حبه الكبير لكرة القدم، هو الذي جعله يبالغ في التغنّي بجمالياتها، وسرد تاريخها في كتابه التمجيدي (كرة القدم في الشمس والظل) الذي صار مرجعاً لقراءة الظاهرة الجماهيرية للعبة المحبوبة، والأكثر شعبية في العالم، أو ما يسميه (القداس مدفوع الأجر، القادر على التكلّم بكل اللغات) لدرجة أنه أوجد حالة من الشبه بينها وبين الإله، من حيث كونهما محل اختلاف بين بني البشر حين يتعلق الأمر بمسألة الإيمان، إذ يقسّم الناس إزاء فكرة اعتناقها إلى فئتين: ورعة مؤمنة، مسلّمة بكل خطابها، تتعاطاها بما يشبه الفاليوم الجماعي، وأخرى مستريبة، وأغلبها من المثقفين، سواء المحافظين الذين يصفونها بالشعوذة المؤداة بواسطة جماعة من الغوغاء يفكرون بأقدامهم، أو من قبل اليساريين الذين يزدرونها لأنها (تخصى الجماهير وتحرفها عن النضال الثوري) حيث يصيبهم هذا السيرك السحري الخبيث بضمور الوعي ويتيح (لأعدائهم الطبقيين أن يسوقوهم كالقطيع).
ورغم حماسه الواضح لكرة القدم كلعبة يشكل الفن جوهر متعتها، إلا أن إدواردو غاليانو، في كتابه الذي نقله إلى العربية صالح علماني، وصدر عن دار الطليعة، يقر بجانبها المظلم، المتمثّل في تحوّلها الدراماتيكي إلى صناعة قابلة للتصدير، من خلال تكريس العبودية التي يدفع ثمنها لاعب محترف، نجا من العمل في المصنع أو المكتب، ليتحول إلى رهينة عند رجال أعمال هم بمثابة المالكين لصك آدميته حيث (يشترونه، يبيعونه، يعيرونه، ويسلم هو قياده لهم مقابل الوعد بمزيد من الشهرة ومزيد من المال). كما يحبسونه في معسكرات التدريب الشاقة، ويخضعونه لقصف المسكنات، إلى أن يشيخ في وقت مبكر. كما هو حال ومآل الطفل الذهبي مارادونا، الذي لا ينفي هو الآخر درايته وقبوله بقوانين العبودية، حيث تفصح عباراته عن ذلك الميثاق المتواطأ عليه (إنني بحاجة إلى أن يحتاجوا إلي). وبموجب ذلك التعاقد أسبغ عليه سماسرة السوق الرياضي صفة القديس، وتم تكريسه كمعبود جماهيري لسنوات يحمل الهالة فوق رأسه، قبل أن يحوّلوه إلى ملاك ساقط، أو مجرد مهرج، تفتك بجسده المخدرات.
أما أمبرتو إيكو وهو أحد إبرز المفكرين المعاصرين الذين أسهموا برؤية شبه كاملة عن إشكالية تلقي نص (كرة القدم) فلا يبدى أي إشارة على التسامح مع خطاب الفُرجة والتسلية المجانية، حيث يتبنى موقفاً يقوم على التجابه الدائم بشأنها، إذا ما تم تجميع نتف من مقالاته ولقاءاته وآرائه المبعثرة التي يمكن الوقوف على أبرز موضوعاتها في كتاب Umberto Eco and Football لإعادة تشكيل قراءته الجامعة للظاهرة بكل أبعادها، والتي تبدو في مجملها ضدية وناقدة لكرنفال جنوني، بات يستحوذ على جانب واسع من المشهد العالمي، إذ لم يستفز مفكر قبله أو من مجايليه جمهور كرة القدم كما فعل، فقد استطاع بالفعل أن يثير الزوابع الكلامية في أكثر من مناسبة، ليس أهونها حديثه الشهير لمجلة GLOBE الذي نقله إلى العربية المصطفى السهلي تحت عنوان صادم (الموت لكرة القدم). فهو لا يفوت أي فرصة لإطلاق التصريحات النارية ضد آليات تسويقها الجهنمية، بما في ذلك لحظة فوز بلاده إيطاليا ببطولة العالم للمرة الرابعة، وهو أمر لا ينفيه هافيلانج أشهر رئيس للفيفا الذي اختصر مهمته النفعية ببيع سلعة اسمها كرة القدم.
وفيما يبدو تكريساً لمقولة راسخة عند المثقفين يتم بموجبها تصنيف كرة القدم كلعبة أسياد يؤديها العبيد بالنيابة عنهم، أعاد إيكو تلك العبارات القدحية إلى الواجهة مرة أخرى، ومارس من خلالها تفكيك النشوة الجماهيرية الآخذة في التمادي، حين وصف اللاعبين المحترفين بأنهم عبيد العصر، أحفاد غلادياتور، أو الكائنات الوحشية الشبيهة بأخصياء كنيسة سيكستين، الذين يتم وضعهم داخل حلبة من أجل الفُرجة والمراهنات، استنفاذاً لمخزونهم الإنفعالي، المخبأ في تلابيب النفعي، فيما يبدو من وجهة نظره تبذيراً لطاقة فائضة، معززة بفائض كلامي، يعمل بمثابة خطاب موازٍ يقوم على الثرثرة وإهدار الطاقة، أي اللغو الذي يقع في هامش الحياة بصفته حالة زائدة من السلوك. حيث يشكل ذلك الفائض من القول الذي يمتهنه المشجعون والمعلقون، إلى جانب الحركة التي يؤديها اللاعبون المستأجرون، قوة هدّامة، نتيجة عدم تصريفها بالشكل الصحيح، وهو أمر يهدد بالارتكاس بالإنسان إلى الحيوانية، حيث صارت كرة القدم بمثابة (رياضة مربّعة) يتواطأ عليها المضاربون واللاعبون والمشجعون في المدرجات وكذلك المشاهدون الذين يهدرون طاقتهم في متابعتها واستهلاكها عبر وسائل الإعلام، وبالتالي لم تعد سوى (طريقة ماكرة لصرف الناس عن الحياة الاجتماعية والسياسية).
ولمفهمة بعض المواقف المتشدّدة إزاء هذا النوع من الرياضة، التي يبدو على شكل ركلات ثقافية موجهة باستعلاء وخشونة على هامشها، بدون ملامسة مقنعة لواقعها كنص قابل للمقاربة والتأويل، لا بد من العودة إلى نقطة الإحتدام بين الرياضة باعتبارها خطاباً جمالياً لممكنات الجسد الروحية والمادية، وبين تجليات الخطاب الثقافي، خصوصاً الفلسفة التي لا تقبل بأن يجاورها أي خطاب جمالي سوى الشعر، حيث يميل أغلب المثقفين الطليعيين إلى النظر لكرة القدم على أنها مظهر من مظاهر العنف والتفاهة والسوقية، وهي بالتالي خطاب سلبي يعادل حالة التلف المعنوي والجسدي للإنسان، أو يعبّر عنها أبلغ تعبير. إذ يخلو من الجماليات ولا يعكس شعرية الوجود، لدرجة أنها -أي كرة القدم- اعتبرت ضمن بعض التصورات الدينية ممارسة همجية تفتقر إلى السمو الروحي، وهي لا تتواءم مع روح التسامح الإنساني، حيث وصفها الملك ادوارد الثاني بأنها (لعبة رعاعية وصاخبة تنتج عنها شرور كثيرة لا يبيحها الرب).
وفي هذا الصدد يمكن التقاط جملة من الآراء المتناقضة التي تعكس حيرة المثقف أمام خطاب جماهيري يغويه بالتماس معه من ناحية ويدفعه للترفّع عنه والتعالي عليه من ناحية أخرى، حيث تراوح تلك العبارات ما بين القبول والتسليم والإعجاب بل والتماهي أحياناً مع جماليات اللعبة وجماهيريتها، كما تتوضح تلك العدائية الصريحة -مثلاً- عند الأميركي أرشيبالد مكليش، صاحب الكتاب الشهير (الشعر والتجربة) الذي يرى بإن (الشعر وكرة القدم لا يجتمعان). فيما يخالفه الشاعر الروسي يفغيني يفتوشينكو، الذي وجد في ممارستها والتفرّج عليها الكثير من الشعر، فقد أحب كرة القدم ولعب كحارس مرمى لفريق مدينته الصغيرة (سيما) في سيبيريا، حيث نشر أول قصائده في الجريدة التي يصدرها اتحاد الرياضة، كما أبان عن قصة انتقاله من سحر كرة القدم إلى فتنة القصيدة في سيرته التي ترجمها الشاعر المغربي إدريس الملياني الى العربية، تحت عنوان (العمق الرمادي).
كما يحتفظ التاريخ بسلالة من الشعراء الذين كتبوا قصائد حول جوانب مثيرة من كرة القدم، فقد تغنى أمبرتو سابا بجماليتها في عدد من القصائد، كما أحبها الشاعر الإيطالي مونتاليه الحائز على جائزة نوبل، وكان أحد مشجعيها. ويُنسب إليه أنه يحلم (بيوم لا يسجل فيه أحد هدفاً في العالم كله). كذلك مدح الشاعر ليوباردي نجم الكرة في عصره كارلو ديديمي بقصيدة مشهورة. أما الشاعر الايرلندي أوسكار وايلد فقد قال بأن (كرة القدم تليق بالنساء العنيفات، وليس بالفتيان المرهفين). كما جمع كل من جون تربل ووتوم ساترلي وألون راب مجموعة من مقاربات الأدباء والكتاب لكرة القدم في كتاب بعنوان The Global Game: Writers on Soccer ضم مجموعة من المطالعات لتيد هيوز، وادواردو غاليانو، وتشارلز سيميك، ووغونتر غراس، واليفيس كوستيلو، ومايو بارغاس يوسا، وجيوفانا بولارولو.
ولا شك أن هذه اللعبة الساحرة التي يُقال أن الفضل في اختراعها يعود إلى الإنجليز، وتنظيمها بالشكل الذي تبدو عليه اليوم هو نتاج فرنسي، إلى أن جاء الإيطاليون فمسرحوها، تختزن من الإغواء ما يكفي، رغم الدعاوى المضادة، إذ لم ينج حتى فيلسوف الوجودية سارتر من التماس معها والتعليق على سر سطوتها وجماهيريتها، عندما وصفها في لقطة فلسفية خاطفة بأنها مجاز الحياة، وأن كل شيء يبدو معقداً في كرة القدم في ظل وجود الفريق الآخر. وحيث يمكن رصد أسماء هامة في تاريخ الفكر والأدب تعالقت بها، فقد أُشيع أن نيكولو دي مكيافيلي صاحب كتاب (الأمير) قد مارسها، كما كان فنان (الموناليزا) الشهير ليوناردو دافنشي أحد مشجعيها. والمؤكد أن الروائي الشهير البير كامو، الحائز على جائزة نوبل، لعب كحارس مرمى لفريق شباب الجامعات الجزائرية، وطالما صرح بمديونيته لكرة القدم التي علمته كل ما يعرفه عن الأخلاق. أما الشاعر والقاص والمخرج الإيطالي بيير باولو بازوليني، فقد وجد فيها لغة تقوم على منظومة من الرموز، وقال بأنها من أعظم المتع بالنسبة له، فيما خصص الروائي الانجليزي أنتوني بيرجس، صاحب (البرتقالة الإلكترونية) اليوم السادس من الأسبوع لكرة القدم، بعد اقتطع الأيام الخمسة الأولى للعمل، حسب الكتاب المقدس، ليبقى اليوم السابع للرب.
كذلك يمكن الإتكاء على رأي هام للمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، الذي تغنّى بكرة القدم ووصفها بأنها (مملكة الوفاء البشري التي تمارس في الهواء الطلق). إذ تتأتى أهمية رأيه التعزيمي بالنظر إلى ما ينادي به ويمثله من ثقل معرفي، بما هو صورة من صور المثقف العضوي، بل تلك إحدى أطروحاته التي وجد في كرة القدم حقلاً تطبيقياً لها، فهي المحل الأمثل لالتحام المثقف بكتاب الحياة المفتوح، والانسجام البنيوي مع الحراك الإنساني وتطلعاته مهما كانت صغيرة. وبالتالي يمكن اعتبار وجهة نظرة بمثابة حُجة قوية من قامة ماركسية، بالإمكان تعضيدها أيضاً، بالوصف الهجائي لجورج أمادو لمن لا يحبون كرة القدم بالغباء، وهو أمر غير مستغرب من كاتب برازيلي يمتلئ جسده ووجدانه بجينات عشقها المتوارث. وإن كان روديارد كبلنغ قد أعلن موقفاً مضاداً ومتأففاً من (الأرواح الصغيرة التي يمكنها أن ترتوي برؤية الحمقى الذين يلعبونها). كما سخر برناردشو أيضاً من اللاعبين الذين يضعون عقولهم في أرجلهم.
