محسن الرملي - تلخيص رواية دابادا

تبدو عملية التلخيص للأعمال الروائية، تسطيحية وقسرية ظالمة بعد أن قطع الفن الروائي أشواطاً طويلة في تجاوز المفهوم القائل بأن الرواية ما هي إلا حكاية مهذبة، لذا فأنا أتفق تماماً مع الناقد د.عبدالله إبراهيم، في قوله عن رواية (دابادا) لحسن مطلك: “إن هذه الرواية شأنها شأن أي عمل إبداعي مُجد، لا يمكن تلخيصها، فتلخيص الرواية لا يُبقي إلا على الحكاية فيها، أما العناصر الأساسية الأخرى في متنها وطرائقها السردية فلا يمكن تلخيصها. ولما كانت رواية (دابادا) تنهض أساساً على تصديع الحكاية التقليدية في الرواية فإنها بذلك تستعصي على التلخيص، ولا يمكن والحالة هذه إلا قراءتها، فالقراءة هي الوسيلة الوحيدة الأمينة لمعرفة النص كائناً ما كان نوعه أو جنسه.”*
وحتى مؤلف الرواية نفسه قد اعترف بأنه لا يستطيع أن يحدد بالضبط الحدث المركزي في الرواية، لأن الشكل فيها يأخذ شكل الحدث والحدث يأخذ شكل الشكل، أي أن الشكل يكون حدثاً وبالعكس.. فهناك انسجام كلي بين الشكل والمضمون، واللغة هي العامل الذي يكشف عن الحدث والشخصيات، وفي الوقت ذاته أشار إلى أن الحدث واضح.
وأنا حين أحاول تلخيصها هنا، أعترف باستجابتي لتأثير النقد التقليدي وعروض الكتب الصحفية التي اعتدنا عليها أولاً، ومن ثم استجابة لمطالبة العديد من الأصدقاء وقراء حسن مطلك، ورغبتهم في فهم الهيكل العام أو العمود الفقري لهذا العمل الفني المتفرد كي يتمكنوا بعد ذلك من التمتع بفنونه الإبداعية التي تشكل تميزه وهدفه الخاص. فقد لمسنا وبشكل مباشر صعوبة الفهم لرواية دابادا من قبل القراء العاديين وكثير من المثقفين، ولا غرابة في ذلك إذا ما تذكرنا بأن د.طه حسين قد قال عن رواية (الغريب) لألبير كامو بأنه لم يفهمها.. على الرغم من وضوحها. بينما يُعزى عدم الفهم لدابادا إلى الطريقة الجديدة التي اتبعها حسن مطلك، فهي مُشبعة بدروس الحداثة والفن السينمائي والشِعر والرموز وتيار الرواية الجديدة، حيث الانتقالات المفاجئة والتقطيع المونتاجي الذي يصعب فرزه بسبب علو الاشتغال اللغوي وهيمنته.
سأحاول هنا إعطاء صورة ما عن ثيمتها الدرامية الحكائية العامة مستعيناً بما استطعت أن أكونه عنها بحكم علاقتي بالمؤلف ومواكبتي لكتابة الرواية على مدى إعاداتها الخمس، وبالرجوع إلى حوارات معه إضافة إلى قراءاتها المتكررة. وأؤكد بأن ما سوف أقوم به لن يُغني عن قراءة الرواية أيضاً، لأن روعتها.. وربما ثمارها المهمة تكمن في التفاصيل التي قد تفوتنا، وبالطبع ستكون طريقة التلخيص أكثر مباشرة وأقل فنية مقارنة بالأسلوب الأصلي للرواية، وإن كنت سأحرص، قدر الإمكان، على استخدام عبارات النص ذاتها. لذا، اعتذر للمؤلف أولاً ومن ثم للرواية وللقراء عن أي تقصير، وأملي أن تكون هذه المحاولة المتواضعة نافعة بشكل ما.. ولو كعتبة للدخول إلى أبواب المواضيع التي سأتناولها وسيتناولها غيري لاحقاً.
الشخصيات :

1ـ شاهين: شاب عمره 27 سنة، وهو الشخصية الرئيسية في الرواية، يحاول أن يفهم العالم. ملتح، منكوش الشَعر. يعيش منعزلاً في غرفته منذ عشرين عاماً. يمتاز بحسه الفطري والإنساني المرهف.. وبالارتباك.
2ـ هاجر: والدة شاهين، وهي امرأة تجاوزت الأربعين، قوية الشخصية، حزينة مكافِحة، بسيطة وصبورة.
3ـ محمود: والد شاهين، وهو صياد قوي، يحب الحق ويدافع عنه، لكنه اختفى منذ عشرين عاماً “وراء أرنب مبقع في البراري” أو قُتل، وهو يجمع بين الخشونة وحب المرح.
4ـ عواد: شاب رسام، مجايل لشاهين في العمر، وهو صديق طفولته ويشبهه في طبيعة الحس العالي وندرة الكلام، مثقف ويحلم بالشهرة وأضواء المدينة العاصمة.
5ـ مسعود: والد عواد، وهو رجل دين تقليدي، منقطع عن عائلته تقريباً ولا يهتم بها، فلا شيء يهمه سوى الدِين.
6ـ عالية: والدة عواد، عمرها 40 سنة، امرأة جميلة ومتوهجة، دائمة التطلع، عبر النافذة، إلى المارة ومعجبة بـ(البرنامج البدوي) في المذياع. غير منضبطة، ألفاظها بذيئة وصاحبة مزاج، تحب الطرب وتعاني من إهمال زوجها مسعود لها جنسياً.
7ـ زهرة: شقيقة عواد، وهي فتاة قبيحة مهتمة بصنع زهور المطاط من الأحذية القديمة، معقدة، خجولة، انطوائية وفيها شيء من السذاجة.
8ـ شَرار: هو اسم كلب الرسام عواد.
9ـ عزيزة: شابة جميلة ومختلفة عن بقية نساء القرية، فيها روح التمرد، وهي ابنة أحد تجار القطن في القرية، تقيم علاقات حب أو صداقة مع عواد وشاهين، تهتم بالموضة وتسعى وراء التمدن، فتاة معاصرة، متحررة وقلقة.
