وديع العبيدي - نظرية التوازنات الافقية في رواية دابادا

تقوم تقنية حسن مطلك الكتابية على درجة عالية ومعقدة من الوعي الحرفي، يحيل الكتابة بحد ذاتها إلى عملية مزدوجة من اجترار العذاب. بعبارة أخرى، الكتابة لديه أقرب إلى تمرير منشور ثوري داخل لوري من القشّ. ولضمان نجاح تمريره كان يعمد إلى تمزيقه إلى حروف وعبارات مجتزأة ، ليصار إلى إعادة صياغتها وقراءتها في الجانب الآخر لدى المتلقي. هذه التقنية/ الغرائبية في اللغة والاسلوب هي ما استثار الوسط الأدبي يومئذ، في إطار النزعة الشكلانية السائدة في الثقافة العربية. لعل من أصعب أنواع الكتابة، تلك التي تعتمد درجة متناهية من الوعي والقصدية للتعبير عن فكرة (عبث). لأن تحويل (عبث) إلى فكرة، يمنحها معنى غير موجود في أصله. وهنا تكمن (متاهة) الكائن في (عقله). وهي المرجعية الأساسية في فكر حسن مطلك الذي صاغه في نصوص قصصية وروائية وشعرية، ليضيف إليها خاصة لغوية مميزة طغت على سواها. واستناداً إلى هذه المرجعية الثقافية يتخذ الحديث عن نص للكاتب إطار الحديث عن التجربة بسعتها وعمقها ما أمكن ذلك، دون الانحسار في داخل النص.
تمتح تجربة حسن مطلك من منابع فكرية/ فلسفية/ وجودية، أكثر من أي شيء آخر. وقد جاءت ظروف الدكتاتورية والحرب لاضفاء خطاب سياسي تاريخاني شفيف في تلافيف رؤيته الوجودية، شديد القرابة من تجربة سليم مطر في النصف الثاني من (امرأة القارورة)، مع استثناء اللغة والاسلوب. فشخصية المفكر والفيلسوف عند حسن مطلك وسليم مطر أقوى من الكاتب والروائي. لأن النص الأدبي إذا كان وثيقة اجتماعية تاريخية مرتبطة بمرحلة محددة (منغلقة) زمنياً، فأن الخطاب الوجودي الانساني منفتح في الزمان والمكان والهيولى، وهو ما يمنحه الاستمرارية أو صفة الأبدية. وهذا ما يجعل النص ازاء مستويين في المرجعية القرائية، فلسفية وجودية، واجتماعية سياسية. بمعنى آخر، أننا هنا أمام نموذج، يجمع بين كل من شخصيتي الزهاوي والرصافي، المعري والمتنبي، بين القلق والحيرة من جهة، ووضوح الغاية والوسيلة، في شخصية واحدة، وهنا سرّ الالتباس والدهشة في آن. [راجع: نزعات وجودية في الأدب العراقي – الموضوع السابق لهذه القراءة- (للكاتب)]
وتعدّ التعددية التقنية (النص المركب) والتعددية الدلالية (اللغة المتشظية أو الغرائبية) من ملامح السبعينيات العراقية وتغير مفاهيم الحداثة النافذة. في طلاق غير رجعي مع النصوص النمطية التقليدية أو المركبة البسيطة مثل رواية اللعبة ليوسف الصائغ أو الوجه الآخر لفؤاد التكرلي.
