كعادته في كل ليلة خلال الأشهر الأخيرة، نشر حوله ألبومات صوره، وأخذ ينظرُ إلى الصورة الواحدة بعد الأخرى، ابتداء من صور الطفولة وإلى الصورة التي عاد بها هذا المساء إلى البيت، كان يقرأ عند النظر إلى الصور السطور القليلة المكتوبة خلف بعضها، حيث كتبت أسماء الأشخاص من اليمين إلى اليسار وتأريخ يوم التقاط الصورة.
كان يعرف تماماً الصور التي يحتويها كل البوم من الالوبمات الأربعة من خلال أغلفتها المرقمة حيث كتب عليها (الالبوم الأول، الالبوم الثاني، الالبوم الثالث، الالبوم الرابع). ولهذا كان كمن أعد مسبقاً برنامجاً للنظر إلى الصور.
بعد بضع سنين من العمر، حيث لم يكن يشعر مثلما في الأيام الأخيرة باضطرابه ووحدته. بعد تناول العشاء وقليل من التفكير في أيامه التي خلت، أحضر هذهِ الليلة أيضاً كما في الليالي الأخرى البوماته ووضعها إلى يمينه.
بعد فراغه من النظر إلى كل منها البوم منها بضعه إلى جانبه الأيسر، فهو وإن كان يعرف من خلال الغلاف محتويات الالبوم إلا أنه كان ينظر للإطمئنان أكثر إلى المكتوب على الغلاف (الالبوم الأول)، تناوله وقلب الغلاف بسرعة، كانت الصور قليلة بحيث لم تشغل سوى نصف صفحات الالبوم. ولهذا لم يستغرق منه النظر إليها وقتاً طويلاً. تعود الصور إلى السنوات المعدودة الأخيرة. ويتذكر أحياناً خلال النظر إليها يوم إلتقاطها. التقطت كل الصور مصادفة. وكان عليه عند النظر إلى كل منها أن يقرب الالبوم من عينيه، لكي يتذكر جيداً الحركات التي صاحبت التقاط الصور الساكنة.
حين فتح الالبوم، نظر بدقة إلى الصورة الأولى، ومن خلالها عرف أنه هو الذي التقطها قبل خمس سنوات. والمكان كان حانوت صديقه (حسن) الذي تقاعد معه وانشغل بعد بذلك الحانوت في الصورة ثلاثة أشخاص جالسين على الكراسي. انه الآن لايعرف الشخص الآخر. كل الذي يعرفه انه كان من معرف صديقه وبدقة أكثر نظر إلى الجانب الأيمن من الصورة. فرأى عدة مناضد رصفت فوقها في صفوف فوق بعضها وترتفع من الأسفل إلى الأعلى، مجموعة من انواع البسكويت واللبان وحلوى المصاصة والتمرهندي ورقائق البطاطة وغير من البضائع المشابهة. إمتدت على الجدار في الجهة اليمنى وإلى الخلف علقت عدة رفوف، وقد ظهر كل منهم في الصورة إلى النصف منه، وتظهر علب مساحيق الغسيل كالتايد والشامبو وقاصر الألوان وحفاضات الأطفال وفرش الاسنان وأشياء أخرى. وهم يستندون إلى ظهور الكراسي والمدفأة أمامهم، هو يرتدي معطفاً أسوداً ويضع يديه على فخذيه، يده اليسرى نصف مفتوحة وتتدلى منها مسيحة خرزها من حبة الخضراء، إنحدر قسم منها بجانب فخذهِ إلى الأسفل. بعد إمعانه النظر أثار الحنين إلى ذلك الزمن مواجعه. لأن ذلك الصديق قد أغلق الحانوت بعد عامين. توقف فقط عند هذهِ الصورة وقلب صفحات الالبوم الأخرى بسرعة. حيث كان في كل تلك الصور وحده أو مع شخص آخر أو اثنين. بعد النظر في الالبوم الأول. تناول البوماً آخر. قرأ الغلاف (الالبوم الثاني) لكثرة عدد الصور والأشخاص فيها، استغرقت مشاهدته وقتاً طويلاً، عند تقليب صفحات الالبوم، تذكر أول يومٍ تعيّن فيه، فهو وإن لم يكن يملك آنذاك خبرة ما في الكهرباء إلا أنه تعين بواسطة صديق له في دائرة الكهرباء. كان يخاف الكهرباء كثيراً، وهذا ما جعله يحجم عن تسلق سلم الكهرباء بصورة قطعية طيلة مدة خدمته في تلك الدائرة. فكان يكتفى بالامساك بالسلم في الأسفل أو أن يُعِّد الاسلاك والكؤوس والمستلزمات الأخرى. في البداية رضي بسبب البطالة بهذا العمل. ولهذا كان ينظر إليه بإعتباره عملاً موقتاً. ولكنه حين تقاعد، كان قد قضى واحداً وثلاثون عاماً وشهران وأربعة عشر يوماً في الخدمة، وقد ظل إلى بضعة سنين بعد تعيينه يريدُ أن يغيَّر عمله. ولكنه فيما بعد ومن غير أن يشعر بذلك وجد أن عمله قد اتخذه مساره العادي. واضطر للاستمرار فيه.