10ـ عبدالمجيد: هو المختار السابق للقرية، رجل محترم ويصل إلى حد الرمز من قبل أهالي القرية. توفي إثر دس سم الفئران له في الطعام من قبل حلاب.
11ـ حَلّاب: المختار الحالي الذي خلف عبدالمجيد، متسلط، شخصية غريبة المولد، غريبة السلوك وطريفته، دميم وفي الخمسين من عمره.
12ـ شعبان: أحد الرجال الأقوياء التابعين للمختار حلاب، يتمتع بصوت غنائي جميل وكان جوالاً يعزف على الربابة إلى أن استقر به المقام في خدمة حلاب.
13ـ زكية: إحدى أبرز زوجات حلاب، وتشعر دائماً بأنها مظلومة لأنها قد زُوجت لحلاب إيفاءً لدَين كان على والدها.
14ـ قُندس: اسم حمار المختار حلاب.
15ـ عارف: صاحب قارب نهري، عمله إيصال الناس من ضفة إلى أخرى، وهو رجل قوي ونزيه.
16ـ وزّة: عرّافة القرية.
17ـ صاحب النظارة السوداء: شخص عادي وغامض يستخدم القوة ويحمل المسدس معه باستمرار.
18ـ فاتن: هو اسم إحدى المرأتين المجهولتين اللتين تشاركان الرجال الأربعة حفلات الضحك في النافذة المقابلة لشباك شاهين، وهو الذي أطلق هذا الاسم ليرمز به إلى جميع هؤلاء.
19ـ تُجار القطن: مجموعة من التُجار يأتون في موسم جني القطن فقط وهم من المدينة عدا والد عزيزة. يؤجرون الغرفة المقابلة لغرفة شاهين في الطابق العلوي، لا يفصل بينهم وبين نافذته سوى زقاق ضيق. امرأتان وثلاثة أو أربعة رجال، منهم : فاتن وصاحب اللطخة الحمراء في وجهه.
20ـ الزوجة الثانية لحلاب: لا اسم لها في الرواية، تحب السفر والاستحواذ والتسيد في البيت، وتحاول كسب حلاب إلى جانبها في مشاجراتها الدائمة مع زوجته الكبرى زكية.
تقسيمات زمنية :

إن الزمن الكلي لأحداث الرواية هو أربع ليالي وثلاثة نهارات، من فصل الخريف.
1ـ الليلة الأولى: (أربعاء) من الصفحة الأولى إلى ص38. وفيها نتعرف على شخصيتي هاجر وشاهين. يرى شاهين الضحك في النافذة المقابلة فيفكر لأول مرة بكسر عزلته. تحدثه أمه عن الذكريات. يتذكر طفولته ويستعرض الكثير من أحاسيسه وأفكاره، يمارس العادة السرية فيفشل وينام مقرراً الخروج من عزلته في الصباح التالي.
2ـ النهار الأول: (خميس) من ص38 إلى ص76. وفيه يخرج شاهين فتضحك النساء من شَعره وطريقة مشيه الغريبة، لأنه لم يعتد المشي. يذهب إلى الوادي الذي له فيه ذكريات من الطفولة ويلتقي هناك بصديقه القديم عواد الرسام، يتحدثان عن شَرار، كلب عواد، ثم يذهبان إلى مرسم عواد حيث يتعرف شاهين على عزيزة، وبعد ساعتين يخرج إلا أن عالية تستبقيه. بعدها، تأخذه عزيزة في نزهة إلى النهر وجولة في القارب، ثم تتركه باكية وتعود إلى عواد. تأتي هاجر وتأخذ ولدها إلى البيت.
3ـ الليلة الثانية: (خميس) من ص76 إلى ص95. تلتقي عزيزة بعواد. شاهين يعود إلى غرفته. يتأمل الضاحكين في النافذة المقابلة، يمارس العادة السرية فيفشل ثم ينام متكوماً في الزاوية.
4ـ النهار الثاني: (جمعة) من ص95 إلى ص136. يذهب شاهين إلى بيت عواد، يلتقي بعالية ومسعود، في هذا اليوم تحتفل القرية بذكرى وفاة مختارها السابق عبدالمجيد. يلتقي شاهين بعزيزة، ثم تأخذه والدته، تعلق على كتفه بندقية أبيه وتدعو الناس للاحتفال به ثم يدفعونه للصيد والبحث عن والده في البرّية، لكنه ينام هناك.
5ـ الليلة الثالثة: (جمعة) من ص136 إلى ص173. يرحل عواد في القطار باتجاه العاصمة، حالماً بالفن والشهرة ولكنه ينام في حديقة إحدى المحطات عندما ينزل للتقيؤ بعد أن احتسى الكثير من البيرة. تختلط المواعيد على عزيزة فتلتقي بصاحب النظارة السوداء في كوخ مظلم ظناً منها بأنه عواد، يضربها هذا الرجل ويغتصبها. يعود شاهين من الوادي وقد أضاع البندقية والحزام فيخيب أمل العجائز به، بينما يكون حلاب بانتظاره ليحبسه في بيته المعتم ويسخر منه. يصرخ شاهين بصمت (دابادا) فيطلقه حلاب في منتصف الليل على أن يأتيه في الصباح. يعود شاهين إلى نافذته كي يواصل نظرات الفضول إلى الضاحكين في النافذة المقابلة ويبقى هكذا حتى الصباح، حيث يؤذن مسعود لصلاة الفجر.
6ـ النهار الثالث: (سبت) من ص 173 إلى ص203. بعد أن يتناول شاهين إفطاره، تمنحه هاجر مدية ليحملها في جيبه وعند خروجه تخبره امرأة من القرية بأن عزيزة بانتظاره، فيذهب إليها وتسأله عن عواد ويسألها عن شريطها القطني الأبيض. تصرخ به أنها لا تحبه بينما يسألها هو هل قالت بأن اسمها عزيزة؟ ثم يفترقان. يذهب شاهين إلى حلاب الذي كان بانتظاره على قلق حيث يصله عند الظهر. يقرر حلاب توظيفه كمرافق لحماره (قندس) في نزهاته. يحاول شاهين قتل الحمار ويهرب باتجاه النهر، وهناك ينقله العم عارف بقاربه إلى الضفة الأخرى ليكون بأمان.
