يوم كنت انتظره من أيام طويلة.. من شهور عديدة من فترة لا اعلم بدايتها يوم كنت امني النفس بلقائه.. واعد العدة لاجتيازه اقرأ كثيرا واتابع اكثر كان حلمي هذا من اكبر احلامي بل كان احد أسباب تمسكي بوجودي لكن تهيبي منه كان اشد من كل توقعاتي.. لقد كنت اوجس خيفة من رهبة ذلك الموقف ومواجهته ترى هل ستخونني الذاكرة ويأخذ التردد بتلابيبي ويتمكن التلعثم من لساني وتنهش الرطانة بلاغتي وتعمل التأتأة عملها في منطقي وتعطل الخيالات السود فطنتي وسرعة بديهتي؟ ام سأكون ذلك الباحث البنية والخطيب المفوه والمتكلم البليغ والمناقش البارع والدارس الواعي الذي امامه هدفه يجب ان يصله وقبالته غاية لابد من ان يحققها ارد على مناقشتي رسالتي واجيب على أسئلة الأساتذة المختبرين بدقة ولباقة واقرن النظرية بالتطبيق واربط المادة المبحوثة بعشرات الوشاهد والأدلة واتصدى لما يستوضحون مني بالحجج المنطقية.. فهكذا انا دائما عزم لا يثنني وشباب لا يشيخ وطاقة لا ينقصها عزم وهمة لا يصيبها خوره.. استشرف الآفاق واتطلع الى الغد لاجوب مفازات العوالم المجهولة التي توعدني بنبيذ الفرحة المنشودة مثلما تتهددني خيبة الاكتشافات الرهيبة.. اذ ذاك وحسب اكتم مزحتي واشهر فشلي واخرج من نفسي خلجاتها المضطربة المتشحة بسواد التوقعات المرة. حان يوم المناقشة جلست على المنصة قبالة لجنة المناقشة في قلق وتحسب لكن دون ان يظهر ذلك على محياي ارتديت القفطان الأسود الفضفاض الذي تتدلى منه شرائط صفراء ذهبية بطول نصف متر واعتمرت القلنسوة السوداء باشرطة خضراء ووضعت امامي الرسالة الضخمة ذات الجلد الأسود السميك ذي البريق الحاد المنقوش عليه بحروف ذهبية بارزة عنوان الرسالة وبين الحين والحين كنت اتصفح الرسالة للتأكد من فكرة او التثبت من معلومة وشيئا فشيئا اخذت قاعة المناقشة تغص بالحضور وجلهم من اهلي واصدقائي ومجموعة كبيرة من طلبة الماجستير والدكتوراه من نفس الاختصاص وغيره.. وانتصبت كاميرا الفديو في صدر القاعة تدور بحرية وتسجل احداث ما يجري في هذه القاعة بهذه المناسبة.. بينما تكررت ومضات فلاشات الفوتوغراف لتخلد لقطاتها فعاليات هذه المناقشة.. التي احسبها شخصيا على انها تاريخية ومحورية ومصيرية علاوة على كونها سعيدة.. باختصار كانت الفرحة العميقة بادية على كل الوجوه.. الا انا فقد علت وجهي غيمة من جدية قلقة كنت اختلس النظر بين الحين والأخر الى الوجوه الحاضرة في لهفة يشوبها حزن خفي.. علني اجد بينهم وجهك الغائب.. ليتك كنت معي هذه اللحظات لترى بام عينيك هذا الإنجاز البهي.. الذي كنت قد قطعت عهدا لك بأنني سوف احققه واهديه.. اليك اليك انت وحسب وليس لي او لاحد سواك لقد كانت مسألة اكمال دراستي العليا فكرة انت اطلقتيها والححت علي ان اتابعها واحققها كنت تريدين مني ان أكون أستاذا جامعيا مرموقا.. يشار له بالبنان كنت تشنفين اسماعي بالمقولة التي ما غادرت شفتيك (وراء كل عظيم امرأة) وأتمنى ان أكون انا تلك المرأة