حين كان يمسك ذلك الالبوم، تتشتت نظراته ويتذكر معاً مجموعة من الذكريات الجميلة والمريرة والفواجع والأحداث الكثيرة. كيف يمكنه أن يتذكر وبالتفصيل كل عمره في العمل، ولهذا كان خلال عودته إلى تلك الذكريات البعيدة، ينسى بعض الأحداث أو تختلط عليه، لم يبق زقاق ولا شارع في المدينة لم يعمل فيه. وهذا ماجعله حين يروي حادثة. أن يجهل المكان أو ينسى الأشخاص اللذين كانوا معه خلال تلك الجولة، كان يرتدي في معظم الصور بدلة زرقاء، والصور التقطت إما في داخل الدائرة أو في الخارج أثناء العمل، في إحدى الصور يتوسط (ريبوار المهندس) مجموعة من العمال ويقف بينه وبين (عزيز السائق)، التقطت في فناء الدائرة، وفي صورة أخرى حيث لم يعد يتذكر جيداً في أي زقاق التقطت، أربعة أشخاص إتكأوا على جانب من سيارة التيوتا – بيكاب وظهر فيها القسم الأعلى من السلم المتدلي خلف السيارة.
في صورة أخرى معتمة إلى حد ما، سبعة أشخاص وكل منهم يقف بصورة مختلفة، وقد التقطت الصورة في غرفة الدائرة. وظهر في الخلف الجزء الأسفل من لوحة فيها صور العمال اللذين فارقوا الحياة أثناء العمل، هذه الصورة ذكرته بمخاوفه أيام العمل. وحين كان ينظر إلى صور الأشخاص يتضاعف خوفه من الكهرباء، خاصة وأنه رأى موت اثنين منهم بعينيه ولذلك كانت تلك اللوحة تذكّره كلما نظر إليها بتلكما الحادثتين. لو أن (فرج العجوز) أصغى إليهم وارتدى كفوف العمل، هل كان جسده يتدلى هامداً من العمود؟ حين أنزلوه كان كمن فارقت روحه الجسد منذ عدة أيام، لم يكن (فرج) كبير السن. ولكنه كان حين يتحدثون عن ماضي المدينة، يروي أحداثاً ويتحدث عن أمور لم تكن تتناسب مع عمره، فعند الحديث عن توسع المدينة كان يبادر بالقول (متى كانت المدينة كبيرة إلى هذا الحد، مرت سنين عديدة عليَّ وأنا في هذهِ المدينة. وها أنت تجدني أتجول في السوق طيلة أربعة ساعات فلا أصادف إثنين من الناس أعرفهم! لازلت أذكرُ أن جنوب البانزينخانة كان كله خلاءً. وكثيراً ماكنا نبتعد إلى هناك عند مطاردتنا للكلاب). الصور في هذا الالبوم تعيده أكثر وأكثر إلى حكايات تلك الأيام وفواجعها وأحداثها. وتجعله ينقطع عن لحظات المشاهدة الساكنة، فهو وإن كان قد كرّس وقتاً طويلاً لمشاهدة الصور في هذا الالبوم إلا أنه كان يقضي معظم ذلك الوقت بتأمل إحدى الصور، ينظرُ إلى كل أجزاء الصورة، فتذكره بوجوه ومشاهد وبضع حكايات وأحداث قبل التقاط الصورة وبعدها، التقطت هذهِ الصورة أثناء رحلة للنزهة. ويظهر فيها مجموعة من العمال والمهندسين، انقسموا في الصورة إلى مجموعتين، بعضهم في الجزء الأمامي من الصورة والبعض الآخر في الخلف. وكان مكان هؤلاء مرتفعاً بعض الشيء عن مكان اللذين في الجزء الأمامي، ظهر في أعلى الجانب الأيمن من المرتفع شجرة كبيرة وقد تدلى منها غصن بإنحراف نحو المنخفض. بعضٌ ممن ظهروا في الصورة لم ينتبهوا إلى لحظة إلتقاط الصورة. وذلك لأن (ريبوار المهندس) إلتقطها في لحظة لم ينتبهوا فيها إلى أنفسهم، في تلك الرحلة للنزهة التقطت صورٌ عديدة مماثلة، كان يردد (كل صورة يقف فيها المرء متهيئاً مستقيماً لن تعبر بأي شكل عن اللحظة التي التقطت فيها، بل إنها تعبر عن لحظة متوقفة دائماً). آنذاك لم يفهم هو ولا مجموعة من رفاقه كلام (ريبوار) وكانوا يعقبون كما هو شأنهم بعد كل عبارة له بنعم من غير أن يدركوا ما يعينيه تماماً ، ولكنه منذ أن اعتاد النظر في البوماته، صار يفهم تماماً مايعينيه. قبل أن يتعرف على (ريبوار المهندس) كانت لديه مجموعة متفرقة من الصور يحتفظ بكل منها في مكان مختلف، إلا أن (ريبوار) جعله يهتم بالتصوير وحفظ الصور بصورة منظمة.