7ـ الليلة الرابعة: (سبت) من ص203 إلى النهاية. يثير خبر اختفاء شاهين الذعر في حلاب والقرية، لكنه يعود دون أن يعلم به أحد، ماراً بالمقبرة ليجد هناك جميع نساء القرية، بما فيهن أمه، يمارسن طقوساً سحرية وهن عاريات. ويمر به الشيخ مسعود متجهاً إليهن، لكن شاهين يمضي قاصداً النافذة المقابلة، نافذة الضحك. يصعد إليها مع أول الفجر فيكتشف سر الضحك ألا وهو أن هؤلاء يضعون المسامير الساخنة في الماء البارد فتُصدر صوت: كِش ويضحكون على هذا الكِش. فيسقط شاهين ضاحكاً من ضحكهم. وتستيقظ القرية كلها ضاحكة على ضحكه بما فيهم الضيف الذي لا يعرف سبب الضحك.
الملخص :

تبدأ الرواية بتحديد الظرف الزمني للأحداث ألا وهو فصل الخريف، ثم تشرع بتسليط الضوء على شخصيتها الرئيسية شاهين، وهو شاب قروي في السابعة والعشرين من عمره، ولدته أمه هاجر ناقص الوزن، حيث جاء إلى هذا العالم جنيناً لم يتجاوز السبعة أشهر. ووالده محمود كان صياداً قوياً يقف إلى جانب الحق لكنه اختفى منذ عشرين عاماً وراء أرنب مبقع في البراري، أو غاب لأسباب مجهولة. حينها كان عمر شاهين سبع سنوات فاعتزل عن العالم، منذ ذلك الوقت، في غرفته المرتفعة في البيت حيث قضى فيها عشرين عاماً، لا يدخل عليه أحد ولا يخرج هو إلا استجابة لنداء أمه كي يتناول طعامه، وهذا النداء جملة واحدة تتكرر طوال العشرين عاماً: انزل يا بني على مهل.. درجة درجة. ولم يتحدثا عن هموم بعضهما أبداً.. حيث كلمة أمه الوحيدة له هي: ألا تفطر؟.
وهو لا يتحدث لأنه لا يعرف ماذا يقول ومتى؟ مع ذلك فشاهين بالغ الحساسية ويمتاز ببراءة طفولية ووعي دقيق. يسند مرفقيه على قاعدة شباك حجرته، يتأمل ويسمع ويستمتع بالاكتشافات الصغيرة. وليس في غرفته أكثر من منشفة وساعة حائط ورفوف القواقع وملابس طفولته. كما يمتاز بذاكرة حادة وتفصيلية لما جرى في طفولته.. أي أن تجربته الحياتية هي سبع سنوات فقط، أما أمه هاجر والتي هي كل عائلته، فهي امرأة حزينة، قوية.. تأمل وتعتقد بأن شاهين سيكون البديل عن أبيه في تسيد هذا البيت مثلما يأمل الناس بأن يخلف شاهين والده في الوقوف إلى جانب الحق وبوجه تسلط المختار وابتزاز تجار القطن. كان شاهين هو الأمل المُنتظر بالنسبة لهم، وكم سمعهم يتحدثون عن المختار الجديد حلاب، وكم سمع عن الكوارث والفيضانات والتفجيرات النووية ومجاعات السود والانقلابات وغيرها، عبر نشرات الأخبار التي يبثها المذياع أثناء إفطاره، إلا أنه لم يخرج من عزلته ولم يملها أبداً.. وأكثر ما يعجبه هو إسناد مرفقيه على قاعدة الشباك والنظر عبره إلى القرية والحقول والعصافير وتأمل كل ذلك.. إلى أن أثاره ذات ليلة منظر أربعة رجال وامرأتان يضحكون بقوة في النافذة المقابلة لنافذته، حيث لا يفصله عنهم سوى زقاق بسيط، هوة مظلمة ضيقة هي مسافة الفراغ ما بين البيوت. كانوا يبدون له، وهم يهتزون في مربع الضوء، اكتشافاً مهماً حيث كانت تظهر عبارة (ذكرى المعذَّب صابر يوم الأربعاء بعد المطر) عندما ينحنون ضاحكين، وهي عبارة مكتوبة بالفحم على الجدار خلفهم، فاستفزه بحدة هذا التناقض بين العذاب والضحك، المعذَّب والضاحكين!. فكر بسبب ضحكهم الدائم وتساءل: هل ثمة شيء في هذا العالم يبعث السعادة أو يستحقها؟ هل وراء كل هذا الضحك ثمة معنى ما؟.. وهكذا يبدأ رحلته بالخروج لأول مرة. يخرج لمدة أربع ليال وثلاثة نهارات.. حيث تدور أحداث الرواية بمجملها.
