جزء من الفصل الأخير من الجزء الأول من ملحمة "الملك لقمان"
..وما أن جففت أجساد الأطفال وخلعت عليهم أجمل الملابس حتّى تقدّم الملك
لُقمان من طفلة فائقة الجمال في حدود الخامسة من عُمرها، كانت أخُتها الأكبر
منها قليلًًا تحملها إلى حضنها وتنوء بثقلها، فأخذها الملك لقمان ليحملها عنها،
فضمّها إلى صدره وقبّلها وراح يربّت على ظهرها ليهدّء من روعها ويوقف
نشيجها وتنشّغها.
«خلص حبيبتي خلص، يلعن أبوه داجون كان بدّه يحرقك في النار؟ »
فأجابت الطفلة وهي تنشج وتتنشّغ:
«أ.. أ.. آه »
«خلص حبيبتي لا تبكِ، لن أدعه يحرقك يا حبيبتي »
وأحست الطفلة بشيء من الطمأنينة فطوّقت عنق الملك لقمان بيديها، وأخذت
تخفف من نشيجها، فتساءل الملك لقمان:
«أين بابا وماما يا حبيبتي »
فأجابت الطفلة بجملة قطعتها نشجة واحدة:
«رماهم داجون في النار »
كبت الملك لقمان انفعالاته في دخيلته بقوّة خارقة وتساءل:
«يلعن أبوه يا حبيبتي، لِمَ رماهم في النار؟ »
«لأنهم ما بحبّوه »
وهتف أحد السّفاحين الموكلين بحرق الأطفال:
«هؤلاء يا مولاي أطفال الثائرين والمعارضين والكارهين للإله والملوك، والمحكومين
الذين أحُرقوا أو قُتلوا، يحرقهم داجون كي لا يتبعوا طرق آبائهم حين يكبرون »
295
نزلت كلمات السّفاح على قلب الملك لقمان كطعن السكاكين. فكبت كل انفعالاته
وطار محلّقًا بالطفلة فوق الملايين من البشر، وراح يخاطب الطفلة التي استكانت
إلى أحضانه وألقت رأسها على كتفه وهي ما تزال تنشج بين لحظة وأخرى:
«ماذا تريدين يا حبيبتي أن أحُضر لك، فأنا عندي هدايا كثيرة، عندي خيول،
وحُصن، وحوريّات، وعرائس، وغزلان، وقطط، وخراف، وسِخال، وقصور، وكل
شيء، وكل شيء تطلبينه سأهديه لك »
وراحت الطفلة تستعرض الهدايا في مخيّلتها وهي تستكين إلى كتفه وتُسهم
بعينيها نحو حشود البشر تارة ونحو جهنّم تارة أخرى لترقب فورانها وغليانها
والبخار المتصاعد منها، دون أن تجيب، فتساءل الملك لقمان:
«لماذا لا تجيبين يا حبيبتي؟ »
وما لبثت الطفلة أن هتفت بجملة قطعتها نشجة عميقة ونشغة أعمق، وكأنّها
تعوّض بهما عن كل الهدايا:
«ما بدّي.. هدايا.. بدّي.. بابا وماما »
وأجهشت بالبُكاء.