ان النظر إلى دابادا كنص وحسن مطلك كتجربة في معزل عن السيرورة الثقافية في العراق يختزل الكثير من ملامحها ويموه على مداخلها ومخارجها المنفتحة. بينما كانت ولادتها في خضم وسياق هذه السيرورة ومنتمية إليها بأكثر من وشيجة، مع تميزها بالجرأة والتراكم النوعي مما مايزها عن السائد في ثقافة التسييس والبعثثة، فكان ظهورها رداً على تلك السياسة، وتحدياً عاليا اتخذ أنساق عديدة، كان لكل منها مرجعيته ومصادره المحلية، ورهقه الانساني الراعف:
1- نسق اللغة التي يصفها المؤلف بالغرائبية. بيد أن ما يميز اللغة لدى حسن مطلك أنها ليست ظاهرة شكلانية تحيط بالنص من الخارج، وانما تحتفي بتعالقات فكرية ممنهجة تمفصل الظاهرة مع الوعي، وهو وعي مركب ومتداخل المستويات. خاصة اللغة هذه غير منقطعة عن مشروع الجيل السبعيني الذي واجه عنت المحافظين القومويين ممثلاً بقانون سلامة اللغة العربية. هذه المقاربة والمقارنة تتيح رؤية مبلغ الالتفاف والمراوغة اللغوية الذي مارسه المؤلف لتضليل القارئ/ الرقيب؛ والوارد وصفه في مقدمة روايته الثانية (قوة الضحك في أورا) الصادرة بعد عقدين من رحيله، بمبادرة قيمة من شقيقه الدكتور محسن الرملي. ان إشكالية لغة حسن مطلك أنه بينما يجهد لتحقيق معنى معين (تابو) يضاعف جهده لتضليل القارئ عن معناه، وهو ما نجح فيه بجدارة سمحت بتمرير النص . وفي نفس الوقت صرفت كثرة مغاليق النص المعنيين عن تجشم استغواره. وللدلالة على خصوصية لغته يمكن الاشارة إلى جرأته ومجازفته لتوليد مفردات وتراكيب لغوية جديدة كما في عناوين كتبه [دابادا/ أورا] ناهيك عن عشرات المفردات المولدة التي تخترق النص. ان تفكيك هذه اللغة وتبين ملامحها يقتضي دراسة خاصة لأهميتها الاستثنائية، ليس في مرجعيتها السبعينية كما سبق فحسب، وانما باعتبارها استهلالاً لمرحلة جديدة من الاهتمام الاستثنائي باللغة القصصية والروائية، في البلاد العربية عموماً، ولا تزال أصداء تلك الموجة التي أحدثها حجر حسن مطلك في (دابادا) تتردد في نتاجات عربية ومصرية حتى الآن.
2- اسلوب الذهان أو التشوش الذهني الذي يتيح لصاحبة تجاوز المنطق والمعقول في ما يصدر، بيد أن ذهان حسن مطلك مقترن بدرجة عالية من (وعي) غير منظور يقود الانثيالات المتقاصية لتصبّ في بودقة محددة. انه لا يكتفي بالسيطرة على مظاهر الوعي وانما يحاول اخضاع مكانزمات الوعي الباطن لأرادته في عملية أشبه بالتنويم المغنتيسي، يجريها هذه المرة على نفسه. ضمن هذا المنظور النفساني تمثل (دابادا) نموذجاً متميزاً وجهداً خلاقاً في مضمار الابداع النفسي.
3- لا ينفصل النص عن صاحبه، شخصيته وفكره وذاته. وحسن مطلك سليل القراءة أو الثقافة الوجودية العراقية، لم يكن ممكناً أن يترك أوعية اللغة فارغة بين يديه من رشفات روحه القلقة. وهو أمر يصحّ بنسب متفاوتة على عامة النصوص العراقية ما بعد ثمانينية. هذا الخطاب الوجودي الذي تعرض للضمور مع هيمنة التيار الايديولوجي القومي، جاء متداخلاً ومتناصاً في خطاب تاريخاني، ليموه كل منهما على الاخر، ويضمن نجاح عملية اختراق المؤسسة الاعلامية للدكتاتورية التي لم تستطع أن تمنع جملة الاحتفاء والتهليل التي حظت بها الرواية غب صدورها، ودون التجرؤ على الاعتراض على كتاب عراقي يصدر يومذاك في الخارج [بيروت].
4- نظرية التوازنات الأفقية والعمودية. من الصعب على القارئ أو الباحث تصنيف (دابادا) حسب دالة اللغة أو الاسلوب أو الفكر، وجودياً فلسفياً كان أو تاريخانياً سياسياً. هذه الموازنات لا تخرج عن فن المراوغة والالتفاف الذي يمثل ويضيف مستوى آخر للقراءة. وهو ما جعل (دابادا) متفردة ليس في المدونة السردية العراقية والعربية وانما متميزة للكاتب نفسه، إذ يضمه في هذا السياق إلى فئة أدباء الكتاب الأول، الذي مثل عصارة جهودهم وفكرهم فلم يستطيعوا تجاوزه من بعد، على غرار والت ويتمان في أوراق العشب وأراغون في عيون إلزا وغراس في طبل صفيح وعبد الرحمن الربيعي في الوشم وآخرين. بمعنى أن (دابادا) تتمايز عن روايته اللاحقة (قوة الضحك في أورا) التي تتخذ نسقاً مغايراً على صعيد البناء واللغة.