الشعر لا يوجد في الألفاظ وحسب، بل يمكن أن ينوجد بين أقدام اللاعبين، وفي الكلمات المتساقطة بلا حذر ولا احتراز من هتافات الجماهير، وهو أمر لا يستوعبه بالضرورة مثقف من ذلك الطراز الذي لم تطأ قدمه أرضية ملعب رياضي، ولم يندس يوماً وسط زحام مشجعين قطعوا عشرات الأميال ليستقروا بأجسادهم المتعبة على صقيع المدرجات الباردة، وبالتالي لن يفهم معنى الدولارات العشرين التي يقتطعها مشجع من مصروفه ليقتني قطعة من عشب أستاد لوس انجلوس الذي استضاف مونديال ١٩٩٤م بعد أن قُسّمت أرضيته إلى قطع بحجم البتتزا. ولن يقترب من شاعرية الواقع، ولا شعر الملعب، الذي تولد لحظة تشييد سوبر ماركت كارفور، في بيونس أيرس، على أنقاض استاد نادي سان لورينزو. يومها كان (المشجعون يلتقطون حفنات من التراب ويضعونها في جيوبهم) كبقايا من ذكرى أثيرة في نفوسهم، بعدما جرى تدمير الاستاد في منتصف عام ١٩٨٣م، كما يرثي إدواردو غاليانو ذلك المضمار التاريخي، في صورة شعرية مؤثرة.
أما بالنسبة لإيكو، فلا يبدو أن حدة خطابه متعلقة بجمالية اللعبة ووظائفيتها وحسب، بقدر ما تشي تعليقاته المتواترة إثر كل مناسبة رياضية، بصراع على الجماهيرية، وحق توجيه الطاقة الإجتماعية في مسارب خلاقة، بعد انزياحها من مجرد كونها لعبة رياضية إلى متطلبات السوق، وتحوّلها إلى أداة سياسية موظّفة كفن لإدارة المجتمعات، وهو أمر لا ينفيه بل يؤكده وفق مبررات عقلانية، فهو ناقد في المقام الأول، والناقد هو الوريث الشرعي للفيلسوف، الأمر الذي يفسر شدة التجابه التي يبديها للفت الأنظار إلى ملاحظاته، وقرع أجراس الإنذار، لاستقطاب أكبر قدر من الأضواء والأصوات، وإن كان ذلك التصادم لا يقلّل من مقارباته الفنية لها كلعبة، فهو ناقد شديد الحماس للجمال، ويبدو من خلال تلك الصولات مهموماً بالتجادل حول فن السيطرة على الجسد للتعرف على الكائن الانساني من خلاله. وعليه صارت معركته تأخذ أبعادها الفلسفية، ولو على أرضية إعلامية.
يتعزّز هذا الرأي أيضاً من الوجهة الموضوعية عند النظر إلى ما يميل إليه الناقد والباحث الإيراني خسرو ناقد، لتجذير إشكالية التنازع، وتأوينها في الفضاء الثقافي، ففي مقالة له بمجلة (روز) الإلكترونية، ترجمها خسرو على أكبر تحت عنوان (كرة القدم والفلسفة) تساءل هو الآخر إن كانت كرة القدم هي المعادل العصري لفن المصارعة التي ازدهرت في العصر الروماني، ليشير بما يشبه التأكيد، إلى أن سر التناقض يكمن في أفول الفلسفة قبالة الرياضة، بعد أن كانت تستأثر باهتمام الشباب في اليونان القديمة (بسبب اهتمامها البالغ بوضع أسس وقواعد تنظم حياة مبنية على السلم بين البشر إضافة إلى جهودها العظيمة في الدعوة إلى الديمقراطية والمساواة القانونية) رغم أن الحظوة التي تمتاز بها اليوم كرة القدم -برأيه- يعود الفضل فيها إلى الفلسفة في عصرها الذهبي، وإلى سقراط تحديداً، الذي كان يجمع حوله الشباب ليتباحثوا في قضايا الكون والوجود والإنسان، فيما أعتبر حينها انقلاباً على الكلاسيكيات اليونانية وتدميراً معلناً لنظامها الثقافي، الأمر الذي دفع بالفيلسوف ميلتوس والسياسي أنيتوس للتحالف من أجل إنهاء حياة سقراط بالسم انقاذاً لديمقراطية أثينا كما يرونها من وجهة نظرهم.
لكن هذه الرؤية الفلسفية الفاائضة بالمثالية، لا تصمد أمام واقع الجسد الرياضي اليوم، الذي لم يعد يمثل حتى (إنسان فيتروفيوس) كما صمّمه ليوناردو دافنشي، حيث لا يتلمّس الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا، فيما يراه من تمظهرات كروية خرقاء أي علاقة مع ما كان يحدث في العاصمة الكونية للفلسفة وخصوصاً مع (إتحاديي أفلاطون وهم يدهنون أجسادهم بأنواع الراتنج بعد عروضهم الجسدية والحسّية والفلسفية) حيث يسرد في روايته (دفاتر دون ريغوبيرتو) ما سماه (مرافعة تشهير ضد الرياضي) مفنداً العبارة المنافقة الخسيسة التي تُلقن للأطفال mens sana corpore sano التي تعادل في العربية (العقل السليم في الجسم السليم). إذ لا ينتج عن ذلك التجابه في المباريات سوى مجموعة من الأوباش المخربين، لدرجة أنه يرى على لسان بطله في مسألة عبادة الرياضة وتأليه التمارين والألعاب الرياضية شكلاً من أشكال البلاهة، التي تقرّب الكائن البشري إلى الكبش. ساخراً من (العصابات الثملة التي تزمجر على مدرجات الاستادات -قبل أن تحرقها- الحديثة في مباريات كرة القدم المعاصرة) فيما يُفترض أن تكون الرياضة فرصة الكائن البشرى لتجاوز شرطه الحيواني وملامسة ما هو مقدس، والسمو إلى مستوى كثيف من الروحانية.
أغلب المثقفين لا يطربون لـما يُعرف بـ(الصفارة المزغردة) التي اخترعها الإنجليزي جوزيف هدسون، بل هي، على ما يبدو، مصدر إزعاج دائم لهم. وعندما يقرر كاميلو خوسه ثيلا، الحائز على جائزة نوبل، الذي كتب إحدي عشر قصة عن كرة القدم، أن يرمي بحكمين في جهنم لأنهما لم يقرآ فولتير، فإنه إنما يضيف لقطة ساخرة في سجل العلاقة التاريخية الملتبسة بين المثقفين وكرة القدم، وهو سجل غامض الملامح، وبلا علامات تقريباً، لولا العبارات المستلة من سياقاتها، والتي يمكن من خلال النظر إلى تمظهراتها القولية استجلاء طبيعة المواقف التي عبّر عنها بعض المثقفين بشأنها، التي تعتمد في الغالب على مقاربات تأويلية ذهنية متأتية من هوامش اللعبة، ليس من وراء خط التماس وحسب، بل من خارج المدرجات، حسب التعبير الرياضي، فهي تتكئ على استجابات نسقية لا صلة لها بما يجري على ما يؤديه الجسد والروح داخل الملعب، إذ يُلاحظ خلو الآثار الأدبية من أمجاد ورموز هذه الرياضة، وكأن أغلب المبدعين يخشون الإحتفاء بنجومية قد تلغي بعض وهجهم، وتزاحمهم على القاعدة الجماهيرية.
الحفر الجمالي والتاريخي في الآثار الأدبية يؤكد على طبيعة النظرة التحقيرية للعبة واللاعبين، كما يستشف من شتيمة الكونت كينت في مسرحية الملك لير (أنت يا لاعب كرة القدم الحقير). وكان شكسبير قد أومأ أيضاً إلى سطوة دلالاتها في الحياة الإجتماعية في (كوميديا الأخطاء) من خلال عبارة على لسان أحد أبطاله (إذ أردتم التلاعب بي ككرة قدم، فالرجاء أن تخيطوني على الأقل من الجلد). وقد كانت تلك العبارة بمثابة إشارة صريحة إلى الطريقة التي كانت تتم بها صناعة الكرة من مثانة خنزير منفوخة بعد محاولات تصنيعها من القش والشعر، وقبل أن يتمكن تشارلز غوديير من ابتكار الكرة المطاطية المغطاة بالجلد. رغم أن امبرتو إيكو يعود مرة أخرى ليشكك في تاريخانية كرة القدم والألعاب الأولمبية بمجملها، ويضع بعض تلك الأقاويل والمبالغات المتخيّلة بشأنها في خانة الإحتمالات، فبموجب ما اعتاده من تأويلات فارطة، ليس كل ما تحدث عنه الشعراء يمكن أن يكون له مرجعية واقعية بتلك الدقة التي يمكن يطمئن إليها، وهي شكوك يمكن تبديدها أو التيقّن منها بالعودة إلى موسوعة كرة القدم http://www.footballpedia.org. للوقوف على جملة من الحقائق الجمالية والمعرفية المتعلقة بتاريخ اللعبة.
مقابل تلك المتوالية من الهجائيات، كتب مؤلف الرواية الشهيرة (عطر امرأة) الإيطالي جيوفاني أربينو Azzurro tenebra (أزرق غامق) وهي رواية تدور أحداثها حول مونديال المانيا ١٩٧٤م. كما قدم قصة شهيرة بعنوان ( أطول ضربة جزاء في العالم). كذلك استعرض الكاتب الإسباني خافيير مارياس، صاحب ثلاثية (وجهك غداً- السم والظل والوداع) العوالم الحقيقية لكرة القدم في روايته البوليسية (أشرار وعاطفيون) بعد أن تنكّر في زي مشجع لنادي ريال مدريد، ليسجل مشاهداته عن قرب لما سماه أجمل رياضة في العالم، لكن هذه الأعمال الأدبية المتأخرة، التي تعكس منسوب التسامح مع خطاب ونص كرة القدم لا تمسح من الذاكرة الآراء المضادة، حيث يمكن الانتباه لصور هجائية متأصلة وصادمة ضد كرة القدم في رواية جورج أوريل الشهيرة (١٩٨٤) التي تصل إلى درجة العدائية للأجواء الحربية للمباريات، ومقت الطريقة القتالية للعبة، كما ينم عن ذلك الموقف الضدي وصفه للمجابهات الكروية بعبارات حادة (لعبة كرة القدم هي حرب من دون اطلاق نار، لعبة جادة لا علاقة لها باللعب النظيف وهي ترتبط بالحسد والكراهية والانفلات من مقررات وقواعد اللعب الصحيح).
وربما شكلت الحرب التي اندلعت بين هندوراس والسلفادور سنة ١٩٦٩م حجة في هذا الصدد، بل مرجعية لكل من يريد النيل من اللعبة والتأكيد على وحشيتها ومنحاها الحربي، بدون التفريق بين نص اللعبة ذاتها وما يمارسه الجمهور من تجاوزات، إذ لم يخل كتاب بشأن كرة القدم من التذكير بتلك الواقعة المؤسفة، التي عُرفت بحرب كرة القدم وراح ضحيتها أربعة آلاف شخص نتيجة الحماسة الوطنية الزائدة. كما يحفل تاريخ كرة القدم بمجابهات واعتداءات، مع تصاعد ظاهرة الهوليغانز الذين قتلوا سنة ١٩٨٥م تسعة وثلاثين مشجعاً إيطالياً على مدرجات استاد هيسيل القديم في بروكسل، وكانت صحيفة التايمز اللندنية قد كتبت مع نهايات القرن التاسع عشر بأن (الهوليغانز لدينا يمضون من سيء إلى أسوأ، والأسوأ من كل ذلك أنهم يتكاثرون...إنهم زائدة خبيثة في حضارتنا). كما عبّر المخرج نيك لوف بعد قرن -سينمائياً- عن عار تلك الزمرة، التي تمثل الهويات الجماعية العمياء في فيلم The Football Factory المنقول عن رواية جون كنج. كما كتبت وأخرجت ليكسي الكسندر فيلم آخر بعنوان Holiganns وكذلك اشتركت في كتابة فيلم Green Street Holiganns من إخراج جيسي جونسون، وهو نوع من أنواع حرب العصابات الرعاعية البغيضة التي تنتعش في بريطانيا تحديداً، وتأخذ أشكالها المماثلة في بلدان أخرى، حيث تتكامل مع ما حاول مشجعو المنتخب الهولني استعادة أجواءه الحربية، حين ارتدوا ملابس الفايكنج. كما شهدت الخرطوم وفيات وحوادث مأساوية في مباراة التأهل لمونديال جنوب أفريقيا بين مصر والجزائر، بواسطة زمرة من (البلطجية) الأمر الذي يعيد إلى الأذهان فيلم شريف عرفة (الدرجة الثالثة) الذي يتحدث عن استغلال الحشود الجماهيرية في المباريات لإعادة توجيه الصراع السياسي والإجتماعي.
