خمسة مآلهم الجنة: مستجاب الأول لأن جهنم لم تكن اكتشفت بعد، وأم آل مستجاب لأنها أم آل مستجاب، وجبار يتيه في الأرض مرحا قال "لا" لامرأتين متتاليتين ثم قال نعم لأول رجل يقابله، وبليغ قرقعت الحروف في حنجرته حتى وقع بين شطري قصيدة قديمة، ومستجاب الخامس الذي فاته اعتلاء أريكة آل مستجاب مرتين:
الأولى فور هلاك الرابع الذي داهمه شيطان في محل الأدب، فبحثوا عن الخامس في الدروب وظلال الجميز والفيافي، حتى أدركوه بين قوم وهبوا أنفسهم لله، وعندما استعاد نفسه كان السادس قد وطد أمره وجعل من السابع خدينا لمجلسه ووليا لعهده، والمرة الثانية هي هذه التي كتب علينا أن نفصح عنها كي ندرأ ما يكون قد علق بها من أدران وسوء نوايا وأغاليط.
كان الخامس قويا كنملة، ضعيفا كبقرة، إذا شرب عب وإذا وقف شب وإذا غضب صب، أخذ عن أخواله وسامة ونزقا، وعن جده مستجاب الأول عنادا في الحق وكراهة للبيت وصبرا على الأصدقاء وولعا باللحوم، وفيما يروى فإنه كان لا يقرب لحم خروف دون الامتلاء، كما كان مغرما بالطحينة يقضي وقتا مستمتعا في إعدادها.
ويروي المقربون طرائف عن فورة انتشاء تترك على الذقن الكث والزعبوط الرصين طرطشة بيضاء. لكنه في أوقات استرخائه يظل مستلقيا يمزج بعيونه القمر في مخلوط النجوم وقد أدى به ذلك أن أصبح أشهر من أعد ألغاز امتحان من تأتيه فرصة امتلاك ناصية الأمور، والأمر ببساطة أن القواعد تقضي على من يقترب من الأريكة أن يحل لغزا يثبت به أن عقله هو أصفي العقول، وأن جنانه هو أثبت الجنان، وأن فؤاده هو أعمر الأفئدة، ومستجاب الخامس هو الذي وضع لغز ذلك الكائن الذي يسير على أربع في الصباح وعلى اثنين في الظهيرة وعلى ثلاث في آخر النهار، هذا اللغز الذي حله مستجاب الأعرج ليصبح مستجاب الثالث، كما وضع لغز ذلك المخلوق الذي يمكنه أن يعدي البحر دون أن يبتل ليصبح مستجاب
الحابل مستجاب الرابع والشيء الذي كالفيل يمكننا صره في منديل لصالح مستجاب الثاني، والباب الذي يأتي منه الريح فإذا أغلقته فلن تستريح لحساب الثامن وهذا الذي يقف إن وقفت ويمشي إن مشيت، فلما فشل مستجاب العاشر فى معرفة انه (الظل) كادت أريكة آل مستجاب أن تختل، لولا فتوى طيبة سمحت له بإعادة الاختيار بلغز جديد تم إعداده بدقة ليصبح: يمشي إن مشيت ويقف إن وقفت، فكادت الجماهير تغشى من هول ما فرزته قريحة الخامس،والذي ألغى من ذاكرته أنه صاحب حق في أريكة قومه، إذ استعذب أن يوكل إليه وضع المعضلات والعراقيل التي بدونها لن يصبح أحدهم ذا شأن، وقد أعد لذلك قدرا معقولا من ألغاز حول بعض الطيور والضفادع والعناكب، وكثيرا ما أتاح للأرائك المجاورة لآل مستجاب استخدم ألغازه، فأصاب في المنطقة حبا وشهرة ومجدا واحتراما، وأصبح ذا كلمة مسموعة وأمر مطاع وحضور مشع، يخدمه في ذلك علم ومعرفة ودراية وسمو، ثم تواضع مهذب ولسان عف، ما رويت حادثة إلا ناقشها وقام بتأصيلها وإلغاء الأوشاب التي تكون