بندر...؟!
صديقُ الصَمتِ الطَويلِ، في الممراتِ المُوحِشة، وصديقُ الشجرِ والحجر في مرحلةِ الدراسة...،
شخصٌ لا يعرفه إلا نفرٌ قليلٌ؛ لأنَّه وُجِدَ حين ولِدَ مقامُ الصَبا...، أو هو شَخصٌ تَديّن بدينِ قومِه، لكنَّ الصَبا أخذته وحيدًا إلى:
جَوهرِ الموسيقى الأبديِّ.
... صَبا المقام،
وريحُ الصَبا ...
.
بندر...؟!!
ذاك الفتى النحيلُ، الذي كان يُلِحُّ عليَّ بتوبةٍ موسيقيةٍ، أستعيدُ بها: ما عليه العرفُ الموسيقيُّ الشعبيُّ النجدي؛ إذ كان يقول لي ساخرًا بلغةٍ مسجوعة كسجع الكُهان:
"إنَّك حِدتَ عن صِراطِ الآل، واتّبعتَ الحجازِيَيْن: عبده وطلال".
فالطلابُ في فصلنا المدرسيُّ آنذاك:
إمَّا شَنّانيُّون -وهم الأقَلّ- يُحِبُونَ تقلّيبَ الأجسادِ بأنغامِ الفَنَّان بشير شنَّان. أو سَعيديُّون، يَهيمونَ بالوترِ السادسِ مع فهد بن سعيد. أو سَلاميُّون يَصيحونَ بالصوت الرفيع مع سلامة العبد الله. أو خالديُّون -وهم الأكثر- مَن كانوا يُخبئونَ أوجاعَهم، حتى إذا فَاضَ بهم كأسُ الحُبِّ، عَزفوا مع خالد عبد الرحمن: "خذني بقايا جروح".
أما بندر،
فكان لواءً وحده في حُبِّ الفنَّان عبد الله الصريخ، حَدَّ الهلوسةِ بأنغامِه، وحَدَّ أن كانَ الفَصلُ يُناديه: (أبو صَبا)؛ لأنَّ أغاني الصريخ غارقةٌ في مقامِ الصَبا. المقامِ الذي يَهيمانِ به الصريخ وبندر، بقالبِه التقليدي الذي يَبعث الحزنَ من قلبِ الحياة. لهذا أذكر لما قلتُ لبندر:
إنَّ أغنيةَ الرحابنة مع الفنان المصري عبد الوهاب (حي على الفلاح) كانت على مقام الصبا. قال:
"نعم، هذه صَبًا حزينة، لكنها تُزوّر الفرح، ألا تراها قوميّة خاسرة".
ولأنَّ بندرَ كانَ وحيدًا دعاني لحزبِ الصريخ؛ ليستكثر بي، ولم يَستسلِم حتى انشقَّ عن الصفِّ النجديِّ واحدٌ آخر...، يُدعَى (خالد العتيبي)، لم يترك الغناءَ النجديَّ فحسب، بل تركَ محاورات قبيلتِه، وأنغامَ العودِ على قصائدَ ابنِ هَذَّال، وارتمى بأحضانِ أبي بكر سالم بلفقيه...؛ وصار يُسَمِّي بندرَ (بقايا الأمس)، إشارةً إلى أغنيةِ الصريخ الشهيرة.
هنا: نَفضَ بندر يديه؛ يأسًا من توبتنا، وذهبَ يَعزِفُ معاناةٍ لا نَعرفُ عنها كثيرًا، إلا أنَّها تُشبِه معاناةَ الصريخِ في جذورها؛ كِلاهما عاشَ اليُتمَ، وصَدَّر ألمَه للحياةِ، وصارَ زفيرُه بكاءً، فلا أحدَ يسألُ عن سرِّ صَمتِه ومُعاناتِه.
لهذا لم يبتسم بندر إلا في حالاتٍ فاقت أحاسيسَه...؛ منها: حين يُذكَر اسم(حنان)، وهي فتاةٌ لا نَعرفُ عنها إلا أنَّ بندرَ يَهيمُ بها، لكنَّه حُبٌّ يُشبِه اليُتمَ مرةً أُخرى؛ حيث لم تكن حنانٌ تحبه.