وراء مثل هذه الوقائع الدامية، والعبارات التوصيفية الحادة يتمترس أغلب المثقفين الكارهين للعبة كرة القدم من المثقفين في مقارباتهم وتعليقاتهم، وكأن كرة القدم ليست سوى حالة استمرارية بالفعل للحرب بوسائل أخرى، كما عنوّنت التايمز أحد أعدادها. وهو استنتاج يتبناه أمبرتو إيكو أيضاً مع توصيف مخفّف بعض الشيء، إذ يعتبرها (طريقة لعمل الحرب بوسائل أقل دموية مما تعودناه) مع تأكيده على أن هذه الوحوش البشرية من الجماهير إنما هي نتاج طبيعي للصحافة والتلفزيون. كما يعمق هذا المنحى التأويلي ادواردو غاليانو أيضاً، الذي يرى هو الآخر أنها (صورة مجازية للحرب).
ربما لهذا السبب تقبّلها الروائي الأميركي بول أوستر كأمر إنساني واقع، ورأها كوسيلة لتفريغ الشحنات الشعورية الفاسدة ضد الغير، أو هكذا اعتبرها (درساً بليغاً من دروس الألفية المنصرمة، للتعبير عن كراهية الآخر، في حرب صغيرة متوهمة بدون الفتك به، فهي البديل الممكن عن سفك الدماء في الحروب الكونية). ومن نفس المنطلق اعتبرها محمود درويش، الذي كان لا يخفي غيرته من جمهور كرة القدم (أشرف الحروب). وكأن كل تلك المتوالية من المقولات التي تتفنن في إيجاد صلة بين الحرب وكرة القدم بقدر ما تعمّق إشكالية تلقيها كنص، تفتحها كأفق واسع للإحتمالات والتأويل، وهي بالتالي تستوجب العودة إلى فعل التسمية الأول، أي مرجعية اللغة التي تفصح عن فحوى ومغزى ما كان يُعرف عند اليونانييين بلعبة إبسكيروس أي (الصراع على الكرة) حيث كان الهدف من ممارستها آنذاك تقوية أجساد المحاربين.
بهذا المعنى هي بالفعل لعبة حربية في أصلها، أو وسيلة للتدريب على القتال. يضاف إلى ذلك ما تحمله (الكرة) من دلالات رأس العدو المحزوز، والقابل للركل بعد وأثناء المعركة، إبتهاجاً بدحره والإجهاز عليه. حيث يعود هذا الإعتقاد إلى لعبة هي بمثابة المرجع لكرة القدم المعاصرة كانت شعوب الأزتك تمارسها باسم الـبوتشاشا (Pochacha) مع ملاحظة أن اللاعبين كانوا يؤدونها برأس بشري، بحيث يقدم الفريق الخاسر عميد الفريق بعد نهاية المباراة قُرباناً للألهه، حسب كلود ليفي شتراوس، وكأن كرة القدم في جوهرها، وليس في مظهرها وحسب، هي المعادل للحرب، إذا ما تم إخضاعها لألسنية فريديناند سوسير، في سعيه لتفكيك العلاقة بين دالها ومدلولها، حيث تعامل هو الآخر مع كرة القدم كنظام أدلة تجد ما يؤكدها داخا نص اللعبة.
تتعزّز كل تلك الإشارات والإيحاءات بقاموس يقوم على خزين من المفردات التي تؤكد على المنحى الحربي، فالمباراة بما هي جامع النص، توصف دائماً بمصطلح (حرب التسعين دقيقة) التي استخدمها الروائي الإسرائيلي إيتاي مايرسون عنواناً حرفياً لروايته التي أراد من خلالها المواءمة المجازية ما بين الحرب وكرة القدم، كما يتمثّل في مقاومة الفلسطينيين للإحتلال الصهيوني على أرضية جغرافية تاريخية وحضارية أشبه ما تكون بمباراة دائمة لكرة القدم. أمااللعب فيتم وفق (خطة) أشبه ما تكون بالاستراتيجية، كما استعرضها جوناثان ويلسون في كتابه الهام Inverting the Pyramid: The History of Football tactics. ومن هذا المنظور يمكن ملاحظة أن الركلة القوية يُطلق عليها صفة (القذيفة) وخسارة المبارة هي بمثابة (هزيمة) بالإضافة إلى ما يسبغه المشجعون على أجواء اللقاء من مسميات (المنازلة، والمعركة، والواقعة). وما يطلقه المعلقون الرياضيون على اللاعبين أيضاً من أوصاف الفروسية، وألقاب قتالية كالرمح والسهم والمدفع إلى آخر مفردة في المعجم الحربي، الذي يراوح ما بين الحماسة لدحر الخصم الذي يتم تصنيفه كعدو، وبين النشوة التي تتأتى في الغالب كرقصة إنتصار.
من داخل طيات وألياف الخطاب الحربي، ينبثق خطاب فحولي، لا يطمس الأصل بل يزيده إثارة ويضاعف لذته. حيث ينهض على تأنيث تلك الجلدة المنفوخة ليعادلها بتكويرات ونعومة وإغواء جسد المرأة، في مقاربات أشبه ما تكون بقراءة متأخرة لنص كرة القدم من الداخل، حيث باتت كرة القدم ظاهرة مغرية بالتحليل الجمالي، إذ يميل كريستيان موتين في (موسوعة أساطير الكرة) إلى أن (معظم لاعبي كرة القدم يؤمنون أن الكرة هي أنثى، لذا يركلونها بعنف ويقبّلونها ويشعرون بالانتصار إذا نجحوا في السيطرة عليها وأحرزوا الأهداف بها). وهو اعتقاد يجد صداه عند ايريك كانتونا، كما يتوضح في العبارة الفائضة بالحسّية (الكرة، مثل المرأة، تحب أن تُداعب). وليس أدل على ذلك الحسّ الشهواني من فائض القبلات التي يطبعها اللاعبون عليها إثر تسجيل الأهداف، ووفرة المسميات التي يدّلل بها البرازيليون الكرة فهي السمينة، والطفلة. وغالباً ما تحمل أسماء ماريكوتا، أو ليونور، أو مارغريتا، كما يمكن الوقوف على تفاصيل ذلك التدليل الصريح في شهادة ديدي التي يناغي فيها كرة القدم بقوله (تعالي يا بنيتي).
وربما يكون سعيد بن كراد أفضل من اشتبك -عربياً- مع ذلك الخطاب ورسم معالمه، وذلك في كتابه (مسالك المعنى-دراسة في بعض أنساق الثقافة العربية) وبالتحديد فيما سماه (كرة القدم-الاستراتيجية الحربية والاستيهام الجنسي). حيث يميل إلى مطابقة الإستيهامين (الجنسي والحربي) من واقع مديح الرجولة كمنطلق للمخيال الذكوري، ومن حيث تحليله لكون كرة القدم حالة من حالات اللعب التي تستهدف تحرير طاقة جسمية ونفسية، حيث لا يمكن التحكم فيها من خلال حالات الجد، وفي هذه الحالة يتورط المتفرج أيضاً بدون معرفة كاملة بقوانينها وطقوسها، إذ لا ينبغى الفصل، كما ينقل عن جاك هيرمان في اللعب والعقلانية، بين الرقعة الفضائية التي تحتضن اللعبة وبين ما يوجد خارجها، لأن في ذلك الإجراء مساس بالجوهر اللعبي ومصداقيته.
في مجادلته التأويلية تلك، يتأمل الحالة الثقافية التي تمثلها كرة القدم، فيلاحظ أنها تُوصف بمعبودة الجماهير، وهو وصف مريب و ملتبس -برأيه- إذ تثير صراحة التأنيث إلى لقاء جنسي بين ذكر وأنثى، يقوم في أساسه على هوى جارف، يتعزز بفعل وإيحاءات العبادة. والأهم أن المتفرج، كما يتكئ على مرافعات أمبرتو إيكو، ينزاح من فعل المشاهدة إلى الفُرجة، التي تعني في مغزاها اللاواعي الرغبة في التلصُّص على كائنات تستعرض أجسادها لحظة التعري، أو ما اعتبره حالة من (التلذذ المرضي بمشاهدة الآخرين ينزعون ثيابهم شيئاً فشيئاً استعداداً لممارسة جنس لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال إسقاط حالات إشباع افتراضي، أو لذة منفردة) ومن خلال (مثيرات لعبية تحاكي فعل الارتواء الاستيهامي الذي يشبه حالات الجنس المقدس).
من هذا المنطلق بالتحديد، ينشغل بتحليل قاموسها اللغوي المستبطن لهواجس ذكورية غايتها تأنيث اللعبة بكل تداعياتها، بدءاً من مداعبة الكرة إثر انطلاق صفارة المباراة. وتأكيد المعلق على فعل الملامسة، ومعانقة الشباك، واختراق المرمي، وعناد الكرة الموحي بالتمنّع الأنثوي وعدم تحقّق الرغبة، ومعاودة الكرة كإشارة لفعل المراودة، حتى تحقيق الهدف كمعادل لفعل الإيلاج، أو هذا ما يبدو عليه رد الفعل اللفظي المصاحب للفرجة، حيث يوصف الأداء الجاد والخشن باللعب الرجولي، فيما يوصف الفريق الخاسر بأنه مجموعة من الإناث المائعات، على اعتبار أن مبدأ الرجولة هذا هو الرابط بين الإستراتيجية الحربية والاستيهام الجنسي. فالجنس في المتخيل الذكوري معركة تستحق أن تُرتكب.
وفي المقابل انتعشت متوالية من القراءات الحديثة، التي تبدو في أغلبها ملامسات لظاهرة اللعبة من الخارج، غير معنّية بالحفر فيها كنص جمالي، إذ تتجاوز إيحاءات التكوير الأنثوية، ودلالات رأس القتيل المركول على أرضية المعركة، إلى أفاق العولمة، حيث صارت (الكرة) هي المعادل للكرة الأرضية، كما يمكن استشفاف ذلك المنحى الدراماتيكي اللافت في اللغة الإعلامية وخطابها الآخذ في استيعاب الظاهرة وتصعيدها، كما يُلاحظ في كثرة الطرق على مفردة العولمة ومشتقاتها، والإصرار على إقرانها بجماهيرية الظاهرة، وتكثُّر الأيقونات البصرية الذاهبة في هذا الإتجاه، حيث تضع مجلة World Soccer تحت عنوانها العريض لافتة استكمالية صغيرة لا تخلو من الدلالة One World, One Game.
وخلال العقد الماضي انتعشت المعارض الفنية التي تسلط الضوء على واقع ومجازية كرة القدم وتحاول من منطلقات فنية، تقديم اللعبة بأسلوب ثقافي كمعرض Rundlederwelten (عوالم الكرة الدائرية) في برلين. ومعرض (فنانو الكرة) بمدينة لايبتسغ. كما نظم معهد غوته معرضاً فوتوغرافياً لكبار مصوري وكالة MAGNUM PHOTOS الشهيرة، تحت شعار (كرة القدم كلغة عالمية) كمساهمة رسمية منه في البرنامج الفني والثقافي لبطولة كأس العالم لكرة القدم ٢٠٠٦م. وقد تم عرضه في أكثر من مائة مدينة من كل أنحاء العالم. وهكذا صارت تلك المتوالية من المعارض تتكاثر وتستعرض تاريخ كرة القدم، وعلاقتها العضوية بالحياة اليومية، وبطبيعة النظام الثقافي المعاصر، بما تختزنه من طاقة إلهامية للبشر.