احتواها الملك لقمان إلى حُضنه وكأنّه يريد أن يدخلها بين ضُلوعه، وانفجر
بالبكاء وهو يحلّق بها عاليًا وعيناه تجوبان عبر الدموع الجبال البركانيّة، وأنهار
وينابيع الحمم المتدفّقة منها، ثم المصب الهادر في الخليج الجهنّمي، وما لبث أن
صرخ في أعماقه بصوت هائل مستعينًا مستنجدًا بكل القوى الجنيّة التي لديه
والتي يعرفها، فسمعت الملكة نور السّماء استغاثته فحملت أخت الطفلة وهرعت
إليه وهي تصرخ «مليكي » وسمع ملك الملوك شمنهور والملكة نسيم الريح
والأميرة ظل القمر والملك حامينار والملكة شامنهاز وقائد المركبة والعاملون
عليها استغاثته فهرعوا إليه وهم يهتفون متفجّعين «مولاي » وسمع كلُّ من في
الأكوان العُليا والسُّفلى من الجن استغاثته الهائلة فهرعوا إليه يلبّون النّداء، وقد
هزّتهم صرخته من أعماقهم وزلزلت أركان أكوانهم، فهرع الملك إبليس والملكة
296
بليسة وأعوانهما، والملك دامرداس والملكة ظل السّحاب وأعوانهما، والملك نذير
الزّلازل والملكة هدباء الجفون وأعوانهما، والملك قاهر الموت والملكة شمس الربيع
وأعوانهما. جميع هذه القوى حضرت لتسخّر طاقاتها وقدراتها الخارقة لنجدة
الملك لقمان، فامتلأت السّماء، كل السماء امتلأت بالجن على اختلاف مذاهبهم
وأديانهم وأفكارهم وفلسفاتهم، جن مسلمون، وجن مسيحيّون، وجن يهود،
وجن هنود، وجن صينيون وجن أفارقة وجن أمريكيون وجن أوروبيون وجن
فرس، وجن عرب، وجن يابانيّون، وجن آسيويون وجن أستراليون، وجن من
كافة المذاهب، احتشدوا في السّماء بملايين الملايين فضجّ الكون، كل الكون،
بأصواتهم، ولم تمر سوى لحظات، لحظات قصيرة فقط، حتّى قامت قيامة
الجبال البركانيّة وغير البركانية فتفجّرت بمياه الأنهار الهائلة العذبة، وراحت
الينابيع البركانيّة تقذف أنهارًا من الماء الفرات بدلًًا من الحمم، فانهارت بعض
الجبال من جرّاء اندفاع الأنهار من باطنها، وزلزلت الأرض، كل الأرض في كوكب
داجون زلزلت، وراحت الأنهار الهائلة تطارد حمم البراكين لتصبّ في جحيم
داجون نفسه. فارتفع الدّخان من جرّاء إطفاء الحمم الملتهبة، وعلا ليختلط
بالضباب والسُّحب المنخفضة، وتعالت أصوات الجنِّ بالصُُراخ وأصوات الملايين
من أبناء كوكب داجون بالعويل، والملك لقمان يحلّق عاليًا فوق خليج داجون،
حاضنًا الطفلة بين ضلوعه، تتبعه الملكة نور السماء حاملة أخُتها، فملك الملوك،
فملوك الجن الحُمر وأفواج الجنّ الحُمر، فملوك وملكات الجن الآخرون، فأفواج
الجن: الجن السّود بقيادة إبليس والجن الخضر بقيادة قاهر الموت، والجن
الزرق بقيادة نذير الزلازل، والجنّ الصّفر بقيادة دامرداس، وكانت الطّفلة
تتشبّث بعنق الملك لقمان وتلتحم بجسده، فسألته:
«إلى أين تحملني يا عمّاه؟ »
فهتف الملك لقمان من خلال دموعه:
«إلى ماما وبابا يا حبيبتي »
وودّ لو يناشد الله بكل أصوات البشر وأصوات الملائكة وأصوات الجن جميعًا،
297
لكنه لم يشأ أن يُخيف الطفلة، فاستعار الأصوات واكتنزها في نفسه وفجّرها في
أعماقه متوسّلًًا إلى الله:
«إلهي، ما قطعت ملايين السنين الضوئية، إلا ويحدوني أمل ضئيل في لقائك،