أكانَ بندر مُلتحِفًا بصوفِ النباتِ اليتيم، كمحمود درويش في منفاه الثالث؟ ربما؛ لكن سيكون في صوفِ نباتٍ نَجديّ، قديمِ اليُتم، التحفه بندر في الأزل.
وما أعرفه الآن، أنَّه كانَ يفرح كطفلٍ حين أُكَنِّيه "أبو حنان".
ربما لحظتها فهمتُ:
لِمَ يبكي حين يَسمع الصريخَ يُغنّي: (ليت للعشّاق درب جديد).
وعرفتُ:
لِمَ كانَ يَصدُّ عَنّي -إذا غنيتُ لطلالٍ وعبده- إلا حين يَسمعني أُدندن:
"أعترف لكْ؛ ما بقى من عَالي الهمّة سفوح
انحدر كِلّي كما؛ طفلٍ تَحدَّر مدمعه."
فيُغطِّي وجهَه بغُترتِه، ويفضَحه نشيجُه. ربما لأنَّه لم يكن يَسْمَعُ إلا (صَبا الصريخ)، تعود مرةً أخرى لتعيد حطامَه، وآلامَه.
إلا أنَّ هذا المقام، مقامَ الصَبا، عادَ كوحشٍ لينذرنا بشيءٍ لا نعرفه، حين حَلَّ فيه بندر، وصارَ كلامُه كله (صَبا)، وظلَّ يُردد بيتَ الأغنية:
"سامحيني، دام عذري واضحٍ كِلّ الوضوح
واسمحي لي بالرحيل، بلا تذاكر وأمتعة"
إذ بعدَ أن تَخرجنَا، وراحَ كُلٌّ في طريق، لم يجد بندر سبيلًا إلا الإيغال في السلوكِ الديني..، السلوكِ الأقربِ للاتّحادِ بمقامِ الصَبا...، المقامِ الوحيد الذي لا يُماثل قرارُه جوابَه، وهكذا هو بندر، الذي صَارَ إمامًا لمسجدٍ، فأخذ يُرتِّل القُرآنَ على مَقامِ الصَبا...ويبكي.
فياااا لهذه الصَبا، التي صارَت هي وبندر سواء ْ..،
إذا رأيتَه كأنَّكَ تراها، تَمحِي كُلَّ سُلوكٍ سِواها...؛ لهذا لا أكادُ أرى بندرَ إلا حزينًا، يُدَوزنُ الحَياةَ على نغماتِ الصَبا، يَقضي حَوائجَه بالبُكاء، فقد كنتُ إذا تذكرتُه ورغبتُ في زيارتِه، لا أجده إلا في المسجدِ وحيدًا، جالسًا تحتَ المنبر، مُتربِّعًا، ومطرقَ الرأسِ، مُتغطّيًا بغترتِه، يتلو سورةَ (مَريم) على مقامِ الصَبا، بصوتٍ مَسْموعٍ مُتّصلٍ، لا يَقطَعه إلا النشيج...؛ النشيجُ الذي يبلغ ذروتَه عندما يرتفع صوتُه بصَبا:
[فكُلِي واشربي وقَرِّي عَينًا/ فإمَّا تريِنَّ من البشرِ أحدًا؛ فقُولي/إنّي نذرتُ للرحمنِ صَومًا/ فلن أُكلِمَ اليومَ إنسيًا/ فأتت به قومَها تحمله/ قالوا: يا مريمُ/لقد جئتِ شيئًا فريَّا/ يا أختَ هارونَ/ما كانَ أبوكِ امرأَ سَوْءٍ/ وما كانت أمكِ بَغيّا/ فأشارت إليه.../ قالوا/كيف نُكلِّمُ مَن كانَ بالمهدِ صبيا]
سألتُه يَومًا، عن سِرّ سورةِ مَريم في فؤادِه؛ قال: "فيها نداءٌ خَفِيٌّ.". ولم أعجَبْ من إجابتِه، إذ لم تكن حياةُ بندرَ إلا صَبًا خَفيّة...؛ يكون في ذروةِ البُكاءِ ثم تنفرج أساريره بلحظةٍ خاطفةٍ، حين تَتقلّبُ عيناه في مراتعِ النَفسِ القديمة، التي لا أدري عن سِرّها ونوعِها..،
ربما ما زالَ يَشعر بحنينٍ لشيءٍ ما، لم يَأتِ بعد؛
لا أدري ولا يدري ما هو...!