في نفس الإتجاه أيضاً يشرح موقع The Global Game موقفه الفلسفي من اللعبة، بعنوان فرعي يفيض بالدلالات الشاعرية Soccer as a Second Language فيما يبدو محاولة لتصعيد خطاب كرة القدم ومواءمته مع أحدث الطروحات الأممية والإنسانية، الداعية إلى السلم الإجتماعي، ونزع فتيل الحروب، وإطفاء النعرات العرقية والدينية، وإعادة تأهيل اللاعب كعنصر اجتماعي فاعل في المسار الحضاري. وهو خطاب يجد صداه عند اللاعبين في المقام الأول، حيث كان رود غوليت -مثلاً- الملقب بالزنبقة السوداء، مناهضاً لسياسة الأبارتيد في جنوب أفريقيا، وقد أهدى جائزته الكرة الذهبية لنيلسون مانديلا، سنة ١٩٨٧م عندما تم اختياره كأفضل لاعب في أوروبا، كما تبرّع عدد من اللاعبين بإقامة مباريات خيرية يعود ريعها لضحايا تسونامي، وفيما بعد لمتضرري زلزال هايتي كإشارة لصحوة ضمير الرياضيين وتعالقهم بهموم وقضايا الانسان وهكذا.
وقد تصاعدت هذه الموجة من الإسهامات التكافلية وفق توصيات معلنة من الإتحاد الدولي لكرة القدم FIFA لإبراز نواياه الخيّرة، وتعميق عناوينه الإنسانية، وتبييض تاريخه المشبوه، أي التأكيد على مبادئ الشراكة والأخوة والسلم العالمي في كل الدورات الرياضية، بدءاً من دمغ كرة القدم في بخارطة تمثل كل أقاليم العالم وثقافاته المتعدّدة، أو توشيتها بأي إيماءة جمالية تدعو لنبذ العنف والعنصرية، وتوليد مرجعيات الفن والإخاء. وقد دشن جوزيف بلاتر بالفع شعار البطاقة الحمراء ضد العنصرية لردع من يطلقون عبارات وشعارات عنصرية فى ملاعب كرة القدم، وينشرون الحقد والكراهية والعنف بين مختلف أجناس البشر، اعتباراً من يونيو ٢٠٠٩م متوعداً الأندية والمنتخبات بعقوبات صارمة، ومطالباً بأن تخلو الملاعب من الحقد، وأن تكون الرياضة وسيلة للارتقاء بالأخلاق والتقارب بين الأجناس والشعوب.
وهكذا صارت هيئة نشر الملصقات الرسمية التابعة للإتحاد، التي يديرها طابور من المثقفين والفنانين، تشجع على انتقاء علامات دالّة على الروابط الأخوية، بعد أن كانت الشعارات تمثّل النعرات العرقية والفئوية والإقليمية، وتكرّس الديكتاتوريات، حيث كان شعار مونديال ١٩٣٤م موشوماً برسم لهرقل وهو يرفع يده بالتحية الفاشية وعند قدميه كرة، وهو شعار تم تصعيده في مونديال ١٩٣٨ عندما وضع موسيليني فريقه الوطني مرة أخرى تحت مقصلة الفاشية من خلال برقية مفادها (الفوز أو الموت) فكان فوزهم على البرازيل بمثابة فوز لإيطاليا الذكية على قوة الزنوج الهمجية، حسب صحيفة لاغازيتا دلو سبورت، أما اليوم فقد صار خطاب كرة القدم أكثر تسامحاً، ولم يعد من المسموح به إضفاء أي إشارة للطابع العنصري على منتجات ومناسبات كرة القدم.
وللتأكيد على هذا المنحى لا بد من تأمل جانب من سيرة شعارات الكرة المطاطية، حيث تم اختيار الكرة الرسمية لمونديال ٢٠١٠ م في وقت مبكر بتصميم الشركة المعروفة أديداس، وأطلق عليها إسم Jabulani أي جالبة السعادة للجميع، أو الإحتفال الجماعي، وهي تعويذة مستمدة من لغة الزولو في جنوب أفريقيا، كما حملت كرة كأس العالم في الأرجنتين سنة ١٩٧٨م اسم رقصة التانجو الشهيرة Tango وسميت كرة مونديال المكسيك سنة ١٩٨٦ باسم أزتيكا Azteca في إشارة إلى حضارة الأزتك، واتخذت كرة البطولة في مونديال إيطاليا سنة ١٩٩٠م اسم اتروسكو يونيكو Etrusco Unico المقتبس من الفن الإيطالي القديم، وهي خيارات جمالية تعكس مدى ما قطعته اللعبة من مسافة للتقريب بين الشعوب، والتماس بالخطابات الإنسانية، حتى لو اقتصر الأمر على مستوى النوايا والعناوين واللافتات البراقة.
هكذا انفتح خطاب كرة القدم ليستحوذ على جملة من الخطابات، كما يمكن مطالعته عند فرانكلين فوير، في كتابه How Soccer Explains the World: An Unlikely Theory of Globalization الذي يبحث فيه عن نظرية يمكن بموجبها تبيان الكيفية التي بواسطتها تفسر كرة القدم صيرورة العالم الحديث، فهذه اللعبة الساحرة الساطية على أذهان ووجدان الناس، التي لم تكن تعني الكثير بالنسبة للأمريكيين، حسب رأيه، هي قوة ذات طابع معولم، خصوصاً في أوروبا وأمريكا الجنوبية، بالإضافة إلى أماكن أخرى من العالم، فهي بالنسبة لهم ليست مجرد هواية، بل صيغة من صيغ التعبير عن الحالة الاجتماعية، وعلى درجة من التداخل بشكل كبير مع السياسة والإقتصاد، والنزاعات العرقية، ومن هذا المنطلق يبدى حماسته لدراستها في مختلف الثقافات كممر لاستيعاب العولمة.
في كتابه لا يتوقف عند ما يحدث من مجابهات داخل الملعب، بل يمتد برؤيته إلى قراءة تاريخية لعلامات العولمة الكبرى مثل معاهدة التجارة العالمية، وتصدير الثقافة الغربية. وبعد سرد متنوع، يعرّج على جنون المجتمع الرياضي بطرح جملة من العناوين المثيرة، التي تصب مجتمعة في فكرة تفسير الكيفية التي يتشكل بها العالم اليوم من خلال كرة القدم، حيث يتساءل من خلال مجموعة من العناوين المتناظرة، عن صلتها بالسياسات الإستبدادية (كيف تفسر كرة القدم الأوليغارشية الجديدة) وعن دورها في صعود الأصوليات والحماسة الدينية (كيف تفسر كرة القدم الإسلام كأمل) وعن سيكولوجيا المشجعين وهستيريا ما بعد الفوز أو الهزيمة من الهوليغانز والبلطجية، وعن دورها في الثقافات والإقتصادات المحلية، ودورها في بروز الحركات النسويات كما في إيران مثلاً، حيث تجد المرأة في الملعب فرصة للتعبير عن حقوقها، كما عبّر عن ذلك الخيار المخرج جعفر بناهي في فيلمه (أوف سايد) الذي يتحدث عن مجموعة من النساء يحاولن حضور مباراة التأهل لمنتخب إيران في تصفيات مونديال ٢٠٠٦م.
تنفتح هذه التأويلات أيضاً عند سيمون كوبر، الذي يعيد الحفر في مقولات تم ترسيم معالمها السجالية منذ زمن، كتوظيف المعتقدات الدينية والنعرات العرقية في اللعبة، للسيطرة على وجدان ومقدرات الشعوب، من خلال زيارات ميدانية لكثير من الدول، وذلك في كتابه Soccer Against the Enemy: How the World's Most Popular Sport Starts and Fuels Revolutions and Keeps Dictators in Power الذي يحاول من خلال بعض فصوله التأكيد على فكرة متداولة ومجادلة في أغلب الكتب المتعلقة بكرة القدم، وتكمن في توظيف الدكتاتوريات للعبة كرة القدم في الإبقاء على سلطتهم، خصوصاً في الدول الفقيرة والمفتقرة إلى الديمقراطية. وقد أجاب ادواردو غاليانو على هذا التساؤل بعبارات شعرية مكثّفة ودالّة (كرة القدم هي الوطن، والسلطة هي كرة القدم: أنا الوطن، هكذا كانت تقول الدكتاتوريات العسكرية...كرة القدم هي الشعب، والسلطة هي كرة القدم: أنا الشعب، هكذا كانت تقول تلك الدكتاتوريات العسكرية).
ولمزيد من الإثارة حاول سيمون كوبر بشكل فارط، وعبر قراءة شعبوانية إقامة صلة بين كرة القدم والإرهاب، وكأنه يحاول تكرار الإستنتاج ذاته الذي تم الكشف عنه في أكثر من مناسبة حول تورط المافيا العالمية، أو ربما أراد استثمار الآلية ذاتها.خصوصاً في فصل بعنوان Global Game, Global Jihad مستفيداً من الحماسة الدينية التي يبديها المتفرجون ويستجيب لها فصيل من اللاعبين المهجوسين بتحويل الملاعب إلى ساحة عبادة أو احتراب بين الأديان، ولكن بدون أن يقدم أي مبرر عقلاني لوشائج تلك العلاقة السرية المزعومة، حيث يشاع أن أسامة بن لادن أحد عشاق كرة القدم، وله ميل صريح ناحية فريق الأرسنال تحديداً، الذي بات يردد مشجعوه أغنية بهذا الشأن، ويقال أنه زار النادي ودعمه مالياً، حيث سجلت الكاميرا لقطات للاعب أرماند تراوري وهو يؤدي بعض التراتيل الإسلامية داخل الملعب.
العالم يستدير إذاً، ويتكوّر بلا هوادة، أو تلك هي الحتمية الماثلة للعيان، حيث يمكن تأمل ما ذهب إليه ديفيد غولدبلات في هذا الشأن، من كون كرة القدم ممارسة ثقافية وذلك في كتابه The Ball is Round: A Global History of Soccer الذي يماهي فيه بشكل مجازي بين كروية العالم واستدارة كرة القدم، كما يستعرض من خلاله التاريخ العالمي للعبة، التي تعيش من وجهة نظره حالة من التشكّل الثقافي الدائم، فهي بمثابة الدين الآخذ في الإتساع ليغطى أبعد نقطة ممكنة في النطاق الجغرافي، حيث يؤكد أن نصف سكان الكرة الأرضية قد شاهدوا المباراة النهائية بين فرنسا وإيطاليا في أولمبياد ٢٠٠٦م وهو حدث إنساني نادر لم يسبق أن إحتشد حوله هذا العدد من البشر، رغم أن جان بودريارد في اختباره لمفهوم الدليل، ضمن أطروحاته حول موت الواقع، لا يرى في ذلك الحدث الرمزي أي بعد عالمي، فهو حدث جماهيري عريض وذو دلالة بالتأكيد، ولكنه بقدر ما يأخذ من العالمية يرتد على العولمة، نتيجة ارتهانه إلى سطوة الصورة التي تبالغ في الإعلاء من شأن الحدث لتحبسه داخل شبكاتها، بمعنى أنها تعيد إنتاجه إلى ما لا نهاية له بقدر ما تقوم بتحييده وشله، أي تمتصه وتطرحه كمادة للاستهلاك.
لكن غولدبلات الذي يتعامل مع الوقائع المعروضة عبر الوسائط لا يأبه لما وراء الظاهرة. ومن هذا المنطلق الجماهيري المثير يروي قصة تصعيد كرة القدم من مجرد لعبة أو طقس شعبي إلى نظام وثيق الصلة بالتاريخ السياسي والاجتماعي للمجتمعات الحديثة، فتفكُّك يوغسلافيا مثلاً حدث في الملاعب بين الصرب والكروات قبل أن يأخذ موقعه على أرض المعركة. ورغم أن كرة القدم كلعبة تتحرك في الأصل بدافعية الجمال والفرح والإثارة، إلا أن خطابها لم ينفصل عن الأيدلوجيا كالشيوعية والفاشية والنازية، أو الإنهيارات الإقتصادية الكبري كالكساد العظيم مثلاً، مؤكداً على أن المال والسياسة هما أبرز المؤثرات في جمالية اللعبة وتوجهاتها، كما يؤكد على ما ذهب إليه باستعراض جملة من الأحداث الرياضية، التي تكشف عن درايته التامة بثقافة كرة القدم ومناسباتها ونجومها، والتعقيدات التي صاحبت ظهور وصعود الفيفا في الدهاليز الخفية لما سماه الأطلس العالمي لكرة القدم.
