عبد الرحيم شنقب - ظلمات الصيف القديم

إهداء:
” إلى الذين رحلوا وهم يحلمون ببيتٍ صغيرٍ في البلدِ الصغير..
إلى الذين مازالوا ببيتٍ صغيرٍ في البلد الصغير ..”



عاد من الغابة عند المساء يجرجر نعليه، رأى في المدى الفاصل بين الغابة والقرية – ولأول مرّة – شجرة هجليج عتيدة، وحيدة، دون ظلال… فاندهش. رفع حواجبه الكثّة، مسح ببصره الأفق في أقصى الغرب، ألسنة اللهب تتوهّج شذراً، والمرجل الكبير ينفث بخاراً أرجوانيّا على السطح، وقف يتأمّل المغيب المذهّب، ألسنة اللهب تخبو ببطءٍ وئيد، الأرجواني الفاقع أدركه ضباب المشيب، استحال شاحباً، يتوارى خجلاً، يستر عري دمه الفاني، يتزمّل في مخمل قرمزيّ فضفاض، ويتلاشى رويداً .. رويداً، كما بسمة الشفاه الكوشيّة الحسيرة، خلف غلالة بنفسجية لسحب شفّافة تعتلي مسرح الأفق الغربي. تحتضر الشمس، تلفظ أنفاسها، يخمد رنين الألوان، يهمد زبد السحب، ينسكب البياض الفضي، يسفح ماءه اللجي مذراً، ويتمدّد على درجات الفضاء الساكن، الصامت، المشدود في بلاهة، ويموت النهار.
أحسّ بالرهق، وضيق الوهق، انكسر واقفاً، فانسكب، تنهّد بحسرة، وانتزع نفسه من الزمن، ودّع بنظرة عجلى من طرفه الهجليجة العتيدة الوحيدة، وواصل سيره الزاحف نحو القرية. عندما دلف داخلاً المنزل هرعت لملاقاته طفلته الصغيرة، تعلّقت بعنقه، ارتمت في حضنه الأغبر المعفّر بالتراب والدخان والعرق، واستلقيا على (العنقريب) في فناء المنزل. كان متعباً حد الإعياء من نهار عمل شاق طويل في إشعال نيران الكمائن، وكانت تمطره بالأسئلة الملحاحة الهاطلة كما الظلمة في تلك الليلة، ويجيب على أسئلتها الكثيرة مداعباً ويمسّد وجهها البدري ذي المسحة الزنجية الرقيقة في حنان.
قفز لسانها العصفوري بغتة بسؤال عن الغابة: ألوانها، أصواتها، رائحتها، ظلالها؟ دهمه السؤال، فانذهل. صمت مشدوهاً، تجلببته الظلمة بطنينها، ابتلعته كما تبتلع ضوء النهار. دفن رأسها الصغير في صدره، وربت على ظهرها وأشاح بوجهه بعيداً عنها نحو قبة السماء، السماء المتلألئة بآلاف الحدقات، الحدقة المحدقة في أسى محرق، وحنين إلى الجدر الحميمة، جدر الحياة الجميلة، والتي كانتها ذات يوم، الجدر التي انتزعت منها في انفصال أبديّ. انغرز في تيه كهوفه وأغوارها المسربلة بالظلمات، فانسرب. رأى نجماً قد هوى، برق الشهب عن وجهه ومضى، أبصر وجه أبيه فبكى. إنتزعت الطفلة رأسها من حضنه، إنتفضت تنظر إليه بعينين حائرتين زمناً، غطّت جفنيها براحتيها الصغيرتين وبكت، وانتحبا متعانقين في نشيج طويل. نهض من غفوته مذعوراً، القمر عاد كالعرجون القديم، والطفلة تغط في سبات عميق، فانتحب.
(2)
منذ صيف قديم، شقّ الوهج الأول ظلمات الفجر، تزاحم واقفاً.
قطيع البقر الوحشي القاطن – منذ أمد بعيد- وآدي القرضة، خلف الجبل الوحيد الصغير، وقف متّجهاً نحو الشرق في كتلة عجفاء بائساً، صامتاً، شاحباً، وكئيباً، وقد ضمرت بطونه، وبانت ضلوعه، ينظر بعيون حزينة، قبس الشروق وقد هدّه الهم، هم ألم الظمأ القاتل وعذاب الجوع القاتل.