تمرُّ الليالي الباكيةُ..، تتشابَه كتشابُهِ الدموعِ على الوجنات...، حتى دخلنا تجاويفَ الصَبا، في إحدى الزيارات...، إذ ذهبتُ بعدَ رمضان عام ١٤٢٤هـ، لزيارةِ بندر، فلم أجده في مَسجِده...، وكانَ المجتمعُ -آنذاك- لا حديثَ له إلا غزو أمريكا للعراقِ.
فسألتُ المؤذنَ:
"أين بندر"...؛ فقال:
"رحلَ...إلى العِراق".
يا لَلمؤذن؛ كيفَ اختارَ لفظةَ (رحل)، ليَأذَنَ لمقامِ الصَبا أن يعودَ بصوتِ بندر:
"واسمحي لي بالرحيل بلا تذاكر وأمتعة".
- ثم ماذا....،؟
- ثمَّ ...!!
بندر ماتَ في العِراق...!
وأعلمُ:
أنَّه غَنّى لعينيْ حنانٍ وهو يحتضر...؛
فإن نسيتُ شيئًا فلا أنسى أنَّه في عزِّ بكائِه الديني وإمامتِه لمسجدٍ، كانَ إذا أرادَ أن يبتسم ردَّدَ قولَ بدر شاكر السيَّاب:
"عيناكِ... يا للكوكبين الحالمين بلا انتهاء/ لولاهما ما كنتُ أعلمُ أنَّ أضواءَ الرجاء/ زرقاء ساجية/ وأنَّ النورَ من صنع النِساء"
وأظنُّ:
أنه يرى المُتحاربين أوتارًا مُوسيقيّةٍ تحتاج إلى دوزنة. فهو كثيرًا ما يُردِّد قولَ العربِ: "بالملحِ يُدرك ما يُخشى تغيره/ فما دواءُ الملحِ إن حَلَّت به الغير". ولم تكن الموسيقى في قلبِ بندر إلا مِلحًا يُدرك به طعم الحياة.
وأحدسُ:
أنه سَمِعَ جلجلةَ الحربِ على مَقامِ الصَبا؛ فدَسَّ في جيوبِ المحاربين معزوفاتِ عبد الله الصريخ، وتلاوةَ عبدِ الباسطِ عبدالصمد لسورةِ مريم على مَقامِ الصَبا...؛ لعلَّ الذي قالَ لِعَينيْ حنانٍ: "كُوني جميلة" فكانتْ...؛ يَتدخَّل ليُجمّل أحوالَ البشر.
.
وأما بَعدُ:
فاستيْقِظ يا بندر، بنور حنان، لأتلو عليكَ بعضَ الغناء، بمقامِ الصَبا، ولأجدَ مُتّسعًا من الوقتِ لأسألكَ عَمّا ليس أعرفه:
على أيِّ مقامٍ موسيقيٍّ عَزفَتَ نغمةَ موتِك؟ فالموتُ لغةٌ نريد أن نُميّز بها: متى نسمعُ الأصواتَ:
كضجيجِ حربٍ: قذائفَ وانفجاراتٍ وأنين.
أو نسمعها:
كأريجِ حبٍّ: قُبَلةٍ، أو صَداقةٍ، أو روحِ موسيقى الحجاز والصَبا والنهاوند، وباقي مقاماتِ الحنين؟
هل رأيتَ الصَبا تتمثَّل روحَ حنانٍ أمامك، فحاورتَها كعشيقٍ عتيق:
الحربُ تُؤذيكِ "عودي لن أعودَ أنا"؟
.
