1/2
استهلال :
L Idiotie c est la
sagesse autrement
mimoun le sage
« الأبله ملاكٌ لكنه بدون رسالة »
بيتر سلوتردْايك.
المغفل والأبله والبليد والمعتوه والسفيه والغبي ألفاظ لم توجد للتكرار والترادف. مثلما أن l idiot, le bête, l imbécile, le crétin.. le sot, l abruti،le stupide لم توجد في اللغة الفرنسية لنفس التكرار.
بل هناك فيما يبدو سلما فرض هذه التسمية وهذه الصفة بدل تلك. وهذا السلم اللغوي واللساني والاشتقافي هو الذي يجب الكشف عنه، حتى نعرف حقيقة الكلمة مثلما نعرف ونميز بين أصبح وأمسى وظل وبات..
ب ل ه :رجل أبله - بين البله والبلاهة، وهو الذي غلبت عليه سلامة الصدر، وبابه طرب وسلم. وتبله أيضا، والمرأة بلهاء. وفي الحديث « أكثر أهل الجنة البُلهُ « يعني البله في أمر الدنيا لقلة اهتمامهم بها وهم أكياس (طيبون) في أمر الآخرة. وتبَالَه أرى نفسه ذلك وليس به.
أما بَلْهَ فمعناها دع، وقيل معنى سوى. في الحديث « أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بَلْهَ ما أطلعتهم عليه «. يقال بَلْه هذا الأمر وبَلْه هذا الشأن (الصحاح).
اشتد به البله بمعنى يُعاني من اختلال في العقل (الغني) كما يعني ضعف عقله ولم يعد يعي دلالة الأشياء، وغلبت عليه الغفلة. البله المميت (Idiotie) مرض وراثي نادر.
أما الغباء والبلادة فهما ضد الذكاء، أي ضُعف الفكر وقيل فتور العقل والطبع. أهل البلادة أهل جهنم. البليد من لا يعرف الحق. البلادة تضعف العزيمة، وهما عدم الفهم.
المعتوه صاحب عقل لكنه بليد، وهو المدهوش من غير مس جنون، والمجنون فاقد العقل، العته : التجنن والرعونة، وقيل العته الدهش. أما السفيه فهو من يبذر ماله فيما لا ينبغي، وهو أيضا الجاهل. جمعه السفهاء وسفاه، ثوب سفيه رديء النسج، وزمام سفيه مضطرب، ناقة سفيهة الزمام سريعة السير، السفيه من جهل وطاش وخف عقله، وهو أيضا الدنيء المخل بالآداب. يقال : « إذا نطق السفيه فلا تجبه « لأنه عديم الخلق وفض المعاشرة.
في اليونانية كلمة idiotes/ idios تعني المواطن البسيط الخاص مقابل رجل القانون. وهو المعنى الذي سنعثر عليه فيما بعد لدى ديدرو في موسوعته 1782. البليد أو الأبله رجل متفرد منغلق على نفسه منغمس فيها بعيدا عن شؤون الدولة والحياة، فهو شبيه بالحكيم (le sage). من هنا يقال «حكمة الأبله « وهي حكمة الذي يعتزل الحياة.
على عكس ذلك في اللاتينية idiotus باتت تعني معاني أكثر قدحا، وذما مثل الجاهل، الأبله، البليد الذي لا يفهم شيئا. فهو « أقل من لا شيء «.
العديد من الذين عرفوا البليد كـ Véronique MAURON و claire RIBEAUPIERRE وكذلك Léo Scheheer لم يعتبروه تصورا ولا مفهوما بقدر ما هو لديهم كلمة خاضعة لتحولات التاريخ الثقافي وتجسيدا لمختلف أشكال الشخصيات البليدة. واتفقوا أن جوهر التعريف الخاص بالبليد هو البساطة (la simplicité) : البليد صاحب عقل بسيط. قد يصل إلى حد التفاهة. فهو كائن لا يرى إلا ما هو متاح للرؤية، ولا يسمع إلا ما يريد أن يسمع بكل بساطة. إدراكه مباشر للواقع لا يؤوله بل يصطدم به. الشيء الذي يمنحه هيئة بهلول (Abruti) ويجعله مشدوها (ahuri) أو مصدوما (Hébété).