فأعنّي إن كنت موجودًا، أعنّي، أعِد الحياة إلى كلِّ من أحُرق جسده في هذه المحرقة
الرّهيبة، وأعِد الحياة إلى الموتى في أرتال النعوش التي كانت تنتظر الحرق، أعِنّي
يا إلهي، أعنّي يا إلهي »
وما أن فرغ الملك لقمان من توسّلاته حتّى أخذ الدّخان يتبدد والضّباب يتلاشى،
وراح الماء العذب يتجمّع في الخليج بعد أن أطفأ الحمم البركانية وجرفها ليرتفع
إلى منتصف الجروف العالية، وشرع الملك لقمان في الهبوط، محلّقًا فوق مياه
الخليج، وهو يتوسّل في نفسه مستصرخًا الله من أعماقه:
«أعنّي يا الله، أعنّي يا الله، أعنّي يا الله »
وفيما كان يهتف ويحدّق عبر دموعه إلى مياه الخليج الفسيح لمح بعض الأيدي
البشريّة تخبط في الماء، ومالبث أن شاهد بعض الرؤوس، ثم مئات الأيدي، ثمّ
مئات الرؤوس، ثم آلاف الأيدي، ثمّ آلاف الرؤوس، ثمّ أخذ البحر يمتلئ بأيادي
ورؤوس البشر، والأجساد مقطوعة الرؤوس، آلاف آلاف الأجساد مقطوعة
الرؤوس، وكانت كل الأجساد والأطراف تظهر للحظات ثم تختفي تحت الماء
لتظهر ثانية، فأخذ الملك لقمان يستصرخ القوى الجنيّة في أعماقه:
«كونوا مع الله، أحضروا جبال الجماجم وألقوها في البحر، وكونوا مع الله، كونوا
مع الله »
فهرع ملايين الجن إلى جبال الجماجم وحملوها وراحوا يلقونها من السماء في
بحر الخليج.
أخذت أجسام بشريّة كاملة تندفع من الماء عموديًا إلى أعلى لترتفع قرابة متر
وماتلبث أن تسقط تحت الماء لتصعد ثانية وهي تخبط الماء مقاومة الغرق،
فبدت وكأنّها أسماك علقت بصنانير الصيّادين.
298
فهتف الملك لقمان مرّة أخرى لقوى الجن:
«كونوا مع الله، كونوا مع الله »
فاندفع ملايين الجن إلى الماء، فيما راح عشرات الملايين الآخرين يرددون اسم الله
«الله.. الله.. الله.. الله.. » وانطلقت أصوات الملايين من البشر – الذين أنقذهم
الملك لقمان – تردد اسم الله بدورها، وأخذت الجبال والتلال والسّهول والأودية
والسّفوح والشعاب والغيوم تردد اسم الله، ليتردد اسمه في كل الأكوان، ولتضج
البوادي برجع الأصوات الهاتفة باسمه.
أخذت ملايين الأجساد البشريّة العارية تندفع من الماء بشكل عمودي إلى أعلى
لتصعد إلى سماء البحر وتحلّق فيه. أجساد رجال اندفعت، أجساد نساء اندفعت،
أجساد أطفال اندفعت، أجساد شيوخ اندفعت، أجساد فتيات اندفعت، أجساد
شباب اندفعت، وتتابع اندفاعها بالملايين لتملأ السماء، فيما كان مئات الآلاف
من الأموات على النعوش والنّقالات ينهضون من الموت ويعودون إلى الحياة
ويشرعون في ترديد اسم الله. إنس وجنّ وأرض وسماوات، حيوانات وطيور
ونباتات، الأحياء ومن أعُيدوا إلى الحياة كانوا يرددون اسم الله، في توحّد فريد
هائل خشعت منه الأكوان.
خلعت الملكة نور السماء أجمل الملابس على كل من عاد إلى الحياة، وانطلق الملك
لقمان محلّقًا بالطفلة بين ملايين البشر باحثًا عن والديها بلهفة، وهو يهتف
إليها:
«الآن سنعثر على بابا وماما يا حبيبتي، ابحثي معي عنهما بين الناس »
ورفعت الطفلة رأسها وراحت تجوب بعينيها من خلف كتفي الملك لقمان باحثة
بين ملايين البشر المحلّقين.
