خالد محمد علي - هيفاء وسبتمبر في ماضي الذاكرة

في زمن الذاكرة وحضور القطيعة، دوما تسجل الذاكرة وجود حضوري وروحي متكامل لتلك الفارعة التي علمتني التجاوز والتجاسر، وفي ماضي الذاكرة أحن وأموت شوقا لتلك العينين الواسعتين الضاحكتين بفرح مقيم، وهذا الحنين لتلك النجلاء الهيفاء الممشوقة القوام أضحى نسبيا في زمن البعد والتباعد. فلذاك ليس المكان وحده فقط الذي يتعرض للاغتصاب بل الزمان ايضا يغتصب زمان الوجد والشوق يحن اليه أهله يتذكرونه ويتذكرون محاسنه الجميلة فاذا ما أمتنعت عليهم العودة أو منعو منها، قاتلوا من غير سيف فان غلبو انطوو وأعينهم الى الحاضر الماضي، لا للقطيعة مع اليوم أو الأمس بل يقينا بأن الأمس شرطهما. لأن الذاكرة شرط الرؤية وتوطئة الحلم.

وهذا الصخب الدائم والضرب على طبول الحرب هو الذي سيفقدنا التمييز بين المشهد والضحية، ولذلك يا ملهمتي الرائعة فقدنا الذاكرة رغم اننا لن ننساك ولكن أصبحنا في حالة نسيان لكل شيئ وأى شيئ وحتى النار في وطني لها فلسفة أخرى لا تأكل بعضها البعض لأنها دائما تجد ما تأكله وأصبحت الذاكرة في زمن قعقة السلاح هي أعلى اشكال القطع والقطيعة.

لأن الحرب طالت وسوف تطول كل شيئ حتى تلك المكنونات التي نعتز أن نعود بها من أرث عرس الثورة الدامي وكأنها أى الحرب هي التي أدخلت نظام القديم البائد في نظامها. فقد كان سبتمبر في ظل شرعية الثورة شيئا حيا، ينظمنا طقسا دافئا يرفع لنا من الحزن النبيل سقفا توحيديا للذات والجماعة على نصاب من الايمان، ايمانا بهذا الوطن الذي لا تشوبه السذاجة ولا يدخل شيئا آخر غيره في قلوبنا.

بل كنا نورد اليه وعليه أليس كذلك يا عزيزتي؟ كأننا كنا نتواعد على موسم الحصاد ونوافي سبتمبر باليسير من سواد المظهر والوفير من بياض المضمر ونقاء القلب والجوهر، نذهب في الحزن الجميل الى أخرياته وأخريات الليل فيزهر الحزن الجميل فجرا وضاحا وفرحا وسلافا ونجوى تترقرق الدمعة على وردة الثغر فتزهر الوردة كلاما جميلا فيذهب الغل.. أما في هذا الزمان فلا….

لأن هناك كلام يومئ لنا نحن الارتريون عن مخالفات عصفت بنا أثناء الحرب وتوسعنا فيها فطالت كل شيئ تقريبا وأخرت ما كان متوقع أن ينجز في زمن قياسي وتلك التجاوزات لم تنحصر أو تتحسر في زمن السلم ولعلها الى زيادة كما ونوعا وكأنها تؤكد أن السلم لم يصل والدولة لم تصل وقد لا تصل الا اذا تجاوزت الشرعية التأريخية وأقرت بالشرعية الدستورية.

ولكن لا أحد يدعي بأنه يرتكبها والكل ايضا يدعي أنه باسم الشرعية أو حفاظا على الشرعية أو تحت سقف الشرعية بل بعضهم يتوارى ويتخفى ولا يستحي اذا ما ضبط بالجرم المشهود برر فعله بأن الجميع يستبيحون الشرعية ويعتدون على الناموس فما ذنبه.!



* توفى الكاتب بهنولندا في السادس من فبراير 1997م
** منقولة من منشورات الجمعيةالارترية للتراث والثقافة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...