يمكن للبليد أن يتراوح بين البريء الساذج والمتفرد المتميز، كما يمكن النظر إليه كناقص معتوه متوحش، وكعبقري ذي رؤية بَله متصوف(صورة غاندي) كما يمكن اعتباره متطرفا عدوانيا... هذا التردد في التحديد غير القابل للتقرير والما بين بين يعد التباسا وغموضا يمنح للكلمة قوتها المفهومية.
جون إتيان إسكيرول (J.E. Esquirol) هو الذي جعل من البلاهة والبلادة مرضا وسماه idiotie سنة 1818 (في مقال له بقاموس العلوم الطبية). وميزه عن مس الشيطان (démence) «الذي يمس القدرات العقلية المكتسبة لا الفطرية وعن العته (l?imbécilité) الذي يتعلق بضعف في الذكاء الفطري أو المكتسب). « البلاهة إذن هي حرمان طبيعي فطري من القدرات الذكائية «. مورو دو تور (Moreau de Tours)، تلميذ إسكيرول كان من نادي الحشاشين بباريس، وكان يتردد عليه فلوبير وتيوفيل غوتيي ربط سنة 1859 بين البلادة والعبقرية فهما ينبعان من جذع مشترك : النباهة والبلاهة.
انطلاقا من هذا التصور سيحتل الأبله المكانة الدنيا في الهرم الاجتماعي ويغدو أكثر دونية من الحيوان أي وحش. « إنه أقل مرتبة من الحيوان لأنه فقد الحدس الفطري الضروري للحفاظ على الذات...». يجب اعتقاله (فوكو، تاريخ الجنون) أو عزله وإبعاده (...) أو القضاء عليه (النازية).
يتضح لنا من خلال اللغة ومن خلال التعريف والتحديد أن البله مفردة ملتبسة تنتمي من حيث اللغة والتشقيق إلى الكلمات الأضداد، تلك التي تعني الشيء وضده وتقصد المعنى ونقيضه. وعليه يمكن أن نتساءل عن الأبعاد المختلفة للمجالات التي يمكن أن تخترقها الكلمة بدلالاتها المتعددة : كمجال الأدب (الرواية / المسرح / الشعر) ومجال الفن (الفنون التشكيلية/ والفكاهية...) والمجال الفلسفي والعلوم الإنسانية... (أبله نيكولا دي كوز/ ديكارت)...
أليست البلاهة (الفنية) تعبيرا عن احتياط تحرري حيوي يخلصُنا من أغلال تكبل حياتنا، ورغباتنا وتوقعنا في اكتئاب حضاري يجتاح الإنسان في كليته ؟ أليست البلاهة (الفلسفية) كشفا لخبايا العقل ومرتكزات الفكر؟ كيف يمكن أن يتحول ما هو ضعف ووهن إلى قوة وإرادة ؟ هل البلادة عبقرية (فلوبير) أم هي مسخ وحشي (فولكنر) ؟ أم هي بلاهة من نوع آخر (روسي : دوستويفسكي/ تشيستوف (Chestov)...) إياك والبلاهة !(بيكاردي / النفيسي) ما هي حكمة البُلهاء البُلداء؟ ...
خارج هذا الاستشكال (أو ربما بجواره) يقدم الأبله والبليدُ ميزات عدة تميزهما.. منها : عدم الخوف والحماسة. حماسة الحياة هو ما نلمسه في الأمير ميشكين «أبله» دوستويفسكي (1869) أو في شخصيات سرد روبر واسلر (R. Wasler). حماسة اعتبار العالم جميلا، انطلاقا من حُلم بريء يسمح بإدراك بهاء العالم إلى حد الامتنان والانتشاء. الأبله وفق هذا الحماس لا يرى نفسه ضحية متميزة إنما هو متواضع له كرامة وامتداد كريم في كل العالم، والأبله وفق هذا السياق فنان مرح يرفض كل تبئيس، ويُدرك عُنف الواقع والجور والاضطهاد، لكنه لا يخضع لهذه الضغوطات ولا ينهزم.
فالخوف أو عدم الانصياع للخوف يُشكل الميزة الثانية للأبله. وكأنه لا يدرك المخاطر، أو يرى فيها بقوة بلاهته وبلادته وبراءته وبساطته مسلكا آمنا مطمئنا.