في الصورة كان يجلسُ (هاورى المهندس) و(حمه سعيد) و(طه الورشه) على المرتفع فوق حصيرة بنفسجية (هاورى) مستلقياً وهو يتكيءُ على مرفقه الأيسر مثنياً ساقه اليمنى على الحصيرة. بصورة نصف مفتوحة ويضع قدمه اليسرى خلف اليمنى،و واضعاً يده اليمنى ممسكة بالسيجارة على ركبته اليمنى وينظرُ باسماً إلى الكاميرا وقد جلس (طه) متربعاً بالقربِ منه ولم يظهر منه في الصورة سوى ظهره. (حمه سعيد) خلفهم ولم يظهر منه سوى نصفه الأعلى. مقرباً يده اليمنى من فمه ويبدو أنه يكرز حب عباد الشمس وذلك و ولوجود كيسٍ مفتوح من حب عباد الشمس المحمص أمامه، في الأسفل (شورش)و(بختيار) مسندين ظهريهما إلى المرتفع وينظران إلى الكاميرا. (شورش) يرتدي سروالاً وجوغة( ) كرديتين وبلون أزرق فاتحٍ، وقد أخرج الجوغة من السروال وحلَّ حزامه القماشي وكوَّمه تحت يده اليسرى ومثنياً ساقه اليسرى إلى العلى وممدداً ساقه اليمنى، وقد وضع يده اليمنى فوق فخذه، (بختيار) يرتدي قميصاً أبيضاً وسروالاً كردياً قهوائي اللون ومثنياً ركبتيه المتقاربتين ومشبكاً اصابع يديه ببعضهما وهو يثبتهما بقوة فوق ركبته، إلى يمين (بختيار) (شمال) السائق وجنبه إلى الكاميرا، أمامه صحن كبير و يقشر منحني الرأس الخيار،. والشاب الجالس في الخلف ولم يظهر منه سوى رأسه وينظرُ إلى يد، كان صديق (ريبوار) وهو الذي دعاه إلى هذهِ الرحلة، وهو لايتذكر إسمه الآن، في الجز الأيمن من الصورة لطيف ممسكاً قطعة من ورقة المقوى، يروّح بها منشغلاً بشي اللحم، جلس أحدهم إلى يسار (لطيف) لا يعرفه حيث لم تظهر في الصورة منه سوى كتفه اليمنى. وسط الجز الأسفل من الصورة جلس (نزار) و(فرج العجوز) متقابلين، (فرج) منحني الرأس، يدخل قطع اللحم في (الاسياخ)، ووضع (نزار) يده اليسرى على قطعة صغيرة من الخشب ورفع بيده اليمنى سكيناً وقد فتح قليلاً فمه وهو يتحدث، هو و(حسن) جالسين إلى يمين الصورة ، هو يقشر البصل و(حسن) أمامه صحن كبير من الخضروات. هو يرتدي سروالاً وجوغة نيلية وقميصاً فاتح الزرقة. كلما نظر إلى هذهِ الصورة ورأى نفسه يقرِّب الالبوم أكثر من عينيه وينظر بدقة إلى نفسه في الصورة لم يكن شعره قد تساقط كثيراً ولم يبيض كله كما هو الآن.
رفع الالبوم الثالث متحسراً ونظر متمهلاً إلى الصور، ويتوقف طويلاً عند كل منها، في إحدى الصور يقف هو وخمسة من رفاقه في زاوية عند بداية الزقاق الذي كان فيه بيتهم آنذاك. لم يكن الزقاق مبلطاً، والبيوت في الخلف كانت قليلة أو متباعدة. كلهم يضحكون، سوى (رفيق). كان مغمض العينين، ووفقاً للتأريخ الذي كتبه في ظهر الصورة. كان عمره ستة عشر عاماً. في صورة أخرى يرقص الدبكة الكردية مع مجموعة من الأشخاص. بعد النظر طويلاً فيها لم يستطع التعرف على بعضهم. المكان يشبه فناء بيت. إلى الجانب الأيمن في الصورة، عدد من النساء والرجال جالسين فوق الكراسي.
من بين تلك الصور توقف أكثر عند احداها ونظر إلى وجه كل من ظهر فيها، كانت صورة فريق لكرة القدم، حيث ظهر فيها بالإضافة إلى (الاسطى صالح) ستة آخرون، واقفين وخمسة نصف جالسين، حيث كانوا يثنون ركبهم ووضع كل منهم ساعده خلف رقبة الآخر، الصورة و إن كانت بالأبيض والأسود إلا أنه لايزال يتذكر أن فريقهم كان يرتدي دائماً القمصان الزرقاء والسراويل القصيرة، والجوارب البيضاء. فتمتم هامساً (فريق بروسكه الرياضي).