نظرت هاجر إلى الباب يفتح نفسه بصرير بطيء فأوقفته وهي بكامل أناقة الحداد على زوجها. كانت مرتجفة لأنها مرتبكة لأمر عزمت عليه فنسيت هذا الأمر حالاً تحت هول المفاجأة. أما النازل فقد لمح ظل امرأة في الباب فناداه: هاجر. فتدمع عيناها لأنه لا يعرف كيف يقول: أمي. ولكنها تطلب منه النهوض وتشرع بالحديث له عن أحداث وذكريات وأناس من أهل القرية بما في ذلك عن ثور قهوائي اللون كانوا يمتلكونه. فيتساءل عن معنى القهوائي؟ هل هو شبيه بالقهوة؟. فتفسر له ذلك بأن لونه هو الذي يشبه القهوة التي نضعها في الفنجان ونشربها ولا يمكن أن نضع الثور في الفنجان ونشربه لأنه كبير، وهذه هي أول طرفة يسمعها شاهين. قالت له بعد أن اغرورقت عيناها بدمع لم ينزل ولم يجف: كنت أتعذب طوال هذه المدة، وأنت؟ فيقول: أنا؟ ثم يتحدث عن الثور، وتكرر عليه: أريدك.. محتاجة إليك. لكنها لا تفهمه.. ومن يستطيع فهمك؟. يعود شاهين إلى غرفته ليغلق الباب خلفه كالعادة. يأخذ بالتفكير وتذكر أشياء كثيرة بما فيها مسامير مثبتة في بعض البيوت، ويقول لنفسه بأنه ربما بحاجة إلى بعض الحب، فيحاول ممارسة العادة السرية لكنه يفشل، فينظر إلى النافذة المقابلة حيث الأربعة رجال والمرأتين؛ أحدهم يُقبل إحداهن، فيسمي ذلك بـ (ينقرها) ثم يعاود محاولته في العادة السرية ويفشل، فيواصل ذكرياته وتأملاته حتى يسمع خطوات أمه صاعدة على السلم، فيندس في فراشه متظاهراً بالنوم. تفتح الباب فتُضاء كل الغرفة وتقول: شاهين يا ولدي لماذا تركتني وهربت؟ كلمني.. انهض. تضغط عليه قاصدة التهديد بالخنق، غير أنها تدور قائلة: لو لم أكن أمك لقلت بأنك لست ابن أبيك.. يوه انهض حبيبي، أتدري؟ وتقول له بأن وزّة العرّافة قد أخبرتها بأن والده لا يزال على قيد الحياة ولكنه لن يجيء الآن، لقد قاده أرنب مبقع إلى أرض مليئة بالأرانب المبقعة ولذا سنبحث عنه غداً أنا وأنت. ثم تنزل فيدفع هو الغطاء ولا يرى النافذة المقابلة لكن صدى ضحكاتهم يأتيه عبر تواريخ بعيدة. نظر إلى الساعة ولم يستطع قراءتها بسبب الظلام. فكر بأنه إذا خرج لن يجد شبيهاً له وأنه مختلف، فهو يحس بألم المسمار الذي يعاني ضربات المطرقة من طرف وصعوبة الاختراق من الطرف الآخر، ولكنه فكر بأن العلاج ربما يكمن في الضحك لا في الكلام مع أنه لم يضحك ضحكة حقيقية واحدة بعد خديعة الختان في طفولته، وتأخذه الذكريات حتى يكاد أن يغفو أو يغفوا فعلاً لكنه يستيقظ فجأة وفق عادة النهوض قبل الشمس ليرى طيور القرى عند الفجر. فتح النافذة لينظر إلى القرية والحقول والسماء. وتصعد هاجر إليه: ألا تفطر؟ فينزل إلى اللبن الرائب والشاي. يستمع إلى نشرات الأخبار الأولى: (زلزال، فيضانات، عمليات، مجاعات، محادثات، مخدرات، تجسس، جلسات، نصائح…) وقرر أن ينقر الغلاف مثل فرخ في بيضة، أن يخرج إلى الناس الذين اعتادوا غطساته الطويلة وصاروا يعيدون جميع الرسائل إلى صندوق البريد، تلك الرسائل القادمة من هواة التعارف والمراسلة أيام الدراسة الابتدائية فيقولون: شاهين محمود؟ ألا تعرف هذا الاسم؟ ولكنه ظل وفياً لعواد الرسام لأنه يشبهه بنُدرة الكلام وحسهما العالي.
خرج ولمح أيدي النساء تشير إلى شعره المبعثر وعقفته في السير، فتدارى منحدراً إلى جنوب القرية حيث وادي السدرة، ساحة الطفولة، وهناك يلتقي بصديقه عواد الذي يحدثه عن محاولاته الأخيرة في الرسم، وخاصة رسم كلبه شرار بأوضاع مختلفة. حدثه عن خلافاته القديمة مع والده مسعود رجل الدين بسبب الرسم، وعن فتاة اسمها عزيزة وهي ابنة لتاجر قطن، جميلة وتحاول أن تؤكد لعواد أنها مختلفة عن بقية النساء وكان عواد يدخن السجائر. حدثه أيضاً عن حياة كلبه شرار وكيف شهد هذا الكلب علاقته بعزيزة منذ البداية، بينما كان شاهين يستمع إليه وهو غريب غربة الأعمى عن مقعده ويدفع الحصى بقدمه إلى الوادي. وحين يسأله عواد قائلاً: صديقي لماذا هربت؟ يجيبه شاهين مكرراً قول والدته: إنني بحاجة إليك. ثم يذهبان إلى مرسم عواد، وهناك يعرفه على عزيزة القطان، وهي فتاة جميلة ومتمردة جاءت ليكمل عواد لوحة يرسمها فيها. يقف شاهين هناك لساعتين في مكان واحد بينما عواد يرسم، ثم يستأذن ويخرج إلى القرية وفي يده سيجارة من عواد. كان يمشي بطريقة مضحكة بينما أطل الناس من النوافذ صائحين بدهشة: شاهين؟! شاهين؟!. عواد وعزيزة يؤجلان إكمال اللوحة ويخرجا فتراهم عالية والدة عواد من النافذة لكنهما لا يكترثان. عالية امرأة في الأربعين تطيل الجلوس إلى جوار نافذة بيتها وتسترق السمع إلى المارين تحت النافذة. تحب البرنامج البدوي في المذياع وكانت قد تمسكت بشاهين قبل أن يبتعد، ألحت عليه أن يجلس ويشرب الشاي ممطرة إياه بالتقبيل وتحدثه عن أشياء كثيرة من جملتها أن عواد بحاجة إلى صديق. لكن شاهين استغرق بالتحديق في صورة سياحية للبوة جريحة كانت معلقة على الحائط (ثمة وصف رائع لألم اللبوة لحظة احتضارها).
تأمر عالية ابنتها زهرة بإحضار الشاي قائلة لشاهين: اقترب إلى عمتك، فيما تعود زهرة إلى عادتها بالانهماك بصنع زهور المطاط من الأحذية القديمة فتملأ البيت برائحة احتراق البلاستك التي تزكم الأنوف. وقبل أن يشرب الشاي، جاءت عزيزة وأخذته إلى شاطئ النهر لوحدهما، يلعبان ويتحدثان ثم تأخذه في نزهة قصيرة في القارب، وهناك يندهش شاهين لوجود نمل على صخرة في وسط النهر؛ فمن أين يأكل هذا النمل؟!. تحاول عزيزة ترويضه ليكون رجلاً وفق مزاجها لكنه صعب فتبكي وتتركه عائدة.