عدم الخوف (وليس الشجاعة) هو دعوة لتجاوز رُعب المضطهد. كما يلمح إلى ذلك الفيلسوف أدورنو Adorno (السخرية الإنسانية إبان حكومة الرايش الثالث/ أو النشيد الوطني لشواجدا (Shwajda) في نقده للكليانية السوفييتية).
والأبله من الناحية السوسيولوجية إنسان مندمج في محيطه. كان يعيش في تخوم القرية قديما ويهتم بالقطيع. « بليد القرية « يوجد في أدنى مستويات الهرم اجتماعيا واقتصاديا، ورغم أنه لا يعاني من أية إعاقة فهو من ذوي الحاجات الخاصة، يحتاج إلى أفراد أسرته غير قادر على توفير « لقمة عيشه». سلوكاته تثير الضحك وهي موضوعات هزء جماعي، إنه شخصية وظيفية نعلق عليها استيهامات المجتمع.
صورته هي ما تصوره الفنان غويا سنة (1822). لا لسان له ولا أفكار، يستمتع بذاته واستمنائه، ويعد هذا الاستمتاع الأخير سببا في البلاهة (lacan) كما تعد الرغبة الجنسية المتكررة سببا آخر، فهما من طينة الاحتراق الهادئ للقدرات العقلية والقدرات الذاتية الجسدية المؤدية إلى الغباء.
كيف وبأي نمط، وفيما يمكن للأبله ? ذلك الذي لا يفهم شيئا أو لا يريد أن يفهم النظام والقواعد، ذلك الذي لا يخضع لسلطة العقل، ولا يهاب لائمة لائم ويلف العالم جميلا ولا يعتقد نفسه ضحية ? أن يكون وجها مفارقا للتحرر (وللخوف وللمراقبة وللمعايير) وللاحتجاج الفوضوي الهادئ وللهجوم على السلطة ؟
استطاع الأدب أن يجعل من « الأبله « بطلا كما استطاعت الفلسفة أن تجعل منه شخصية مفهومية. فكاسيمودو (بطل فيكتور هيجو) في «notre dame de Paris» كاد أن يكون إنسانا فهو أحدب وأصم وأعرج وأبله لكنه في اسمه يحمل اسم حفلة..
وفلوبير نفسه يطالب بالبلاهة وكأنها بداهة حسب ج. ب، سارتر وهي التي وجهت الأديب إلى الكتابة، فالبليد حسبه كائن صموت لكن حياته الباطنية ملأى بالانفعالات والأحاسيس وقوية لأن نفسه تسكنها روح شيطانية قريبة من الشعر : أي شيطان الشعر
إن حبه للأدب وللقراءة وكراهيته وجفاءه للقانون والحقوق هما اللذان دفعاه إلى افتعال المرض « لقد اختار فلوبير المرض « « وانهار فجأة «.(ص 48) 1
وبما أنه بكر عائلة بورجوازية، فله كل حظوة ارتكاب الحماقات، بما فيها حماقة الفنان ما دام قلمه سيال (ص 38). المرض جعل منه بدين مدينة روان (Rouen) وكسولها. أسطورة «أبله العائلة « ليست من اختراع ج. ب. سارتر ، بل هي ربما من اكتشافه. أما الذي وصفه بهذه الصفة فهو الأب فلوبير الطبيب: « تجد صعوبة في تعلم الحروف إذن ستكون أبله العائلة «. لم يكترث صاحبنا لهذه الملاحظة في جانبها القدحي بل اهتم بها وجعل من البلاهة والبلادة وما جاورهما شغله الشاغل. يظهر لنا ذلك في شبقه الجنسي : سبق أن اعتبرنا البليد والأبله مهووسين بالجنس يجدان فيه ذاتهما ولذتهما. هذا ما جسده فلوبير في علاقاته الجنسية المختلفة (علاقته الحميمة بلويز كولي colet) وقبلها بأولالي فوكو O. foucault ومغامراته بمصر...)، كما ترتبط البلاهة لديه بالكتابة وهو شغف امتلكه في حداثة سنه (9 سنوات)... «الكتابة، آه ! الكتابة هي امتلاك العالم خلسة بما فيه مستبقاته وفضائله... وتلخيصها في كتاب. « (ص 27). البلاهة ذريعة ليحصل على الطمأنينة للكتابة.