ولايزال يتذكرُ جيداً أنه هو الذي أختار اسم الفريق. الذي كان كل أعضاءه من أبناء محلة واحدة، في البداية كانوا يلعبون في ساحة صغيرة في المحلة. ثم فكروا في تشكيل الفريق. كان الأول إلى جهة اليمين بين الواقفين في الصورة. كثيف شعر الرأس ونحيل الجسد. ولف ساعديه حول بعضها فوق صدره، بقوة. على ساعده الأيسر قطعة قماش بيضاء، إلى جانبه وقف حارس المرمى (صابر). إبتداءً منه وإلى نهاية الصف ألصق كل منهم كتفه بكتف الآخر، رحيم إلى يمين (صابر) وهو أول من يلفت النظر منهم عند رؤية الصورة . لأنه كان أطولهم قامة. وقد أسدل الفانيلة فوق سرواله القصير. إلا أنه كان مغمض العينين. بجانبه (أرسلان) يبدو عابس الوجه كأنه يبكي، فتذكر أنهم كلما أرادوا إثارة غضبه يقولون له: وجهك كالبكاء، وقف (فاضل)و(عباس) مثلما وقف الآخرون في الجهة الأخرى. وفي الطرف الآخر من جهة اليسار وقف (الاسطى صالح) مثل الآخرين. ولكنه كان يرتدي سروال الكردي والجوغة التي كانت تبدو رصاصية اللون ويشد حول خصره حزاماً قماشياً أسود. في الصف الأول حنى الجميع ركبهم ووضع كل منهم يده اليمنى فوق كتف الآخر. ويده اليسرى فوق ركبته اليسرى. جلس (كريم رش) أمامه. كان ينظر إلى الأمام. وإلى جانبه الأيسر شابٌ لايذكر الآن اسمه. وكل الذي يعرفه عنه أنهم كانوا يدعونه باستمرار بالأحمر، وبجوار هذا كان رفيق الذي وضع أمامه الكرة، لم يعد يذكر اسم الشخص إلى يمين رفيق، ولهذا نقل نظره بسرعة إلى شخص آخر، كان (بهاء الدين الأعور) الذي وقف في نهاية الصف اليسرى. كان إذا ما أصبح في ضوء الشمس يغمض عينه اليسرى. بعد أن نظر إلى الصورة توقف وأخذ ينظرُ بنفس الدقة الشديدة إلى عدد من صور الالبوم الأخرى. في نهاية الالبوم قرب صورة من عينيه. من كثرة نظره إلى هذه الصورة من قبلُ لايعرف هل إنه لايتذكر بدقة وقت التقاط الصورة أم أن ذلك الوقت يبدو إليه كحكاية هو إختلقها. يتذكر جيداً أن جارهم (كاكه فتاح) هو الذي التقط ذات ظهيرة قائضة الصورة، آنذاك كان يلعب مع اثنين من أقرانه البلي في زقاقهم. و(كاكه فتاح) كان عائداً إلى البيت وما أن وصل (حاملاً بيده الكاميرا) حيث كانوا يلعبون. حتى سمعوه يقول : (يا أولاد قفوا. سألتقط لكم صورة). بعد ذلك وقف الثلاثة كل بجانب الآخر ثم ظهرت هذه الصورة التي ينظر إليها الآن بدقة، هو في الوسط بين الاثنين، (فاروق) الواقف إلى يساره ولايعرف الآن أين حل الدهر بهذا الصديق وماالذي جرى له، وإلى يمينه (مريوان) ابن (كاكه فتاح) الذي دهسته في السنين الأخيرة سيارة وفارق الحياة. الصورة كانت أصغر من الصور الشائعة اليوم إضافة إلى كونها بالأسود والأبيض، خلفهم ظهر جزء من فرع شجرة التوت أمام باب بيتهم مع جزء من الجدار ولقدم الصورة تعذرت عليه رؤية الوجوه والتفاصيل الأخرى بدقة. كل الذي ظهر فيها هو أن (مريوان) كان يميل قليلاً برأسه نحوه وكان هو يضع يده اليسرى على كتف فاروق اليمنى. والثلاثة عجزوا عن فتح عيونهم لابنهارهم بضوء الشمس بصورة طبيعية. وينظرون بتوتر إلى الكاميرا.
بعد أن ينتهي كل مرة من النظر إلى الالبومات الثلاثة، يرغب في استراحة قصيرة ومن ثم يتناول بيده الالبوم الرابع. وأي ألبومٍ! تنتاب كل من يراه رغبة في الضحك إلا هو. وذلك لأنه لم لايظمُ إلا صورة واحدة، بعد الاستراحة وكأنه يصل إلى نهاية مشهد خلاّب. يتناول بيده الالبوم الرابع ويتأمل بدقة شديدة الصورة الوحيدة فيه. صورة صغيرة متكسرة في عدة مواضع وبدت خطوط التكسر كالعروق على ورق الشجر. لايعرف الآن كيف التقطت الصورة، كان في عمر هو بين الشهر الخامس والسادس. واقفٌ على قدميه وإلى جانبه الأيمن تظهر يدٌ ممسكةٌ به من الخلف وإلى الجهة اليسرى ووضعت عن يمينه وردة كبيرة. شعر خفيف يغطي رأسه. ويرتدي ثياباً مخططة. ويداه مضمومتان بشدة، وينظرُ بوجه ضاحك إلى الكاميرا. آنذاك تذكر بسرعة الصورة التي استلمها هذا المساء، ولهذا احتفظ بها إلى جواره، ثم نظر إليها. في هذهِ الصورة يسند ظهره إلى شجرة وقد خفَّ شعر رأسه ويرتدي ثياباً مخططة. ويداه مضموتان بشدة وينظر بوجه متوتر إلى الكاميرا.