تأتي هاجر وتأخذ ابنها. يحل المساء. وحال عودة عزيزة للقائها بعواد ينبهها إلى قلقه تجاه علاقتها بشاهين إلا أنها تعلن حبها ودون مقدمات لعواد وإنها صديقة له إلى أقصى الحدود ثم ودعته فعاد هو إلى مرسمه. بينما دخل شاهين إلى حجرته وباشر بمراقبة النافذة المقابلة منصتاً إلى الأحاديث المتقطعة والضحكات. يسمع طرقات حديد في مكان ما تتصادف مع صراخ طفل فيتخيل بأنهم يطرقون رأس طفل لتعديله، فيصيح بهم بصوت خفيض لكي لا يسمعونه، بأن رأس الطفل لا يحتاج إلى كل هذا الطَرق، ثم يأخذ باستعادة رحلة النهار متذكراً فتاة اسمها عزيزة عند النهر والنمل والقارب وصديق لا يذكر اسمه بدقة ربما جراد وربما عواد يحب الحديث عن الكلاب الميتة وألواح خشبية ملطخة بالألوان. وهكذا إلى أن تطرق عليه هاجر باب الغرفة فيختلط عليه الطَرق ويقول: طَرق من هنا وطرق من هناك؟.. ألا تسمع؟. يقول الباب: أنا التي تطرق فكيف لا أسمع؟ تقول: انزل يا بني ولكن على مهل درجة.. درجة كي لا تسقط يا حبيبي.. ألا تأكل؟. يأكل ويعود إلى النافذة. يتذكر عزيزة ويحاول ممارسة العادة السرية فيفشل وينام متكوماً في الزاوية حتى الصباح. يفطر ويذهب إلى بيت عواد فتستقبله عالية وتطلب منه حك فخذها مدعية أن حشرة قد لسعتها، وبعدها يدخل زوجها الشيخ مسعود فيقول: من الضيف؟ فتجيبه: شاهين. فيسأل: شاهين؟ ليس لدينا سوى شاهين واحد. شاهين اسم طير جارح فلا يُسمي بهذا الاسم سوى الصياد وليس لدينا صياد غير محمود. تقول عالية: صدقت. ويقول مسعود: أهلاً بك، كنت أريد اللقاء بك ولكني مشغول دائماً وأنت رجل نظيف، لو تعلمت الصلاة فقط، فلا تنجرف مع عواد، الأفضل أن تتعلم الصلاة واليوم جمعة.
أهل القرية في المقبرة يحتفلون بذكرى وفاة مختارهم السابق، الرمز عبدالمجيد الذي يقال بأنه مات مسموماً بسم الفئران وأصبح حلاب مختاراً بعده، وحلاب ربما هو الذي دس له السم. حلاب رجل جاء إلى العالم مطبق العينين وبقي لخمس سنوات كذلك، فكانت عيناه تتحركان تحت الجلد مثل فأرتين في كيس إلى أن فتحت إحدى العجائز عينيه بسكين البصل فأخذ يرى الأشياء بالأبيض والأسود.
ذهب شاهين إلى وادي السدرة ليبحث عن عواد فوجد عزيزة هناك، يتحدثان ويضحكان وأعطاها عشرة قصاصات ورقية كتبها لها. وفجأة يتقدم نحوهما جمع من الناس يصيحون، لقد جاء حلاب. ويقولون لشاهين: حلاب يسأل عنك. فلا ينهض. يدنو منه حلاب ويقول: أنا حلاب أما سمعت عني؟ لماذا لا يجيب؟ هل هو أخرس؟ يقول شعبان: ليس أخرس ولكنه أبله. يقول حلاب: عندما تنتهي جولتنا خذه إلى البيت يا شعبان. فتندفع هاجر: لن تأخذه إلى أي مكان يا شعبان. يقول حلاب: لا تسمعها، اسمعني أنا. يقول شاهين: أين عواد؟ وينزل السفح. في هذه الأثناء كان عواد على شاطئ النهر الرملي يحلم ويفكر ويرسم عزيزة ويردد اسمها حباً. سألته عن عواد وسألها هو عن عواد ثم سارا معاً وتحدثا. حاولت ترويضه فأخبرها أنه يجيد الغطس واتجها إلى الجدول. هناك جاءت أمه هاجر وأخذته إلى البيت حيث دعت كل نساء القرية للاحتفال بشاهين الذي صبرت عليه 27 عاماً وهي تنتظر هذه اللحظة ليصبح رجلاً كي يخلف أبيه، كي يذهب إلى الصيد والبحث عن والده. فقامت، بمساعدة امرأة أخرى، بتمشيط شاهين حيث تتكسر الأمشاط في شعفة شعره. واستبدلت هاجر ثياب حدادها فرحة بشاهين ثم ألبسته حزام بندقية أبيه وعلقت البندقية على كتفه. زغردت النساء وأطلق الرجال رصاص بنادقهم بينما يُذكر هذا الحشد شاهيناً بخديعة الختان، ودفعوه للذهاب إلى البرية. تدمع عينا هاجر ويستمر الاحتفال بينما يختفي شاهين وراء الوادي مترنحاً تحت ثقل البندقية، متذكراً تفاصيل رحلة صيد مع أبيه ثم ينام هناك في البرية. وعندما يأتون للبحث عنه في الساعة الرابعة مساءً يروه، عن بعد، ممدداً فيفرحون ظانين بأنه قد أخذ وضع الانبطاح ليصطاد. هاجر وحدها كانت تدرك الحقيقة بألم مر بينما يعودون هم فرحين مصفقين لنجاحهم.
حين هبط المساء العالي، حزم عواد أمتعته في إحدى عربات القطار الذي يبعد عن القرية ثلاثين ميلاً ليتجه إلى العاصمة وراء حلمه بالفن والشهرة والأضواء، متخلياً عن عزيزة لأنها لم تعد قادرة على عذاباته بها، وهو تبرير ملائم لأجل البحث عن امرأة أخرى مع الاعتراف بوجود الرفض تجاه كل جنس مغاير لجنسه، وقد اعتبر أحد العوامل في سقوطه تجاه عزيزة حين رآها قبل أيام، بعد عامين من القطيعة، تنظر إليه بشجاعة وجرأة مفكراً في أن لها علاقة مع رجل غريب يضع على عينيه نظارات سوداء ويحمل مسدساً، إنه رجل من صنف أبيها تاجر القطن وربما أحد رجال العصابات أو رجال الأمن. هذا الرجل الذي استهزأ بلوحات عواد وقال: ما هذه الشخبطة!. وقد رآها معه أمام أحد الدكاكين.