حمل الجنّ ملايين البشر الذين كانوا يقفون في أرتال جهنّم، ليبحثوا عن ذويهم في
السماء. حملوا الذين أركبهم الملك لقمان على الخيول بخيولهم، التي راحت تحلّق
في السماء دون أن يبدو أن هناك قوىً خفيَّة تحملها. وحملوا النساء والرجال،
299
الأطفال والشيوخ، الشّباب والشابات، فراحوا يبحثون عن ذويهم في هذه الملحمة
البشريّة المتلاطمة في السّماء وسط دموع الفرح واختلاط الإنس بالجن، والنّساء
بالرجال بالأطفال بالخيول بالملوك باسم الله الذي كان يملأ الكون.
اعتدلت الطفلة في حُضن الملك لقمان وراحت تبحث عن أبويها من أمامه، وليس
من خلف كتفيه. وشاء الله ألا يبحثا عنهما كثيرًا بين ملايين الناس، فحين
كانت الطفلة تجوب بعينيها هُنا وهناك، لمحت أمّها وأباها، فهتفت «ماما، بابا »
فسمعتها الأم وهتفت «ماما » وسمعها الأب وهتف «بابا » واندفعا في اتجاه الملك
لقمان مشرعين أحضانهما، فاندفع الملك لقمان بدوره في اتجاههما.
أسلم الملك لقمان الطفلة إلى أحضان الأم، فيما أسلمت الملكة نور السماء أختها
إلى أحضان الأب.
انثنى الملك لقمان على الفور هابطًا إلى الأرض وجثا – لأول مرة منذ قرابة ثلاثين
عامًا – على ركبتيه، واضعًا يديه فوقهما، شاخصًا بعينيه إلى السّماء، فهبط
خلفه الملايين وجثوا على ركبهم وفعلوا كما فعل، إنس وجن فعلوا وعلى اختلاف
مذاهبهم ودياناتهم، وحين خفض بصره خفض الملايين أبصارهم، وراحت
العيون، كل العيون، عيون الإنس والجن، تنظر إليه آملة كلمة منه، فهتف وعيناه
تغرورقان بالدّموع:
«حين لا يكون هُناك إله، فليس ثمّة إلا الله »
نهاية الجزء الأول
* * *
300
..وما أن جففت أجساد الأطفال وخلعت عليهم أجمل الملابس حتّى تقدّم الملك
لُقمان من طفلة فائقة الجمال في حدود الخامسة من عُمرها، كانت أخُتها الأكبر
منها قليلًًا تحملها إلى حضنها وتنوء بثقلها، فأخذها الملك لقمان ليحملها عنها،
فضمّها إلى صدره وقبّلها وراح يربّت على ظهرها ليهدّء من روعها ويوقف
نشيجها وتنشّغها.
«خلص حبيبتي خلص، يلعن أبوه داجون كان بدّه يحرقك في النار؟ »
فأجابت الطفلة وهي تنشج وتتنشّغ:
«أ.. أ.. آه »
«خلص حبيبتي لا تبكِ، لن أدعه يحرقك يا حبيبتي »
وأحست الطفلة بشيء من الطمأنينة فطوّقت عنق الملك لقمان بيديها، وأخذت
تخفف من نشيجها، فتساءل الملك لقمان:
«أين بابا وماما يا حبيبتي »
فأجابت الطفلة بجملة قطعتها نشجة واحدة:
«رماهم داجون في النار »
كبت الملك لقمان انفعالاته في دخيلته بقوّة خارقة وتساءل:
«يلعن أبوه يا حبيبتي، لِمَ رماهم في النار؟ »
«لأنهم ما بحبّوه »
وهتف أحد السّفاحين الموكلين بحرق الأطفال:
«هؤلاء يا مولاي أطفال الثائرين والمعارضين والكارهين للإله والملوك، والمحكومين
الذين أحُرقوا أو قُتلوا، يحرقهم داجون كي لا يتبعوا طرق آبائهم حين يكبرون »
295
نزلت كلمات السّفاح على قلب الملك لقمان كطعن السكاكين. فكبت كل انفعالاته
وطار محلّقًا بالطفلة فوق الملايين من البشر، وراح يخاطب الطفلة التي استكانت
إلى أحضانه وألقت رأسها على كتفه وهي ما تزال تنشج بين لحظة وأخرى:
«ماذا تريدين يا حبيبتي أن أحُضر لك، فأنا عندي هدايا كثيرة، عندي خيول،
وحُصن، وحوريّات، وعرائس، وغزلان، وقطط، وخراف، وسِخال، وقصور، وكل
شيء، وكل شيء تطلبينه سأهديه لك »
وراحت الطفلة تستعرض الهدايا في مخيّلتها وهي تستكين إلى كتفه وتُسهم
بعينيها نحو حشود البشر تارة ونحو جهنّم تارة أخرى لترقب فورانها وغليانها
والبخار المتصاعد منها، دون أن تجيب، فتساءل الملك لقمان:
«لماذا لا تجيبين يا حبيبتي؟ »
وما لبثت الطفلة أن هتفت بجملة قطعتها نشجة عميقة ونشغة أعمق، وكأنّها
تعوّض بهما عن كل الهدايا:
«ما بدّي.. هدايا.. بدّي.. بابا وماما »
وأجهشت بالبُكاء.
