ظاهرة تستحق التعليل تلك التي تطالعنا عندما تقرأ عن حظوة الشاعر النصراني أبي مالك غياث بن غوت ، والشعر الذي هجا به الأنصار ن وتشبته بشرب الخمرة ووصفها ، وتفضيلها على ملك أمير المؤمنين .
وأظن أننا باستقراء الحوادث التاريخية وقصائد الأخطل بن عبد المالك ، نستطيع أن نجد نوعا من (الطبيعة) في هذه الظاهرة .. إلا أن سؤالا يفرض نفسه علينا ـ خاصة بعد الإطلاع على حياة عبد الملك بن مروان قبل خلافته وبعدها ـ وملاحظة التغير المتناقض الذي طرأ على نفسيته بعد أن تسلم الملك ـ .. هذا السؤال هو :
أيهما أقوى : الواقع أم المثل ؟ واقع الحياة وتحكم الظروف ، أم المثل التي ينسجها الإنسان بعيدا عن الفعل والعمل قبل أن ينغمر في دنيا الناس ؟
ومهما يكن الجواب عن هذا السؤال ـ ولعل هذا بعيد عن ميداننا ـ فإن علاقة عبد الملك بالشاعر النصراني هي في جوهرها تشخيص لأحدى الحالات التي ينتصر فيها الواقع على المثل .
نستطيع أن نتخيل عبد الملك بن مروان في بلاطه بدمشق ، مساء إحدى الأيام ، وقد تصدر المجلس ، وسمح للشعراء بالدخول ليسمعوه مديحهم .. وتقدم الأخطل فطلب منه عبد الملك أن ينشده فأجاب :
ـ يبست حلقي فمر من يسقيني
ـ اسقوه ماء
ـ شراب الحمار ، وهو عندنا كثير يا أمير المؤمنين
ـ فاسقوه لبنا
ـ عن اللبن فطمت
ـ شراب المريض
فقال عبد الملك وقد نفذ صبره : فتريد ماذا ؟
ـ خمرا يا أمير المؤمنين
ـ أو عاهدتني أسقي الخمر لا أم لك، لولا حرمتك بنا لفعلت بك وفعلت
ويستمر صاحب الأغاني فيقول : (فخرج ، فلقي فراشا لعبد الملك فقال : ويلك أن أمير المؤمنين استنشدني وقد ضحل صوتي ، فاسقني شربة خمر ، فسقاه فقال : أعدله بآخر فسقاه آخر فقال : تركتها يعتر كان بطني ، اسقني ثالثا فقال : تركتني امشي على واحدة ، أعدل ميلي رابع ، فسقاه رابعا ، فدخل على عبد الملك فأنشده :
خف القطين فراحوا منك أو بكروا
وأزعجتهم ثوى في صرفها غيـر
فقال عبد الملك ك خذ بيده يا غلام فأخرجه ، ثم ألق عليه من الخلع ما يغمره ، وأحسن جائزته ، وقال : إن لكل قوم شاعرا ، وإن شاعر بني أمية الأخطل) .
فما هي الظروف التي مكنت لشاعر مسيحي أن يطلب من أمير المؤمنين أن يسقيه خمرة في مجلسه ، والتي سمحت له «أن يجيء وعليه جبة خز وحرز حز ، في عنقه سلسلة ذهب ، تنفض لحيته خمرا حتى يدخل على عبد الملك بن مروان بغير إذن؟»
إن الجواب على هذا السؤال يقتضي منا الرجوع إلى التاريخ . وأول ما نلاحظه أن عبد الملك ثاني خليفة بعد انتقال الملك من فرع السفيانيين إلى المروانيين ، ويوم تسلم الخلافة كانت المعارضة على أشدها يقودها عبد الله بن الزبير في الحجاز ، وأطراف المملكة مهددة من طرف البيزنطيين والفرس .. وإذن فالبركان كان ينذر بالانفجار في كل حين ، فكانت الظروف تفرض على عيد الملك أن يعمل علة قمع كل معارضة ليعيد الطمأنينة إلى المملكة الفنية .. وفي مثل هذه الظروف تكون كل مساعدة يتقدم بها الآخرون مقبولة . وقد أبدت قبيلة تغلب استعدادها عبد الملك كما نضرت أباه في وقعة مرج رهط ، فقاومت معه الكيسيين (لأن ذلك يوافق مصالحها كما سنبين فيما بعد) وساعدته في القضاء على الثورات الداخلية . وقد حفظ لهم عبد الملك هذا الجميل ، فعاملهم معاملة حسنة ، وتسامح معهم في الناحية الدينية إلى أبعد حدود التسامح .
والأب لاما نس يعلل هذه الظاهرة بقوله : «يجب أن نعترف بأن هؤلاء الملوك (يقصد الأمويين) يظهرون في التاريخ الإسلامي كظاهرة تستحق التعليل ، فكل أجدادهم وأخبار عائلتهم تشارك لتجعل منهم مسلمين جد فاترين .. فأبو سفيان والد مؤسس هذه الملكية ، قد حارب محمدا حربا شعراء ، وأخر انتصار الإسلام عشرين سنة» .
فهو يرجع تسامح الأمويين مع القبائل المسيحية إلى كون تاريخهم القديم موصوما بالمعارضة الشديدة للإسلام وإلى أن أثر ذلك كامنا حتى ظهر حينما تقلدوا أمور الحكم ..