قد لحقت بها، وما رويت قصيدة إلاوأسرع بردها إلى مصادرها وأورد مشابهاتها، وما صدرت من أحد حكمة إلا واقتنصها، ووضعها في موقعها الصحيح المرتبط بمركز بدايتها ولذا فقد حرص فنانو القول – من المداحين والشعراء والرواة وندابات الجنائز– على الارتكان إليه فيما يطرأ على نصوصهم من اضطراب أو تآكل أو شك أو تطويع غير مقنع، وكانت زوجته الرابعة تفخر بأنها وهبت نفسها لأغلى ما جادت به الطبيعة: الذاكرة والذكورة، وهو أمر لا نحب أن نتوسع في التعرض له حتى لا تلتوي القصة منا، لا سيما وأننا نعرف عنه ثاقب النظر وسرعة الرؤية وصفاء الرؤيا، إذ كان يمكنه أن يتعرف على النساء العابرات من الإمعان السريع في كعوب أقدامهن، وكان ذلك يتم في أضيق الحدود حتى لا تتكرر حادثته مع زوجة مجهول خلع عنه أرديته وأعاده إلى قومه عاريا، وهي حكاية مبالغ فيها ولا نحب التوقف عندها كثيراً، فقد استمر الخامس هو خير أهله جميعا: وإن كان قد شكا –بعد ذلك – من ضعف ألمّ ببصره فقد ظل قلبه حديدا، ومن تنميل أصاب ركبته اليسرى، دام عقله ناصعا، ومن ورم فتك بإحدى الخصيتين (بسبب امتطاء متعجل لحمارة تعدو) ازدادت مشيته خيلاء، ومن كسر في الفقرة الرابعة من عموده بدا أكثر تواضعا، ومن تساقط في أسنان فكه العلوي فقد أصبحت سليقته أسرع اندفاعا وإلى غير ذلك من تجارب ليست ذات بال إزاء أخطر كارثتين تعرض لهما طوال حياته، الأولى: حينما هربت زوجته الثالثة مع عشيق زوجته الثانية، والثانية: حينما انجذب ابنه السابع – والأثير – إلى الشعر الحديث متخليا عن العمودي ذي الشطرتين، وقد واجه الخامس مثل هذه المصائب القدرية كما واجه كارثة تفويت حقه في أريكة آل مستجاب من قبل: إيمان راسخ وثقة بالخالق وتشبث بأهداف الفضيلة، فما ارتعش أو اضطرب أو ناح أو لعن أو كابر في غير الحق، وما تأخر عن صلاة أو تخلف عن أماكن يرومها، وما خرج عن وعيه في مجالس احتساء البوظة أو مواقع توزيع الصدقة أو مكامن استلاب اللذة، وعندما تجتاحه النشوة يتألق بإنشاد القصائد وإزجاء الألغاز وتلاوة عيون النثر، كان يتسع ويمتد حتى يصبح آل مستجاب كلهم نقطة صغيرة في وجدانه الواسع، ويستطيل ويشمخ حتى يمسي نخيل المنطقة نجيلا تحت قدميه، ويرق ويصفو حتى تكاد ترى أغنام وكلاب ونساء ودروب الوادي وراء جسده الشفاف، ويدق بكعبه الأرض حتى ترتج مطلقة الشياطين من سراديبها، هو الإجابة الصحيحة على كل الأسئلة وهو سرعة البديهية على الاعتراض أو المشاكسة أو الاستخفاف، وهو النوم الثقيل تحت الشجر أو وراء الأكمات أو في مرابط البهائم أو في ظل المعابد أوتحت الأزيار أو على حافة الآبار، قيل له: مستجاب التاسع يحوز قنطارين من خالص الذهب، فانحنى الخامس على الأرض وتناول زنبقة وتنسم أريجها فذهبت مثلا، وقيل له: الثالث بنى هرما يقي جثمانه عبث الزمان، فانتفض زاعقا وشرخ صدره وأخرج قلبه وصرخ: وهذا هرمي، فذهبت مثلا، وقيل له : العاشر يبحث عن الحكمة