كما تبدو لنا تصرفات الأبله في حكاية فلوبير مع كتاب من كتبه الأولى والذي سيصبح بقوة الأشياء كتاب العمر، استمر يكتبه ويعيد كتابته طيلة حياته. (La tentation de Saint Antoine). رواية لم يقتنع بها أقرب أصدقائه رغم أنه بذل مجهودات جبارة من خلال جلسات القراءة الأربع للتأثير في مستمعيه(ص 86)، ومع ذلك لم ينتبه لا إلى صمتهما ولا إلى فتور حماستهما ( !). وهذا راجع أيضا إلى بلاهة بطل الرواية القديس أونطوان ! فيما بعد سيقول فلوبير : « أحيانا، حينما ألف نفسي فارغة وتتمنع علي التعابير وأكتشف بعد مدة أن كل ما كتبته لا يساوي جملة مفيدة أنهار على سريري وأنغمس في بلاهة نادرة فيما بداخلي من الضجر... بعد هُنيهة كل شيء يتغير وينشرح قلبي فرحا.» (ص 114)، هكذا تتحول البلاهة إلى منبع إلهام، أو مشجب احتجاج... «أشعر بهوج من الكراهية ضد بلادة مرحلتي كما أشم رائحة كريهة تملأ رئتي. لكني أريد المحافظة عليها ولملمتها لأجعل منها مادة لزجة ألُوث بها وجه القرن 19. «(ص 119).
البلاهة بلادة تُرتب بجوار الوهم والسطحية والنفوس المنحطة و «البلادة البورجوازية». يقارن كليمان روصي (2) ( clement rosset ) بين البلاهة و الوهم نظرا لتقاربهما و تجاورهما. فالوهم و تجسده دائما الشخصيات التراجيدية كأوديب ملكا حين يبدو لنا في الوضعية المفارقة التالية:لما يريد أوديب تجنب قتل أبيه فهو يهرع نحو الطريق المؤدي إلى ذلك و لما يريد زوج السيدة بوفاري التيقن من إخلاص زوجته يسقط في ملابسات خيانتها ...
البلاهة ذات محتوى وشكل. شكلها هو الآخر مفارق، تبدو دائما على ما هي ليست عليه، تبدو كشيء ونقيضه. للبلاهة أكثرمن درجة. الدرجة الأولى هي الارتباط العفوي والمباشر بالشيء والدرجة الثانية هي الارتباط المؤجل والمتأمل انطلاقا من الذات .وهذه الدرجة يضعها هيجل في مصاف «البلاهة التي تعي ذاتها «أي حين يعمل البليد المعتوه على تجاوز بلاهته. آنذاك لا يستطيع ذلك. وهي بلاهة العظماء ...فلوبير، فولكنر، دوستويقسكي.. سارتر... إنها بلاهة مطلقة. لكن مفارقتها تبرز في كونها تريد الهروب من البلادة لكنها تغدو بليدة من خوف السقوط فيها .
الوهم فن إدراك حقيقي لكنه يسقط بجانب النتيجة الحقيقية.البلاهة فن إحساس حقيقي ودقيق لكنه لا يستطيع التعبير عن نفسه.
منبع إلهام لأن إيما بوفاري (EMMA BOVARY) بطلة الرواية التي تحمل اسمها كعنوان هي البلاهة عينها والثنائي «Bouvard et Pécuchet»، يشكل ملحمة « البلاهة الإنسانية «. البطلة الأولى بورجوازية صغيرة، غير مؤدبة، تعتبر مؤخرتها مقدمة العالم. إلا أن بلاهة هذه السيدة ستجر معها بلاهة فلوبير إلى المحاكمة، وستنتصر بلاهة الأديب. أما الأبلهان فيجعلان من البلاهة أمرا لا يمكن التسامح معه، لكن بنوع من البلادة التي تريد أن تطلع وتضطلع بكل ميادين المعرفة (الجيولوجيا، البيولوجيا، الفلسفة الطب...)، وتريد أن تُسدي الخير بتبني الأيتام، وتريد أن تؤلف قاموسا لا يعرف قارئه هل المؤلف يسخر منه أم لا... لكن وكما قال سارتر، سواء في الحالة الأولى للبلاهة أو في الحالة الثانية البلاهة هي المنتصرة دائما.
المراجع :
1- Bernard Fauconnier, Flaubert. Biographie. Gallimard. 2012.
2- Ibid. […] Quant aux cous, ils ont été bons… Il dit en avoir tiré cinq… p. 95.