وأرى أن هذا التفسير غير مقنع ، فقد يكون من العقول أن يعارض أبو سفيان النبي في أول دعوته ، لأنه أتى بعقيدة جديدة ، والعربي أشد ما يكون إخلاصا لتقاليده ومعتقداته ، فمقاومته لدعوة الني في أول الأمر كانت رد فعل ، وأرى أن موقف الأمويين من المسحيين فرضته عليهم ظروف خاصة يمكن أن يوضحها لنا موقف عبد الملك فقد كان قبل أن يتولى الخلافة في منتهى التقوى والتعبد كما كتب عنه ابن الطقطقي في كتابه «الفخري» : (وكان عبد الملك قبل الخلافة أحد فقهاء المدينة ، وكان يسمى حمامة المسجد لمداومته تلاوة القرآن ، فلما مات أبوه وبشر بالخلافة أطبق المصحف وقال : هذا فراق بيني وبينك ، وتصدى لأمور الدنيا) .
فنحن نرى أنه كان متدينا قبل أن يتولى الخلافة ولكن «أمور الدنيا» وأعباء الحكم هي التي صرفته عن تقواه .
ومما يؤكد هذا ما رواه صاحب كتاب الفخري أيضا (ومن طريف ما وقع في ذلك أن عبد الملك ، لما أرسل يزيد بن معاوية الجيش لقتال أهل المدينة وغزو الكعبة ، امتعض عبد الملك من ذلك غاية الامتعاض وقال ليت أطبقت على الأرض . فلما صار خليفة فعل ذلك وأشد منه ، فإنه أرسل الحجاج لحصار ابن الزبير وغزو مكة) .
فهذا يدلنا على تغير في شخصية عبد الملك ، منشأه الظروف الجديدة التي أصبحت تحيط به : فهو جالس على عرش مهزوز، وفي سبيل تدعيم أركانه استباح أن يهاجم الكعبة التي هي أعظم رمز عند المسلمين .
سبب آخر جعل (لتغلب) وشاعرها الخطوة عند عبد الملك .. ذلك أن مهمة الشعر في هذه العصور كانت بالغة الأهمية ، تشبه بحق ـ كما عبر عن ذلك أحد المستشرقين ـ الصحافة في أيامنا ، فالشعر هو الذي يسجل مآثر الخليفة ويشيد بخصاله ، فتطير شهرتها في كل البقاع . وعبد الملك كان في أمس الحاجة إلى شاعر يذيع بين الناس أنه أحق بالخلافة من غيره ، وأنه أصلح لها من منافسيه . ولعل مسيحية الأخطل كانت تعد ميزة عند ملوك بني أمية ، لأن ذلك مما يساعدهم على مهاجمة أهل البيت والأنصار ـ خصومهم ـ الأمر الذي لا يجسر عليه شاعر مسلم ، وهجاء الأخطل للأنصار مشهور ، خاصة البيت الذي يقول فيه :
ذهبت قريش بالمكارم والعلي
واللؤم تحت عمائم الأنصـار
يضاف إلى هذا أن الفرزدق وجريرا وهما أبرز شعراء ذلك العصر ، كانا موضع إهمال من عبد الملك (الفرزدق مغرور شديد الاعتداد بنفسه ، تياه بنسبه ، وعهد الأمويين بتطاوله على معاوية بن أبي سفيان ليس ببعيد ، وقد شغل إلى ذلك بمدح ولاة العراق وهجائهم واستنفدت مفاخر قومه مجهوده الشعري ، واستغرقت مصالح تميم نشاطه السياسي ، فلم يفد على عبد الملك طول خلافته ، واكتفى بمدحه في بعض شعره الذي يمثل صلته ببعض العمال ن فلا جرم وقد ابتعد هذا الشاعر الكبير عن مقر الخلافة أن يزداد نجم الأخطل تألقا وبزوغا . أما جرير فكان عبد الملك غاضبا عليه لأن قومه بني يربوع كانوا من دعاة ابن الزبير ، ولأنه كان يدافع عن القياسية في شعره ويتغنى بانتصاراتهم ويؤيدهم فيما قاموا به من حروب . وزاد عبد الملك نفورا منه ، أنه بالغ في مدح الحجاج مبالغة ضؤلت معها شخصية عبد الملك ، حتى تبدى الحجاج وكأنه ملك متوج على العراق ، لا وال من قبل الخليفة بالشام).
وإذا انتقلنا إلى تاريخ قبيلة (تغلب) في هذه الفترة ، نجد أن علاقتها بقيس قد ساءت عندما أخذ رجال عمر بن الحباب يستأوون جوارا تغلب ، ولا يحترمون شيوخهم ، ويستعدون على قطعان مواشيهم .. وعندما كانوا يقدمون شكاتهم إلى (زفر) كان يرفض مطالبهم ، ثم أسفر عن نيته فدعاهم إلى الدخول في طاعة ابن الزبير ..
ولما كان الدافع لتحالف تغلب مع قيس هو دافع العصبية القبلية والمصالح المادية ، فقد رأت تغلب في دعوة زفر ما يضر بمصالحها مرتبطة بالشام ، وكذلك موقعها إلهام من حيث الطرق التجارية المؤدية إلى الهند .