التي تقف وراء من تحب ليصبح عظيما.. تعمدت ان ادعو لشهود المناقشة بعض من لا يوافق هواهم هواية لذا كنت محاطا بعيون حامدة وعيون حاسدة. كنت تريدين ان انجز كل شيء على اية ان ما يحصل الان كان حلما في ذاكرتينا الخضراوين.. لكن كل شيء صار وحصل ما لم يكن بالحسبان اذ انقلبت المعادلة بسرعة سوء تفاهم وخلاف وهجران ومقاطعة ورحيل بدلا من الود والوصل والوفاق واللقاء.. وفي سرعة كبيرة افضت امانينا الى لا شيء في فشل كنت انت سببه الأول والأخير.. غروري انا وكبرياؤك انت تعنتي انا وغطرستك انت. لكن الأهم من ذلك كله هو تلك الروح غير المتسامحة وغير الغافرة التي اتسمت بها مواقفنا ليتك كنت معي الان لتري بام عينيك ما يحيط بي من مظاهر الزهو والاعتزاز والاكبار.. هذه التظاهرة العلمية والثقافية المقامة على شرف تقديمي لرسالتي العلمية لكن عيوني ظلت طوال الوقت الذي بدا وكأنه دهر لا ينتهي ظلت عيناي مشدودة الى باب القاعة ولربما اختلست النظر بين الفينة والأخرى يمنة ويسرة متمعنا في وجوه الجالسين في مدرجات القاعة.. ثم اجلت ببصري الى الامام والحلف علني المسك طيفا لك.. باحثا عن الحاضرة – الغابئة بيد انك بكل اسف لم تكوني هناك لقد غابت عن المناسبة تلك العيون السود الواسعة التي افتقدت سهام نظراتها الثاقبة الموجهة لي باشياء واشياء من زمن بعيد.. وعلى المنصة التي انشغلت عنها لبعض الوقت باحثا عنك بدأ المناقشون في تقويم رسالتي فحمي الوطيس في التصدي لمضامين اطروحتي وتحليل ارائي وتجريح بعض ما ذهبت اليه وتثمين بعض طروحاتي واطراء بعض الملاحظات التي تقدمت بها.. لكن – صدقيني – صدقيني كانت كل وسائط الاتصال المتعلقة بي قد تعطلت من أوائل المناقشة وحتى انتهائها كنت كمن دخل في غيبوبة عميقة قطعت كل روابطه بالعالم الخارجي وعلى الرغم من انني كنت على اشد درجات التوتر والحساسية واليقظة.. في رصد كل كلمة او عبارة او تعليق نطق بها المناقشون بخصوص رسالتي، كانت دخائلي كلها تحوم في سماواتك الزرقاء.. لقد كانت عيوني واحاسيسي مفتوحة على الاخر.. انظر واسمع واكتب وارد مناقشا آراءهم.. كانت ردودي على اقتضابها علمية مقنعة بيد ان واديا من المفارقات يفصل بين العالمين يفك الاشتباك بين متداخلاتهما سألوني فأجبت وانتقدوني فدافعت وعندما اجدت في دفاعي عن رسالتي قوبلت بالتصفيق الحار وانا الغارق في بحور البحث عنك والتفكير بك.. فلم اصح الا على عبارة قصيرة جدا اشبه بالبرقية المشفرة من صوت جيب حنون.. مس شغاف قلبي بعمق صوت جاءني من الخلف.. صوت لم ترن في اذني نبراته لعقود يقول بعد ان انتهت المناقشة الناجحة يقول لي في همس محبب مبارك.. ذلك الصوت الحنون الذي افتقدت نبراته الاخاذة من زمن بعيد.. صوت ايقظني من سرحاني العميق فتمنيت ان أي شيء لم يكن فقمت تاركا الرسالة على المنصة والمناقشين والمهنئين والضيوف لاغادر القاعة على عجل وانا لا انوي على شيء.. لقد كان الجميع حاضرين الا انا فقد كنت الغائب الوحيد..