بين الناس فقال: الحكمة في ملاءة السرير، فضحك القوم وانصرفوا ساخرين، لكنهم فوجئوا بمستجاب العاشر وقد قضى نحبه في ملاءة نومه المكللة بجحافل الدود وما كادت هذه الواقعة تذهب مثلا حتى ارتج الأمر على القوم، فإن أحدا من آل مستجاب ذا شأن لم يكن قريبا من أريكتهم، عيال وأرامل ومرضى ومعتوهون وموصومون ورجال جاءوا من فروج غير مستجابية، فما من مستجاب خالصيّ امتطى الأريكة إلا وقد استخدم حق القصاص في المناوئين والأعداء وذوي الدم الثقيل وخلال الأحقاب الماضية كان أي مستجاب يقتص من القريب كي يعتبر ويتعظ البعيد، ويضرب المربوط ضربا مبرحا كي يخاف السايب، فنزح من يستطيع النزوح واعتل من يمكنه أن يكون عليلا واستبله من وجد طريقا للبله، وأصبح الأكثر أماناً من أن تلوث مستجابيته الأدران: في الأصول أو السلوك أو القول، فليس من المعقول أن يتولى أمر أنصع الناس طماع أو كذاب أو محكوم عليه بنفقة أوابن غجرية أو فاسق أو غير ملتزم بمراعاة النصوص، وليس من الزهور والفخر أن يكون مستجابهم الجديد قزما أو عبدا أو مضطرب اللسان أو أجيرا أو غير مدرك لعلم الكلام، وبات من العبث – ومن الخزي أيضا – أن يبعثوا من يسترد الصالح من المستجابيين الخُلّص النازحين في أماكن بعيدة، فانكفأ القوم على نفوسهم فترة يفكرون ويتفكرون خشية أن تظل أريكتهم بلا مستجاب فتصبح نهبا لذوى البأس والمطمع، وأفاقوا – في أول صباح – من انكفائهم على طاقة من النورالخامس هو الأصلح والأحق والأنسب ليصبح مستجاب الحادي عشر
أول ما واجه القوم أن الخامس متمسك بالخامس دون أن يطلق عليه الحادى عشر،فحاولوا إثناءه عن مطلبه الذي يعني إقرارا من القوم أنه صاحب حق في الأريكة منذ عصر مستجاب الرابع، فلما عاند أذعنوا تحت فتوى عاجلة تقول إن الاسم لم يعد يعني الترتيب بقدر ما هو لقب شخصي، ثم كان ثاني ما واجهه: من ذا الذي يضع اللغز لصانع الألغاز دون أن يشوب الأمر نقد وكلام؟ وقد انتهت المعضلة بتفويض أحدهم أن يستحضر لغزا من صفحات الجرائد والمجلات ذات السمعة الطيبة، مع مراعاة – وهذا كلام بينهم لا يخرج للآخرين – أن مستجاب الخامس غير مسموح له بالخطأ في اللغز، فلم يعد الأمر يخصه وحده، بل يخص قوما تشخص أبصارهم انتظارا لما تأتي به المقادير.
كان اللغز الذي استقر عليه رأي القوم أن يعدوا ذئبا وعنزة وربطة حشيش، وعلى صاحب الحق في الأريكة أن ينقل العناصر الثلاثة في قارب من غرب النهر إلى شرقه، على ألا يصطحب معه سوى عنصرين على الأكثر. وما كاد المسئولون يعلنون عن نص الغز وعن موقع امتحان مستجاب الخامس حتى هاص الناس وأسفروا عن قرائحهم، وصنعوا مجموعات هامسة تحاول فك اللغز دون أن تترك العنزة مع ربطة الحشيش – أو تسيب الذئب مع العنزة، وأيا كان كلامهم وما وصلوا إليه من حلول، فإن الطريق بينهم وبين الممتحن قُطع، ومُنع عن الرجل أن يتصل أو يتكلم أو يثرثر مع أحد، اتقاء للشبهة ودرءا للقيل والقال.