كخروجٍ عن كل القواعد التي وضعها لتصنيف الالبومات وبعد النظر بدقة ومن غير تفكير، قرر أن يضع الصورة التي عاد بها هذا المساء في الالبوم الرابع.
* عن موقع ايلاف
كان يعرف تماماً الصور التي يحتويها كل البوم من الالوبمات الأربعة من خلال أغلفتها المرقمة حيث كتب عليها (الالبوم الأول، الالبوم الثاني، الالبوم الثالث، الالبوم الرابع). ولهذا كان كمن أعد مسبقاً برنامجاً للنظر إلى الصور.
بعد بضع سنين من العمر، حيث لم يكن يشعر مثلما في الأيام الأخيرة باضطرابه ووحدته. بعد تناول العشاء وقليل من التفكير في أيامه التي خلت، أحضر هذهِ الليلة أيضاً كما في الليالي الأخرى البوماته ووضعها إلى يمينه.
بعد فراغه من النظر إلى كل منها البوم منها بضعه إلى جانبه الأيسر، فهو وإن كان يعرف من خلال الغلاف محتويات الالبوم إلا أنه كان ينظر للإطمئنان أكثر إلى المكتوب على الغلاف (الالبوم الأول)، تناوله وقلب الغلاف بسرعة، كانت الصور قليلة بحيث لم تشغل سوى نصف صفحات الالبوم. ولهذا لم يستغرق منه النظر إليها وقتاً طويلاً. تعود الصور إلى السنوات المعدودة الأخيرة. ويتذكر أحياناً خلال النظر إليها يوم إلتقاطها. التقطت كل الصور مصادفة. وكان عليه عند النظر إلى كل منها أن يقرب الالبوم من عينيه، لكي يتذكر جيداً الحركات التي صاحبت التقاط الصور الساكنة.
حين فتح الالبوم، نظر بدقة إلى الصورة الأولى، ومن خلالها عرف أنه هو الذي التقطها قبل خمس سنوات. والمكان كان حانوت صديقه (حسن) الذي تقاعد معه وانشغل بعد بذلك الحانوت في الصورة ثلاثة أشخاص جالسين على الكراسي. انه الآن لايعرف الشخص الآخر. كل الذي يعرفه انه كان من معرف صديقه وبدقة أكثر نظر إلى الجانب الأيمن من الصورة. فرأى عدة مناضد رصفت فوقها في صفوف فوق بعضها وترتفع من الأسفل إلى الأعلى، مجموعة من انواع البسكويت واللبان وحلوى المصاصة والتمرهندي ورقائق البطاطة وغير من البضائع المشابهة. إمتدت على الجدار في الجهة اليمنى وإلى الخلف علقت عدة رفوف، وقد ظهر كل منهم في الصورة إلى النصف منه، وتظهر علب مساحيق الغسيل كالتايد والشامبو وقاصر الألوان وحفاضات الأطفال وفرش الاسنان وأشياء أخرى. وهم يستندون إلى ظهور الكراسي والمدفأة أمامهم، هو يرتدي معطفاً أسوداً ويضع يديه على فخذيه، يده اليسرى نصف مفتوحة وتتدلى منها مسيحة خرزها من حبة الخضراء، إنحدر قسم منها بجانب فخذهِ إلى الأسفل. بعد إمعانه النظر أثار الحنين إلى ذلك الزمن مواجعه. لأن ذلك الصديق قد أغلق الحانوت بعد عامين. توقف فقط عند هذهِ الصورة وقلب صفحات الالبوم الأخرى بسرعة. حيث كان في كل تلك الصور وحده أو مع شخص آخر أو اثنين. بعد النظر في الالبوم الأول. تناول البوماً آخر. قرأ الغلاف (الالبوم الثاني) لكثرة عدد الصور والأشخاص فيها، استغرقت مشاهدته وقتاً طويلاً، عند تقليب صفحات الالبوم، تذكر أول يومٍ تعيّن فيه، فهو وإن لم يكن يملك آنذاك خبرة ما في الكهرباء إلا أنه تعين بواسطة صديق له في دائرة الكهرباء. كان يخاف الكهرباء كثيراً، وهذا ما جعله يحجم عن تسلق سلم الكهرباء بصورة قطعية طيلة مدة خدمته في تلك الدائرة. فكان يكتفى بالامساك بالسلم في الأسفل أو أن يُعِّد الاسلاك والكؤوس والمستلزمات الأخرى. في البداية رضي بسبب البطالة بهذا العمل. ولهذا كان ينظر إليه بإعتباره عملاً موقتاً. ولكنه حين تقاعد، كان قد قضى واحداً وثلاثون عاماً وشهران وأربعة عشر يوماً في الخدمة، وقد ظل إلى بضعة سنين بعد تعيينه يريدُ أن يغيَّر عمله. ولكنه فيما بعد ومن غير أن يشعر بذلك وجد أن عمله قد اتخذه مساره العادي. واضطر للاستمرار فيه.