وكان رفض تغلب لعرض زفر بن الحارث ، سببا في سلسلة من المعارك خسرت فيها تغلب الكثير من الرجال والأموال ، وواضح أن هذه الحرب بين القبيلتين كانت في صالح الأمويين ، فقد أتاحت الفرصة لعبد الملك لأن يتهيأ وبجمع عدده . وكانت أولى خطواته محاصرة القيسيين في (قرقيسياء) ثم حاول أن يقيم صلحا بين القبيلتين ، ولكنه لم يكن سوى صلح مؤقت يخرق كلما عاود إحدى القبيلتين حنينها إلى الانتقام:
فقد ينبت المرعي على دمن الثرى
وتبقى حزازات النفوس كما هيـا
بعد أن عرفنا الظروف التي كانت تحيط بالخليفة عبد الملك وبالقبيلة المسيحية ، ننتقل إلى شعر الأخطل لنرى مدى تأثير ذلك فيه .
أول ما نلاحظه أن الشعر الذي قاله الأخطل في عبد الملك لا يتجاوز ثلاث قصائد وبعض المقطوعات التي قالها في المناسبات .. وهو شعر قليل بالنسبة إلى ما كان يغدقه عبد الملك على الأخطل ، وبالنسبة إلى الزمن الذي استمرت فيه علاقتهما .
والقصائد حسب ترتيب الدكتور مصطفى غازي كما يلي :
إلا يا اسلمي يا هند بني بــدر
وإن كان حيانا عدى آخر الدهر
ثم تليها قصيدته المشهورة التي ادعى أنه انفق سنة في نظمها :
خف القطين فراحوا منك أو بكروا
وأزعـجتهم نوى في صرفها غير
ثم القصيدة الثالثة :
لعمري لقد أسريت لا ليل عاجز
بساهمة الخدين طاوية القـرب
والطابع العام لكل من هذه القصائد يظهر في أربعة أغراض :
1) الاستهلال بالغزل ووصف الخمر
2) مدح الخليفة وذكر أعماله
3) الافتخار بقبيلته تغلب وبتأييدها للأمويين
4) هجاء قيس والقبائل الموالية لها أو هجاء جرير .
والأخطل في مدحه لعبد الملك يقرر ـ قبل كل شيء ـ تأييد الله له وجعله خليفة في الأرض:
إلى امرئ لا تعرينا نوافـــله
أظفره الله فليهنا لـه الظـــفر
الخائض الغمر والميمون طائرة
خليفة الله يستسقي بــه المطر
والمستمر به أمر الجميع فــما
يغتره بعد توكيد لــــه غرر
وينتقل بعد ذلك إلى وصفه بالكرم ، فيأتي بصورة الفرات عندما تجيش أمواجه ، وينطلق سريعا من جبال الروم ، ويؤكد بأن الفرات بصورته هذه ليس أجود من عبد الملك ولا أروع منه .. ثم يبين بلاء عبد الملك وقضاءه على عصيان أهل العراق :
ثم استقل بأثقال العراق وقد
كانت له نقمة فيهم ومدخـر
حتى إذا ما انتهى من شخص عبد الملك ، انتقل إلى مدح بني أمية عموما ، فنجده يحشد الصفات الكريمة التي كان العرب يعتزون بها :
حشد على الحق عيافو الخنا أنف
إذا ألمت بهم مكروهة صبــروا
وأن تدجت على الآفاق مظلمـة
كان لهم مخرج منها ومعتصـر
أعطاهم الله جدا ينصرون بـه
لا جد إلا صغير بعد محتــقر
شمس العداوة حتى يستقاد لهـم
وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا
وعند هذا الحد يلتفت إلى قبيلته ليذكر دورها في تأييد بني أمية عامة وعبد الملك بخاصة :
بني أمية قد ناضلت دونكـــــم
أبناء قوم هم آووا وهم نصـــروا
أفحمت عنكم بني النجار قد عملـت
عليا معد وكانوا طالما نصـــروا
حتى استكانوا وهم مني على مضض
والقول ينفذ ما لا تنفذ الإبـــــر
بني أمية أني ناصـــح لكـــم
فلا يبتن فيكم آمــــنا زفـــر
واتخذوه عـــدوا أن شاهـــده
وما تغيب من أخـــلاقه دعــر
إن الضغينة تلقاها وأن قدمــــت
كالعز يمكن حينا ثــم ينتشـــر
وقد نصرت أميــــر المؤمنين بنا
لما أتاك ببطن الغوطة الخبــــر
فهو يدل على الملك بهجائه للأنصار أيام معاوية رغم حرمتهم وما كاد يتعرض له من الأذى ، ثم يتطرق ـ في نبرة قوية ـ إلى نصح بني أمية بإبعاد عدو قبيلته (زفر) لأنه لا يؤمن له بجانب .. كما يشير إلى وقوف قبيلته بجانبه عندما أتاه خبر توليته بالغوطة .. وقبل أن يختم قصيدته عرج على جرير وقومه فاصلاهم من لسانه هجاء مرا لأنهم يدافعون عن القيسية :
أما كليب بن يربوع فليس لهــم
عند التقارط إيراد ولا صـــدر
مخلفون ويقضى النــاس أمرهم
وهم بغيب وفي عمـياء ما شعروا
الآكلون خبـــيث الزاد وحدهم
والسائلون بظـهر الغيب ما الخبر
صفر اللحي من وقود الادخنات إذا
رد الرفاد وكف الحالب القــرر
ثم الإياب إلى سود مدنســــة
ما يستحسن إذا ما احتكرت النقر
وأقسم بطن المجد حقا لا يحالفهم
حتى يحالف بطن الراحة الشـعر
وهذا التقسيم الذي اتبعه الأخطل في هذه القصيدة يكاد يتكرر في القصيدتين الثانيتين :
فهو في قصيدة ¬«إلا يا اسلمي يا هند» بختمها بمدح قبيلته :
تخل ابن صفار فلا تذكر العـلا
ولا تذكرن حيات قومك في الذكر
فقد نهضــــت للتغلبيـين حية
كحية موســى يوم أيد بالنصر
وهكذا كان شعر الأخطل في عبد الملك توفيقا بين مصالح الدولة الأموية ، وبين مصالح قبيلته تغلب ، فلم يدع فرصة تمر دون أن يندد بأعداء القبيلة ، بالأعمال الوحشية التي انزلوها بها ، ويلتمس من الخليفة أن يأخذ لهم ثأرهم .. ومن ناحية أخرى كان بتوخي في مدحه أن يثبت شرعية خلافه بني أمية ، لأنهم خففوا القيود التي فرضها عمر على المسحيين من قبل ، ولأن التغلبيين عرفوا في عهدهم تسامحا دينيا بعيد المدى .