في الصباح كانت ضفتا النهر – شرقا وغربا – تغص بالقوم خصص موقع ظليل لضيوفٍ هم شاهدون على صحة الاختبار، وأقاموا ظلة أخرى لمحبى مستجاب الخامس جاءوا مجاملة وتشجيعا من وراء الجبال ومن بين غيوم السماء، وأعدوا موقعا على النهر حالوا بين القوم والاقتراب منه، وجاءت اللجنة المختارة بالعنزة، ثم بعد وقت قليل بالذئب وأبقوه بعيدا عن العنزة، ثم أتوا بربطة برسيم جيدة الخضرة، وسمحوا لجماعة منتقاة ومختارة من بين ذوى الحصافة والرأى، ليعاينوا عناصر اللغز، وليتأكدوا من أن العنزة ذات شهية، وأن البرسيم غير ملوث بمواد منفرة، وأن الذئب ذئب وليس كلبا أو شاخصا أو حيوانا أليفا وبعدها أتوا بالقارب ليرسوا قريبا، وبعد فترة صمت: هلَّ مستجاب، بوجهه الأبيض وملابسه الناصعة وجسده الممشوق، فارتجت الضفتان وانطلقت الأعيرة الناريةابتهاجا وفخرا وجاء أكبر أعضاء اللجنة سنا فمسح على رأس مستجاب الذى امتثل، ودعا له بالفلاح والصواب وحسن التصرف، ثم قرأ نص اللغز بصوت جهوري، وما كاد يخرج من البقعة حتى نظر الخامس مليا في عناصر اللغز، وابتسم، فصفقت الجماهير امتنانا.
لف مستجاب الخامس حول نفسه مرتين، ثم نظر إلى القوم، واقترب وئيدا إلى العنزة ففك وثائقها وسحبها إلى القارب حينئذ وضح للجماهير صواب مدخل الرجل لمواجهة اللغز، وقفزت العنزة إلى القارب وخلفها رجلها، وبدأ يحرك المجدافين ومعه العنزة تاركا الذئب مع الحشيش، فازدادت الجموع صياحا وإعجابا، وظل يجدف حتى وصل إلى الشط الشرقي حيث ربط العنزة وعاد بقاربه وسط مظاهر الحفاوة، حينئذ أصطحب معه ربطة الحشيش فكاد يغم على القوم، إذ كيف ينقل البرسيم إلى حيث العنزة، لكنهم تداركوا مدى عمق تفكيره حينما ترك الحشيش على الشاطئ الشرقي وعاد بالعنزة في قاربه ولعل الأمر الآن أصبح منطقيا بعد خلوه من الملابسات، فقد أعاد الرجل العنزة إلى الشط الأول، وبعد أن ربطها، فك وَثاق الذئب، وضغط عليه ليقفز إلى القارب، فانفلتت من حناجر الجماهير أمواج صاكة من الإعجاب بددت الغيوم وأقلقت السموات السبع …
كان اللغز يتفكك وينحل، العنزة في الشط الغربي، والحشيش في الشط الشرقي، والجماهير على الشطين تزيد وتهتاج وتصرخ في انفعال شريف جارف، والمراقبون يحمدون للخامس رجاحة عقله وإلهام وجدانه، ومستجاب الخامس في القارب وسط النهر مع الذئب.
كانت المرة الأولى التي يواجه فيها مستجاب الخامس ذئبا ونظر كل منهما للآخر، ونظر مستجاب إلى الضفتين وابتسم في امتنان وود وكبرياء، ونظر الذئب إلى الضفتين وابتسم في امتنان وود وكبرياء، ثم أعاد نظره إلى مستجاب، ثم لم يلبث أن تراجع للخلف زائما.