احتواها الملك لقمان إلى حُضنه وكأنّه يريد أن يدخلها بين ضُلوعه، وانفجر
بالبكاء وهو يحلّق بها عاليًا وعيناه تجوبان عبر الدموع الجبال البركانيّة، وأنهار
وينابيع الحمم المتدفّقة منها، ثم المصب الهادر في الخليج الجهنّمي، وما لبث أن
صرخ في أعماقه بصوت هائل مستعينًا مستنجدًا بكل القوى الجنيّة التي لديه
والتي يعرفها، فسمعت الملكة نور السّماء استغاثته فحملت أخت الطفلة وهرعت
إليه وهي تصرخ «مليكي » وسمع ملك الملوك شمنهور والملكة نسيم الريح
والأميرة ظل القمر والملك حامينار والملكة شامنهاز وقائد المركبة والعاملون
عليها استغاثته فهرعوا إليه وهم يهتفون متفجّعين «مولاي » وسمع كلُّ من في
الأكوان العُليا والسُّفلى من الجن استغاثته الهائلة فهرعوا إليه يلبّون النّداء، وقد
هزّتهم صرخته من أعماقهم وزلزلت أركان أكوانهم، فهرع الملك إبليس والملكة
296
بليسة وأعوانهما، والملك دامرداس والملكة ظل السّحاب وأعوانهما، والملك نذير
الزّلازل والملكة هدباء الجفون وأعوانهما، والملك قاهر الموت والملكة شمس الربيع
وأعوانهما. جميع هذه القوى حضرت لتسخّر طاقاتها وقدراتها الخارقة لنجدة
الملك لقمان، فامتلأت السّماء، كل السماء امتلأت بالجن على اختلاف مذاهبهم
وأديانهم وأفكارهم وفلسفاتهم، جن مسلمون، وجن مسيحيّون، وجن يهود،
وجن هنود، وجن صينيون وجن أفارقة وجن أمريكيون وجن أوروبيون وجن
فرس، وجن عرب، وجن يابانيّون، وجن آسيويون وجن أستراليون، وجن من
كافة المذاهب، احتشدوا في السّماء بملايين الملايين فضجّ الكون، كل الكون،
بأصواتهم، ولم تمر سوى لحظات، لحظات قصيرة فقط، حتّى قامت قيامة
الجبال البركانيّة وغير البركانية فتفجّرت بمياه الأنهار الهائلة العذبة، وراحت
الينابيع البركانيّة تقذف أنهارًا من الماء الفرات بدلًًا من الحمم، فانهارت بعض
الجبال من جرّاء اندفاع الأنهار من باطنها، وزلزلت الأرض، كل الأرض في كوكب
داجون زلزلت، وراحت الأنهار الهائلة تطارد حمم البراكين لتصبّ في جحيم
داجون نفسه. فارتفع الدّخان من جرّاء إطفاء الحمم الملتهبة، وعلا ليختلط
بالضباب والسُّحب المنخفضة، وتعالت أصوات الجنِّ بالصُُراخ وأصوات الملايين
من أبناء كوكب داجون بالعويل، والملك لقمان يحلّق عاليًا فوق خليج داجون،