والذي يؤكد لنا أن حسن العلاقة بين عبد الملك والأخطل كان سببه الرئيسي تلاقي مصالح الخليفة مع مصالح القبيلة ، هو ما تراه من تحول في معاملة الوليد بن عبد الملك للتغلبيين ،الأمر الذي جعل مدح الأخطل يأتي في نغمة ذليلة :
وقد حلفت يمـــينا غير كاذبة
بالله رب ستور البيت ذي الحجب
وكل موف بنـــدر كان يحمله
مضرج بدماء البــدن مختضب
إن الوليد أمين الله أنــــقذني
وكان حصنا إلى متجاته هربـي
ذكر أن الوليد غير أن الوليد غير معاملته مع النصارى فنزع من نصارى الشام كنيستهم في دمشق وحولها إلى الجامع الأموي .. فالحالة في عهد الوليد تختلف عن عهد أبيه ، فقد استقرت أمور الدولة الداخلية وقوي نفوذها في الخارج ، فكان من مصلحته أن يتشدد مع المسحيين حتى يكسب ولاء المسلمين في الأقطار التي كانت تناوئ بني أمية من قبل .
أما عن القيمة الفنية لمدائح الأخطل في عبد الملك فيجب أن نسجل الملاحظة التي أبدأها أحد المستشرقين عن الناحية الشكلية للشعر العربي بعد الجاهلية حين قال ما ترجمته :
«إن قاعدة الوحدات الثلاث (يقصد الزمن والمكان والعمل في المسرحية) لم يقيد كتاب التراجيديا الفرنسيين للقرن السابع عشر ، يمثل القيود التي كبلت بها الأشكال المختلفة عن العصر الجاهلي ، الأدباء العرب للعهد الخليفي».
فلا شيء في الشكل ـ عند الأخطل ومعاصريه ـ اختلف عن الجاهلية لا من حيث الأوزان ولا من حيث الأسلوب .. والتجديد الذي طرأ على الشعر الأموي منحصر في بعض نواحي المضمون ، وفي استعمال ألفاظ جديدة ، وذلك نتيجة للتغيرات الاجتماعية والدينية والسياسية التي تعرض لها المجتمع العربي
فنحن نجد الأخطل يصور الصراع الذي كان قائما بين الأمويين والزبيريين ، وتعبئة عبد الملك للجهود ، حتى أخمد نار الفتنة في العراق وقضى على الروم :
وفي كل عام منك للروم غـزوة
بعيدة آثار السنابك والســرب
يطرحن بالثغر السخال كأنمـا
يشققن بالأشياء أردية العصـب
كما استطاع أن يدافع عن حق الأمويين في الخلافة فربطه بالجهود التي بذلوها للأخذ بثأر عثمان ، وأغدق عليهم صفات تجعلهم أهلا لتدبير شؤون المسلمين،والأخطل متأثر بالشعر الجاهلي يتتبع خطواته ويتمسك برصانته ، وقد لا حظ ذلك أبو عبيدة فقال : «الأخطل أشبه بالجاهلية ، وأشدهم أسر شعر ، وأقلهم سقطا» وكان متأثرا خاصة بالنابغة الذبياني ، وعنه أخذ الاستدارة في قول النابغة :
فما الفرات إذا الرياح لـــــه
ترمي غواربه العبــرين بالزبد
يمده كل واد منوع لجـــــب
فيه ركام من الينبوت والـخضـد
يظل من خوفه المـلاح معتصـما
بالخيزرانة بــعد الاين والنـجد
يومــا بأجود منه سبب نــافلة
ولا يحول عطاء اليوم دون غـد
على أن للأخطل ميزاته الخاصة ، مثل التأني في صياغة قصائده ، وتجويدها ، والاهتمام بالمقدمات والاستطراد الوصفي ..
من كل ما تقدم نرى أن الحظوة التي كانت لتغلب وشاعرها عند عبد الملك ، لم يكن سببها ما عرف به الأمويون من معارضة للرسول في أول دعوته ، أو ما أشبع عنهم من رقة إسلامهم .. وإنما كانت أول دعوته ، أما أشيع عنهم من رقة إسلامهم .. وإنما كانت هناك مصالح وظروف دفعت الأمويين عامة وعبد الملك خاصة إلى تسامح مع التغلبيين في ديانتهم ، وإن يهتم بشؤونهم ليظلوا مساندين له .. والأخطل عرف ذلك فأصبح بمثابة السفير لقومه في بلاط عبد الملك ، ينافح عن مصالحهم ، ويهدد أعداءهم ، وأعانته على تأدية مهمته مقدرة فنية جعلته أحد أركان الثالوث الشعري المشهور في ذلك العصر .
