كل منكن على سريرها, ولن نتجمع فى مكان واحد, إنها الحرب..
طوانا ليلنا الزاحف نحونا, أويت إلى سريرى وأختى تجاورنى فى سريرها كما يوم عادي, في نومتنا لم يتغير الحال علينا.. البطاطين الرمادية تغطي نوافذنا, صوت أمى فى الغرفة المجاورة تهدهد صغيرها, أسدلت الجفون وأبى لم تتوقف حركته فى أنحاء البيت, سكنت كل الموجودات من حولنا, فى بيتنا, فى حديقتنا, فى شارعنا, زارني النوم ولفني بعباءته, لم أشعر إلا وأنا أنتفض فى فراشى على صراخ أختى "بهادر" التي تكبرني بعام واحد, وأنا حزن قلبي ودمعت عيني لحال صارت اليه أختي, صرخاتها كانت تطحن فؤادي, تفتته, كان حالها أكبر من هذه الحرب التي تدق فوق رؤوسنا, الطائرات لم تتوقف تغير علينا, وترمى بحمولتها على قلوبنا, لم يتحمل قلب الصغيرة وقع القذائف الملتهبة, كان نومها يقظاً لسماء غزة الذى تحول إلى ساحات دخان ووهج, اندفع أبى نحوها يحتضنها, يلملم خوفها, يستعين بقلم يخرج منه ضوءاً ضعيفاً, أصابتها هيستريا الصراخ, أبى يضمها الى صدره قد يرفع عنها فزع يعبث في كيانها الصغير, قد يكبر قلبها ويعرف كيف يتنفس دخان القذائف, يهدهدها, وكلماتها اليه وكأنها الهذيان:
- بابا أشعل النور.. أنا خائفة..
يضمها بقوة:
- لا تخافى أنا هنا بجوارك..
- أبى النور.. أشعل النور.. أخاف العتمة
عادت في نوبة تذوي ثم غابت عن وعيها, بدأ أبى يضغط على جسدها يهزها بأن تستفيق, وما تلبث تسترد أنفاسها حتى تتوالى طلعات أخرى, نباح كلبنا يعلو, الجنزير يخبط في البرميل دون توقف, يقطعه ويتجه نحو باب بيتنا, يستند على وجه الباب بيد ويخبط بيد أخرى وكأنه بشر مثلنا يطلب ملاذا آمنا, وأمي تسأله إن كان ينوي إدخاله, فلم يجبها, بل اتجه نحوه وأدخله مربتا عليه, والكلب يدفس رأسه في خاصرة أبي..
هكذا كانت ليلتنا الأولى فى حرب الأيام الست, في ساعات النهار يجمعنا فى ردهة داخل البيت, نقضي فيها ساعات كم كانت طويلة وممتدة, حيث ضيق في المكان وحياة لم نعتد أن نعيشها كما نحن عليه في تلك الأيام, وحين يتسحب إلينا الليل معلنا عن رحيل نهار من عذابات أيامنا التي نعيشها, ينام كل منا فى سريره, ومذياع يسابق الريح, ينقل أخبار المعارك والانتصارات فى مدن هنا ومدن هناك وموقع هنا وموقع هناك, ظلت حديقتنا هى الحدث الذى حملنا إلى معاركنا البعيدة, حيث اندفع الجنود مجموعات عبر الممرات والشوارع الخلفية يقفزون على الأسلاك فوق الأسوار على أسطح المنازل فى المناطق المهجورة إلى أن حطوا فى حديقة بيتنا, خرج أبى إليهم على لهفة وألم لم تستطع ملامح وجهه أن تخفيهما عنا, نتبعه في تحركاته, نرقب القادم إلينا في ساعات حرجة ألقت بظلالها علينا, رجال حفاة, مهلهلين الثياب, مجردين من السلاح, بزاتهم العسكرية لم يتبق منها إلا بنطال, أو بقايا من ملابس لا تدل عليهم, قميص يترنح من على الأكتاف.. ذقونهم وقد استطالت, شعورهم كثة تحمل ما تبقى من تراب الأرض ودخان البنادق..
أبى يقف بينهم, يتهامس معهم, يرسم الخرائط لهم, يشرح عملية عبورهم إلى ممرات آمنة, وسط نظرات زائغة وقلوب كسيرة, دخل الى البيت, يفتح الحزانة, يخرج على غير هدى كل ما تطاله يده, يسابق الزمن في لحظات قد تكون الفاصلة ما بين حياة أو موت, شق طريقه بينهم يحمل ملابس يرتدونها ليواصلوا طريقهم عبر الحدائق وبيارات البرتقال إلى حيث خطط لهم أبى على ورق الخريطة.. حضرت كلماته حين كان يعلمني ماذا تعني كلمة جغرافيا, وما أهمية الخرائط, وكان يحضر لي أطلس العرب, يعبر بي من خلال خطوطة من شمال وجنوب..