حاضنًا الطفلة بين ضلوعه، تتبعه الملكة نور السماء حاملة أخُتها، فملك الملوك،
فملوك الجن الحُمر وأفواج الجنّ الحُمر، فملوك وملكات الجن الآخرون، فأفواج
الجن: الجن السّود بقيادة إبليس والجن الخضر بقيادة قاهر الموت، والجن
الزرق بقيادة نذير الزلازل، والجنّ الصّفر بقيادة دامرداس، وكانت الطّفلة
تتشبّث بعنق الملك لقمان وتلتحم بجسده، فسألته:
«إلى أين تحملني يا عمّاه؟ »
فهتف الملك لقمان من خلال دموعه:
«إلى ماما وبابا يا حبيبتي »
وودّ لو يناشد الله بكل أصوات البشر وأصوات الملائكة وأصوات الجن جميعًا،
297
لكنه لم يشأ أن يُخيف الطفلة، فاستعار الأصوات واكتنزها في نفسه وفجّرها في
أعماقه متوسّلًًا إلى الله:
«إلهي، ما قطعت ملايين السنين الضوئية، إلا ويحدوني أمل ضئيل في لقائك،
فأعنّي إن كنت موجودًا، أعنّي، أعِد الحياة إلى كلِّ من أحُرق جسده في هذه المحرقة
الرّهيبة، وأعِد الحياة إلى الموتى في أرتال النعوش التي كانت تنتظر الحرق، أعِنّي
يا إلهي، أعنّي يا إلهي »
وما أن فرغ الملك لقمان من توسّلاته حتّى أخذ الدّخان يتبدد والضّباب يتلاشى،
وراح الماء العذب يتجمّع في الخليج بعد أن أطفأ الحمم البركانية وجرفها ليرتفع
إلى منتصف الجروف العالية، وشرع الملك لقمان في الهبوط، محلّقًا فوق مياه
الخليج، وهو يتوسّل في نفسه مستصرخًا الله من أعماقه:
«أعنّي يا الله، أعنّي يا الله، أعنّي يا الله »
وفيما كان يهتف ويحدّق عبر دموعه إلى مياه الخليج الفسيح لمح بعض الأيدي
البشريّة تخبط في الماء، ومالبث أن شاهد بعض الرؤوس، ثم مئات الأيدي، ثمّ
مئات الرؤوس، ثم آلاف الأيدي، ثمّ آلاف الرؤوس، ثمّ أخذ البحر يمتلئ بأيادي
ورؤوس البشر، والأجساد مقطوعة الرؤوس، آلاف آلاف الأجساد مقطوعة
الرؤوس، وكانت كل الأجساد والأطراف تظهر للحظات ثم تختفي تحت الماء
لتظهر ثانية، فأخذ الملك لقمان يستصرخ القوى الجنيّة في أعماقه:
«كونوا مع الله، أحضروا جبال الجماجم وألقوها في البحر، وكونوا مع الله، كونوا
مع الله »
فهرع ملايين الجن إلى جبال الجماجم وحملوها وراحوا يلقونها من السماء في
بحر الخليج.
أخذت أجسام بشريّة كاملة تندفع من الماء عموديًا إلى أعلى لترتفع قرابة متر
وماتلبث أن تسقط تحت الماء لتصعد ثانية وهي تخبط الماء مقاومة الغرق،
فبدت وكأنّها أسماك علقت بصنانير الصيّادين.