محمد برادة
15 العدد
وأظن أننا باستقراء الحوادث التاريخية وقصائد الأخطل بن عبد المالك ، نستطيع أن نجد نوعا من (الطبيعة) في هذه الظاهرة .. إلا أن سؤالا يفرض نفسه علينا ـ خاصة بعد الإطلاع على حياة عبد الملك بن مروان قبل خلافته وبعدها ـ وملاحظة التغير المتناقض الذي طرأ على نفسيته بعد أن تسلم الملك ـ .. هذا السؤال هو :
أيهما أقوى : الواقع أم المثل ؟ واقع الحياة وتحكم الظروف ، أم المثل التي ينسجها الإنسان بعيدا عن الفعل والعمل قبل أن ينغمر في دنيا الناس ؟
ومهما يكن الجواب عن هذا السؤال ـ ولعل هذا بعيد عن ميداننا ـ فإن علاقة عبد الملك بالشاعر النصراني هي في جوهرها تشخيص لأحدى الحالات التي ينتصر فيها الواقع على المثل .
نستطيع أن نتخيل عبد الملك بن مروان في بلاطه بدمشق ، مساء إحدى الأيام ، وقد تصدر المجلس ، وسمح للشعراء بالدخول ليسمعوه مديحهم .. وتقدم الأخطل فطلب منه عبد الملك أن ينشده فأجاب :
ـ يبست حلقي فمر من يسقيني
ـ اسقوه ماء
ـ شراب الحمار ، وهو عندنا كثير يا أمير المؤمنين
ـ فاسقوه لبنا
ـ عن اللبن فطمت
ـ شراب المريض
فقال عبد الملك وقد نفذ صبره : فتريد ماذا ؟
ـ خمرا يا أمير المؤمنين
ـ أو عاهدتني أسقي الخمر لا أم لك، لولا حرمتك بنا لفعلت بك وفعلت
ويستمر صاحب الأغاني فيقول : (فخرج ، فلقي فراشا لعبد الملك فقال : ويلك أن أمير المؤمنين استنشدني وقد ضحل صوتي ، فاسقني شربة خمر ، فسقاه فقال : أعدله بآخر فسقاه آخر فقال : تركتها يعتر كان بطني ، اسقني ثالثا فقال : تركتني امشي على واحدة ، أعدل ميلي رابع ، فسقاه رابعا ، فدخل على عبد الملك فأنشده :
خف القطين فراحوا منك أو بكروا
وأزعجتهم ثوى في صرفها غيـر
فقال عبد الملك ك خذ بيده يا غلام فأخرجه ، ثم ألق عليه من الخلع ما يغمره ، وأحسن جائزته ، وقال : إن لكل قوم شاعرا ، وإن شاعر بني أمية الأخطل) .
فما هي الظروف التي مكنت لشاعر مسيحي أن يطلب من أمير المؤمنين أن يسقيه خمرة في مجلسه ، والتي سمحت له «أن يجيء وعليه جبة خز وحرز حز ، في عنقه سلسلة ذهب ، تنفض لحيته خمرا حتى يدخل على عبد الملك بن مروان بغير إذن؟»
إن الجواب على هذا السؤال يقتضي منا الرجوع إلى التاريخ . وأول ما نلاحظه أن عبد الملك ثاني خليفة بعد انتقال الملك من فرع السفيانيين إلى المروانيين ، ويوم تسلم الخلافة كانت المعارضة على أشدها يقودها عبد الله بن الزبير في الحجاز ، وأطراف المملكة مهددة من طرف البيزنطيين والفرس .. وإذن فالبركان كان ينذر بالانفجار في كل حين ، فكانت الظروف تفرض على عيد الملك أن يعمل علة قمع كل معارضة ليعيد الطمأنينة إلى المملكة الفنية .. وفي مثل هذه الظروف تكون كل مساعدة يتقدم بها الآخرون مقبولة . وقد أبدت قبيلة تغلب استعدادها عبد الملك كما نضرت أباه في وقعة مرج رهط ، فقاومت معه الكيسيين (لأن ذلك يوافق مصالحها كما سنبين فيما بعد) وساعدته في القضاء على الثورات الداخلية . وقد حفظ لهم عبد الملك هذا الجميل ، فعاملهم معاملة حسنة ، وتسامح معهم في الناحية الدينية إلى أبعد حدود التسامح .
والأب لاما نس يعلل هذه الظاهرة بقوله : «يجب أن نعترف بأن هؤلاء الملوك (يقصد الأمويين) يظهرون في التاريخ الإسلامي كظاهرة تستحق التعليل ، فكل أجدادهم وأخبار عائلتهم تشارك لتجعل منهم مسلمين جد فاترين .. فأبو سفيان والد مؤسس هذه الملكية ، قد حارب محمدا حربا شعراء ، وأخر انتصار الإسلام عشرين سنة» .
فهو يرجع تسامح الأمويين مع القبائل المسيحية إلى كون تاريخهم القديم موصوما بالمعارضة الشديدة للإسلام وإلى أن أثر ذلك كامنا حتى ظهر حينما تقلدوا أمور الحكم ..