عند انبلاج الفلق تنفّس الصباح دفقاً من نسمات الجنوب الطريّة، رفع القطيع مناخيره يستقبل النسيم، فتح أنوفه اللزجة على سعتها ودار، دارَ في القِبل الأربع يستنشق الهواء، ويشهق ويدور ويخور، يشتمّ النسيم الطري، وقد زاغت حدقاته من محاجرها، كما دمعت وارتعشت أهدابها الطويلة، يقف ويبول، يستنشق ماءه المسفوح وينخر، يلعق منخريه وملح الدموع، يدور حول نفسه فاتحاً أنوفه، رافعاً مناخيره، يتناكب حيناً وحيناً يتقابل، تتلامس مؤخراته، تحتك الجلود الجافة، تتصادم القرون دون اشتباك، يخور ويدور حول بعضه في حركة وجد وانجذاب صوفية.
في الغداة، ومضت عيون الثور الكبير بفرحٍ غامر، ولّى وجهه شطر الجنوب وتسمّر زمناً يكابد قسوة الشهيق، ترنّح، كاد يسقط، تشبّث بأظلافه بالأرض، أطبق جفنيه برهة وبال، رفع عقيرته بخوار طويل متهدّج أجش وتقدّم في خطى عجلى إيذاناً بالرحيل، لرحيل صوب رائحة الماء صوب الصعيد، نحو نهر تكّزي البعيد، تدافع القطيع خلفه محدثاً جلبة وغبار. الثور الكبير في مقدمة المسير يلتفت بين الفينة والفينة بإصرار ويخور، يرد من يحاول محاذاته ويدمي بقرنيه من يحاول تجاوزه أو استعجال أقرانه، يغضب إن بدر ذلك ويثور إذا تكرّر، فهو الدليل والحامي، الآمر والناهي في الأوقات العصيبة. الثور الكبير الذي خبر الزمان وخبرته الدروب، دانت له قيادة أحفاد أقرانه السوالف فانتشى.
اقتفى أثر القطيع وعلٌ هرم، أشعث، معقوف القرنين بخطى عرجاء، غادر موطنه الحيوان، غادر مرتعه الإنسان، تفرّقت الفرقان، تفرّقت القطعان، تفرّقت أيدي سبا. بدّدت السنون العجاف سكونها – في الوادي السعيد والجبل الأخضر- شذر مذر، وأطبق صمت القبور في الخلاء الأبدي، وشمس الهاجرة تقرع أجراس الخواء وتبر السراب وريح العدم.
(3)
في الأصائل الطويلة الحارة كان البقر الوحشي يروي ظمأه من نهر تكّزي النحيل، ويقتات العشب المالح الجاف المتناثر في حواف الأكمة، يرعى في الوديان السفلية وسفوح الجبال الغربية، ويبحث عن عشب السِعّدة الطري، دون كلل يجهد في بحثه، يحلم بالعشب الطري، ولا يجد غير العشب المالح الجاف. وجد الماء شرب الماء القراح ولم يجد العشب الندي، بعد أن ارتوى وتوسّد ضفاف النهر النحيل الحنون، يطمع أن يهنأ بالعشب الأخضر، يحلم بالاجترار، يمنّي النفس بقتل دودة الجوع الناهشة في أحشائه، العشب الجاف لا يقتل دودة المسغبة، لا يسكت سعار الجوع في الجوف.
الثور الكبير الذي خبرته الدروب لابد أن يجد العشب الطري، الندي، في تلك السهوب والوديان، لابد من العشب الأخضر، لابد منه. لقد أدركه الجنون، جنون البحث عن العشب الأخضر، فسرح. ذات ظهيرة قائظة وجد الثور الكبير العشب الأخضر، وجد التباس في الوديان العميقة خلف الغربية عند نهاية السهوب في حواف الهضبة الجنوبية، وجد التباس ولم يجد السِعّدة، لا يهم فذاك عزاء. التباس في الوديان العميقة يحفظ ماءه آماداً طويلة.