حين كان يمسك ذلك الالبوم، تتشتت نظراته ويتذكر معاً مجموعة من الذكريات الجميلة والمريرة والفواجع والأحداث الكثيرة. كيف يمكنه أن يتذكر وبالتفصيل كل عمره في العمل، ولهذا كان خلال عودته إلى تلك الذكريات البعيدة، ينسى بعض الأحداث أو تختلط عليه، لم يبق زقاق ولا شارع في المدينة لم يعمل فيه. وهذا ماجعله حين يروي حادثة. أن يجهل المكان أو ينسى الأشخاص اللذين كانوا معه خلال تلك الجولة، كان يرتدي في معظم الصور بدلة زرقاء، والصور التقطت إما في داخل الدائرة أو في الخارج أثناء العمل، في إحدى الصور يتوسط (ريبوار المهندس) مجموعة من العمال ويقف بينه وبين (عزيز السائق)، التقطت في فناء الدائرة، وفي صورة أخرى حيث لم يعد يتذكر جيداً في أي زقاق التقطت، أربعة أشخاص إتكأوا على جانب من سيارة التيوتا – بيكاب وظهر فيها القسم الأعلى من السلم المتدلي خلف السيارة.
في صورة أخرى معتمة إلى حد ما، سبعة أشخاص وكل منهم يقف بصورة مختلفة، وقد التقطت الصورة في غرفة الدائرة. وظهر في الخلف الجزء الأسفل من لوحة فيها صور العمال اللذين فارقوا الحياة أثناء العمل، هذه الصورة ذكرته بمخاوفه أيام العمل. وحين كان ينظر إلى صور الأشخاص يتضاعف خوفه من الكهرباء، خاصة وأنه رأى موت اثنين منهم بعينيه ولذلك كانت تلك اللوحة تذكّره كلما نظر إليها بتلكما الحادثتين. لو أن (فرج العجوز) أصغى إليهم وارتدى كفوف العمل، هل كان جسده يتدلى هامداً من العمود؟ حين أنزلوه كان كمن فارقت روحه الجسد منذ عدة أيام، لم يكن (فرج) كبير السن. ولكنه كان حين يتحدثون عن ماضي المدينة، يروي أحداثاً ويتحدث عن أمور لم تكن تتناسب مع عمره، فعند الحديث عن توسع المدينة كان يبادر بالقول (متى كانت المدينة كبيرة إلى هذا الحد، مرت سنين عديدة عليَّ وأنا في هذهِ المدينة. وها أنت تجدني أتجول في السوق طيلة أربعة ساعات فلا أصادف إثنين من الناس أعرفهم! لازلت أذكرُ أن جنوب البانزينخانة كان كله خلاءً. وكثيراً ماكنا نبتعد إلى هناك عند مطاردتنا للكلاب). الصور في هذا الالبوم تعيده أكثر وأكثر إلى حكايات تلك الأيام وفواجعها وأحداثها. وتجعله ينقطع عن لحظات المشاهدة الساكنة، فهو وإن كان قد كرّس وقتاً طويلاً لمشاهدة الصور في هذا الالبوم إلا أنه كان يقضي معظم ذلك الوقت بتأمل إحدى الصور، ينظرُ إلى كل أجزاء الصورة، فتذكره بوجوه ومشاهد وبضع حكايات وأحداث قبل التقاط الصورة وبعدها، التقطت هذهِ الصورة أثناء رحلة للنزهة. ويظهر فيها مجموعة من العمال والمهندسين، انقسموا في الصورة إلى مجموعتين، بعضهم في الجزء الأمامي من الصورة والبعض الآخر في الخلف. وكان مكان هؤلاء مرتفعاً بعض الشيء عن مكان اللذين في الجزء الأمامي، ظهر في أعلى الجانب الأيمن من المرتفع شجرة كبيرة وقد تدلى منها غصن بإنحراف نحو المنخفض. بعضٌ ممن ظهروا في الصورة لم ينتبهوا إلى لحظة إلتقاط الصورة. وذلك لأن (ريبوار المهندس) إلتقطها في لحظة لم ينتبهوا فيها إلى أنفسهم، في تلك الرحلة للنزهة التقطت صورٌ عديدة مماثلة، كان يردد (كل صورة يقف فيها المرء متهيئاً مستقيماً لن تعبر بأي شكل عن اللحظة التي التقطت فيها، بل إنها تعبر عن لحظة متوقفة دائماً). آنذاك لم يفهم هو ولا مجموعة من رفاقه كلام (ريبوار) وكانوا يعقبون كما هو شأنهم بعد كل عبارة له بنعم من غير أن يدركوا ما يعينيه تماماً ، ولكنه منذ أن اعتاد النظر في البوماته، صار يفهم تماماً مايعينيه. قبل أن يتعرف على (ريبوار المهندس) كانت لديه مجموعة متفرقة من الصور يحتفظ بكل منها في مكان مختلف، إلا أن (ريبوار) جعله يهتم بالتصوير وحفظ الصور بصورة منظمة.
