عبد الفتاح كيليطو... حمّال الحكايا | سبق لمحمد برادة أن وضع إطاراً تعريفياً لجان بول سارتر، مفاده أن هذا الفيلسوف هو خلاصة ما قرأ. فسارتر الذي شغل العالم في فترة من الفترات بالنسبة إلى برادة هو نتاج معرفته، هو تلك القدرة الرهيبة على إعادة ترتيب هذه المعرفة، القدرة على تنضيد خزانة المقروءات وتصنيف محتوياتها وتقديمها بشكل منهجي أكثر تأثيراً في المتلقي. ولعلّ هذا التعريف ينطبق ـ إلى حد بعيد ـ على عبد الفتاح كيليطو (1945)، مع إضافة اعتبار آخر، يرتبط ـ في نظرنا ـ بملَكة الذكاء، أي تلك الطاقة الداخلية القادرة على استجلاء المعنى على نحو مذهل، وتشسيع مساحات التأويل. يتعلق الأمر بالقدرة أيضاً على إنطاق النص وإظهار كل خفاياه واحتمالاته بعين تنتبه إلى ما قد لا ينتبه إليه الآخرون. في هذا الصدد، يساعدنا كيليطو على الاقتراب منه، حين يعترف، في إحدى المقابلات معه، بأن سيرته الذاتية هي سيرة قراءاته. لكنه في سياق آخر، ينقل إلينا في ما يشبه المكاشفة بأنه ليس قارئاً جيداً، ملمّحاً هنا بالطبع إلى الكمّ لا الكيف. غير أن اعترافاً كهذا يمكن أن يدخل في باب الإحساس بأن كلّ ما يُقرأ هو قليل على الدوام، قياساً إلى ما كُتِب ويُكتب. وقد سبق للكاتبة الفرنسية فرانسواز ساغان أن عبّرت عن هذا الإحساس المؤلم حين قالت: «الأمر الوحيد الذي أندم عليه هو أنه لن يتسنى لي قراءة كل الكتب التي أودّ قراءتها». غير أن العبرة ليست دائماً بحجم المقروء، بل بحجم التفاعل معه. هذا ما يملكه كيليطو، ذلك التفاعل المختلف مع النصوص التي أتيح للجميع أن يطّلع عليها، أو التي يمكن للجميع أن يقرأها، النصوص التراثية تحديداً. لكن تفاعل صاحب «العين والإبرة» مسنود بمرجعيات ودعامات متعددة، أولها الاطلاع على الآداب الحديثة عبر أكثر من لغة. فضلاً عن الفرنسية والإنكليزية، وبغيةَ فهم أعمق لنيتشه وكافكا وكلايست وفالادا وغيرهم، سيقرأ أعمالهم باللغة الألمانية التي صرّح مرةً بأن أشياء كثيرة كانت ستضيع عليه لو لم يكن يعرف هذه اللغة. وثانيها السعي إلى مقاربة النصوص القديمة من هذه المداخل التي أتاحتها الحداثة، وثالثها تلك الرغبة المستمرة في البحث عما يشبه البهجة والمتعة التي يخلّفها تقاطع النقد مع الأدب. فكيليطو معني طبعاً بما يتيحه النقد، لكنه معني أكثر بما يتيحه النص الأدبي موضوع النقد. لذلك تأتي منطلقاته النقدية من داخل النص، وتنتهي خلاصاته إليه، إلى هذا الداخل الذي يحتاج عمّالاً منجميّين قادرين على النزول إلى أعماقه، أكثر من الحاجة إلى منظّرين يتحدثون عنه بأدوات خارجية وهم مكتفون بالوقوف على فوهة المنجم. يشار هنا إلى أن كيليطو لم يُعمِل آلاته الحفرية في التراث العربي فحسب، بل أيضاً في نصوص حديثة مختلفة، عربية وغربية. ثمة صفة أخرى، ملازمة لعملية القراءة، يضيفها كيليطو، وهي الصبر، هذه الصفة التي يفتقدها القارئ المتعجّل، والتي يحول غيابها دون الوصول إلى عمق النص. يقول كيليطو في هذا الصدد: «حين نتحلى بالصبر، لقراءة المقامات، نتمثّل غناها الكبير».
إن كلّ نص أدبي، بالنسبة إلى كيليطو، هو كنز، أو دفينة تحت الأرض، يتوجب علينا أن نبذل أقصى ما نملك من طاقات وقدرات للكشف عنه. إن هذا الكنز بالتالي مجال لاختبار قدراتنا على اختراق الحواجز والوصول إليه. من هنا يملك كيليطو تلك القدرة السحرية التي تجعلنا نصدّق كل المقولات التي يُخرجها من نص ما، إنه يجعل النص يقول الكثير من الأشياء التي كنا نعتقد سلفاً أنه ليس بمستطاعه أن يقولها. كل ما يفعله صاحب «الكتابة والتناسخ» هو أنه يعيدنا إلى النص من جديد، ليكشف لنا أننا كنا حقاً مقصّرين في قراءته. إنه يعمل على تنبيهنا إلى ما فاتنا أن ننتبه إليه، وبالتالي نصير أمام مرحلتين: مرحلة قراءتنا نحن للنص، ومرحلة قراءتنا الثانية بعد قراءة كيليطو، لنقف بالتالي عند فداحة الفروق. إنه إجمالاً يكاد يكون دليلنا في ليل القراءة.