وقفز الذئب قفزة رعدية أرجحت القارب وفتحت بطن الخامس، فانطلق في الضفتين هتاف وإنشاد وتصميم، ودَوَّى الرعد إعجابا، وعين البرق تحرس عناصر اللغز، العنزة في الغرب والحشيش في الشرق، ومستجاب الخامس مبقور البطن في قارب يتأرجح منتظراً أن يسلم مقدمته لأي تيار.
الأولى فور هلاك الرابع الذي داهمه شيطان في محل الأدب، فبحثوا عن الخامس في الدروب وظلال الجميز والفيافي، حتى أدركوه بين قوم وهبوا أنفسهم لله، وعندما استعاد نفسه كان السادس قد وطد أمره وجعل من السابع خدينا لمجلسه ووليا لعهده، والمرة الثانية هي هذه التي كتب علينا أن نفصح عنها كي ندرأ ما يكون قد علق بها من أدران وسوء نوايا وأغاليط.
كان الخامس قويا كنملة، ضعيفا كبقرة، إذا شرب عب وإذا وقف شب وإذا غضب صب، أخذ عن أخواله وسامة ونزقا، وعن جده مستجاب الأول عنادا في الحق وكراهة للبيت وصبرا على الأصدقاء وولعا باللحوم، وفيما يروى فإنه كان لا يقرب لحم خروف دون الامتلاء، كما كان مغرما بالطحينة يقضي وقتا مستمتعا في إعدادها.
ويروي المقربون طرائف عن فورة انتشاء تترك على الذقن الكث والزعبوط الرصين طرطشة بيضاء. لكنه في أوقات استرخائه يظل مستلقيا يمزج بعيونه القمر في مخلوط النجوم وقد أدى به ذلك أن أصبح أشهر من أعد ألغاز امتحان من تأتيه فرصة امتلاك ناصية الأمور، والأمر ببساطة أن القواعد تقضي على من يقترب من الأريكة أن يحل لغزا يثبت به أن عقله هو أصفي العقول، وأن جنانه هو أثبت الجنان، وأن فؤاده هو أعمر الأفئدة، ومستجاب الخامس هو الذي وضع لغز ذلك الكائن الذي يسير على أربع في الصباح وعلى اثنين في الظهيرة وعلى ثلاث في آخر النهار، هذا اللغز الذي حله مستجاب الأعرج ليصبح مستجاب الثالث، كما وضع لغز ذلك المخلوق الذي يمكنه أن يعدي البحر دون أن يبتل ليصبح مستجاب
الحابل مستجاب الرابع والشيء الذي كالفيل يمكننا صره في منديل لصالح مستجاب الثاني، والباب الذي يأتي منه الريح فإذا أغلقته فلن تستريح لحساب الثامن وهذا الذي يقف إن وقفت ويمشي إن مشيت، فلما فشل مستجاب العاشر فى معرفة انه (الظل) كادت أريكة آل مستجاب أن تختل، لولا فتوى طيبة سمحت له بإعادة الاختيار بلغز جديد تم إعداده بدقة ليصبح: يمشي إن مشيت ويقف إن وقفت، فكادت الجماهير تغشى من هول ما فرزته قريحة الخامس،والذي ألغى من ذاكرته أنه صاحب حق في أريكة قومه، إذ استعذب أن يوكل إليه وضع المعضلات والعراقيل التي بدونها لن يصبح أحدهم ذا شأن، وقد أعد لذلك قدرا معقولا من ألغاز حول بعض الطيور والضفادع والعناكب، وكثيرا ما أتاح للأرائك المجاورة لآل مستجاب استخدم ألغازه، فأصاب في المنطقة حبا وشهرة ومجدا واحتراما، وأصبح ذا كلمة مسموعة وأمر مطاع وحضور مشع، يخدمه في ذلك علم ومعرفة ودراية وسمو، ثم تواضع مهذب ولسان عف، ما رويت حادثة إلا ناقشها وقام بتأصيلها وإلغاء الأوشاب التي تكون قد لحقت بها، وما رويت