إنه مسرح كرة القدم العظيم، الممتد على مستطيل العشب الأخضر، والذي يتسع للاعبين يمثلون بأرجلهم، كما وصفه إدواردو غاليانو، الذي قرأ اللعبة من خارجها كظاهرة شعبية، ومن داخلها أيضاً كنص جمالي، ليرضي حسّه الجماهيري، وبدون أن يتخلى عن رؤيته النخبويه. وبموجب هذا التموضع تنازل عن مساءلة ما يتداعى على هامشها، وبذلك صار أقرب إلى التعاطي معها كعرض مسرحي، يزدحم بمستلرمات طقوس القداس من الرايات والعويل والصرخات واللافتات والمواكب الجنائزية والإحتفالية، حيث تحول اللعب برأيه (إلى استعراض، فيه قلة من الأبطال وكثرة من المشاهدين. إنها كرة قدم للنظر. وتحول الإستعراض إلى واحد من أكثر الأعمال التجارية ربحاً في العالم).
• الورقة المقدمة في النادي الأدبي في الرياض بتاريخ 27 فبراير 2010
ورغم حماسه الواضح لكرة القدم كلعبة يشكل الفن جوهر متعتها، إلا أن إدواردو غاليانو، في كتابه الذي نقله إلى العربية صالح علماني، وصدر عن دار الطليعة، يقر بجانبها المظلم، المتمثّل في تحوّلها الدراماتيكي إلى صناعة قابلة للتصدير، من خلال تكريس العبودية التي يدفع ثمنها لاعب محترف، نجا من العمل في المصنع أو المكتب، ليتحول إلى رهينة عند رجال أعمال هم بمثابة المالكين لصك آدميته حيث (يشترونه، يبيعونه، يعيرونه، ويسلم هو قياده لهم مقابل الوعد بمزيد من الشهرة ومزيد من المال). كما يحبسونه في معسكرات التدريب الشاقة، ويخضعونه لقصف المسكنات، إلى أن يشيخ في وقت مبكر. كما هو حال ومآل الطفل الذهبي مارادونا، الذي لا ينفي هو الآخر درايته وقبوله بقوانين العبودية، حيث تفصح عباراته عن ذلك الميثاق المتواطأ عليه (إنني بحاجة إلى أن يحتاجوا إلي). وبموجب ذلك التعاقد أسبغ عليه سماسرة السوق الرياضي صفة القديس، وتم تكريسه كمعبود جماهيري لسنوات يحمل الهالة فوق رأسه، قبل أن يحوّلوه إلى ملاك ساقط، أو مجرد مهرج، تفتك بجسده المخدرات.
أما أمبرتو إيكو وهو أحد إبرز المفكرين المعاصرين الذين أسهموا برؤية شبه كاملة عن إشكالية تلقي نص (كرة القدم) فلا يبدى أي إشارة على التسامح مع خطاب الفُرجة والتسلية المجانية، حيث يتبنى موقفاً يقوم على التجابه الدائم بشأنها، إذا ما تم تجميع نتف من مقالاته ولقاءاته وآرائه المبعثرة التي يمكن الوقوف على أبرز موضوعاتها في كتاب Umberto Eco and Football لإعادة تشكيل قراءته الجامعة للظاهرة بكل أبعادها، والتي تبدو في مجملها ضدية وناقدة لكرنفال جنوني، بات يستحوذ على جانب واسع من المشهد العالمي، إذ لم يستفز مفكر قبله أو من مجايليه جمهور كرة القدم كما فعل، فقد استطاع بالفعل أن يثير الزوابع الكلامية في أكثر من مناسبة، ليس أهونها حديثه الشهير لمجلة GLOBE الذي نقله إلى العربية المصطفى السهلي تحت عنوان صادم (الموت لكرة القدم). فهو لا يفوت أي فرصة لإطلاق التصريحات النارية ضد آليات تسويقها الجهنمية، بما في ذلك لحظة فوز بلاده إيطاليا ببطولة العالم للمرة الرابعة، وهو أمر لا ينفيه هافيلانج أشهر رئيس للفيفا الذي اختصر مهمته النفعية ببيع سلعة اسمها كرة القدم.
وفيما يبدو تكريساً لمقولة راسخة عند المثقفين يتم بموجبها تصنيف كرة القدم كلعبة أسياد يؤديها العبيد بالنيابة عنهم، أعاد إيكو تلك العبارات القدحية إلى الواجهة مرة أخرى، ومارس من خلالها تفكيك النشوة الجماهيرية الآخذة في التمادي، حين وصف اللاعبين المحترفين بأنهم عبيد العصر، أحفاد غلادياتور، أو الكائنات الوحشية الشبيهة بأخصياء كنيسة سيكستين، الذين يتم وضعهم داخل حلبة من أجل الفُرجة والمراهنات، استنفاذاً لمخزونهم الإنفعالي، المخبأ في تلابيب النفعي، فيما يبدو من وجهة نظره تبذيراً لطاقة فائضة، معززة بفائض كلامي، يعمل بمثابة خطاب موازٍ يقوم على الثرثرة وإهدار الطاقة، أي اللغو الذي يقع في هامش الحياة بصفته حالة زائدة من السلوك. حيث يشكل ذلك الفائض من القول الذي يمتهنه المشجعون والمعلقون، إلى جانب الحركة التي يؤديها اللاعبون المستأجرون، قوة هدّامة، نتيجة عدم تصريفها بالشكل الصحيح، وهو أمر يهدد بالارتكاس بالإنسان إلى الحيوانية، حيث صارت كرة القدم بمثابة (رياضة مربّعة) يتواطأ عليها المضاربون واللاعبون والمشجعون في المدرجات وكذلك المشاهدون الذين يهدرون طاقتهم في متابعتها واستهلاكها عبر وسائل الإعلام، وبالتالي لم تعد سوى (طريقة ماكرة لصرف الناس عن الحياة الاجتماعية والسياسية).
ولمفهمة بعض المواقف المتشدّدة إزاء هذا النوع من الرياضة، التي يبدو على شكل ركلات ثقافية موجهة باستعلاء وخشونة على هامشها، بدون ملامسة مقنعة لواقعها كنص قابل للمقاربة والتأويل، لا بد من العودة إلى نقطة الإحتدام بين الرياضة باعتبارها خطاباً جمالياً لممكنات الجسد الروحية والمادية، وبين تجليات الخطاب الثقافي، خصوصاً الفلسفة التي لا تقبل بأن يجاورها أي خطاب جمالي سوى الشعر، حيث يميل أغلب المثقفين الطليعيين إلى النظر لكرة القدم على أنها مظهر من مظاهر العنف والتفاهة والسوقية، وهي بالتالي خطاب سلبي يعادل حالة التلف المعنوي والجسدي للإنسان، أو يعبّر عنها أبلغ تعبير. إذ يخلو من الجماليات ولا يعكس شعرية الوجود، لدرجة أنها -أي كرة القدم- اعتبرت ضمن بعض التصورات الدينية ممارسة همجية تفتقر إلى السمو الروحي، وهي لا تتواءم مع روح التسامح الإنساني، حيث وصفها الملك ادوارد الثاني بأنها (لعبة رعاعية وصاخبة تنتج عنها شرور كثيرة لا يبيحها الرب).
وفي هذا الصدد يمكن التقاط جملة من الآراء المتناقضة التي تعكس حيرة المثقف أمام خطاب جماهيري يغويه بالتماس معه من ناحية ويدفعه للترفّع عنه والتعالي عليه من ناحية أخرى، حيث تراوح تلك العبارات ما بين القبول والتسليم والإعجاب بل والتماهي أحياناً مع جماليات اللعبة وجماهيريتها، كما تتوضح تلك العدائية الصريحة -مثلاً- عند الأميركي أرشيبالد مكليش، صاحب الكتاب الشهير (الشعر والتجربة) الذي يرى بإن (الشعر وكرة القدم لا يجتمعان). فيما يخالفه الشاعر الروسي يفغيني يفتوشينكو، الذي وجد في ممارستها والتفرّج عليها الكثير من الشعر، فقد أحب كرة القدم ولعب كحارس مرمى لفريق مدينته الصغيرة (سيما) في سيبيريا، حيث نشر أول قصائده في الجريدة التي يصدرها اتحاد الرياضة، كما أبان عن قصة انتقاله من سحر كرة القدم إلى فتنة القصيدة في سيرته التي ترجمها الشاعر المغربي إدريس الملياني الى العربية، تحت عنوان (العمق الرمادي).
كما يحتفظ التاريخ بسلالة من الشعراء الذين كتبوا قصائد حول جوانب مثيرة من كرة القدم، فقد تغنى أمبرتو سابا بجماليتها في عدد من القصائد، كما أحبها الشاعر الإيطالي مونتاليه الحائز على جائزة نوبل، وكان أحد مشجعيها. ويُنسب إليه أنه يحلم (بيوم لا يسجل فيه أحد هدفاً في العالم كله). كذلك مدح الشاعر ليوباردي نجم الكرة في عصره كارلو ديديمي بقصيدة مشهورة. أما الشاعر الايرلندي أوسكار وايلد فقد قال بأن (كرة القدم تليق بالنساء العنيفات، وليس بالفتيان المرهفين). كما جمع كل من جون تربل ووتوم ساترلي وألون راب مجموعة من مقاربات الأدباء والكتاب لكرة القدم في كتاب بعنوان The Global Game: Writers on Soccer ضم مجموعة من المطالعات لتيد هيوز، وادواردو غاليانو، وتشارلز سيميك، ووغونتر غراس، واليفيس كوستيلو، ومايو بارغاس يوسا، وجيوفانا بولارولو.
ولا شك أن هذه اللعبة الساحرة التي يُقال أن الفضل في اختراعها يعود إلى الإنجليز، وتنظيمها بالشكل الذي تبدو عليه اليوم هو نتاج فرنسي، إلى أن جاء الإيطاليون فمسرحوها، تختزن من الإغواء ما يكفي، رغم الدعاوى المضادة، إذ لم ينج حتى فيلسوف الوجودية سارتر من التماس معها والتعليق على سر سطوتها وجماهيريتها، عندما وصفها في لقطة فلسفية خاطفة بأنها مجاز الحياة، وأن كل شيء يبدو معقداً في كرة القدم في ظل وجود الفريق الآخر. وحيث يمكن رصد أسماء هامة في تاريخ الفكر والأدب تعالقت بها، فقد أُشيع أن نيكولو دي مكيافيلي صاحب كتاب (الأمير) قد مارسها، كما كان فنان (الموناليزا) الشهير ليوناردو دافنشي أحد مشجعيها. والمؤكد أن الروائي الشهير البير كامو، الحائز على جائزة نوبل، لعب كحارس مرمى لفريق شباب الجامعات الجزائرية، وطالما صرح بمديونيته لكرة القدم التي علمته كل ما يعرفه عن الأخلاق. أما الشاعر والقاص والمخرج الإيطالي بيير باولو بازوليني، فقد وجد فيها لغة تقوم على منظومة من الرموز، وقال بأنها من أعظم المتع بالنسبة له، فيما خصص الروائي الانجليزي أنتوني بيرجس، صاحب (البرتقالة الإلكترونية) اليوم السادس من الأسبوع لكرة القدم، بعد اقتطع الأيام الخمسة الأولى للعمل، حسب الكتاب المقدس، ليبقى اليوم السابع للرب.
كذلك يمكن الإتكاء على رأي هام للمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، الذي تغنّى بكرة القدم ووصفها بأنها (مملكة الوفاء البشري التي تمارس في الهواء الطلق). إذ تتأتى أهمية رأيه التعزيمي بالنظر إلى ما ينادي به ويمثله من ثقل معرفي، بما هو صورة من صور المثقف العضوي، بل تلك إحدى أطروحاته التي وجد في كرة القدم حقلاً تطبيقياً لها، فهي المحل الأمثل لالتحام المثقف بكتاب الحياة المفتوح، والانسجام البنيوي مع الحراك الإنساني وتطلعاته مهما كانت صغيرة. وبالتالي يمكن اعتبار وجهة نظرة بمثابة حُجة قوية من قامة ماركسية، بالإمكان تعضيدها أيضاً، بالوصف الهجائي لجورج أمادو لمن لا يحبون كرة القدم بالغباء، وهو أمر غير مستغرب من كاتب برازيلي يمتلئ جسده ووجدانه بجينات عشقها المتوارث. وإن كان روديارد كبلنغ قد أعلن موقفاً مضاداً ومتأففاً من (الأرواح الصغيرة التي يمكنها أن ترتوي برؤية الحمقى الذين يلعبونها). كما سخر برناردشو أيضاً من اللاعبين الذين يضعون عقولهم في أرجلهم.