أنس الرشيد
٧ تموز ٢٠٢٣م
صديقُ الصَمتِ الطَويلِ، في الممراتِ المُوحِشة، وصديقُ الشجرِ والحجر في مرحلةِ الدراسة...،
شخصٌ لا يعرفه إلا نفرٌ قليلٌ؛ لأنَّه وُجِدَ حين ولِدَ مقامُ الصَبا...، أو هو شَخصٌ تَديّن بدينِ قومِه، لكنَّ الصَبا أخذته وحيدًا إلى:
جَوهرِ الموسيقى الأبديِّ.
... صَبا المقام،
وريحُ الصَبا ...
.
بندر...؟!!
ذاك الفتى النحيلُ، الذي كان يُلِحُّ عليَّ بتوبةٍ موسيقيةٍ، أستعيدُ بها: ما عليه العرفُ الموسيقيُّ الشعبيُّ النجدي؛ إذ كان يقول لي ساخرًا بلغةٍ مسجوعة كسجع الكُهان:
"إنَّك حِدتَ عن صِراطِ الآل، واتّبعتَ الحجازِيَيْن: عبده وطلال".
فالطلابُ في فصلنا المدرسيُّ آنذاك:
إمَّا شَنّانيُّون -وهم الأقَلّ- يُحِبُونَ تقلّيبَ الأجسادِ بأنغامِ الفَنَّان بشير شنَّان. أو سَعيديُّون، يَهيمونَ بالوترِ السادسِ مع فهد بن سعيد. أو سَلاميُّون يَصيحونَ بالصوت الرفيع مع سلامة العبد الله. أو خالديُّون -وهم الأكثر- مَن كانوا يُخبئونَ أوجاعَهم، حتى إذا فَاضَ بهم كأسُ الحُبِّ، عَزفوا مع خالد عبد الرحمن: "خذني بقايا جروح".
أما بندر،
فكان لواءً وحده في حُبِّ الفنَّان عبد الله الصريخ، حَدَّ الهلوسةِ بأنغامِه، وحَدَّ أن كانَ الفَصلُ يُناديه: (أبو صَبا)؛ لأنَّ أغاني الصريخ غارقةٌ في مقامِ الصَبا. المقامِ الذي يَهيمانِ به الصريخ وبندر، بقالبِه التقليدي الذي يَبعث الحزنَ من قلبِ الحياة. لهذا أذكر لما قلتُ لبندر:
إنَّ أغنيةَ الرحابنة مع الفنان المصري عبد الوهاب (حي على الفلاح) كانت على مقام الصبا. قال:
"نعم، هذه صَبًا حزينة، لكنها تُزوّر الفرح، ألا تراها قوميّة خاسرة".
ولأنَّ بندرَ كانَ وحيدًا دعاني لحزبِ الصريخ؛ ليستكثر بي، ولم يَستسلِم حتى انشقَّ عن الصفِّ النجديِّ واحدٌ آخر...، يُدعَى (خالد العتيبي)، لم يترك الغناءَ النجديَّ فحسب، بل تركَ محاورات قبيلتِه، وأنغامَ العودِ على قصائدَ ابنِ هَذَّال، وارتمى بأحضانِ أبي بكر سالم بلفقيه...؛ وصار يُسَمِّي بندرَ (بقايا الأمس)، إشارةً إلى أغنيةِ الصريخ الشهيرة.
هنا: نَفضَ بندر يديه؛ يأسًا من توبتنا، وذهبَ يَعزِفُ معاناةٍ لا نَعرفُ عنها كثيرًا، إلا أنَّها تُشبِه معاناةَ الصريخِ في جذورها؛ كِلاهما عاشَ اليُتمَ، وصَدَّر ألمَه للحياةِ، وصارَ زفيرُه بكاءً، فلا أحدَ يسألُ عن سرِّ صَمتِه ومُعاناتِه.
لهذا لم يبتسم بندر إلا في حالاتٍ فاقت أحاسيسَه...؛ منها: حين يُذكَر اسم(حنان)، وهي فتاةٌ لا نَعرفُ عنها إلا أنَّ بندرَ يَهيمُ بها، لكنَّه حُبٌّ يُشبِه اليُتمَ مرةً أُخرى؛ حيث لم تكن حنانٌ تحبه.