رعي القطيع في الحقل الأخضر وقد التمعت مقلتاه بالفرح الغامر، يلتهم العشب، يقضم ويلوك، يبلع في نهم. الثور الكبير يرفع رأسه بين الفينة والأخرى جذلاً ويخور، يسوط بذيله الهواء، يدفع بمنكبيه مداعباً صغار القطيع، يشاكس بقائمته اليسرى البقر العجوز في نشوة وفرح، ويعود يرعى في العشب الأخضر. انتفض القطيع الأشهب فجأة، انتصبت قرونه كفروع أجمة الكتر الجاف، نظر بعيون واجفة نحو الغرب، تحرّك في ارتباك ورعب، انتزع أظلافه من الأرض وجفل في عدو ضابح، سابح، نحو موطنه الجديد، نحو النهر صوب الضفة الأخرى للنهر.
في المدى الفاصل بين الجبال الغربية والنهر في الدغل القريب من النهر، هطل الظلام كما المطر، تاه الثور الكبير في الدروب بين شجر الكتر، تاه، توقّف يرتجف، تفصّد عرقاً ودماً، أعماه الظلام وأدمته فروع أشجار الدغل الشائك، حشد كل قواه في صدره، ورفع عقيرته بخوار محموم. رددت رجع صداه كل الأرجاء. تناهى إلى سمعه خوار آلاف الثيران الموغلة في التيه منذ آماد سحيقة، فصمت ثم استرق، فانصعق. سمعته الذئاب، سمعت نداءه وأقبلت من مرقدها بين الصخور. أتت من كل فج، تعوي، وقد سال من ألسنتها اللعاب. وانتشرت في الدغل وتكأكأت حوله، طوّقته بإحكام، وأخذت تتقافز من خلفه وأمامه، ومن تحته وفوقه وجرجرته خارج الدغل. سادت الهرجة في قلب الظلام، في الخلاء المتواطئ بصمته الخؤون، صدرت صرخة فجيعة فظيعة، تلقت صداها الأشجار، وكتمتها في ضلوعها الجافة اليابسة الجريحة، فخرّ جدار.
من على مرتفع الضفة رأى الموت صبي، سمع هسيس قلب الموت الفجيع في جوف الظلام، أبصر قاع الظلمات في أحشاء اللجج المتكاثفة دون ضجيج، وتوارى خلف الضفة الأخرى. قالت القابلة بحسرة، وهي تجمع أدواتها لاستقبال الطلق في القرية الأخرى: “الموت يأتي غفلة يا بني”. فشبّ باكراً وشاب.
(4)
في المساء الخريفيّ العليل، عاد من (العداقا) متأبّطاً مخلاية الوبر المصبوغة باللون الأسود، والمحمّلة بالمستلزمات البسيطة (سكّر وأشياء صغيرة)، وقد امتلأت أوداجه بالغبطة، وأثلج صدره الحبور، يتمايل في مشيته طرباً. ينقر الأرض بعكازه، وصدريته الواسعة يهفهف النسيم أطرافها، منتشياً يستعيد حديث النهار، حديث الذكريات مع أصحابه القدامى، ذكريات الصبا والشباب والأيام الخوالي في القرى والمرعى، ذكريات مغامراتهم في قرى الصعيد، في بحر أزرق والدندر، في قندر، وبقي مدر، في قرى الأمحرا والوالقايت. تذكروا يوم أن حكم بثور واحد وطاقة دمّور، وقهقهوا حتى بانت لثاتهم المتآكلة. تذكروا مناوشاتهم مع المزارعين الزنوج في بحر أزرق والدندر، ومعاركهم مع ( الشفتا) في بقي مدر وأعالي تكّزي وباسلام . تذكروا بطولاتهم في صرع الوحوش الكاسرة في المراعي. تذكروا أغاني البقر(بقايت ودوحين) شربوا الجعة البلدية المصنوعة من الذرة الخضراء ( كني جقا). تذوّق طعم القهوة بالقرنفل بعد عشرين حول، حانثاً بالوعد الذي قطعه على نفسه ألا يشربها بعد وفاة زوجته. تسامروا نهاراً كاملاً، وتذكروا كثيراً شعراء زمانهم الفحول ورفاق المراعي والنجوع القديمة.