في الصورة كان يجلسُ (هاورى المهندس) و(حمه سعيد) و(طه الورشه) على المرتفع فوق حصيرة بنفسجية (هاورى) مستلقياً وهو يتكيءُ على مرفقه الأيسر مثنياً ساقه اليمنى على الحصيرة. بصورة نصف مفتوحة ويضع قدمه اليسرى خلف اليمنى،و واضعاً يده اليمنى ممسكة بالسيجارة على ركبته اليمنى وينظرُ باسماً إلى الكاميرا وقد جلس (طه) متربعاً بالقربِ منه ولم يظهر منه في الصورة سوى ظهره. (حمه سعيد) خلفهم ولم يظهر منه سوى نصفه الأعلى. مقرباً يده اليمنى من فمه ويبدو أنه يكرز حب عباد الشمس وذلك و ولوجود كيسٍ مفتوح من حب عباد الشمس المحمص أمامه، في الأسفل (شورش)و(بختيار) مسندين ظهريهما إلى المرتفع وينظران إلى الكاميرا. (شورش) يرتدي سروالاً وجوغة( ) كرديتين وبلون أزرق فاتحٍ، وقد أخرج الجوغة من السروال وحلَّ حزامه القماشي وكوَّمه تحت يده اليسرى ومثنياً ساقه اليسرى إلى العلى وممدداً ساقه اليمنى، وقد وضع يده اليمنى فوق فخذه، (بختيار) يرتدي قميصاً أبيضاً وسروالاً كردياً قهوائي اللون ومثنياً ركبتيه المتقاربتين ومشبكاً اصابع يديه ببعضهما وهو يثبتهما بقوة فوق ركبته، إلى يمين (بختيار) (شمال) السائق وجنبه إلى الكاميرا، أمامه صحن كبير و يقشر منحني الرأس الخيار،. والشاب الجالس في الخلف ولم يظهر منه سوى رأسه وينظرُ إلى يد، كان صديق (ريبوار) وهو الذي دعاه إلى هذهِ الرحلة، وهو لايتذكر إسمه الآن، في الجز الأيمن من الصورة لطيف ممسكاً قطعة من ورقة المقوى، يروّح بها منشغلاً بشي اللحم، جلس أحدهم إلى يسار (لطيف) لا يعرفه حيث لم تظهر في الصورة منه سوى كتفه اليمنى. وسط الجز الأسفل من الصورة جلس (نزار) و(فرج العجوز) متقابلين، (فرج) منحني الرأس، يدخل قطع اللحم في (الاسياخ)، ووضع (نزار) يده اليسرى على قطعة صغيرة من الخشب ورفع بيده اليمنى سكيناً وقد فتح قليلاً فمه وهو يتحدث، هو و(حسن) جالسين إلى يمين الصورة ، هو يقشر البصل و(حسن) أمامه صحن كبير من الخضروات. هو يرتدي سروالاً وجوغة نيلية وقميصاً فاتح الزرقة. كلما نظر إلى هذهِ الصورة ورأى نفسه يقرِّب الالبوم أكثر من عينيه وينظر بدقة إلى نفسه في الصورة لم يكن شعره قد تساقط كثيراً ولم يبيض كله كما هو الآن.
رفع الالبوم الثالث متحسراً ونظر متمهلاً إلى الصور، ويتوقف طويلاً عند كل منها، في إحدى الصور يقف هو وخمسة من رفاقه في زاوية عند بداية الزقاق الذي كان فيه بيتهم آنذاك. لم يكن الزقاق مبلطاً، والبيوت في الخلف كانت قليلة أو متباعدة. كلهم يضحكون، سوى (رفيق). كان مغمض العينين، ووفقاً للتأريخ الذي كتبه في ظهر الصورة. كان عمره ستة عشر عاماً. في صورة أخرى يرقص الدبكة الكردية مع مجموعة من الأشخاص. بعد النظر طويلاً فيها لم يستطع التعرف على بعضهم. المكان يشبه فناء بيت. إلى الجانب الأيمن في الصورة، عدد من النساء والرجال جالسين فوق الكراسي.
من بين تلك الصور توقف أكثر عند احداها ونظر إلى وجه كل من ظهر فيها، كانت صورة فريق لكرة القدم، حيث ظهر فيها بالإضافة إلى (الاسطى صالح) ستة آخرون، واقفين وخمسة نصف جالسين، حيث كانوا يثنون ركبهم ووضع كل منهم ساعده خلف رقبة الآخر، الصورة و إن كانت بالأبيض والأسود إلا أنه لايزال يتذكر أن فريقهم كان يرتدي دائماً القمصان الزرقاء والسراويل القصيرة، والجوارب البيضاء. فتمتم هامساً (فريق بروسكه الرياضي).