3/5/2013
إدريس كثير
استهلال :
L Idiotie c est la
sagesse autrement
mimoun le sage
« الأبله ملاكٌ لكنه بدون رسالة »
بيتر سلوتردْايك.
المغفل والأبله والبليد والمعتوه والسفيه والغبي ألفاظ لم توجد للتكرار والترادف. مثلما أن l idiot, le bête, l imbécile, le crétin.. le sot, l abruti،le stupide لم توجد في اللغة الفرنسية لنفس التكرار.
بل هناك فيما يبدو سلما فرض هذه التسمية وهذه الصفة بدل تلك. وهذا السلم اللغوي واللساني والاشتقافي هو الذي يجب الكشف عنه، حتى نعرف حقيقة الكلمة مثلما نعرف ونميز بين أصبح وأمسى وظل وبات..
ب ل ه :رجل أبله - بين البله والبلاهة، وهو الذي غلبت عليه سلامة الصدر، وبابه طرب وسلم. وتبله أيضا، والمرأة بلهاء. وفي الحديث « أكثر أهل الجنة البُلهُ « يعني البله في أمر الدنيا لقلة اهتمامهم بها وهم أكياس (طيبون) في أمر الآخرة. وتبَالَه أرى نفسه ذلك وليس به.
أما بَلْهَ فمعناها دع، وقيل معنى سوى. في الحديث « أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بَلْهَ ما أطلعتهم عليه «. يقال بَلْه هذا الأمر وبَلْه هذا الشأن (الصحاح).
اشتد به البله بمعنى يُعاني من اختلال في العقل (الغني) كما يعني ضعف عقله ولم يعد يعي دلالة الأشياء، وغلبت عليه الغفلة. البله المميت (Idiotie) مرض وراثي نادر.
أما الغباء والبلادة فهما ضد الذكاء، أي ضُعف الفكر وقيل فتور العقل والطبع. أهل البلادة أهل جهنم. البليد من لا يعرف الحق. البلادة تضعف العزيمة، وهما عدم الفهم.
المعتوه صاحب عقل لكنه بليد، وهو المدهوش من غير مس جنون، والمجنون فاقد العقل، العته : التجنن والرعونة، وقيل العته الدهش. أما السفيه فهو من يبذر ماله فيما لا ينبغي، وهو أيضا الجاهل. جمعه السفهاء وسفاه، ثوب سفيه رديء النسج، وزمام سفيه مضطرب، ناقة سفيهة الزمام سريعة السير، السفيه من جهل وطاش وخف عقله، وهو أيضا الدنيء المخل بالآداب. يقال : « إذا نطق السفيه فلا تجبه « لأنه عديم الخلق وفض المعاشرة.
في اليونانية كلمة idiotes/ idios تعني المواطن البسيط الخاص مقابل رجل القانون. وهو المعنى الذي سنعثر عليه فيما بعد لدى ديدرو في موسوعته 1782. البليد أو الأبله رجل متفرد منغلق على نفسه منغمس فيها بعيدا عن شؤون الدولة والحياة، فهو شبيه بالحكيم (le sage). من هنا يقال «حكمة الأبله « وهي حكمة الذي يعتزل الحياة.
على عكس ذلك في اللاتينية idiotus باتت تعني معاني أكثر قدحا، وذما مثل الجاهل، الأبله، البليد الذي لا يفهم شيئا. فهو « أقل من لا شيء «.
العديد من الذين عرفوا البليد كـ Véronique MAURON و claire RIBEAUPIERRE وكذلك Léo Scheheer لم يعتبروه تصورا ولا مفهوما بقدر ما هو لديهم كلمة خاضعة لتحولات التاريخ الثقافي وتجسيدا لمختلف أشكال الشخصيات البليدة. واتفقوا أن جوهر التعريف الخاص بالبليد هو البساطة (la simplicité) : البليد صاحب عقل بسيط. قد يصل إلى حد التفاهة. فهو كائن لا يرى إلا ما هو متاح للرؤية، ولا يسمع إلا ما يريد أن يسمع بكل بساطة. إدراكه مباشر للواقع لا يؤوله بل يصطدم به. الشيء الذي يمنحه هيئة بهلول (Abruti) ويجعله مشدوها (ahuri) أو مصدوما (Hébété).