قصيدة إلاوأسرع بردها إلى مصادرها وأورد مشابهاتها، وما صدرت من أحد حكمة إلا واقتنصها، ووضعها في موقعها الصحيح المرتبط بمركز بدايتها ولذا فقد حرص فنانو القول – من المداحين والشعراء والرواة وندابات الجنائز– على الارتكان إليه فيما يطرأ على نصوصهم من اضطراب أو تآكل أو شك أو تطويع غير مقنع، وكانت زوجته الرابعة تفخر بأنها وهبت نفسها لأغلى ما جادت به الطبيعة: الذاكرة والذكورة، وهو أمر لا نحب أن نتوسع في التعرض له حتى لا تلتوي القصة منا، لا سيما وأننا نعرف عنه ثاقب النظر وسرعة الرؤية وصفاء الرؤيا، إذ كان يمكنه أن يتعرف على النساء العابرات من الإمعان السريع في كعوب أقدامهن، وكان ذلك يتم في أضيق الحدود حتى لا تتكرر حادثته مع زوجة مجهول خلع عنه أرديته وأعاده إلى قومه عاريا، وهي حكاية مبالغ فيها ولا نحب التوقف عندها كثيراً، فقد استمر الخامس هو خير أهله جميعا: وإن كان قد شكا –بعد ذلك – من ضعف ألمّ ببصره فقد ظل قلبه حديدا، ومن تنميل أصاب ركبته اليسرى، دام عقله ناصعا، ومن ورم فتك بإحدى الخصيتين (بسبب امتطاء متعجل لحمارة تعدو) ازدادت مشيته خيلاء، ومن كسر في الفقرة الرابعة من عموده بدا أكثر تواضعا، ومن تساقط في أسنان فكه العلوي فقد أصبحت سليقته أسرع اندفاعا وإلى غير ذلك من تجارب ليست ذات بال إزاء أخطر كارثتين تعرض لهما طوال حياته، الأولى: حينما هربت زوجته الثالثة مع عشيق زوجته الثانية، والثانية: حينما انجذب ابنه السابع – والأثير – إلى الشعر الحديث متخليا عن العمودي ذي الشطرتين، وقد واجه الخامس مثل هذه المصائب القدرية كما واجه كارثة تفويت حقه في أريكة آل مستجاب من قبل: إيمان راسخ وثقة بالخالق وتشبث بأهداف الفضيلة، فما ارتعش أو اضطرب أو ناح أو لعن أو كابر في غير الحق، وما تأخر عن صلاة أو تخلف عن أماكن يرومها، وما خرج عن وعيه في مجالس احتساء البوظة أو مواقع توزيع الصدقة أو مكامن استلاب اللذة، وعندما تجتاحه النشوة يتألق بإنشاد القصائد وإزجاء الألغاز وتلاوة عيون النثر، كان يتسع ويمتد حتى يصبح آل مستجاب كلهم نقطة صغيرة في وجدانه الواسع، ويستطيل ويشمخ حتى يمسي نخيل المنطقة نجيلا تحت قدميه، ويرق ويصفو حتى تكاد ترى أغنام وكلاب ونساء ودروب الوادي وراء جسده الشفاف، ويدق بكعبه الأرض حتى ترتج مطلقة الشياطين من سراديبها، هو الإجابة الصحيحة على كل الأسئلة وهو سرعة البديهية على الاعتراض أو المشاكسة أو الاستخفاف، وهو النوم الثقيل تحت الشجر أو وراء الأكمات أو في مرابط البهائم أو في ظل المعابد أوتحت الأزيار أو على حافة الآبار، قيل له: مستجاب التاسع يحوز قنطارين من خالص الذهب، فانحنى الخامس على الأرض وتناول زنبقة وتنسم أريجها فذهبت مثلا، وقيل له: الثالث بنى هرما يقي جثمانه عبث الزمان، فانتفض زاعقا وشرخ صدره وأخرج قلبه وصرخ: وهذا هرمي، فذهبت مثلا، وقيل له : العاشر يبحث عن الحكمة بين الناس