وأرى أن هذا التفسير غير مقنع ، فقد يكون من العقول أن يعارض أبو سفيان النبي في أول دعوته ، لأنه أتى بعقيدة جديدة ، والعربي أشد ما يكون إخلاصا لتقاليده ومعتقداته ، فمقاومته لدعوة الني في أول الأمر كانت رد فعل ، وأرى أن موقف الأمويين من المسحيين فرضته عليهم ظروف خاصة يمكن أن يوضحها لنا موقف عبد الملك فقد كان قبل أن يتولى الخلافة في منتهى التقوى والتعبد كما كتب عنه ابن الطقطقي في كتابه «الفخري» : (وكان عبد الملك قبل الخلافة أحد فقهاء المدينة ، وكان يسمى حمامة المسجد لمداومته تلاوة القرآن ، فلما مات أبوه وبشر بالخلافة أطبق المصحف وقال : هذا فراق بيني وبينك ، وتصدى لأمور الدنيا) .
فنحن نرى أنه كان متدينا قبل أن يتولى الخلافة ولكن «أمور الدنيا» وأعباء الحكم هي التي صرفته عن تقواه .
ومما يؤكد هذا ما رواه صاحب كتاب الفخري أيضا (ومن طريف ما وقع في ذلك أن عبد الملك ، لما أرسل يزيد بن معاوية الجيش لقتال أهل المدينة وغزو الكعبة ، امتعض عبد الملك من ذلك غاية الامتعاض وقال ليت أطبقت على الأرض . فلما صار خليفة فعل ذلك وأشد منه ، فإنه أرسل الحجاج لحصار ابن الزبير وغزو مكة) .
فهذا يدلنا على تغير في شخصية عبد الملك ، منشأه الظروف الجديدة التي أصبحت تحيط به : فهو جالس على عرش مهزوز، وفي سبيل تدعيم أركانه استباح أن يهاجم الكعبة التي هي أعظم رمز عند المسلمين .
سبب آخر جعل (لتغلب) وشاعرها الخطوة عند عبد الملك .. ذلك أن مهمة الشعر في هذه العصور كانت بالغة الأهمية ، تشبه بحق ـ كما عبر عن ذلك أحد المستشرقين ـ الصحافة في أيامنا ، فالشعر هو الذي يسجل مآثر الخليفة ويشيد بخصاله ، فتطير شهرتها في كل البقاع . وعبد الملك كان في أمس الحاجة إلى شاعر يذيع بين الناس أنه أحق بالخلافة من غيره ، وأنه أصلح لها من منافسيه . ولعل مسيحية الأخطل كانت تعد ميزة عند ملوك بني أمية ، لأن ذلك مما يساعدهم على مهاجمة أهل البيت والأنصار ـ خصومهم ـ الأمر الذي لا يجسر عليه شاعر مسلم ، وهجاء الأخطل للأنصار مشهور ، خاصة البيت الذي يقول فيه :
ذهبت قريش بالمكارم والعلي
واللؤم تحت عمائم الأنصـار
يضاف إلى هذا أن الفرزدق وجريرا وهما أبرز شعراء ذلك العصر ، كانا موضع إهمال من عبد الملك (الفرزدق مغرور شديد الاعتداد بنفسه ، تياه بنسبه ، وعهد الأمويين بتطاوله على معاوية بن أبي سفيان ليس ببعيد ، وقد شغل إلى ذلك بمدح ولاة العراق وهجائهم واستنفدت مفاخر قومه مجهوده الشعري ، واستغرقت مصالح تميم نشاطه السياسي ، فلم يفد على عبد الملك طول خلافته ، واكتفى بمدحه في بعض شعره الذي يمثل صلته ببعض العمال ن فلا جرم وقد ابتعد هذا الشاعر الكبير عن مقر الخلافة أن يزداد نجم الأخطل تألقا وبزوغا . أما جرير فكان عبد الملك غاضبا عليه لأن قومه بني يربوع كانوا من دعاة ابن الزبير ، ولأنه كان يدافع عن القياسية في شعره ويتغنى بانتصاراتهم ويؤيدهم فيما قاموا به من حروب . وزاد عبد الملك نفورا منه ، أنه بالغ في مدح الحجاج مبالغة ضؤلت معها شخصية عبد الملك ، حتى تبدى الحجاج وكأنه ملك متوج على العراق ، لا وال من قبل الخليفة بالشام).
وإذا انتقلنا إلى تاريخ قبيلة (تغلب) في هذه الفترة ، نجد أن علاقتها بقيس قد ساءت عندما أخذ رجال عمر بن الحباب يستأوون جوارا تغلب ، ولا يحترمون شيوخهم ، ويستعدون على قطعان مواشيهم .. وعندما كانوا يقدمون شكاتهم إلى (زفر) كان يرفض مطالبهم ، ثم أسفر عن نيته فدعاهم إلى الدخول في طاعة ابن الزبير ..
ولما كان الدافع لتحالف تغلب مع قيس هو دافع العصبية القبلية والمصالح المادية ، فقد رأت تغلب في دعوة زفر ما يضر بمصالحها مرتبطة بالشام ، وكذلك موقعها إلهام من حيث الطرق التجارية المؤدية إلى الهند .
وكان رفض تغلب لعرض زفر بن الحارث ، سببا في سلسلة من المعارك خسرت فيها تغلب الكثير من الرجال والأموال ، وواضح أن هذه الحرب بين القبيلتين كانت في صالح الأمويين ، فقد أتاحت الفرصة لعبد الملك لأن يتهيأ وبجمع عدده . وكانت أولى خطواته محاصرة القيسيين في (قرقيسياء) ثم حاول أن يقيم صلحا بين القبيلتين ، ولكنه لم يكن سوى صلح مؤقت يخرق كلما عاود إحدى القبيلتين حنينها إلى الانتقام:
فقد ينبت المرعي على دمن الثرى
وتبقى حزازات النفوس كما هيـا
بعد أن عرفنا الظروف التي كانت تحيط بالخليفة عبد الملك وبالقبيلة المسيحية ، ننتقل إلى شعر الأخطل لنرى مدى تأثير ذلك فيه .