الشعر لا يوجد في الألفاظ وحسب، بل يمكن أن ينوجد بين أقدام اللاعبين، وفي الكلمات المتساقطة بلا حذر ولا احتراز من هتافات الجماهير، وهو أمر لا يستوعبه بالضرورة مثقف من ذلك الطراز الذي لم تطأ قدمه أرضية ملعب رياضي، ولم يندس يوماً وسط زحام مشجعين قطعوا عشرات الأميال ليستقروا بأجسادهم المتعبة على صقيع المدرجات الباردة، وبالتالي لن يفهم معنى الدولارات العشرين التي يقتطعها مشجع من مصروفه ليقتني قطعة من عشب أستاد لوس انجلوس الذي استضاف مونديال ١٩٩٤م بعد أن قُسّمت أرضيته إلى قطع بحجم البتتزا. ولن يقترب من شاعرية الواقع، ولا شعر الملعب، الذي تولد لحظة تشييد سوبر ماركت كارفور، في بيونس أيرس، على أنقاض استاد نادي سان لورينزو. يومها كان (المشجعون يلتقطون حفنات من التراب ويضعونها في جيوبهم) كبقايا من ذكرى أثيرة في نفوسهم، بعدما جرى تدمير الاستاد في منتصف عام ١٩٨٣م، كما يرثي إدواردو غاليانو ذلك المضمار التاريخي، في صورة شعرية مؤثرة.
أما بالنسبة لإيكو، فلا يبدو أن حدة خطابه متعلقة بجمالية اللعبة ووظائفيتها وحسب، بقدر ما تشي تعليقاته المتواترة إثر كل مناسبة رياضية، بصراع على الجماهيرية، وحق توجيه الطاقة الإجتماعية في مسارب خلاقة، بعد انزياحها من مجرد كونها لعبة رياضية إلى متطلبات السوق، وتحوّلها إلى أداة سياسية موظّفة كفن لإدارة المجتمعات، وهو أمر لا ينفيه بل يؤكده وفق مبررات عقلانية، فهو ناقد في المقام الأول، والناقد هو الوريث الشرعي للفيلسوف، الأمر الذي يفسر شدة التجابه التي يبديها للفت الأنظار إلى ملاحظاته، وقرع أجراس الإنذار، لاستقطاب أكبر قدر من الأضواء والأصوات، وإن كان ذلك التصادم لا يقلّل من مقارباته الفنية لها كلعبة، فهو ناقد شديد الحماس للجمال، ويبدو من خلال تلك الصولات مهموماً بالتجادل حول فن السيطرة على الجسد للتعرف على الكائن الانساني من خلاله. وعليه صارت معركته تأخذ أبعادها الفلسفية، ولو على أرضية إعلامية.
يتعزّز هذا الرأي أيضاً من الوجهة الموضوعية عند النظر إلى ما يميل إليه الناقد والباحث الإيراني خسرو ناقد، لتجذير إشكالية التنازع، وتأوينها في الفضاء الثقافي، ففي مقالة له بمجلة (روز) الإلكترونية، ترجمها خسرو على أكبر تحت عنوان (كرة القدم والفلسفة) تساءل هو الآخر إن كانت كرة القدم هي المعادل العصري لفن المصارعة التي ازدهرت في العصر الروماني، ليشير بما يشبه التأكيد، إلى أن سر التناقض يكمن في أفول الفلسفة قبالة الرياضة، بعد أن كانت تستأثر باهتمام الشباب في اليونان القديمة (بسبب اهتمامها البالغ بوضع أسس وقواعد تنظم حياة مبنية على السلم بين البشر إضافة إلى جهودها العظيمة في الدعوة إلى الديمقراطية والمساواة القانونية) رغم أن الحظوة التي تمتاز بها اليوم كرة القدم -برأيه- يعود الفضل فيها إلى الفلسفة في عصرها الذهبي، وإلى سقراط تحديداً، الذي كان يجمع حوله الشباب ليتباحثوا في قضايا الكون والوجود والإنسان، فيما أعتبر حينها انقلاباً على الكلاسيكيات اليونانية وتدميراً معلناً لنظامها الثقافي، الأمر الذي دفع بالفيلسوف ميلتوس والسياسي أنيتوس للتحالف من أجل إنهاء حياة سقراط بالسم انقاذاً لديمقراطية أثينا كما يرونها من وجهة نظرهم.
لكن هذه الرؤية الفلسفية الفاائضة بالمثالية، لا تصمد أمام واقع الجسد الرياضي اليوم، الذي لم يعد يمثل حتى (إنسان فيتروفيوس) كما صمّمه ليوناردو دافنشي، حيث لا يتلمّس الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا، فيما يراه من تمظهرات كروية خرقاء أي علاقة مع ما كان يحدث في العاصمة الكونية للفلسفة وخصوصاً مع (إتحاديي أفلاطون وهم يدهنون أجسادهم بأنواع الراتنج بعد عروضهم الجسدية والحسّية والفلسفية) حيث يسرد في روايته (دفاتر دون ريغوبيرتو) ما سماه (مرافعة تشهير ضد الرياضي) مفنداً العبارة المنافقة الخسيسة التي تُلقن للأطفال mens sana corpore sano التي تعادل في العربية (العقل السليم في الجسم السليم). إذ لا ينتج عن ذلك التجابه في المباريات سوى مجموعة من الأوباش المخربين، لدرجة أنه يرى على لسان بطله في مسألة عبادة الرياضة وتأليه التمارين والألعاب الرياضية شكلاً من أشكال البلاهة، التي تقرّب الكائن البشري إلى الكبش. ساخراً من (العصابات الثملة التي تزمجر على مدرجات الاستادات -قبل أن تحرقها- الحديثة في مباريات كرة القدم المعاصرة) فيما يُفترض أن تكون الرياضة فرصة الكائن البشرى لتجاوز شرطه الحيواني وملامسة ما هو مقدس، والسمو إلى مستوى كثيف من الروحانية.
أغلب المثقفين لا يطربون لـما يُعرف بـ(الصفارة المزغردة) التي اخترعها الإنجليزي جوزيف هدسون، بل هي، على ما يبدو، مصدر إزعاج دائم لهم. وعندما يقرر كاميلو خوسه ثيلا، الحائز على جائزة نوبل، الذي كتب إحدي عشر قصة عن كرة القدم، أن يرمي بحكمين في جهنم لأنهما لم يقرآ فولتير، فإنه إنما يضيف لقطة ساخرة في سجل العلاقة التاريخية الملتبسة بين المثقفين وكرة القدم، وهو سجل غامض الملامح، وبلا علامات تقريباً، لولا العبارات المستلة من سياقاتها، والتي يمكن من خلال النظر إلى تمظهراتها القولية استجلاء طبيعة المواقف التي عبّر عنها بعض المثقفين بشأنها، التي تعتمد في الغالب على مقاربات تأويلية ذهنية متأتية من هوامش اللعبة، ليس من وراء خط التماس وحسب، بل من خارج المدرجات، حسب التعبير الرياضي، فهي تتكئ على استجابات نسقية لا صلة لها بما يجري على ما يؤديه الجسد والروح داخل الملعب، إذ يُلاحظ خلو الآثار الأدبية من أمجاد ورموز هذه الرياضة، وكأن أغلب المبدعين يخشون الإحتفاء بنجومية قد تلغي بعض وهجهم، وتزاحمهم على القاعدة الجماهيرية.
الحفر الجمالي والتاريخي في الآثار الأدبية يؤكد على طبيعة النظرة التحقيرية للعبة واللاعبين، كما يستشف من شتيمة الكونت كينت في مسرحية الملك لير (أنت يا لاعب كرة القدم الحقير). وكان شكسبير قد أومأ أيضاً إلى سطوة دلالاتها في الحياة الإجتماعية في (كوميديا الأخطاء) من خلال عبارة على لسان أحد أبطاله (إذ أردتم التلاعب بي ككرة قدم، فالرجاء أن تخيطوني على الأقل من الجلد). وقد كانت تلك العبارة بمثابة إشارة صريحة إلى الطريقة التي كانت تتم بها صناعة الكرة من مثانة خنزير منفوخة بعد محاولات تصنيعها من القش والشعر، وقبل أن يتمكن تشارلز غوديير من ابتكار الكرة المطاطية المغطاة بالجلد. رغم أن امبرتو إيكو يعود مرة أخرى ليشكك في تاريخانية كرة القدم والألعاب الأولمبية بمجملها، ويضع بعض تلك الأقاويل والمبالغات المتخيّلة بشأنها في خانة الإحتمالات، فبموجب ما اعتاده من تأويلات فارطة، ليس كل ما تحدث عنه الشعراء يمكن أن يكون له مرجعية واقعية بتلك الدقة التي يمكن يطمئن إليها، وهي شكوك يمكن تبديدها أو التيقّن منها بالعودة إلى موسوعة كرة القدم http://www.footballpedia.org. للوقوف على جملة من الحقائق الجمالية والمعرفية المتعلقة بتاريخ اللعبة.
مقابل تلك المتوالية من الهجائيات، كتب مؤلف الرواية الشهيرة (عطر امرأة) الإيطالي جيوفاني أربينو Azzurro tenebra (أزرق غامق) وهي رواية تدور أحداثها حول مونديال المانيا ١٩٧٤م. كما قدم قصة شهيرة بعنوان ( أطول ضربة جزاء في العالم). كذلك استعرض الكاتب الإسباني خافيير مارياس، صاحب ثلاثية (وجهك غداً- السم والظل والوداع) العوالم الحقيقية لكرة القدم في روايته البوليسية (أشرار وعاطفيون) بعد أن تنكّر في زي مشجع لنادي ريال مدريد، ليسجل مشاهداته عن قرب لما سماه أجمل رياضة في العالم، لكن هذه الأعمال الأدبية المتأخرة، التي تعكس منسوب التسامح مع خطاب ونص كرة القدم لا تمسح من الذاكرة الآراء المضادة، حيث يمكن الانتباه لصور هجائية متأصلة وصادمة ضد كرة القدم في رواية جورج أوريل الشهيرة (١٩٨٤) التي تصل إلى درجة العدائية للأجواء الحربية للمباريات، ومقت الطريقة القتالية للعبة، كما ينم عن ذلك الموقف الضدي وصفه للمجابهات الكروية بعبارات حادة (لعبة كرة القدم هي حرب من دون اطلاق نار، لعبة جادة لا علاقة لها باللعب النظيف وهي ترتبط بالحسد والكراهية والانفلات من مقررات وقواعد اللعب الصحيح).
وربما شكلت الحرب التي اندلعت بين هندوراس والسلفادور سنة ١٩٦٩م حجة في هذا الصدد، بل مرجعية لكل من يريد النيل من اللعبة والتأكيد على وحشيتها ومنحاها الحربي، بدون التفريق بين نص اللعبة ذاتها وما يمارسه الجمهور من تجاوزات، إذ لم يخل كتاب بشأن كرة القدم من التذكير بتلك الواقعة المؤسفة، التي عُرفت بحرب كرة القدم وراح ضحيتها أربعة آلاف شخص نتيجة الحماسة الوطنية الزائدة. كما يحفل تاريخ كرة القدم بمجابهات واعتداءات، مع تصاعد ظاهرة الهوليغانز الذين قتلوا سنة ١٩٨٥م تسعة وثلاثين مشجعاً إيطالياً على مدرجات استاد هيسيل القديم في بروكسل، وكانت صحيفة التايمز اللندنية قد كتبت مع نهايات القرن التاسع عشر بأن (الهوليغانز لدينا يمضون من سيء إلى أسوأ، والأسوأ من كل ذلك أنهم يتكاثرون...إنهم زائدة خبيثة في حضارتنا). كما عبّر المخرج نيك لوف بعد قرن -سينمائياً- عن عار تلك الزمرة، التي تمثل الهويات الجماعية العمياء في فيلم The Football Factory المنقول عن رواية جون كنج. كما كتبت وأخرجت ليكسي الكسندر فيلم آخر بعنوان Holiganns وكذلك اشتركت في كتابة فيلم Green Street Holiganns من إخراج جيسي جونسون، وهو نوع من أنواع حرب العصابات الرعاعية البغيضة التي تنتعش في بريطانيا تحديداً، وتأخذ أشكالها المماثلة في بلدان أخرى، حيث تتكامل مع ما حاول مشجعو المنتخب الهولني استعادة أجواءه الحربية، حين ارتدوا ملابس الفايكنج. كما شهدت الخرطوم وفيات وحوادث مأساوية في مباراة التأهل لمونديال جنوب أفريقيا بين مصر والجزائر، بواسطة زمرة من (البلطجية) الأمر الذي يعيد إلى الأذهان فيلم شريف عرفة (الدرجة الثالثة) الذي يتحدث عن استغلال الحشود الجماهيرية في المباريات لإعادة توجيه الصراع السياسي والإجتماعي.