فقال: الحكمة في ملاءة السرير، فضحك القوم وانصرفوا ساخرين، لكنهم فوجئوا بمستجاب العاشر وقد قضى نحبه في ملاءة نومه المكللة بجحافل الدود وما كادت هذه الواقعة تذهب مثلا حتى ارتج الأمر على القوم، فإن أحدا من آل مستجاب ذا شأن لم يكن قريبا من أريكتهم، عيال وأرامل ومرضى ومعتوهون وموصومون ورجال جاءوا من فروج غير مستجابية، فما من مستجاب خالصيّ امتطى الأريكة إلا وقد استخدم حق القصاص في المناوئين والأعداء وذوي الدم الثقيل وخلال الأحقاب الماضية كان أي مستجاب يقتص من القريب كي يعتبر ويتعظ البعيد، ويضرب المربوط ضربا مبرحا كي يخاف السايب، فنزح من يستطيع النزوح واعتل من يمكنه أن يكون عليلا واستبله من وجد طريقا للبله، وأصبح الأكثر أماناً من أن تلوث مستجابيته الأدران: في الأصول أو السلوك أو القول، فليس من المعقول أن يتولى أمر أنصع الناس طماع أو كذاب أو محكوم عليه بنفقة أوابن غجرية أو فاسق أو غير ملتزم بمراعاة النصوص، وليس من الزهور والفخر أن يكون مستجابهم الجديد قزما أو عبدا أو مضطرب اللسان أو أجيرا أو غير مدرك لعلم الكلام، وبات من العبث – ومن الخزي أيضا – أن يبعثوا من يسترد الصالح من المستجابيين الخُلّص النازحين في أماكن بعيدة، فانكفأ القوم على نفوسهم فترة يفكرون ويتفكرون خشية أن تظل أريكتهم بلا مستجاب فتصبح نهبا لذوى البأس والمطمع، وأفاقوا – في أول صباح – من انكفائهم على طاقة من النورالخامس هو الأصلح والأحق والأنسب ليصبح مستجاب الحادي عشر
أول ما واجه القوم أن الخامس متمسك بالخامس دون أن يطلق عليه الحادى عشر،فحاولوا إثناءه عن مطلبه الذي يعني إقرارا من القوم أنه صاحب حق في الأريكة منذ عصر مستجاب الرابع، فلما عاند أذعنوا تحت فتوى عاجلة تقول إن الاسم لم يعد يعني الترتيب بقدر ما هو لقب شخصي، ثم كان ثاني ما واجهه: من ذا الذي يضع اللغز لصانع الألغاز دون أن يشوب الأمر نقد وكلام؟ وقد انتهت المعضلة بتفويض أحدهم أن يستحضر لغزا من صفحات الجرائد والمجلات ذات السمعة الطيبة، مع مراعاة – وهذا كلام بينهم لا يخرج للآخرين – أن مستجاب الخامس غير مسموح له بالخطأ في اللغز، فلم يعد الأمر يخصه وحده، بل يخص قوما تشخص أبصارهم انتظارا لما تأتي به المقادير.
كان اللغز الذي استقر عليه رأي القوم أن يعدوا ذئبا وعنزة وربطة حشيش، وعلى صاحب الحق في الأريكة أن ينقل العناصر الثلاثة في قارب من غرب النهر إلى شرقه، على ألا يصطحب معه سوى عنصرين على الأكثر. وما كاد المسئولون يعلنون عن نص الغز وعن موقع امتحان مستجاب الخامس حتى هاص الناس وأسفروا عن قرائحهم، وصنعوا مجموعات هامسة تحاول فك اللغز دون أن تترك العنزة مع ربطة الحشيش – أو تسيب الذئب مع العنزة، وأيا كان كلامهم وما وصلوا إليه من حلول، فإن الطريق بينهم وبين الممتحن قُطع، ومُنع عن الرجل أن يتصل أو يتكلم أو يثرثر مع أحد، اتقاء للشبهة ودرءا للقيل والقال.