أكانَ بندر مُلتحِفًا بصوفِ النباتِ اليتيم، كمحمود درويش في منفاه الثالث؟ ربما؛ لكن سيكون في صوفِ نباتٍ نَجديّ، قديمِ اليُتم، التحفه بندر في الأزل.
وما أعرفه الآن، أنَّه كانَ يفرح كطفلٍ حين أُكَنِّيه "أبو حنان".
ربما لحظتها فهمتُ:
لِمَ يبكي حين يَسمع الصريخَ يُغنّي: (ليت للعشّاق درب جديد).
وعرفتُ:
لِمَ كانَ يَصدُّ عَنّي -إذا غنيتُ لطلالٍ وعبده- إلا حين يَسمعني أُدندن:
"أعترف لكْ؛ ما بقى من عَالي الهمّة سفوح
انحدر كِلّي كما؛ طفلٍ تَحدَّر مدمعه."
فيُغطِّي وجهَه بغُترتِه، ويفضَحه نشيجُه. ربما لأنَّه لم يكن يَسْمَعُ إلا (صَبا الصريخ)، تعود مرةً أخرى لتعيد حطامَه، وآلامَه.
إلا أنَّ هذا المقام، مقامَ الصَبا، عادَ كوحشٍ لينذرنا بشيءٍ لا نعرفه، حين حَلَّ فيه بندر، وصارَ كلامُه كله (صَبا)، وظلَّ يُردد بيتَ الأغنية:
"سامحيني، دام عذري واضحٍ كِلّ الوضوح
واسمحي لي بالرحيل، بلا تذاكر وأمتعة"
إذ بعدَ أن تَخرجنَا، وراحَ كُلٌّ في طريق، لم يجد بندر سبيلًا إلا الإيغال في السلوكِ الديني..، السلوكِ الأقربِ للاتّحادِ بمقامِ الصَبا...، المقامِ الوحيد الذي لا يُماثل قرارُه جوابَه، وهكذا هو بندر، الذي صَارَ إمامًا لمسجدٍ، فأخذ يُرتِّل القُرآنَ على مَقامِ الصَبا...ويبكي.
فياااا لهذه الصَبا، التي صارَت هي وبندر سواء ْ..،
إذا رأيتَه كأنَّكَ تراها، تَمحِي كُلَّ سُلوكٍ سِواها...؛ لهذا لا أكادُ أرى بندرَ إلا حزينًا، يُدَوزنُ الحَياةَ على نغماتِ الصَبا، يَقضي حَوائجَه بالبُكاء، فقد كنتُ إذا تذكرتُه ورغبتُ في زيارتِه، لا أجده إلا في المسجدِ وحيدًا، جالسًا تحتَ المنبر، مُتربِّعًا، ومطرقَ الرأسِ، مُتغطّيًا بغترتِه، يتلو سورةَ (مَريم) على مقامِ الصَبا، بصوتٍ مَسْموعٍ مُتّصلٍ، لا يَقطَعه إلا النشيج...؛ النشيجُ الذي يبلغ ذروتَه عندما يرتفع صوتُه بصَبا:
[فكُلِي واشربي وقَرِّي عَينًا/ فإمَّا تريِنَّ من البشرِ أحدًا؛ فقُولي/إنّي نذرتُ للرحمنِ صَومًا/ فلن أُكلِمَ اليومَ إنسيًا/ فأتت به قومَها تحمله/ قالوا: يا مريمُ/لقد جئتِ شيئًا فريَّا/ يا أختَ هارونَ/ما كانَ أبوكِ امرأَ سَوْءٍ/ وما كانت أمكِ بَغيّا/ فأشارت إليه.../ قالوا/كيف نُكلِّمُ مَن كانَ بالمهدِ صبيا]
سألتُه يَومًا، عن سِرّ سورةِ مَريم في فؤادِه؛ قال: "فيها نداءٌ خَفِيٌّ.". ولم أعجَبْ من إجابتِه، إذ لم تكن حياةُ بندرَ إلا صَبًا خَفيّة...؛ يكون في ذروةِ البُكاءِ ثم تنفرج أساريره بلحظةٍ خاطفةٍ، حين تَتقلّبُ عيناه في مراتعِ النَفسِ القديمة، التي لا أدري عن سِرّها ونوعِها..،
ربما ما زالَ يَشعر بحنينٍ لشيءٍ ما، لم يَأتِ بعد؛
لا أدري ولا يدري ما هو...!