يمكن للبليد أن يتراوح بين البريء الساذج والمتفرد المتميز، كما يمكن النظر إليه كناقص معتوه متوحش، وكعبقري ذي رؤية بَله متصوف(صورة غاندي) كما يمكن اعتباره متطرفا عدوانيا... هذا التردد في التحديد غير القابل للتقرير والما بين بين يعد التباسا وغموضا يمنح للكلمة قوتها المفهومية.
جون إتيان إسكيرول (J.E. Esquirol) هو الذي جعل من البلاهة والبلادة مرضا وسماه idiotie سنة 1818 (في مقال له بقاموس العلوم الطبية). وميزه عن مس الشيطان (démence) «الذي يمس القدرات العقلية المكتسبة لا الفطرية وعن العته (l?imbécilité) الذي يتعلق بضعف في الذكاء الفطري أو المكتسب). « البلاهة إذن هي حرمان طبيعي فطري من القدرات الذكائية «. مورو دو تور (Moreau de Tours)، تلميذ إسكيرول كان من نادي الحشاشين بباريس، وكان يتردد عليه فلوبير وتيوفيل غوتيي ربط سنة 1859 بين البلادة والعبقرية فهما ينبعان من جذع مشترك : النباهة والبلاهة.
انطلاقا من هذا التصور سيحتل الأبله المكانة الدنيا في الهرم الاجتماعي ويغدو أكثر دونية من الحيوان أي وحش. « إنه أقل مرتبة من الحيوان لأنه فقد الحدس الفطري الضروري للحفاظ على الذات...». يجب اعتقاله (فوكو، تاريخ الجنون) أو عزله وإبعاده (...) أو القضاء عليه (النازية).
يتضح لنا من خلال اللغة ومن خلال التعريف والتحديد أن البله مفردة ملتبسة تنتمي من حيث اللغة والتشقيق إلى الكلمات الأضداد، تلك التي تعني الشيء وضده وتقصد المعنى ونقيضه. وعليه يمكن أن نتساءل عن الأبعاد المختلفة للمجالات التي يمكن أن تخترقها الكلمة بدلالاتها المتعددة : كمجال الأدب (الرواية / المسرح / الشعر) ومجال الفن (الفنون التشكيلية/ والفكاهية...) والمجال الفلسفي والعلوم الإنسانية... (أبله نيكولا دي كوز/ ديكارت)...
أليست البلاهة (الفنية) تعبيرا عن احتياط تحرري حيوي يخلصُنا من أغلال تكبل حياتنا، ورغباتنا وتوقعنا في اكتئاب حضاري يجتاح الإنسان في كليته ؟ أليست البلاهة (الفلسفية) كشفا لخبايا العقل ومرتكزات الفكر؟ كيف يمكن أن يتحول ما هو ضعف ووهن إلى قوة وإرادة ؟ هل البلادة عبقرية (فلوبير) أم هي مسخ وحشي (فولكنر) ؟ أم هي بلاهة من نوع آخر (روسي : دوستويفسكي/ تشيستوف (Chestov)...) إياك والبلاهة !(بيكاردي / النفيسي) ما هي حكمة البُلهاء البُلداء؟ ...
خارج هذا الاستشكال (أو ربما بجواره) يقدم الأبله والبليدُ ميزات عدة تميزهما.. منها : عدم الخوف والحماسة. حماسة الحياة هو ما نلمسه في الأمير ميشكين «أبله» دوستويفسكي (1869) أو في شخصيات سرد روبر واسلر (R. Wasler). حماسة اعتبار العالم جميلا، انطلاقا من حُلم بريء يسمح بإدراك بهاء العالم إلى حد الامتنان والانتشاء. الأبله وفق هذا الحماس لا يرى نفسه ضحية متميزة إنما هو متواضع له كرامة وامتداد كريم في كل العالم، والأبله وفق هذا السياق فنان مرح يرفض كل تبئيس، ويُدرك عُنف الواقع والجور والاضطهاد، لكنه لا يخضع لهذه الضغوطات ولا ينهزم.
فالخوف أو عدم الانصياع للخوف يُشكل الميزة الثانية للأبله. وكأنه لا يدرك المخاطر، أو يرى فيها بقوة بلاهته وبلادته وبراءته وبساطته مسلكا آمنا مطمئنا.