رحل الرجال من بوابة بيتنا, ومن حوائطه, ومن حديقته الخلفية, من كل اتجاه, وأبي يجر خطواته بثقل لم أره فيه من قبل واجماً محسوراً, لم ينطق لنا بكلمة, نظر إلى المذياع الذى ما كف يحكى عن انتصارات وأساطير البطولات ما لبث أن اشار لأمي بنزق وثورة تغلي في كيانه:
- اقفلى المذياع..
اقتربت منه فأشاح بوجهه عنها متمتما:
- اتبعينى..
دخل أبى غرفة مكتبه تحوطها مكتبته العملاقة.. ركن إلى مقعد وحيد في منتصف القاعة:
- ناوليني حطبا لأشعل النار فى الموقد..
- الحر قائظ, ما الخبر؟!...
- هيا لا وقت لنضيعه.
اشتعلت النار فى موقدنا, وأطاح أبى بأوراقه, كان يمزقها ويلقيها.. لفنا دخانها، فدمعت عيوننا على صيف حار قائظ، في صيف 67
صيف 67
مع كل عودة إلى أرض الوطن تأخذنى قدماى إليها, أبوابها الحديدية موصدة, أمشى أحاذى أسوارها, أنظر من خلف القواطع الحديدية, إنها ساحة مدرستنا "القاهرة الابتدائية"، لا تزال الفصول هي ذاتها الفصول, وهرج ومرج التلاميذ ساعة دخولهم الفصول, صوت المعلمات والتلاميذ يمتزج فى ذاكرتى, أسوارها الملتفة تلم حكايات شجية, فتنداح خيالات الماضى البعيدة حين تقف مدرستنا تكتب بيد وتمسح بأخرى, توزع الأسئلة وتتلقى الإجابات, كانت هى مرآتنا مع كل حركة أو نأمة تأتي بها, اتجهت نحو النافذة العريضة وألقت بالطباشير من يدها, شخصت بعيداً فشخصنا معها, كانت العربات تسير في بطء وقد اكتظت بالجنود فى موكب حزين لا أنسى ملامح وجوههم, ملابسهم, قبعاتهم التى كانوا دوماً يلوحون لنا بها, ونحن نعتلى سور مدرستنا المطلة على معسكرهم, ومرات كثيرة نمد أيدينا إليهم فتطال أيديهم الحانية علينا, يلاحقوننا بابتساماتهم, في ذلك اليوم غاب نهارهم.. غابت شمسهم إلى حيث لا ندري, كانت قلوبنا الصغيرة لا تستطيع أن تدرك حجم ما سيحدث من المأساة, وكل ما بقي من ذاكرتنا أن مدرستنا وقفت تستند على جدار النافذة, وكأنها تتشبث بالقواطع الحديدية, انضممنا إليها تلوح لهم بمنديلها ونحن رفعنا مناديلنا نلوح بها ونرفع شارات النصر, تكشف أسناننا البيضاء عن ابتسامات تلونت بالبراءة, وقفنا جميعاً نودعهم, بكينا, وبكت معلمتنا, ولوحنا لهم بالأكف الصغيرة بالمناديل البيضاء المطرزة بيد أمهاتنا, كنا نود لو ننثرها وروداً ولكن أسلاك النوافذ حالت بيننا وبينهم, وقفت هى يحول ما بينها وبينهم نوافذ وجدران وموكب لا يتوقف عن سيره, قوافل الجنود تتجه إلى الجبهة حيث سيناء هناك, وحيث غزة هنا تلقي بأبنائها في قتال مع اخوانهم في مصر للتصدي لعدو متربص بأرضهم.
***
عدت إلى بيتنا والمشاهد كلها أمامى, نظرات الجنود فى موكبهم الجنائزى مودعين ملوحين لنا لم تفارقنى, كل شئ بات متغيراً أمامى حتى جيراننا من الأسر المصرية بدأوا فى لم متاعهم استعداداً للرحيل، أجراس الحرب تقرع من بعد وطبوله باتت وشيكة, ولكن تظل ساحات لعبنا وضحكات طفولتنا فى النسمات الندية تكسر حاجز الصمت والريبة, وحالات ترقب لا تتوقف حيث واقع يحيط بأهلنا, دوما أبحث عن أبى فى أنحاء حديقتنا وأركان بيتنا, ألاحقه بنظراتى دون أن يشعر بوجودى إلا كعابرة أو لاهية بألعابى أو دفاترى أنظمها, أرتبها, ولكن اليوم كانت الأحداث تتدافع تباعاً, يتحرك أبي مسرعاً عبر الغرف والردهات يرفع النوافذ الزجاجية من مطارحها ويزج بها تحت الأسرة، اقتربت منه:
- لماذا تنزع النوافذ يا أبى؟
لم يعرنى اهتماماً, مضى كمن يسابق الوقت, أمى تقف تتناول منه وترص الشبابيك الزجاجية, ثم ما يلبث يدور فى أنحاء البيت الكبير ينظر ما تم عمله وما ينوى عليه, يحمل فى يده لفافة لاصق, أخذ يسحبها ويلصقها على المرايا وفتحات النوافذ الزجاجية الضيقة التى استحال انتزاعها, التصقت بأمى أهمس لها في خوف وترقب:
- لِمَ يلصق أبى اللاصق بالزجاج؟
- يخاف يا بنتى لو حدثت الحرب واخترقت بيتنا قذيفة, أن يتناثر الزجاج فيؤذينا.