عواد في القطار الآن يرتشف البيرة متألماً لعدم وفاء عزيزة لحبه، متذكراً الرجل بالنظارات السوداء والمسدس بينما ذهبت عزيزة إلى موعدها متأخرة إلى مكان في أحد أكواخ القرية معتقدة أنها قد قالت لعواد أن ينتظرها فيه ولكنه لم يأت فتستطيل بها اللحظات. أما عواد الذي ثمل وأخذ يحادث صورته المنعكسة في زجاج نافذة القطار، ينزل في حديقة إحدى المحطات كي يتقيأ، فينام هناك ويتركه القطار مغادراً.
يستيقظ شاهين في الوادي فيفاجئه الظلام وصوت الذئاب وتعاوده ذكرى رحلة الصيد القديمة مع أبيه حين حاصرتهم فيها الذئاب، فأشعل والده ملابسه. ورأى حينها والده عارياً تماماً. نهض شاهين وأبصر أكياساً سوداء حين تسلق بوضع مائل فناداه أحد الأكياس: من هناك؟ شاهين؟ وتدحرجت الأكياس باتجاهه فكانت عجائز أحطن به يسألنه عن عدد الأرانب التي اصطادها.
احتضنته هاجر وسألته: أين البندقية والحزام؟ فقال منزعجاً: آه.. حقاً أين البندقية والحزام؟ وتفرقت الأكياس العجائز في الوديان خائبة، بينما كان شعبان ينتظر عودة شاهين واضعاً الأخشاب في طريق العودة، فتعثرت هاجر لحظة الاجتياز وكَفَرَت: يوه، من وضع الأخشاب هنا؟ فأجابتها الأخشاب: أنا شعبان، عمي حلاب يقول جئني بشاهين. قالت لحظة يا شعبان، وتلاشت في الظلمة ثم فاجأته بضربة على رأسه تدحرج على أثرها مع كومة الأحطاب، فذهب إلى حلاب المنتظر على قلق وقال له: الجواب أمام عينيك يا عمي. فأرسل حلاب أشد رجاله ليجلبوا له شاهين فمنعتهم هاجر من الدخول لكنهم هددوها بكسر الباب ونزل في هذه الأثناء شاهين يسأل عن الصوت فحملوه على أذرعهم القوية إلى حلاب، الذي رماه هناك في أحد ممراته الضيقة وهو يسخر منه ويضحك بينما شاهين يطالب بدفع الظلام عنه ليرى. بقيت هاجر واقفة أمام الباب حائرة ماذا تفعل؟ وهي تفكر بأن إخفاء شاهين سيكون تدبيراً آخر كاختفاء والده وتذكرت حادثة كان فيها زوجها الصياد يُجبر حلاباً على دفع خمسة دنانير لصاحب دَين عندما كان حلاب يضعها بين نهدي غجرية راقصة، فأهانه أمام المحتفلين وأعاد الحق إلى صاحبه، وربما أن سبب احتجاز شاهين الآن هو خوف حلاب من أن يرث الابن صلابة أبيه التي يحبها الناس. وبينما هاجر هكذا مستمرة في وقفتها تتذكر، كانت عزيزة تنتظر عواداً في أحد أكواخ التبن المظلمة بعد أن اختلطت عليها المواعيد دون أن تدري بأن عواد قد رحل، ولهذا فحين جاء إليها الرجل صاحب النظارات السوداء في الظلام، ظنت بأنه عواد فوضعت رأسها على كتفه راغبة بالبكاء وتسأله: متى نتزوج؟ فيجيبها: الآن إذا شئتِ. وتنسى البكاء لتسأله من جديد: متى نتزوج؟.. انتظر سأقول لك أنا.. إيه عندما تنتهي اللوحة. فيدفعها عنه صارخاً: أية لوحة تعنين؟ فتقول: إيه يا عواد لا تجعل نفسك غبياً.. يا أخي. فيصرخ الرجل: اللعنة يا عزيزة ويضربها حتى تتحطم نظاراته السوداء.
كان شاهين محاصراً بالظلام والسخرية، تنثال في رأسه كل اللغة والذكريات فيريد أن يصرخ بقوة، لذا يجمع من أجزاء كلمات عديدة كلمة واحدة ويصرخ بها دون أن يسمعه أحد، وهي: دابادا.. وكانت هناك أيضاً، زوجتا حلاب تريدان الخروج من الظلمة بعد أن يحدث شجار بينهما على ملعقة، فيصرخ بهما حلاب ويشتمهما، وهو الذي إذا طلب حاجة يريدها فوراً. إن حلاب يمقت الضوضاء والمجاملة وحساء العدس والنوم، ويرى الصداقة مصالح والمرأة في نظره ضعيفة وله حكايات وسلوكيات خاصة وطريفة، وحين راح يختبر شاهين بأسئلة في الظلام قال له: أنت ابن رجل عقيم.. مرحوم.. ما هذه الغطسات؟ أنت واحد منا نريد مساعدتك.. أجب كم إصبعاً ترى؟ وماذا تعرف عن علامات المرور؟ 1+1 كم يساوي؟ فيجيب شاهين: لا أرى، لا أعرف. فيقول له: أنت مجنون. ارفعوا قطع الكارتون. فيهتف شاهين: هيـ..يـ.. يـ.. ضوء!! قال حلاب: بإمكانك الذهاب الآن، ولكن تذكر.. ها.. يجب أن تكون هنا منذ الرابعة صباحاً. فأجابه: إذا كان لا بد أن أجيء فلماذا أذهب؟ يقول: بل تذهب. يقول شاهين: لن أذهب.. هه. فيصرخ به: يجب أن تذهب. تندفع جلبة في الممر وصوت يصيح: ماذا فعلتم به؟ أين ولدي؟. يقول حلاب: لماذا تصرخين يا هاجر؟ كنت أعلمه الحساب لأجد له مهنة مناسبة. فبصقت هاجر في عينيّ حلاب وسحبت الولد. وهكذا أخلع الليل نصفه، حيث عاد شاهين إلى حجرته. رأى أولئك الأشخاص لا زالوا يضحكون في النافذة المقابلة وراح يفكر: أليس فيهم من يتساءل: هل يحق لنا أن نضحك؟ منطلقاً في ذلك من اعتبار عدم سعادة النافذة المقابلة لهم؟ أي نافذته هو. وبقي هكذا ينظر إليهم ويثيره بشدة سر سعادتهم حتى فكر بأن يقفز نحوهم، لكنه تراجع بسبب الهاوية التي أمامه وبقي يتأملهم إلى أن سمع صوت العم مسعود وهو يؤذن لصلاة الفجر،”فيحس بأنه حزين، ليس حزيناً بالضبط، وإنما يريد أن يبكي وهو يراقب صوت الفجر المتسلل بين الأحطاب وقصب السقوف والانطلاقة الأولى لعصافير العراق”. وكعادة العشرين عاماً الماضية صعدت إليه هاجر: ألا تفطر؟ فينزل حيث اللبن الرائب وبخار الشاي ونشرات الأخبار الأولى. تنظر إليه أمه باستنكار شديد وقد نَصّفت حِدادها بوصلة من حبل الغسيل وتعطيه مدية فضية منمشة بالصدأ قائلة: أعرف بأنني عاجزة عن إقناعك بعدم الذهاب إليه.. فاحملها، لا لتقتله، بل لتتشجع. فيدفعها قائلاً: هذه الأشياء يحبها هو. فتقول: أعلم إنه يحبها لأنه يخافها.. فاحملها.. أتوسل إليك. يضع السكينة في جيبه ويخرج.