ولايزال يتذكرُ جيداً أنه هو الذي أختار اسم الفريق. الذي كان كل أعضاءه من أبناء محلة واحدة، في البداية كانوا يلعبون في ساحة صغيرة في المحلة. ثم فكروا في تشكيل الفريق. كان الأول إلى جهة اليمين بين الواقفين في الصورة. كثيف شعر الرأس ونحيل الجسد. ولف ساعديه حول بعضها فوق صدره، بقوة. على ساعده الأيسر قطعة قماش بيضاء، إلى جانبه وقف حارس المرمى (صابر). إبتداءً منه وإلى نهاية الصف ألصق كل منهم كتفه بكتف الآخر، رحيم إلى يمين (صابر) وهو أول من يلفت النظر منهم عند رؤية الصورة . لأنه كان أطولهم قامة. وقد أسدل الفانيلة فوق سرواله القصير. إلا أنه كان مغمض العينين. بجانبه (أرسلان) يبدو عابس الوجه كأنه يبكي، فتذكر أنهم كلما أرادوا إثارة غضبه يقولون له: وجهك كالبكاء، وقف (فاضل)و(عباس) مثلما وقف الآخرون في الجهة الأخرى. وفي الطرف الآخر من جهة اليسار وقف (الاسطى صالح) مثل الآخرين. ولكنه كان يرتدي سروال الكردي والجوغة التي كانت تبدو رصاصية اللون ويشد حول خصره حزاماً قماشياً أسود. في الصف الأول حنى الجميع ركبهم ووضع كل منهم يده اليمنى فوق كتف الآخر. ويده اليسرى فوق ركبته اليسرى. جلس (كريم رش) أمامه. كان ينظر إلى الأمام. وإلى جانبه الأيسر شابٌ لايذكر الآن اسمه. وكل الذي يعرفه عنه أنهم كانوا يدعونه باستمرار بالأحمر، وبجوار هذا كان رفيق الذي وضع أمامه الكرة، لم يعد يذكر اسم الشخص إلى يمين رفيق، ولهذا نقل نظره بسرعة إلى شخص آخر، كان (بهاء الدين الأعور) الذي وقف في نهاية الصف اليسرى. كان إذا ما أصبح في ضوء الشمس يغمض عينه اليسرى. بعد أن نظر إلى الصورة توقف وأخذ ينظرُ بنفس الدقة الشديدة إلى عدد من صور الالبوم الأخرى. في نهاية الالبوم قرب صورة من عينيه. من كثرة نظره إلى هذه الصورة من قبلُ لايعرف هل إنه لايتذكر بدقة وقت التقاط الصورة أم أن ذلك الوقت يبدو إليه كحكاية هو إختلقها. يتذكر جيداً أن جارهم (كاكه فتاح) هو الذي التقط ذات ظهيرة قائضة الصورة، آنذاك كان يلعب مع اثنين من أقرانه البلي في زقاقهم. و(كاكه فتاح) كان عائداً إلى البيت وما أن وصل (حاملاً بيده الكاميرا) حيث كانوا يلعبون. حتى سمعوه يقول : (يا أولاد قفوا. سألتقط لكم صورة). بعد ذلك وقف الثلاثة كل بجانب الآخر ثم ظهرت هذه الصورة التي ينظر إليها الآن بدقة، هو في الوسط بين الاثنين، (فاروق) الواقف إلى يساره ولايعرف الآن أين حل الدهر بهذا الصديق وماالذي جرى له، وإلى يمينه (مريوان) ابن (كاكه فتاح) الذي دهسته في السنين الأخيرة سيارة وفارق الحياة. الصورة كانت أصغر من الصور الشائعة اليوم إضافة إلى كونها بالأسود والأبيض، خلفهم ظهر جزء من فرع شجرة التوت أمام باب بيتهم مع جزء من الجدار ولقدم الصورة تعذرت عليه رؤية الوجوه والتفاصيل الأخرى بدقة. كل الذي ظهر فيها هو أن (مريوان) كان يميل قليلاً برأسه نحوه وكان هو يضع يده اليسرى على كتف فاروق اليمنى. والثلاثة عجزوا عن فتح عيونهم لابنهارهم بضوء الشمس بصورة طبيعية. وينظرون بتوتر إلى الكاميرا.
بعد أن ينتهي كل مرة من النظر إلى الالبومات الثلاثة، يرغب في استراحة قصيرة ومن ثم يتناول بيده الالبوم الرابع. وأي ألبومٍ! تنتاب كل من يراه رغبة في الضحك إلا هو. وذلك لأنه لم لايظمُ إلا صورة واحدة، بعد الاستراحة وكأنه يصل إلى نهاية مشهد خلاّب. يتناول بيده الالبوم الرابع ويتأمل بدقة شديدة الصورة الوحيدة فيه. صورة صغيرة متكسرة في عدة مواضع وبدت خطوط التكسر كالعروق على ورق الشجر. لايعرف الآن كيف التقطت الصورة، كان في عمر هو بين الشهر الخامس والسادس. واقفٌ على قدميه وإلى جانبه الأيمن تظهر يدٌ ممسكةٌ به من الخلف وإلى الجهة اليسرى ووضعت عن يمينه وردة كبيرة. شعر خفيف يغطي رأسه. ويرتدي ثياباً مخططة. ويداه مضمومتان بشدة، وينظرُ بوجه ضاحك إلى الكاميرا. آنذاك تذكر بسرعة الصورة التي استلمها هذا المساء، ولهذا احتفظ بها إلى جواره، ثم نظر إليها. في هذهِ الصورة يسند ظهره إلى شجرة وقد خفَّ شعر رأسه ويرتدي ثياباً مخططة. ويداه مضموتان بشدة وينظر بوجه متوتر إلى الكاميرا.
كخروجٍ عن كل القواعد التي وضعها لتصنيف الالبومات وبعد النظر بدقة ومن غير تفكير، قرر أن يضع الصورة التي عاد بها هذا المساء في الالبوم الرابع.
* عن موقع ايلاف