وراء مثل هذه الوقائع الدامية، والعبارات التوصيفية الحادة يتمترس أغلب المثقفين الكارهين للعبة كرة القدم من المثقفين في مقارباتهم وتعليقاتهم، وكأن كرة القدم ليست سوى حالة استمرارية بالفعل للحرب بوسائل أخرى، كما عنوّنت التايمز أحد أعدادها. وهو استنتاج يتبناه أمبرتو إيكو أيضاً مع توصيف مخفّف بعض الشيء، إذ يعتبرها (طريقة لعمل الحرب بوسائل أقل دموية مما تعودناه) مع تأكيده على أن هذه الوحوش البشرية من الجماهير إنما هي نتاج طبيعي للصحافة والتلفزيون. كما يعمق هذا المنحى التأويلي ادواردو غاليانو أيضاً، الذي يرى هو الآخر أنها (صورة مجازية للحرب).
ربما لهذا السبب تقبّلها الروائي الأميركي بول أوستر كأمر إنساني واقع، ورأها كوسيلة لتفريغ الشحنات الشعورية الفاسدة ضد الغير، أو هكذا اعتبرها (درساً بليغاً من دروس الألفية المنصرمة، للتعبير عن كراهية الآخر، في حرب صغيرة متوهمة بدون الفتك به، فهي البديل الممكن عن سفك الدماء في الحروب الكونية). ومن نفس المنطلق اعتبرها محمود درويش، الذي كان لا يخفي غيرته من جمهور كرة القدم (أشرف الحروب). وكأن كل تلك المتوالية من المقولات التي تتفنن في إيجاد صلة بين الحرب وكرة القدم بقدر ما تعمّق إشكالية تلقيها كنص، تفتحها كأفق واسع للإحتمالات والتأويل، وهي بالتالي تستوجب العودة إلى فعل التسمية الأول، أي مرجعية اللغة التي تفصح عن فحوى ومغزى ما كان يُعرف عند اليونانييين بلعبة إبسكيروس أي (الصراع على الكرة) حيث كان الهدف من ممارستها آنذاك تقوية أجساد المحاربين.
بهذا المعنى هي بالفعل لعبة حربية في أصلها، أو وسيلة للتدريب على القتال. يضاف إلى ذلك ما تحمله (الكرة) من دلالات رأس العدو المحزوز، والقابل للركل بعد وأثناء المعركة، إبتهاجاً بدحره والإجهاز عليه. حيث يعود هذا الإعتقاد إلى لعبة هي بمثابة المرجع لكرة القدم المعاصرة كانت شعوب الأزتك تمارسها باسم الـبوتشاشا (Pochacha) مع ملاحظة أن اللاعبين كانوا يؤدونها برأس بشري، بحيث يقدم الفريق الخاسر عميد الفريق بعد نهاية المباراة قُرباناً للألهه، حسب كلود ليفي شتراوس، وكأن كرة القدم في جوهرها، وليس في مظهرها وحسب، هي المعادل للحرب، إذا ما تم إخضاعها لألسنية فريديناند سوسير، في سعيه لتفكيك العلاقة بين دالها ومدلولها، حيث تعامل هو الآخر مع كرة القدم كنظام أدلة تجد ما يؤكدها داخا نص اللعبة.
تتعزّز كل تلك الإشارات والإيحاءات بقاموس يقوم على خزين من المفردات التي تؤكد على المنحى الحربي، فالمباراة بما هي جامع النص، توصف دائماً بمصطلح (حرب التسعين دقيقة) التي استخدمها الروائي الإسرائيلي إيتاي مايرسون عنواناً حرفياً لروايته التي أراد من خلالها المواءمة المجازية ما بين الحرب وكرة القدم، كما يتمثّل في مقاومة الفلسطينيين للإحتلال الصهيوني على أرضية جغرافية تاريخية وحضارية أشبه ما تكون بمباراة دائمة لكرة القدم. أمااللعب فيتم وفق (خطة) أشبه ما تكون بالاستراتيجية، كما استعرضها جوناثان ويلسون في كتابه الهام Inverting the Pyramid: The History of Football tactics. ومن هذا المنظور يمكن ملاحظة أن الركلة القوية يُطلق عليها صفة (القذيفة) وخسارة المبارة هي بمثابة (هزيمة) بالإضافة إلى ما يسبغه المشجعون على أجواء اللقاء من مسميات (المنازلة، والمعركة، والواقعة). وما يطلقه المعلقون الرياضيون على اللاعبين أيضاً من أوصاف الفروسية، وألقاب قتالية كالرمح والسهم والمدفع إلى آخر مفردة في المعجم الحربي، الذي يراوح ما بين الحماسة لدحر الخصم الذي يتم تصنيفه كعدو، وبين النشوة التي تتأتى في الغالب كرقصة إنتصار.
من داخل طيات وألياف الخطاب الحربي، ينبثق خطاب فحولي، لا يطمس الأصل بل يزيده إثارة ويضاعف لذته. حيث ينهض على تأنيث تلك الجلدة المنفوخة ليعادلها بتكويرات ونعومة وإغواء جسد المرأة، في مقاربات أشبه ما تكون بقراءة متأخرة لنص كرة القدم من الداخل، حيث باتت كرة القدم ظاهرة مغرية بالتحليل الجمالي، إذ يميل كريستيان موتين في (موسوعة أساطير الكرة) إلى أن (معظم لاعبي كرة القدم يؤمنون أن الكرة هي أنثى، لذا يركلونها بعنف ويقبّلونها ويشعرون بالانتصار إذا نجحوا في السيطرة عليها وأحرزوا الأهداف بها). وهو اعتقاد يجد صداه عند ايريك كانتونا، كما يتوضح في العبارة الفائضة بالحسّية (الكرة، مثل المرأة، تحب أن تُداعب). وليس أدل على ذلك الحسّ الشهواني من فائض القبلات التي يطبعها اللاعبون عليها إثر تسجيل الأهداف، ووفرة المسميات التي يدّلل بها البرازيليون الكرة فهي السمينة، والطفلة. وغالباً ما تحمل أسماء ماريكوتا، أو ليونور، أو مارغريتا، كما يمكن الوقوف على تفاصيل ذلك التدليل الصريح في شهادة ديدي التي يناغي فيها كرة القدم بقوله (تعالي يا بنيتي).
وربما يكون سعيد بن كراد أفضل من اشتبك -عربياً- مع ذلك الخطاب ورسم معالمه، وذلك في كتابه (مسالك المعنى-دراسة في بعض أنساق الثقافة العربية) وبالتحديد فيما سماه (كرة القدم-الاستراتيجية الحربية والاستيهام الجنسي). حيث يميل إلى مطابقة الإستيهامين (الجنسي والحربي) من واقع مديح الرجولة كمنطلق للمخيال الذكوري، ومن حيث تحليله لكون كرة القدم حالة من حالات اللعب التي تستهدف تحرير طاقة جسمية ونفسية، حيث لا يمكن التحكم فيها من خلال حالات الجد، وفي هذه الحالة يتورط المتفرج أيضاً بدون معرفة كاملة بقوانينها وطقوسها، إذ لا ينبغى الفصل، كما ينقل عن جاك هيرمان في اللعب والعقلانية، بين الرقعة الفضائية التي تحتضن اللعبة وبين ما يوجد خارجها، لأن في ذلك الإجراء مساس بالجوهر اللعبي ومصداقيته.
في مجادلته التأويلية تلك، يتأمل الحالة الثقافية التي تمثلها كرة القدم، فيلاحظ أنها تُوصف بمعبودة الجماهير، وهو وصف مريب و ملتبس -برأيه- إذ تثير صراحة التأنيث إلى لقاء جنسي بين ذكر وأنثى، يقوم في أساسه على هوى جارف، يتعزز بفعل وإيحاءات العبادة. والأهم أن المتفرج، كما يتكئ على مرافعات أمبرتو إيكو، ينزاح من فعل المشاهدة إلى الفُرجة، التي تعني في مغزاها اللاواعي الرغبة في التلصُّص على كائنات تستعرض أجسادها لحظة التعري، أو ما اعتبره حالة من (التلذذ المرضي بمشاهدة الآخرين ينزعون ثيابهم شيئاً فشيئاً استعداداً لممارسة جنس لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال إسقاط حالات إشباع افتراضي، أو لذة منفردة) ومن خلال (مثيرات لعبية تحاكي فعل الارتواء الاستيهامي الذي يشبه حالات الجنس المقدس).
من هذا المنطلق بالتحديد، ينشغل بتحليل قاموسها اللغوي المستبطن لهواجس ذكورية غايتها تأنيث اللعبة بكل تداعياتها، بدءاً من مداعبة الكرة إثر انطلاق صفارة المباراة. وتأكيد المعلق على فعل الملامسة، ومعانقة الشباك، واختراق المرمي، وعناد الكرة الموحي بالتمنّع الأنثوي وعدم تحقّق الرغبة، ومعاودة الكرة كإشارة لفعل المراودة، حتى تحقيق الهدف كمعادل لفعل الإيلاج، أو هذا ما يبدو عليه رد الفعل اللفظي المصاحب للفرجة، حيث يوصف الأداء الجاد والخشن باللعب الرجولي، فيما يوصف الفريق الخاسر بأنه مجموعة من الإناث المائعات، على اعتبار أن مبدأ الرجولة هذا هو الرابط بين الإستراتيجية الحربية والاستيهام الجنسي. فالجنس في المتخيل الذكوري معركة تستحق أن تُرتكب.
وفي المقابل انتعشت متوالية من القراءات الحديثة، التي تبدو في أغلبها ملامسات لظاهرة اللعبة من الخارج، غير معنّية بالحفر فيها كنص جمالي، إذ تتجاوز إيحاءات التكوير الأنثوية، ودلالات رأس القتيل المركول على أرضية المعركة، إلى أفاق العولمة، حيث صارت (الكرة) هي المعادل للكرة الأرضية، كما يمكن استشفاف ذلك المنحى الدراماتيكي اللافت في اللغة الإعلامية وخطابها الآخذ في استيعاب الظاهرة وتصعيدها، كما يُلاحظ في كثرة الطرق على مفردة العولمة ومشتقاتها، والإصرار على إقرانها بجماهيرية الظاهرة، وتكثُّر الأيقونات البصرية الذاهبة في هذا الإتجاه، حيث تضع مجلة World Soccer تحت عنوانها العريض لافتة استكمالية صغيرة لا تخلو من الدلالة One World, One Game.
وخلال العقد الماضي انتعشت المعارض الفنية التي تسلط الضوء على واقع ومجازية كرة القدم وتحاول من منطلقات فنية، تقديم اللعبة بأسلوب ثقافي كمعرض Rundlederwelten (عوالم الكرة الدائرية) في برلين. ومعرض (فنانو الكرة) بمدينة لايبتسغ. كما نظم معهد غوته معرضاً فوتوغرافياً لكبار مصوري وكالة MAGNUM PHOTOS الشهيرة، تحت شعار (كرة القدم كلغة عالمية) كمساهمة رسمية منه في البرنامج الفني والثقافي لبطولة كأس العالم لكرة القدم ٢٠٠٦م. وقد تم عرضه في أكثر من مائة مدينة من كل أنحاء العالم. وهكذا صارت تلك المتوالية من المعارض تتكاثر وتستعرض تاريخ كرة القدم، وعلاقتها العضوية بالحياة اليومية، وبطبيعة النظام الثقافي المعاصر، بما تختزنه من طاقة إلهامية للبشر.
في نفس الإتجاه أيضاً يشرح موقع The Global Game موقفه الفلسفي من اللعبة، بعنوان فرعي يفيض بالدلالات الشاعرية Soccer as a Second Language فيما يبدو محاولة لتصعيد خطاب كرة القدم ومواءمته مع أحدث الطروحات الأممية والإنسانية، الداعية إلى السلم الإجتماعي، ونزع فتيل الحروب، وإطفاء النعرات العرقية والدينية، وإعادة تأهيل اللاعب كعنصر اجتماعي فاعل في المسار الحضاري. وهو خطاب يجد صداه عند اللاعبين في المقام الأول، حيث كان رود غوليت -مثلاً- الملقب بالزنبقة السوداء، مناهضاً لسياسة الأبارتيد في جنوب أفريقيا، وقد أهدى جائزته الكرة الذهبية لنيلسون مانديلا، سنة ١٩٨٧م عندما تم اختياره كأفضل لاعب في أوروبا، كما تبرّع عدد من اللاعبين بإقامة مباريات خيرية يعود ريعها لضحايا تسونامي، وفيما بعد لمتضرري زلزال هايتي كإشارة لصحوة ضمير الرياضيين وتعالقهم بهموم وقضايا الانسان وهكذا.