أدركته ثلة من شباب القرية – عائدة من العداقا – داهمته كما السيل الجارف وتجاوزته، استفزّه الموقف، وانتفض كالملدوغ وقفز، ربط وسطه بصدريته، وشمر التمائم الجلدية أعلى مرفقيه، واقتلع قدميه وانطلق في اثرهم مهرولاً، وقلادته تتقافز في صدره العاري مع اتساق خطواته العريضة، وتقدّم صفهم، لم لا؟. وهو جوّاب سهوب الصعيد مرتاد آفاق الهضبة، صارع الوحوش، السبّاق بأبقاره في الموارد والمراعي البعيدة. تقدّم مثيراً خلفه نقعاً كما (رايموك) بقرته الرشيقة العيطاء، وهي تتقدّم القطعان في الموارد، والفضة تخلخل في عيطها. عند طرف الغابة خلف الوادي المنعرج في السهل المنخفض بانت رؤوس الأكواخ، حكم قلبه، حكم عقله فانزوى، انزوى جانباً من الطريق، أفسح الدرب للشباب متصنّعاً البول، وجلس متكئاً على جذع هجليجة، وقد هده الرهق، ونال منه الظمأ، جلس كئيباً، يتحدّث محاوراً نفسه ( لم العجلة؟) ولم كل هذه الهرولة؟ لم التصابي والتقافز في الدروب إلى القرية؟. خبأ البرق في عينيه وخمد، سال خطّين حارقين على تجاعيد وجنتيه وبلل صدره، تقرفص، انزوى في قوقعته وغاص، غاص في باحات عميقة (زوجتي الحنون التي موتها موتي وانكسار عمري ورزقي… ماتت المسكينة كمداً وحسرة بعد انقطاع أخبار ابنها… ابنها الوحيد الذي غادرنا قبل أربعة وأربعين عام… نعم أربعة وأربعين حول، وقد نما إلى علمي أمس الأوّل، ولأوّل مرة خبر يقين وجوده في البلاد البعيدة، في دار غرب، في بلاد الفور، وقد تزوّج في كهولته وأنجب طفلة و… و… ليته سمّاها حنين)، وواصل في هذيانه المحموم بقلب مكلوم.
أعياه الوهن، سرقه الوسن، فغفا. ورد بحيرة آسنة يعلوها الهوام، رأى غابات مظلمة يجثم أمامها حيوان هلامي يجتر في كسل، رأى أشجار جريحة ونساء يضفرن السعف، وقد تحلّقن حول قدر صفراء تفوح منها رائحة قديمة نافذة، وطفلة تحرّك القدر بهراوة غليظة تنظر ناحيته بحياد، تفحص وجوه النسوة، رأى وجه أمّه ووجه زوجه ثم وجه القابلة تتداخل في جسد واحد… فصرخ. فتح جفنيه على سعتهما، كانت الظلمة تهطل كنثيث السحر، أرخى ساعديه على ركبتيه، وضغط على الجذع، وأطبق جفنيه مطارداً الحلم. رأى المنام ثانية، رأى كرأد الضحى في الوهدة الفاصلة بين اليقظة والنوم، وقد ألقت الطفلة بالهراوة بعيداً عن القدر، وهبّت لملاقاته مبتسمة، أحسّ بخدش في مرفقه، اقشعرّ جسده، التهب بدنه، تململ في جلسته، وهزّ رأسه وتنفّس بعمق، كان الهواء مشبعاً بالعفن، تذكر عشاء ذلك اليوم البعيد على ضفاف تكّزي. تذكّر الحسرة في عبارة القابلة، وتاه في دروب غبراء شائكة، وفي آماد زمنية سحيقة، طواها النسيان وفي دهاليز سفر الوهم. انسرب، فاندهش. سرح… فانسكب، استرق… فانصعق، خرّ… فصرخ، انتحب… فانتشى. لامسته أنوف طرية، دغدغ زغب رطب رقبته وأرنبة أنفه، إبطه، وحلمتيه، أثاره هيجان مفاجئ… فابتسم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...