298
فهتف الملك لقمان مرّة أخرى لقوى الجن:
«كونوا مع الله، كونوا مع الله »
فاندفع ملايين الجن إلى الماء، فيما راح عشرات الملايين الآخرين يرددون اسم الله
«الله.. الله.. الله.. الله.. » وانطلقت أصوات الملايين من البشر – الذين أنقذهم
الملك لقمان – تردد اسم الله بدورها، وأخذت الجبال والتلال والسّهول والأودية
والسّفوح والشعاب والغيوم تردد اسم الله، ليتردد اسمه في كل الأكوان، ولتضج
البوادي برجع الأصوات الهاتفة باسمه.
أخذت ملايين الأجساد البشريّة العارية تندفع من الماء بشكل عمودي إلى أعلى
لتصعد إلى سماء البحر وتحلّق فيه. أجساد رجال اندفعت، أجساد نساء اندفعت،
أجساد أطفال اندفعت، أجساد شيوخ اندفعت، أجساد فتيات اندفعت، أجساد
شباب اندفعت، وتتابع اندفاعها بالملايين لتملأ السماء، فيما كان مئات الآلاف
من الأموات على النعوش والنّقالات ينهضون من الموت ويعودون إلى الحياة
ويشرعون في ترديد اسم الله. إنس وجنّ وأرض وسماوات، حيوانات وطيور
ونباتات، الأحياء ومن أعُيدوا إلى الحياة كانوا يرددون اسم الله، في توحّد فريد
هائل خشعت منه الأكوان.
خلعت الملكة نور السماء أجمل الملابس على كل من عاد إلى الحياة، وانطلق الملك
لقمان محلّقًا بالطفلة بين ملايين البشر باحثًا عن والديها بلهفة، وهو يهتف
إليها:
«الآن سنعثر على بابا وماما يا حبيبتي، ابحثي معي عنهما بين الناس »
ورفعت الطفلة رأسها وراحت تجوب بعينيها من خلف كتفي الملك لقمان باحثة
بين ملايين البشر المحلّقين.
حمل الجنّ ملايين البشر الذين كانوا يقفون في أرتال جهنّم، ليبحثوا عن ذويهم في
السماء. حملوا الذين أركبهم الملك لقمان على الخيول بخيولهم، التي راحت تحلّق
في السماء دون أن يبدو أن هناك قوىً خفيَّة تحملها. وحملوا النساء والرجال،
299
الأطفال والشيوخ، الشّباب والشابات، فراحوا يبحثون عن ذويهم في هذه الملحمة
البشريّة المتلاطمة في السّماء وسط دموع الفرح واختلاط الإنس بالجن، والنّساء
بالرجال بالأطفال بالخيول بالملوك باسم الله الذي كان يملأ الكون.
اعتدلت الطفلة في حُضن الملك لقمان وراحت تبحث عن أبويها من أمامه، وليس
من خلف كتفيه. وشاء الله ألا يبحثا عنهما كثيرًا بين ملايين الناس، فحين
كانت الطفلة تجوب بعينيها هُنا وهناك، لمحت أمّها وأباها، فهتفت «ماما، بابا »
فسمعتها الأم وهتفت «ماما » وسمعها الأب وهتف «بابا » واندفعا في اتجاه الملك
لقمان مشرعين أحضانهما، فاندفع الملك لقمان بدوره في اتجاههما.
أسلم الملك لقمان الطفلة إلى أحضان الأم، فيما أسلمت الملكة نور السماء أختها
إلى أحضان الأب.
انثنى الملك لقمان على الفور هابطًا إلى الأرض وجثا – لأول مرة منذ قرابة ثلاثين
عامًا – على ركبتيه، واضعًا يديه فوقهما، شاخصًا بعينيه إلى السّماء، فهبط
خلفه الملايين وجثوا على ركبهم وفعلوا كما فعل، إنس وجن فعلوا وعلى اختلاف
مذاهبهم ودياناتهم، وحين خفض بصره خفض الملايين أبصارهم، وراحت
العيون، كل العيون، عيون الإنس والجن، تنظر إليه آملة كلمة منه، فهتف وعيناه
تغرورقان بالدّموع:
«حين لا يكون هُناك إله، فليس ثمّة إلا الله »
نهاية الجزء الأول
* * *
300