وعند خروجه تناديه امرأة، تخبره أن عزيزة بانتظاره عند السدرة فيذهب لينتظرها هناك فيما يظل حلاب قلقاً مضطرباً لعدم مجيئه. حين وصلت عزيزة سألها شاهين: ما هذا؟ فتقول: كدمات. ولكنه كان يقصد: أين الشريط القطني الأبيض؟ الذي كان يربط شعرها (وهو رمز لعذريتها)، فتنزل رأسها إلى الأسفل.. إنها فقدت شيئاً عزيزاً ومهماً.. مهم لأنه حساس. وسألته عن خبر ذهاب عواد إلى العاصمة فأجابها ببرود: ماذا يعني؟ هو الذي سافر إلى العاصمة لأنه يريد أن يسافر إلى العاصمة.. أما أنت.. ماذا؟ وتبكي متذكرة أيامها مع الرسام بينما يخرج شاهين سيجارة من بقايا عواد ويدخنها. وبعد حديثها مع شاهين ونظراته إليها تقول له: جئت كما ترى.. فلا تعتقد بأنني أحبك.. أتفهم.. لا أحبك. ثم مضت لتتسلق كتف الوادي فصرخ بها شاهين: عزيزة. فتوقفت دون أن تلتفت وقال بهدوء: هل قلتِ لي مرة بأن اسمك عزيزة؟.
يذهب شاهين إلى حلاب الذي كان ينتظره على قلق وشعبان يسليه بالأغاني القديمة فيسأله: هل تعتقد بأن شاهين أبله حقاً؟ ويجيبه شعبان بالإيجاب. وعندما يصل شاهين يستقبله حلاب ساخراً ضاحكاً ويبدأ الناس بالتجمع، ثم يحمله رجال حلاب ويحلقون شعر رأسه بالقوة وبمقص صوف الأغنام فيذكر هذا الوضع شاهين بخديعة الختان في طفولته ولكنه قال لنفسه بأن ضحك هؤلاء يختلف عن الضحك في النافذة المقابلة لنافذة حجرته ليلاً.
بعد حلاقة شعر شاهين، أجلسوه على الروث وأعطوه قطعة حلوى. اطمأن حلاب، خلع مسدسه ورماه جانباً. كانت هاجر تتنصت إلى ضحك الضيوف وعزف ربابة شعبان وتتساءل عن سبب صيحاتهم. في هذه الأثناء فتحوا غرفة جانبية، دخل منها حمار قدموه إلى شاهين، بشكل ساخر، من أجل التعارف. اسمه قندس، حمار المختار، وهكذا أمر حلاب بأن يقوم شاهين بوظيفة مراقبة قندس في نزهاته. سار شاهين إلى جانب قندس، لأن الحمار يرفض المشي وراء أحد كما قال المختار حلاب. ذهبا إلى البستان الكبير ففتح لهما حارسه الباب، ثم تابع بعد ذلك عزفه على الناي، ورجع شعبان إلى سيده ليخبره بأن قندس مرتاح للتنزه. كان حلاب سعيداً لإحكام تنفيذ الخطة التي فكر بها في الليلة القلقة.
هاجر تسأل الذاهبين والقادمين: هل رأيتم شاهين؟ هل رأيتم ولدي؟ فيميلون عنها معتقدين بأن عدوى جنون العائلة قد تسربت إليها، فصارت تركض من تل إلى آخر، تفتش الوديان والبيوت ولا سيما بيت مسعود، كما هاجمت حلاباً لأكثر من ثلاث مرات فردها الضيوف وأغلقوا الباب دونها.
كان شاهين ينظر إلى عين الحمار ويتصور بأنه يبتسم، ثم يفكر بضرورة العودة إلى الضاحكين في النافذة المقابلة، حيث أن هناك شيئاً ما يستحق الضحك.. أو له معنى. ناداه شخص من وراء السياج: إن هاجر تبحث عنك. المدية في يده وهاجر في الرأس والحمار المدهون بالخروع على بعد ذراع.. وطعنة.. طعنة.. طعنة حتى غطى الدم المدية فهرب شاهين عبر فتحة في السياج لأن الحارس كان منشغلاً بتصعيد هواء الموسيقى. وهناك قرب النهر سرق نظرة إلى كفه: دم.. دم وألم.. دم. فأخذ يركض بمحاذاة الشاطئ، يركض وينهق، يركض وينهق حتى وجد قارب العم عارف وأراد أن يذهب منفرداً لكنه لا يعرف كيف.
وجاء إليه عارف فقال: من؟ شاهين؟ هل كنت تنهق؟ وما هذا الدم؟ فأجابه: أنا شاهين وهذا دم حمار حلاب الذي قتلته.. أنهق لأنني قتلته، فيضحك عارف مستغرباً حين يرى يد شاهين المطعونة، ثم أخذه إلى الضفة الأخرى من النهر حيث الجبل وقال له: ستبقى هناك حتى ندبر لك الأمان وسآتيك بالطعام والأخبار.