وقد تصاعدت هذه الموجة من الإسهامات التكافلية وفق توصيات معلنة من الإتحاد الدولي لكرة القدم FIFA لإبراز نواياه الخيّرة، وتعميق عناوينه الإنسانية، وتبييض تاريخه المشبوه، أي التأكيد على مبادئ الشراكة والأخوة والسلم العالمي في كل الدورات الرياضية، بدءاً من دمغ كرة القدم في بخارطة تمثل كل أقاليم العالم وثقافاته المتعدّدة، أو توشيتها بأي إيماءة جمالية تدعو لنبذ العنف والعنصرية، وتوليد مرجعيات الفن والإخاء. وقد دشن جوزيف بلاتر بالفع شعار البطاقة الحمراء ضد العنصرية لردع من يطلقون عبارات وشعارات عنصرية فى ملاعب كرة القدم، وينشرون الحقد والكراهية والعنف بين مختلف أجناس البشر، اعتباراً من يونيو ٢٠٠٩م متوعداً الأندية والمنتخبات بعقوبات صارمة، ومطالباً بأن تخلو الملاعب من الحقد، وأن تكون الرياضة وسيلة للارتقاء بالأخلاق والتقارب بين الأجناس والشعوب.
وهكذا صارت هيئة نشر الملصقات الرسمية التابعة للإتحاد، التي يديرها طابور من المثقفين والفنانين، تشجع على انتقاء علامات دالّة على الروابط الأخوية، بعد أن كانت الشعارات تمثّل النعرات العرقية والفئوية والإقليمية، وتكرّس الديكتاتوريات، حيث كان شعار مونديال ١٩٣٤م موشوماً برسم لهرقل وهو يرفع يده بالتحية الفاشية وعند قدميه كرة، وهو شعار تم تصعيده في مونديال ١٩٣٨ عندما وضع موسيليني فريقه الوطني مرة أخرى تحت مقصلة الفاشية من خلال برقية مفادها (الفوز أو الموت) فكان فوزهم على البرازيل بمثابة فوز لإيطاليا الذكية على قوة الزنوج الهمجية، حسب صحيفة لاغازيتا دلو سبورت، أما اليوم فقد صار خطاب كرة القدم أكثر تسامحاً، ولم يعد من المسموح به إضفاء أي إشارة للطابع العنصري على منتجات ومناسبات كرة القدم.
وللتأكيد على هذا المنحى لا بد من تأمل جانب من سيرة شعارات الكرة المطاطية، حيث تم اختيار الكرة الرسمية لمونديال ٢٠١٠ م في وقت مبكر بتصميم الشركة المعروفة أديداس، وأطلق عليها إسم Jabulani أي جالبة السعادة للجميع، أو الإحتفال الجماعي، وهي تعويذة مستمدة من لغة الزولو في جنوب أفريقيا، كما حملت كرة كأس العالم في الأرجنتين سنة ١٩٧٨م اسم رقصة التانجو الشهيرة Tango وسميت كرة مونديال المكسيك سنة ١٩٨٦ باسم أزتيكا Azteca في إشارة إلى حضارة الأزتك، واتخذت كرة البطولة في مونديال إيطاليا سنة ١٩٩٠م اسم اتروسكو يونيكو Etrusco Unico المقتبس من الفن الإيطالي القديم، وهي خيارات جمالية تعكس مدى ما قطعته اللعبة من مسافة للتقريب بين الشعوب، والتماس بالخطابات الإنسانية، حتى لو اقتصر الأمر على مستوى النوايا والعناوين واللافتات البراقة.
هكذا انفتح خطاب كرة القدم ليستحوذ على جملة من الخطابات، كما يمكن مطالعته عند فرانكلين فوير، في كتابه How Soccer Explains the World: An Unlikely Theory of Globalization الذي يبحث فيه عن نظرية يمكن بموجبها تبيان الكيفية التي بواسطتها تفسر كرة القدم صيرورة العالم الحديث، فهذه اللعبة الساحرة الساطية على أذهان ووجدان الناس، التي لم تكن تعني الكثير بالنسبة للأمريكيين، حسب رأيه، هي قوة ذات طابع معولم، خصوصاً في أوروبا وأمريكا الجنوبية، بالإضافة إلى أماكن أخرى من العالم، فهي بالنسبة لهم ليست مجرد هواية، بل صيغة من صيغ التعبير عن الحالة الاجتماعية، وعلى درجة من التداخل بشكل كبير مع السياسة والإقتصاد، والنزاعات العرقية، ومن هذا المنطلق يبدى حماسته لدراستها في مختلف الثقافات كممر لاستيعاب العولمة.
في كتابه لا يتوقف عند ما يحدث من مجابهات داخل الملعب، بل يمتد برؤيته إلى قراءة تاريخية لعلامات العولمة الكبرى مثل معاهدة التجارة العالمية، وتصدير الثقافة الغربية. وبعد سرد متنوع، يعرّج على جنون المجتمع الرياضي بطرح جملة من العناوين المثيرة، التي تصب مجتمعة في فكرة تفسير الكيفية التي يتشكل بها العالم اليوم من خلال كرة القدم، حيث يتساءل من خلال مجموعة من العناوين المتناظرة، عن صلتها بالسياسات الإستبدادية (كيف تفسر كرة القدم الأوليغارشية الجديدة) وعن دورها في صعود الأصوليات والحماسة الدينية (كيف تفسر كرة القدم الإسلام كأمل) وعن سيكولوجيا المشجعين وهستيريا ما بعد الفوز أو الهزيمة من الهوليغانز والبلطجية، وعن دورها في الثقافات والإقتصادات المحلية، ودورها في بروز الحركات النسويات كما في إيران مثلاً، حيث تجد المرأة في الملعب فرصة للتعبير عن حقوقها، كما عبّر عن ذلك الخيار المخرج جعفر بناهي في فيلمه (أوف سايد) الذي يتحدث عن مجموعة من النساء يحاولن حضور مباراة التأهل لمنتخب إيران في تصفيات مونديال ٢٠٠٦م.
تنفتح هذه التأويلات أيضاً عند سيمون كوبر، الذي يعيد الحفر في مقولات تم ترسيم معالمها السجالية منذ زمن، كتوظيف المعتقدات الدينية والنعرات العرقية في اللعبة، للسيطرة على وجدان ومقدرات الشعوب، من خلال زيارات ميدانية لكثير من الدول، وذلك في كتابه Soccer Against the Enemy: How the World's Most Popular Sport Starts and Fuels Revolutions and Keeps Dictators in Power الذي يحاول من خلال بعض فصوله التأكيد على فكرة متداولة ومجادلة في أغلب الكتب المتعلقة بكرة القدم، وتكمن في توظيف الدكتاتوريات للعبة كرة القدم في الإبقاء على سلطتهم، خصوصاً في الدول الفقيرة والمفتقرة إلى الديمقراطية. وقد أجاب ادواردو غاليانو على هذا التساؤل بعبارات شعرية مكثّفة ودالّة (كرة القدم هي الوطن، والسلطة هي كرة القدم: أنا الوطن، هكذا كانت تقول الدكتاتوريات العسكرية...كرة القدم هي الشعب، والسلطة هي كرة القدم: أنا الشعب، هكذا كانت تقول تلك الدكتاتوريات العسكرية).
ولمزيد من الإثارة حاول سيمون كوبر بشكل فارط، وعبر قراءة شعبوانية إقامة صلة بين كرة القدم والإرهاب، وكأنه يحاول تكرار الإستنتاج ذاته الذي تم الكشف عنه في أكثر من مناسبة حول تورط المافيا العالمية، أو ربما أراد استثمار الآلية ذاتها.خصوصاً في فصل بعنوان Global Game, Global Jihad مستفيداً من الحماسة الدينية التي يبديها المتفرجون ويستجيب لها فصيل من اللاعبين المهجوسين بتحويل الملاعب إلى ساحة عبادة أو احتراب بين الأديان، ولكن بدون أن يقدم أي مبرر عقلاني لوشائج تلك العلاقة السرية المزعومة، حيث يشاع أن أسامة بن لادن أحد عشاق كرة القدم، وله ميل صريح ناحية فريق الأرسنال تحديداً، الذي بات يردد مشجعوه أغنية بهذا الشأن، ويقال أنه زار النادي ودعمه مالياً، حيث سجلت الكاميرا لقطات للاعب أرماند تراوري وهو يؤدي بعض التراتيل الإسلامية داخل الملعب.
العالم يستدير إذاً، ويتكوّر بلا هوادة، أو تلك هي الحتمية الماثلة للعيان، حيث يمكن تأمل ما ذهب إليه ديفيد غولدبلات في هذا الشأن، من كون كرة القدم ممارسة ثقافية وذلك في كتابه The Ball is Round: A Global History of Soccer الذي يماهي فيه بشكل مجازي بين كروية العالم واستدارة كرة القدم، كما يستعرض من خلاله التاريخ العالمي للعبة، التي تعيش من وجهة نظره حالة من التشكّل الثقافي الدائم، فهي بمثابة الدين الآخذ في الإتساع ليغطى أبعد نقطة ممكنة في النطاق الجغرافي، حيث يؤكد أن نصف سكان الكرة الأرضية قد شاهدوا المباراة النهائية بين فرنسا وإيطاليا في أولمبياد ٢٠٠٦م وهو حدث إنساني نادر لم يسبق أن إحتشد حوله هذا العدد من البشر، رغم أن جان بودريارد في اختباره لمفهوم الدليل، ضمن أطروحاته حول موت الواقع، لا يرى في ذلك الحدث الرمزي أي بعد عالمي، فهو حدث جماهيري عريض وذو دلالة بالتأكيد، ولكنه بقدر ما يأخذ من العالمية يرتد على العولمة، نتيجة ارتهانه إلى سطوة الصورة التي تبالغ في الإعلاء من شأن الحدث لتحبسه داخل شبكاتها، بمعنى أنها تعيد إنتاجه إلى ما لا نهاية له بقدر ما تقوم بتحييده وشله، أي تمتصه وتطرحه كمادة للاستهلاك.
لكن غولدبلات الذي يتعامل مع الوقائع المعروضة عبر الوسائط لا يأبه لما وراء الظاهرة. ومن هذا المنطلق الجماهيري المثير يروي قصة تصعيد كرة القدم من مجرد لعبة أو طقس شعبي إلى نظام وثيق الصلة بالتاريخ السياسي والاجتماعي للمجتمعات الحديثة، فتفكُّك يوغسلافيا مثلاً حدث في الملاعب بين الصرب والكروات قبل أن يأخذ موقعه على أرض المعركة. ورغم أن كرة القدم كلعبة تتحرك في الأصل بدافعية الجمال والفرح والإثارة، إلا أن خطابها لم ينفصل عن الأيدلوجيا كالشيوعية والفاشية والنازية، أو الإنهيارات الإقتصادية الكبري كالكساد العظيم مثلاً، مؤكداً على أن المال والسياسة هما أبرز المؤثرات في جمالية اللعبة وتوجهاتها، كما يؤكد على ما ذهب إليه باستعراض جملة من الأحداث الرياضية، التي تكشف عن درايته التامة بثقافة كرة القدم ومناسباتها ونجومها، والتعقيدات التي صاحبت ظهور وصعود الفيفا في الدهاليز الخفية لما سماه الأطلس العالمي لكرة القدم.
إنه مسرح كرة القدم العظيم، الممتد على مستطيل العشب الأخضر، والذي يتسع للاعبين يمثلون بأرجلهم، كما وصفه إدواردو غاليانو، الذي قرأ اللعبة من خارجها كظاهرة شعبية، ومن داخلها أيضاً كنص جمالي، ليرضي حسّه الجماهيري، وبدون أن يتخلى عن رؤيته النخبويه. وبموجب هذا التموضع تنازل عن مساءلة ما يتداعى على هامشها، وبذلك صار أقرب إلى التعاطي معها كعرض مسرحي، يزدحم بمستلرمات طقوس القداس من الرايات والعويل والصرخات واللافتات والمواكب الجنائزية والإحتفالية، حيث تحول اللعب برأيه (إلى استعراض، فيه قلة من الأبطال وكثرة من المشاهدين. إنها كرة قدم للنظر. وتحول الإستعراض إلى واحد من أكثر الأعمال التجارية ربحاً في العالم).
• الورقة المقدمة في النادي الأدبي في الرياض بتاريخ 27 فبراير 2010