كان وقع كلماتها غريباً على نفسى, ولكنى أيقنت أن ما سيمر بنا هى تجربة لا نعلمها جميعنا, إنها حالة يسمونها الحرب, ولا نعلم حتى ذلك الوقت ماذا تعني كلمة حرب هذه, كل ما يطمئننا أن أبي معنا يضمنا ويحتوي قلقنا وخوفنا..
صوت المذياع لم يتوقف عن سرد البيانات العسكرية بيان رقم1 بيان رقم 10 بيان رقم...، وأبى يقف أمام المذياع, ومع أصوات تصلنا, قذائف وطلقات نار, حتى يبدأ فى شد البطاطين الرمادية وتثبيتها فوق فتحات الشبابيك, وأمى حائمة هائمة فى غرفة الخزين بين أجولة الدقيق وحبات الفريك والعدس لتؤكد على غذاء يلبي احتياجاتنا في أيام هي الحرب القادمة إلينا, والصغار يلاحقونها بأنفاس لاهثة ودقات صدور واجفة..
***
فى حديقتنا ألعابنا كانت كلها حربية, نحفر الخنادق, ونلم عيدان الدوالى المترامية نصنع منها البنادق, وأحجار نلملمها فى أيدينا قنابل, وأصواتنا تجأر فى البدء لهجوم لنعدو نحو خنادق حفرناها نلوذ بها من الطلقات المتوالية من حناجرنا, يطول بنا الوقت مرات ونحن نغرس عيوننا فى طين الأرض وتجويفات حفرناها ضيقة تكاد تتسع لأجسادنا الصغيرة, ننظر منها إلى سمائنا الزرقاء, وطيور تعبر الى أغصان الأشجار حيث أعشاش لها, يومها عصفت بنا صفارات ونفاثات تسبق سرعة أصواتنا, حدبنا على حفرنا الضيقة, نرفع هاماتنا بحرص وريبة, نرقب سماءً كانت لنا زرقاء صافية, أسراب هى الطيور الجوارح, نسور البرارى تزمجر وتخلف وراءها دخاناً أسود يرسم صورة الحرب التى اقتربت منا أكثر وأكثر..
هبت أمى تنادى بصوت سكنه الخوف وكل أشباح الموت المترصد لنا:
- هيا إلى الداخل.
تعدو فى الحديقة تبحث عنا في عين فزعة حتى ظهرنا لها, لمتنا كدجاجة تضم فراخها, وظلت نظرات خوفنا شاخصة فى سمائنا من فتحات النوافذ وتعود الأسراب مرة أخرى فتتحول نظراتنا إلى فزع يدك عظامنا, صوت أبى يهدهد خوفنا:
- الليلة ستنام كل منكن على سريرها, ولن نتجمع فى مكان واحد, إنها الحرب..
طوانا ليلنا الزاحف نحونا, أويت إلى سريرى وأختى تجاورنى فى سريرها كما يوم عادي, في نومتنا لم يتغير الحال علينا.. البطاطين الرمادية تغطي نوافذنا, صوت أمى فى الغرفة المجاورة تهدهد صغيرها, أسدلت الجفون وأبى لم تتوقف حركته فى أنحاء البيت, سكنت كل الموجودات من حولنا, فى بيتنا, فى حديقتنا, فى شارعنا, زارني النوم ولفني بعباءته, لم أشعر إلا وأنا أنتفض فى فراشى على صراخ أختى "بهادر" التي تكبرني بعام واحد, وأنا حزن قلبي ودمعت عيني لحال صارت اليه أختي, صرخاتها كانت تطحن فؤادي, تفتته, كان حالها أكبر من هذه الحرب التي تدق فوق رؤوسنا, الطائرات لم تتوقف تغير علينا, وترمى بحمولتها على قلوبنا, لم يتحمل قلب الصغيرة وقع القذائف الملتهبة, كان نومها يقظاً لسماء غزة الذى تحول إلى ساحات دخان ووهج, اندفع أبى نحوها يحتضنها, يلملم خوفها, يستعين بقلم يخرج منه ضوءاً ضعيفاً, أصابتها هيستريا الصراخ, أبى يضمها الى صدره قد يرفع عنها فزع يعبث في كيانها الصغير, قد يكبر قلبها ويعرف كيف يتنفس دخان القذائف, يهدهدها, وكلماتها اليه وكأنها الهذيان:
- بابا أشعل النور.. أنا خائفة..