يملك كيليطو نظرة حادة ومستغوِرة إلى النصوص، تجعله يبصر كل التفاصيل المشكّلة لمشهد ما، كأنما بذلك يتقاطع مع سطر شعري لعبد اللطيف اللعبي يقول فيه: «ثمة كاسر يقرأني». وفضلاً عن عين الكاسر، هو يملك أذناً جيدة، وبالتالي يوظف، أثناء القراءة، حاسة الإصغاء، كأنه يرهف السمع ليلتقط الأصوات التي شكّلت ذلك المشهد المرئي الذي يطالعنا في مقامة أو في نص تراثي مركّب، مثل «ألف ليلة وليلة». يعيدنا هذا إلى جملة دالّة، بالرغم من تطرفها، للكاتب الأميركي روبرت فروست: «الأذن هي الكاتب الحقيقي الوحيد، والقارئ الحقيقي الوحيد».
في حوار سابق معه، يعترف كيليطو بأنه يتغيّر فعلاً كلما قرأ كاتباً كبيراً، إذ لا يبقى هو نفسه بعد القراءة. حدث له هذا مع كثيرين، من بينهم جيمس جويس ودوس باسوس، وبورخيس الذي كان يتخيل الجنة على شكل مكتبة. بورخيس الذي فَتَن كيليطو لكونه يعطي الانبطاع بأنه قرأ كل شيء. يقول عن أمثال بورخيس: «أحبّ كل الكتّاب القارئين، وعددهم ليس بالوافر». يمجّد كيليطو الكاتب الذي يقرأ بغزارة وذكاء، لأن الكتابة، في نظره، هي نتيجة الانبهار بالقراءة. فالقارئ بالنسبة إليه مدفوع على الدوام وبشكل واعٍ إلى «تقليد وسرقة ومحاكاة ما يقرأ، وفي يوم من الأيام تبزغ الكتابة باعتبارها ضرورة».
إن كلّ نص أدبي، بالنسبة إلى كيليطو، هو كنز، أو دفينة تحت الأرض، يتوجب علينا أن نبذل أقصى ما نملك من طاقات وقدرات للكشف عنه. إن هذا الكنز بالتالي مجال لاختبار قدراتنا على اختراق الحواجز والوصول إليه. من هنا يملك كيليطو تلك القدرة السحرية التي تجعلنا نصدّق كل المقولات التي يُخرجها من نص ما، إنه يجعل النص يقول الكثير من الأشياء التي كنا نعتقد سلفاً أنه ليس بمستطاعه أن يقولها. كل ما يفعله صاحب «الكتابة والتناسخ» هو أنه يعيدنا إلى النص من جديد، ليكشف لنا أننا كنا حقاً مقصّرين في قراءته. إنه يعمل على تنبيهنا إلى ما فاتنا أن ننتبه إليه، وبالتالي نصير أمام مرحلتين: مرحلة قراءتنا نحن للنص، ومرحلة قراءتنا الثانية بعد قراءة كيليطو، لنقف بالتالي عند فداحة الفروق. إنه إجمالاً يكاد يكون دليلنا في ليل القراءة.
يملك كيليطو نظرة حادة ومستغوِرة إلى النصوص، تجعله يبصر كل التفاصيل المشكّلة لمشهد ما، كأنما بذلك يتقاطع مع سطر شعري لعبد اللطيف اللعبي يقول فيه: «ثمة كاسر يقرأني». وفضلاً عن عين الكاسر، هو يملك أذناً جيدة، وبالتالي يوظف، أثناء القراءة، حاسة الإصغاء، كأنه يرهف السمع ليلتقط الأصوات التي شكّلت ذلك المشهد المرئي الذي يطالعنا في مقامة أو في نص تراثي مركّب، مثل «ألف ليلة وليلة». يعيدنا هذا إلى جملة دالّة، بالرغم من تطرفها، للكاتب الأميركي روبرت فروست: «الأذن هي الكاتب الحقيقي الوحيد، والقارئ الحقيقي الوحيد».
في حوار سابق معه، يعترف كيليطو بأنه يتغيّر فعلاً كلما قرأ كاتباً كبيراً، إذ لا يبقى هو نفسه بعد القراءة. حدث له هذا مع كثيرين، من بينهم جيمس جويس ودوس باسوس، وبورخيس الذي كان يتخيل الجنة على شكل مكتبة. بورخيس الذي فَتَن كيليطو لكونه يعطي الانبطاع بأنه قرأ كل شيء. يقول عن أمثال بورخيس: «أحبّ كل الكتّاب القارئين، وعددهم ليس بالوافر». يمجّد كيليطو الكاتب الذي يقرأ بغزارة وذكاء، لأن الكتابة، في نظره، هي نتيجة الانبهار بالقراءة. فالقارئ بالنسبة إليه مدفوع على الدوام وبشكل واعٍ إلى «تقليد وسرقة ومحاكاة ما يقرأ، وفي يوم من الأيام تبزغ الكتابة باعتبارها ضرورة».