في الصباح كانت ضفتا النهر – شرقا وغربا – تغص بالقوم خصص موقع ظليل لضيوفٍ هم شاهدون على صحة الاختبار، وأقاموا ظلة أخرى لمحبى مستجاب الخامس جاءوا مجاملة وتشجيعا من وراء الجبال ومن بين غيوم السماء، وأعدوا موقعا على النهر حالوا بين القوم والاقتراب منه، وجاءت اللجنة المختارة بالعنزة، ثم بعد وقت قليل بالذئب وأبقوه بعيدا عن العنزة، ثم أتوا بربطة برسيم جيدة الخضرة، وسمحوا لجماعة منتقاة ومختارة من بين ذوى الحصافة والرأى، ليعاينوا عناصر اللغز، وليتأكدوا من أن العنزة ذات شهية، وأن البرسيم غير ملوث بمواد منفرة، وأن الذئب ذئب وليس كلبا أو شاخصا أو حيوانا أليفا وبعدها أتوا بالقارب ليرسوا قريبا، وبعد فترة صمت: هلَّ مستجاب، بوجهه الأبيض وملابسه الناصعة وجسده الممشوق، فارتجت الضفتان وانطلقت الأعيرة الناريةابتهاجا وفخرا وجاء أكبر أعضاء اللجنة سنا فمسح على رأس مستجاب الذى امتثل، ودعا له بالفلاح والصواب وحسن التصرف، ثم قرأ نص اللغز بصوت جهوري، وما كاد يخرج من البقعة حتى نظر الخامس مليا في عناصر اللغز، وابتسم، فصفقت الجماهير امتنانا.
لف مستجاب الخامس حول نفسه مرتين، ثم نظر إلى القوم، واقترب وئيدا إلى العنزة ففك وثائقها وسحبها إلى القارب حينئذ وضح للجماهير صواب مدخل الرجل لمواجهة اللغز، وقفزت العنزة إلى القارب وخلفها رجلها، وبدأ يحرك المجدافين ومعه العنزة تاركا الذئب مع الحشيش، فازدادت الجموع صياحا وإعجابا، وظل يجدف حتى وصل إلى الشط الشرقي حيث ربط العنزة وعاد بقاربه وسط مظاهر الحفاوة، حينئذ أصطحب معه ربطة الحشيش فكاد يغم على القوم، إذ كيف ينقل البرسيم إلى حيث العنزة، لكنهم تداركوا مدى عمق تفكيره حينما ترك الحشيش على الشاطئ الشرقي وعاد بالعنزة في قاربه ولعل الأمر الآن أصبح منطقيا بعد خلوه من الملابسات، فقد أعاد الرجل العنزة إلى الشط الأول، وبعد أن ربطها، فك وَثاق الذئب، وضغط عليه ليقفز إلى القارب، فانفلتت من حناجر الجماهير أمواج صاكة من الإعجاب بددت الغيوم وأقلقت السموات السبع …
كان اللغز يتفكك وينحل، العنزة في الشط الغربي، والحشيش في الشط الشرقي، والجماهير على الشطين تزيد وتهتاج وتصرخ في انفعال شريف جارف، والمراقبون يحمدون للخامس رجاحة عقله وإلهام وجدانه، ومستجاب الخامس في القارب وسط النهر مع الذئب.
كانت المرة الأولى التي يواجه فيها مستجاب الخامس ذئبا ونظر كل منهما للآخر، ونظر مستجاب إلى الضفتين وابتسم في امتنان وود وكبرياء، ونظر الذئب إلى الضفتين وابتسم في امتنان وود وكبرياء، ثم أعاد نظره إلى مستجاب، ثم لم يلبث أن تراجع للخلف زائما.
وقفز الذئب قفزة رعدية أرجحت القارب وفتحت بطن الخامس، فانطلق في الضفتين هتاف وإنشاد وتصميم، ودَوَّى الرعد إعجابا، وعين البرق تحرس عناصر اللغز، العنزة في الغرب والحشيش في الشرق، ومستجاب الخامس مبقور البطن في قارب يتأرجح منتظراً أن يسلم مقدمته لأي تيار.