أول ما نلاحظه أن الشعر الذي قاله الأخطل في عبد الملك لا يتجاوز ثلاث قصائد وبعض المقطوعات التي قالها في المناسبات .. وهو شعر قليل بالنسبة إلى ما كان يغدقه عبد الملك على الأخطل ، وبالنسبة إلى الزمن الذي استمرت فيه علاقتهما .
والقصائد حسب ترتيب الدكتور مصطفى غازي كما يلي :
إلا يا اسلمي يا هند بني بــدر
وإن كان حيانا عدى آخر الدهر
ثم تليها قصيدته المشهورة التي ادعى أنه انفق سنة في نظمها :
خف القطين فراحوا منك أو بكروا
وأزعـجتهم نوى في صرفها غير
ثم القصيدة الثالثة :
لعمري لقد أسريت لا ليل عاجز
بساهمة الخدين طاوية القـرب
والطابع العام لكل من هذه القصائد يظهر في أربعة أغراض :
1) الاستهلال بالغزل ووصف الخمر
2) مدح الخليفة وذكر أعماله
3) الافتخار بقبيلته تغلب وبتأييدها للأمويين
4) هجاء قيس والقبائل الموالية لها أو هجاء جرير .
والأخطل في مدحه لعبد الملك يقرر ـ قبل كل شيء ـ تأييد الله له وجعله خليفة في الأرض:
إلى امرئ لا تعرينا نوافـــله
أظفره الله فليهنا لـه الظـــفر
الخائض الغمر والميمون طائرة
خليفة الله يستسقي بــه المطر
والمستمر به أمر الجميع فــما
يغتره بعد توكيد لــــه غرر
وينتقل بعد ذلك إلى وصفه بالكرم ، فيأتي بصورة الفرات عندما تجيش أمواجه ، وينطلق سريعا من جبال الروم ، ويؤكد بأن الفرات بصورته هذه ليس أجود من عبد الملك ولا أروع منه .. ثم يبين بلاء عبد الملك وقضاءه على عصيان أهل العراق :
ثم استقل بأثقال العراق وقد
كانت له نقمة فيهم ومدخـر
حتى إذا ما انتهى من شخص عبد الملك ، انتقل إلى مدح بني أمية عموما ، فنجده يحشد الصفات الكريمة التي كان العرب يعتزون بها :
حشد على الحق عيافو الخنا أنف
إذا ألمت بهم مكروهة صبــروا
وأن تدجت على الآفاق مظلمـة
كان لهم مخرج منها ومعتصـر
أعطاهم الله جدا ينصرون بـه
لا جد إلا صغير بعد محتــقر
شمس العداوة حتى يستقاد لهـم
وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا
وعند هذا الحد يلتفت إلى قبيلته ليذكر دورها في تأييد بني أمية عامة وعبد الملك بخاصة :
بني أمية قد ناضلت دونكـــــم
أبناء قوم هم آووا وهم نصـــروا
أفحمت عنكم بني النجار قد عملـت
عليا معد وكانوا طالما نصـــروا
حتى استكانوا وهم مني على مضض
والقول ينفذ ما لا تنفذ الإبـــــر
بني أمية أني ناصـــح لكـــم
فلا يبتن فيكم آمــــنا زفـــر
واتخذوه عـــدوا أن شاهـــده
وما تغيب من أخـــلاقه دعــر
إن الضغينة تلقاها وأن قدمــــت
كالعز يمكن حينا ثــم ينتشـــر
وقد نصرت أميــــر المؤمنين بنا
لما أتاك ببطن الغوطة الخبــــر
فهو يدل على الملك بهجائه للأنصار أيام معاوية رغم حرمتهم وما كاد يتعرض له من الأذى ، ثم يتطرق ـ في نبرة قوية ـ إلى نصح بني أمية بإبعاد عدو قبيلته (زفر) لأنه لا يؤمن له بجانب .. كما يشير إلى وقوف قبيلته بجانبه عندما أتاه خبر توليته بالغوطة .. وقبل أن يختم قصيدته عرج على جرير وقومه فاصلاهم من لسانه هجاء مرا لأنهم يدافعون عن القيسية :
أما كليب بن يربوع فليس لهــم
عند التقارط إيراد ولا صـــدر
مخلفون ويقضى النــاس أمرهم
وهم بغيب وفي عمـياء ما شعروا
الآكلون خبـــيث الزاد وحدهم
والسائلون بظـهر الغيب ما الخبر
صفر اللحي من وقود الادخنات إذا
رد الرفاد وكف الحالب القــرر
ثم الإياب إلى سود مدنســــة
ما يستحسن إذا ما احتكرت النقر
وأقسم بطن المجد حقا لا يحالفهم
حتى يحالف بطن الراحة الشـعر
وهذا التقسيم الذي اتبعه الأخطل في هذه القصيدة يكاد يتكرر في القصيدتين الثانيتين :
فهو في قصيدة ¬«إلا يا اسلمي يا هند» بختمها بمدح قبيلته :
تخل ابن صفار فلا تذكر العـلا
ولا تذكرن حيات قومك في الذكر
فقد نهضــــت للتغلبيـين حية
كحية موســى يوم أيد بالنصر
وهكذا كان شعر الأخطل في عبد الملك توفيقا بين مصالح الدولة الأموية ، وبين مصالح قبيلته تغلب ، فلم يدع فرصة تمر دون أن يندد بأعداء القبيلة ، بالأعمال الوحشية التي انزلوها بها ، ويلتمس من الخليفة أن يأخذ لهم ثأرهم .. ومن ناحية أخرى كان بتوخي في مدحه أن يثبت شرعية خلافه بني أمية ، لأنهم خففوا القيود التي فرضها عمر على المسحيين من قبل ، ولأن التغلبيين عرفوا في عهدهم تسامحا دينيا بعيد المدى .