تمرُّ الليالي الباكيةُ..، تتشابَه كتشابُهِ الدموعِ على الوجنات...، حتى دخلنا تجاويفَ الصَبا، في إحدى الزيارات...، إذ ذهبتُ بعدَ رمضان عام ١٤٢٤هـ، لزيارةِ بندر، فلم أجده في مَسجِده...، وكانَ المجتمعُ -آنذاك- لا حديثَ له إلا غزو أمريكا للعراقِ.
فسألتُ المؤذنَ:
"أين بندر"...؛ فقال:
"رحلَ...إلى العِراق".
يا لَلمؤذن؛ كيفَ اختارَ لفظةَ (رحل)، ليَأذَنَ لمقامِ الصَبا أن يعودَ بصوتِ بندر:
"واسمحي لي بالرحيل بلا تذاكر وأمتعة".
- ثم ماذا....،؟
- ثمَّ ...!!
بندر ماتَ في العِراق...!
وأعلمُ:
أنَّه غَنّى لعينيْ حنانٍ وهو يحتضر...؛
فإن نسيتُ شيئًا فلا أنسى أنَّه في عزِّ بكائِه الديني وإمامتِه لمسجدٍ، كانَ إذا أرادَ أن يبتسم ردَّدَ قولَ بدر شاكر السيَّاب:
"عيناكِ... يا للكوكبين الحالمين بلا انتهاء/ لولاهما ما كنتُ أعلمُ أنَّ أضواءَ الرجاء/ زرقاء ساجية/ وأنَّ النورَ من صنع النِساء"
وأظنُّ:
أنه يرى المُتحاربين أوتارًا مُوسيقيّةٍ تحتاج إلى دوزنة. فهو كثيرًا ما يُردِّد قولَ العربِ: "بالملحِ يُدرك ما يُخشى تغيره/ فما دواءُ الملحِ إن حَلَّت به الغير". ولم تكن الموسيقى في قلبِ بندر إلا مِلحًا يُدرك به طعم الحياة.
وأحدسُ:
أنه سَمِعَ جلجلةَ الحربِ على مَقامِ الصَبا؛ فدَسَّ في جيوبِ المحاربين معزوفاتِ عبد الله الصريخ، وتلاوةَ عبدِ الباسطِ عبدالصمد لسورةِ مريم على مَقامِ الصَبا...؛ لعلَّ الذي قالَ لِعَينيْ حنانٍ: "كُوني جميلة" فكانتْ...؛ يَتدخَّل ليُجمّل أحوالَ البشر.
.
وأما بَعدُ:
فاستيْقِظ يا بندر، بنور حنان، لأتلو عليكَ بعضَ الغناء، بمقامِ الصَبا، ولأجدَ مُتّسعًا من الوقتِ لأسألكَ عَمّا ليس أعرفه:
على أيِّ مقامٍ موسيقيٍّ عَزفَتَ نغمةَ موتِك؟ فالموتُ لغةٌ نريد أن نُميّز بها: متى نسمعُ الأصواتَ:
كضجيجِ حربٍ: قذائفَ وانفجاراتٍ وأنين.
أو نسمعها:
كأريجِ حبٍّ: قُبَلةٍ، أو صَداقةٍ، أو روحِ موسيقى الحجاز والصَبا والنهاوند، وباقي مقاماتِ الحنين؟
هل رأيتَ الصَبا تتمثَّل روحَ حنانٍ أمامك، فحاورتَها كعشيقٍ عتيق:
الحربُ تُؤذيكِ "عودي لن أعودَ أنا"؟
.
أنس الرشيد
٧ تموز ٢٠٢٣م