عدم الخوف (وليس الشجاعة) هو دعوة لتجاوز رُعب المضطهد. كما يلمح إلى ذلك الفيلسوف أدورنو Adorno (السخرية الإنسانية إبان حكومة الرايش الثالث/ أو النشيد الوطني لشواجدا (Shwajda) في نقده للكليانية السوفييتية).
والأبله من الناحية السوسيولوجية إنسان مندمج في محيطه. كان يعيش في تخوم القرية قديما ويهتم بالقطيع. « بليد القرية « يوجد في أدنى مستويات الهرم اجتماعيا واقتصاديا، ورغم أنه لا يعاني من أية إعاقة فهو من ذوي الحاجات الخاصة، يحتاج إلى أفراد أسرته غير قادر على توفير « لقمة عيشه». سلوكاته تثير الضحك وهي موضوعات هزء جماعي، إنه شخصية وظيفية نعلق عليها استيهامات المجتمع.
صورته هي ما تصوره الفنان غويا سنة (1822). لا لسان له ولا أفكار، يستمتع بذاته واستمنائه، ويعد هذا الاستمتاع الأخير سببا في البلاهة (lacan) كما تعد الرغبة الجنسية المتكررة سببا آخر، فهما من طينة الاحتراق الهادئ للقدرات العقلية والقدرات الذاتية الجسدية المؤدية إلى الغباء.
كيف وبأي نمط، وفيما يمكن للأبله ? ذلك الذي لا يفهم شيئا أو لا يريد أن يفهم النظام والقواعد، ذلك الذي لا يخضع لسلطة العقل، ولا يهاب لائمة لائم ويلف العالم جميلا ولا يعتقد نفسه ضحية ? أن يكون وجها مفارقا للتحرر (وللخوف وللمراقبة وللمعايير) وللاحتجاج الفوضوي الهادئ وللهجوم على السلطة ؟
استطاع الأدب أن يجعل من « الأبله « بطلا كما استطاعت الفلسفة أن تجعل منه شخصية مفهومية. فكاسيمودو (بطل فيكتور هيجو) في «notre dame de Paris» كاد أن يكون إنسانا فهو أحدب وأصم وأعرج وأبله لكنه في اسمه يحمل اسم حفلة..
وفلوبير نفسه يطالب بالبلاهة وكأنها بداهة حسب ج. ب، سارتر وهي التي وجهت الأديب إلى الكتابة، فالبليد حسبه كائن صموت لكن حياته الباطنية ملأى بالانفعالات والأحاسيس وقوية لأن نفسه تسكنها روح شيطانية قريبة من الشعر : أي شيطان الشعر
إن حبه للأدب وللقراءة وكراهيته وجفاءه للقانون والحقوق هما اللذان دفعاه إلى افتعال المرض « لقد اختار فلوبير المرض « « وانهار فجأة «.(ص 48) 1
وبما أنه بكر عائلة بورجوازية، فله كل حظوة ارتكاب الحماقات، بما فيها حماقة الفنان ما دام قلمه سيال (ص 38). المرض جعل منه بدين مدينة روان (Rouen) وكسولها. أسطورة «أبله العائلة « ليست من اختراع ج. ب. سارتر ، بل هي ربما من اكتشافه. أما الذي وصفه بهذه الصفة فهو الأب فلوبير الطبيب: « تجد صعوبة في تعلم الحروف إذن ستكون أبله العائلة «. لم يكترث صاحبنا لهذه الملاحظة في جانبها القدحي بل اهتم بها وجعل من البلاهة والبلادة وما جاورهما شغله الشاغل. يظهر لنا ذلك في شبقه الجنسي : سبق أن اعتبرنا البليد والأبله مهووسين بالجنس يجدان فيه ذاتهما ولذتهما. هذا ما جسده فلوبير في علاقاته الجنسية المختلفة (علاقته الحميمة بلويز كولي colet) وقبلها بأولالي فوكو O. foucault ومغامراته بمصر...)، كما ترتبط البلاهة لديه بالكتابة وهو شغف امتلكه في حداثة سنه (9 سنوات)... «الكتابة، آه ! الكتابة هي امتلاك العالم خلسة بما فيه مستبقاته وفضائله... وتلخيصها في كتاب. « (ص 27). البلاهة ذريعة ليحصل على الطمأنينة للكتابة.