والذي يؤكد لنا أن حسن العلاقة بين عبد الملك والأخطل كان سببه الرئيسي تلاقي مصالح الخليفة مع مصالح القبيلة ، هو ما تراه من تحول في معاملة الوليد بن عبد الملك للتغلبيين ،الأمر الذي جعل مدح الأخطل يأتي في نغمة ذليلة :
وقد حلفت يمـــينا غير كاذبة
بالله رب ستور البيت ذي الحجب
وكل موف بنـــدر كان يحمله
مضرج بدماء البــدن مختضب
إن الوليد أمين الله أنــــقذني
وكان حصنا إلى متجاته هربـي
ذكر أن الوليد غير أن الوليد غير معاملته مع النصارى فنزع من نصارى الشام كنيستهم في دمشق وحولها إلى الجامع الأموي .. فالحالة في عهد الوليد تختلف عن عهد أبيه ، فقد استقرت أمور الدولة الداخلية وقوي نفوذها في الخارج ، فكان من مصلحته أن يتشدد مع المسحيين حتى يكسب ولاء المسلمين في الأقطار التي كانت تناوئ بني أمية من قبل .
أما عن القيمة الفنية لمدائح الأخطل في عبد الملك فيجب أن نسجل الملاحظة التي أبدأها أحد المستشرقين عن الناحية الشكلية للشعر العربي بعد الجاهلية حين قال ما ترجمته :
«إن قاعدة الوحدات الثلاث (يقصد الزمن والمكان والعمل في المسرحية) لم يقيد كتاب التراجيديا الفرنسيين للقرن السابع عشر ، يمثل القيود التي كبلت بها الأشكال المختلفة عن العصر الجاهلي ، الأدباء العرب للعهد الخليفي».
فلا شيء في الشكل ـ عند الأخطل ومعاصريه ـ اختلف عن الجاهلية لا من حيث الأوزان ولا من حيث الأسلوب .. والتجديد الذي طرأ على الشعر الأموي منحصر في بعض نواحي المضمون ، وفي استعمال ألفاظ جديدة ، وذلك نتيجة للتغيرات الاجتماعية والدينية والسياسية التي تعرض لها المجتمع العربي
فنحن نجد الأخطل يصور الصراع الذي كان قائما بين الأمويين والزبيريين ، وتعبئة عبد الملك للجهود ، حتى أخمد نار الفتنة في العراق وقضى على الروم :
وفي كل عام منك للروم غـزوة
بعيدة آثار السنابك والســرب
يطرحن بالثغر السخال كأنمـا
يشققن بالأشياء أردية العصـب
كما استطاع أن يدافع عن حق الأمويين في الخلافة فربطه بالجهود التي بذلوها للأخذ بثأر عثمان ، وأغدق عليهم صفات تجعلهم أهلا لتدبير شؤون المسلمين،والأخطل متأثر بالشعر الجاهلي يتتبع خطواته ويتمسك برصانته ، وقد لا حظ ذلك أبو عبيدة فقال : «الأخطل أشبه بالجاهلية ، وأشدهم أسر شعر ، وأقلهم سقطا» وكان متأثرا خاصة بالنابغة الذبياني ، وعنه أخذ الاستدارة في قول النابغة :
فما الفرات إذا الرياح لـــــه
ترمي غواربه العبــرين بالزبد
يمده كل واد منوع لجـــــب
فيه ركام من الينبوت والـخضـد
يظل من خوفه المـلاح معتصـما
بالخيزرانة بــعد الاين والنـجد
يومــا بأجود منه سبب نــافلة
ولا يحول عطاء اليوم دون غـد
على أن للأخطل ميزاته الخاصة ، مثل التأني في صياغة قصائده ، وتجويدها ، والاهتمام بالمقدمات والاستطراد الوصفي ..
من كل ما تقدم نرى أن الحظوة التي كانت لتغلب وشاعرها عند عبد الملك ، لم يكن سببها ما عرف به الأمويون من معارضة للرسول في أول دعوته ، أو ما أشبع عنهم من رقة إسلامهم .. وإنما كانت أول دعوته ، أما أشيع عنهم من رقة إسلامهم .. وإنما كانت هناك مصالح وظروف دفعت الأمويين عامة وعبد الملك خاصة إلى تسامح مع التغلبيين في ديانتهم ، وإن يهتم بشؤونهم ليظلوا مساندين له .. والأخطل عرف ذلك فأصبح بمثابة السفير لقومه في بلاط عبد الملك ، ينافح عن مصالحهم ، ويهدد أعداءهم ، وأعانته على تأدية مهمته مقدرة فنية جعلته أحد أركان الثالوث الشعري المشهور في ذلك العصر .
محمد برادة
15 العدد