يضمها بقوة:
- لا تخافى أنا هنا بجوارك..
- أبى النور.. أشعل النور.. أخاف العتمة
عادت في نوبة تذوي ثم غابت عن وعيها, بدأ أبى يضغط على جسدها يهزها بأن تستفيق, وما تلبث تسترد أنفاسها حتى تتوالى طلعات أخرى, نباح كلبنا يعلو, الجنزير يخبط في البرميل دون توقف, يقطعه ويتجه نحو باب بيتنا, يستند على وجه الباب بيد ويخبط بيد أخرى وكأنه بشر مثلنا يطلب ملاذا آمنا, وأمي تسأله إن كان ينوي إدخاله, فلم يجبها, بل اتجه نحوه وأدخله مربتا عليه, والكلب يدفس رأسه في خاصرة أبي..
هكذا كانت ليلتنا الأولى فى حرب الأيام الست, في ساعات النهار يجمعنا فى ردهة داخل البيت, نقضي فيها ساعات كم كانت طويلة وممتدة, حيث ضيق في المكان وحياة لم نعتد أن نعيشها كما نحن عليه في تلك الأيام, وحين يتسحب إلينا الليل معلنا عن رحيل نهار من عذابات أيامنا التي نعيشها, ينام كل منا فى سريره, ومذياع يسابق الريح, ينقل أخبار المعارك والانتصارات فى مدن هنا ومدن هناك وموقع هنا وموقع هناك, ظلت حديقتنا هى الحدث الذى حملنا إلى معاركنا البعيدة, حيث اندفع الجنود مجموعات عبر الممرات والشوارع الخلفية يقفزون على الأسلاك فوق الأسوار على أسطح المنازل فى المناطق المهجورة إلى أن حطوا فى حديقة بيتنا, خرج أبى إليهم على لهفة وألم لم تستطع ملامح وجهه أن تخفيهما عنا, نتبعه في تحركاته, نرقب القادم إلينا في ساعات حرجة ألقت بظلالها علينا, رجال حفاة, مهلهلين الثياب, مجردين من السلاح, بزاتهم العسكرية لم يتبق منها إلا بنطال, أو بقايا من ملابس لا تدل عليهم, قميص يترنح من على الأكتاف.. ذقونهم وقد استطالت, شعورهم كثة تحمل ما تبقى من تراب الأرض ودخان البنادق..
أبى يقف بينهم, يتهامس معهم, يرسم الخرائط لهم, يشرح عملية عبورهم إلى ممرات آمنة, وسط نظرات زائغة وقلوب كسيرة, دخل الى البيت, يفتح الحزانة, يخرج على غير هدى كل ما تطاله يده, يسابق الزمن في لحظات قد تكون الفاصلة ما بين حياة أو موت, شق طريقه بينهم يحمل ملابس يرتدونها ليواصلوا طريقهم عبر الحدائق وبيارات البرتقال إلى حيث خطط لهم أبى على ورق الخريطة.. حضرت كلماته حين كان يعلمني ماذا تعني كلمة جغرافيا, وما أهمية الخرائط, وكان يحضر لي أطلس العرب, يعبر بي من خلال خطوطة من شمال وجنوب..
رحل الرجال من بوابة بيتنا, ومن حوائطه, ومن حديقته الخلفية, من كل اتجاه, وأبي يجر خطواته بثقل لم أره فيه من قبل واجماً محسوراً, لم ينطق لنا بكلمة, نظر إلى المذياع الذى ما كف يحكى عن انتصارات وأساطير البطولات ما لبث أن اشار لأمي بنزق وثورة تغلي في كيانه:
- اقفلى المذياع..
اقتربت منه فأشاح بوجهه عنها متمتما:
- اتبعينى..
دخل أبى غرفة مكتبه تحوطها مكتبته العملاقة.. ركن إلى مقعد وحيد في منتصف القاعة:
- ناوليني حطبا لأشعل النار فى الموقد..
- الحر قائظ, ما الخبر؟!...
- هيا لا وقت لنضيعه.
اشتعلت النار فى موقدنا, وأطاح أبى بأوراقه, كان يمزقها ويلقيها.. لفنا دخانها، فدمعت عيوننا على صيف حار قائظ، في صيف 67