يصف حسن مطلك في مقدمة راويته الثانية مبلغ المعاناة من أجل اقتناص مفردة أو صورة غرائبية، هذه المعاناة تعكس قدر الجهد المبذول والوقت المستغرق لانجاز النص. يتولى الكاتب بنفسه بناء مفردات بكر يضيفها إلى قاموسه الخاص، وعندما يقع على مفردة مألوفة يخرجها من سياقها ويضعها في إطار صورة/ جملة غرائبية حسب تعبيره المفضل. المقصود هنا الخروج على النمط السائد، رفض ثقافة القطيع، ليس مضموناً، وانما ظاهراً واسلوباً كذلك. ضمن البناء التقني والدلالي متعدد الطوابق، تشكل القراءة التاريخية ركيزة لا تقل أهمية عن غيرها. المستويات المتعددة من الخطاب في نصوص حسن مطلك لا تتفاضل وانما تتناوب وتتكامل في صيرورة وسيرورة متكافئتين متزامنتين. أقام مملكته الذهنية على أنقاض مستوطنة آشورية على حافة دجلة بالقرب من قريته [سديرة] إلى الجنوب من نينوى. لكن الاشارة إلى دالتي المكان والتاريخ، هنا، لا تعني بحال تاريخاً أو نفساً تاريخياً في السرد، وهي في روايته الثانية أكثر وضوحاً من الأولى. نصوص حسن مطلك افتراضية فنتازية أقرب لأفلام الـخيال العلمي [Fiction] . ميزة حسن مطلك أنه يقدم نفسه مؤلفاً (خالقاً) وليس سارداً، وكما سبق، مفكراً منظراً أكثر منه أديباً وروائياً. ودابادا.. صورة أخرى عن قصة الخليقة التي اجتهد مؤلفون كثر في توصيفها، أبطالها آدم ونوح وشاهين، وزوجات وعلاقات نسب. ليس من المهم هنا معرفة درجة العلاقة بين (سديرة) القرية البسيطة الفقيرة ومملكة حسن مطلك القائمة على المدينة الآشورية المجاورة لها. المهم هو رؤيته الفلسفية/ التاريخية/ الفكرية لصورة المجتمع الانساني في تمرحلاته واستحالاته ونزعاته. ومن جماع تلك الرؤى ، تتكشف خيوط الخطاب السياسي للنص. وهو الذي يكون أكثر وضوحاً في روايته الثانية (قوة الضحك في أورا) عبر شخصية الانجليزي (سارق الآثار)، متجهاً من العام إلى الخاص، ومن المحلي إلى العالمي (شرق- غرب)، ومن الفلسفي إلى التاريخي، ومن الوجودي إلى السياسي. لغة حسن مطلك لا تطرح أسئلة ولا تدعي تقديم أجوبة. لكنه في مكانة الخالق الذي يعرف كل شيء الذي يمرّ أمامه كالبدهيات، التي تصفع القارئ في سلسلة متصلة من سرد غرائبي يقطع النفس.
وإذا كانت (دابادا) رواية غير عادية، فأنها تقتضي قراءة غير عادية. قراءة مركبة متعامدة وأفقية، متحررة من أية أفكار أو قناعات مسبقة للدخول في عالمها واستيعاب صورة العالم والمنطق كما تجسده هي وليس كما تعارف عليه القارئ من قبل. (دابادا) مدرسة لتخريج قراء غير عاديين، وبالتالي عقل عراقي متحرر ومتجاوز، لا يقع تحت- (أو) في شراك أي سلطة أو منظومة فكرية أو اجتماعية خاوية.

* حسن مطلك (1961- 17/7/ 1990)، بكالوريوس علم نفس، عمل مدرساً، له روايتان [دابادا/ قوة الضحك في أورا]، ومجموعة قصصية وشعرية ومقالات ورسوم. اعدمه النظام بتهمة المشاركة في محاولة انقلابية.
** تمثل هذه القراءة استمراراً، وتطبيقاً، لما ورد في [نزعات وجودية في الأدب العراقي] للكاتب نفسه، وغير منقطعة الصلة بالفصل الخاص [من الثورة إلى الحداثة.. مدخل إلى قصيدة السبعينيات العراقية]، خدمة لتكامل القراءة.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...