كما تبدو لنا تصرفات الأبله في حكاية فلوبير مع كتاب من كتبه الأولى والذي سيصبح بقوة الأشياء كتاب العمر، استمر يكتبه ويعيد كتابته طيلة حياته. (La tentation de Saint Antoine). رواية لم يقتنع بها أقرب أصدقائه رغم أنه بذل مجهودات جبارة من خلال جلسات القراءة الأربع للتأثير في مستمعيه(ص 86)، ومع ذلك لم ينتبه لا إلى صمتهما ولا إلى فتور حماستهما ( !). وهذا راجع أيضا إلى بلاهة بطل الرواية القديس أونطوان ! فيما بعد سيقول فلوبير : « أحيانا، حينما ألف نفسي فارغة وتتمنع علي التعابير وأكتشف بعد مدة أن كل ما كتبته لا يساوي جملة مفيدة أنهار على سريري وأنغمس في بلاهة نادرة فيما بداخلي من الضجر... بعد هُنيهة كل شيء يتغير وينشرح قلبي فرحا.» (ص 114)، هكذا تتحول البلاهة إلى منبع إلهام، أو مشجب احتجاج... «أشعر بهوج من الكراهية ضد بلادة مرحلتي كما أشم رائحة كريهة تملأ رئتي. لكني أريد المحافظة عليها ولملمتها لأجعل منها مادة لزجة ألُوث بها وجه القرن 19. «(ص 119).
البلاهة بلادة تُرتب بجوار الوهم والسطحية والنفوس المنحطة و «البلادة البورجوازية». يقارن كليمان روصي (2) ( clement rosset ) بين البلاهة و الوهم نظرا لتقاربهما و تجاورهما. فالوهم و تجسده دائما الشخصيات التراجيدية كأوديب ملكا حين يبدو لنا في الوضعية المفارقة التالية:لما يريد أوديب تجنب قتل أبيه فهو يهرع نحو الطريق المؤدي إلى ذلك و لما يريد زوج السيدة بوفاري التيقن من إخلاص زوجته يسقط في ملابسات خيانتها ...
البلاهة ذات محتوى وشكل. شكلها هو الآخر مفارق، تبدو دائما على ما هي ليست عليه، تبدو كشيء ونقيضه. للبلاهة أكثرمن درجة. الدرجة الأولى هي الارتباط العفوي والمباشر بالشيء والدرجة الثانية هي الارتباط المؤجل والمتأمل انطلاقا من الذات .وهذه الدرجة يضعها هيجل في مصاف «البلاهة التي تعي ذاتها «أي حين يعمل البليد المعتوه على تجاوز بلاهته. آنذاك لا يستطيع ذلك. وهي بلاهة العظماء ...فلوبير، فولكنر، دوستويقسكي.. سارتر... إنها بلاهة مطلقة. لكن مفارقتها تبرز في كونها تريد الهروب من البلادة لكنها تغدو بليدة من خوف السقوط فيها .
الوهم فن إدراك حقيقي لكنه يسقط بجانب النتيجة الحقيقية.البلاهة فن إحساس حقيقي ودقيق لكنه لا يستطيع التعبير عن نفسه.
منبع إلهام لأن إيما بوفاري (EMMA BOVARY) بطلة الرواية التي تحمل اسمها كعنوان هي البلاهة عينها والثنائي «Bouvard et Pécuchet»، يشكل ملحمة « البلاهة الإنسانية «. البطلة الأولى بورجوازية صغيرة، غير مؤدبة، تعتبر مؤخرتها مقدمة العالم. إلا أن بلاهة هذه السيدة ستجر معها بلاهة فلوبير إلى المحاكمة، وستنتصر بلاهة الأديب. أما الأبلهان فيجعلان من البلاهة أمرا لا يمكن التسامح معه، لكن بنوع من البلادة التي تريد أن تطلع وتضطلع بكل ميادين المعرفة (الجيولوجيا، البيولوجيا، الفلسفة الطب...)، وتريد أن تُسدي الخير بتبني الأيتام، وتريد أن تؤلف قاموسا لا يعرف قارئه هل المؤلف يسخر منه أم لا... لكن وكما قال سارتر، سواء في الحالة الأولى للبلاهة أو في الحالة الثانية البلاهة هي المنتصرة دائما.
المراجع :
1- Bernard Fauconnier, Flaubert. Biographie. Gallimard. 2012.
2- Ibid. […] Quant aux cous, ils ont été bons… Il dit en avoir tiré cinq… p. 95.
3/5/2013
إدريس كثير