مكث شاهين متفحصاً النفايات التي يجلبها النهر من المدن، يـتأمل الجبل والأشجار وكل شيء. تمدد هناك وصرخ أيضاً بكلمته الجامعة: دابادا. يضيع صوته. وحتى يحل المساء حيث يصرخ شاهين وسط أصوات الحيوانات فترتد إليه صرخته صرخات عديدة عبر الصدى فيشعر بأنه قد أصبح شواهين كثيرة، فيطمئن ويغفو. بينما يدب الذعر في القرية بعد أن سمعوا باختفاء شاهين، يتعاهد الرجال على حماية بعضهم البعض ويتملك الرعب قلب حلاب بحيث صار يخاف حتى من جذوع الأشجار وصوت أزيز الباب، فيختبئ لافاً نفسه بحصير في إحدى زوايا بيته المظلمة.
استيقظ شاهين الذي يحيطه الظلام وتذكر كلمات العم مسعود له: لم تكذب، لم تسرق، لم تزن.. أنت رجل نظيف. ثم سمع صياح عارف يناديه: أنا عارف لا تخف أناديك منذ ساعة ألم تسمعني؟ ويخبره بأن قندس لم يُقتل، فيقول شاهين: أعرف بأنني لم أقتله لأنني اكتشفت فيما بعد بأنني قد استعملت المدية بشكل معكوس، لأن كفي ظل يؤلمني والدم هو دمي أنا لا دم الحمار. أعاده عارف إلى الشاطئ الأول وقال له: اتجه إلى أضواء القرية واعذرني. بعد أن حمله تحياته إلى هاجر.
سار شاهين مجتازاً حطام مزارع القطن كما أوصاه العم عارف. تخدش نصفه الأول. أما أهل القرية فقد فتشوا عنه في كل مكان ولم يعثروا على أي أثر له، بينما ظلت هاجر تدور في أرجاء البيت حاضنة رأسها.. تستعد للخسارة النهائية وليس الهزيمة النهائية.
بعد وقت قليل يصل شاهين إلى تل المقبرة ويبدأ بتأملها وتصورها (ومن بين أروع صفحات الرواية تلك التي تصور المقبرة والأموات). يصعد مقترباً، يرى جنيات، ثم يسمع أصواتاً يعرفها وهو يدنو من عريهن أكثر: صوت عالية، زهور، عزيزة، هاجر وأصوات جميع النساء المعروفات، فينادي: أيتها الجنيات.. يا عاريات، فلا يصل النداء بسبب انشغالهن بممارسة طقوس السحر، ودخان أزرق يصعد فيشوه صورة أول الفجر في السماء. ينادي: من أنتن؟ فيصرخن ويرجمنه بأحجار القبور، فيتدحرج حتى حفرة السيل نحو شبح آخر في الظلام ويعرفه من صوته:” إحم.. إحم.. إحم” إنه الشيخ مسعود يتجه إلى المقبرة أيضاً.
واصل شاهين طريقه بين الظلال والضياء قاصداً الوصول إلى السر الذي حيره وأخرجه من عزلته. ذهب إلى الزقاق/الهاوية التي بين شباكه والنافذة المقابلة. وقف هناك حيث البقعة التي سقطت فيها قطة ذات يوم فحُصرت بين نعلين. وقف في بقعة السقوط.
ظِل فوق ظِل وينسكب الضحك من الأعلى رادعاً، مجلجلاً عبر عش اللقلق.. طعنات طعنات حتى يستيقظ القلب.
الضحك يملأ الهاوية بين غرفته وغرفتهم، شباكه وشباكهم، الشرق والغرب، وشاهين في الأسفل ينتصب بموازاة أنبوب تصريف مياه المطر. الأنبوب بارد الآن، الهواء بارد بينما الضحكة حارة.. ويتسلق شاهين الأنبوب على الرغم من ألم الطعنات الثلاث في كفه حتى يصل إلى حافة النافذة، فوجدهم؛ فاتن والآخرين، يضحكون بعيون دامعة. كانت هناك ست فتحات، أفواه تضحك، أما الآن فهي سبع لكن ضحكه يضيع في لجة النشيد المتجانس، فوجد أن كل ما في الأمر: تمتد يد ناعمة إلى مجمرة وهي ممسكة بملقط أسود، تحمل مسماراً وتضعه على الجمر حتى يصبح أحمر. ثم تنقله ببطء لكي لا يسقط حتى يصبح فوق إناء مملوء بالماء فترتخي اليد عن الملقط فيسقط المسمار في الماء: كش.. ينفجر النشيد، ضحك ضحك ضحك. كش هو صوت برودة المسمار، كِش ضحك. كش ضحك وهكذا. فيكتشف بأنهم يضحكون لأجل هذا (الكِش).
ينزل مع الأنبوب. كِش. يسقط في بقعة سقوط القطة. صوت اصطدامه بالهاوية حين آلمته الطعنات الثلاث.
كان شاهين يركض وراء آلام الليل. حيث الانطلاقة الأولى للعصافير وتستيقظ القرية ضاحكة ذات صباح غريب، تضحك البيوت والدروب والخبازات.. كل شيء يضحك حتى الكلاب ونباتات الشوك والأعشاب الميتة في الروث كلحية مراهق.. بل حتى الضيف حين استيقظ وسأل: ما بكم؟ ما الذي حصل؟ ما الذي يُضحككم؟ لكنهم غارقون في الضحك، فأهمل رأسه ليكمل النشيد الناقص.. ضحك.. ضحك.. ضحك.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*د.عبدالله إبراهيم، (الاحتفاء برواية عراقية)، صحيفة (القادسية) بتاريخ 12/8/1988م، بغداد، وأعيد نشر المقال في مجلة (ألواح) العدد 11 سنة 2011م مدريد.
**فيما يتعلق بأرقام الصفحات المشار إليها، تم الاعتماد على الطبعة الأولى من رواية (دابادا) الصادرة عام 1988م عن الدار العربية للموسوعات، بيروت.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم الدكتور محسن الرملي
المصدر: الناقد العراقي
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...