بقلم تلميذه وصديقه الأستاذ محمد رجب البيومي
قابل المتأدبون في العالم العربي نعي الدكتور زكي مبارك بمرارة لاذعة، فقد سمعوا قلمه البليغ منذ أربعين عاما يرن في مختلف الصحف، فيثير العواصف الهوج ناقدا مصاولا، ويرسل النغم العذب شاعراً ملهما، ويتابع الأحداث الأدبية والاجتماعية مؤرخاً فاحصاً، ويدبج الأبحاث العلمية والفكرية مؤلفا باحثا، ثم شاءت طبيعته أن يترك جهاده الدائب في دنيا الأدب والفكر، ويستريح بعض السنوات مما كابده في نضاله الذهني، حتى أدركه الموت في زلة قدم شجت رأسه ومزقت أعصابه، فطارت روحه إلى السماء تاركة وراءها عبرات تترقرق في محاجر الأدباء، وزفرات تتصاعد من صدور تلاميذه وزملائه على السواء.
ولقد بدأ الدكتور حياته - كأكثر أدباء عصره - طالبا بالأزهر الشريف، وكانت لديه حافظة قوية ساعدته على استيعاب كثير من روائع الشعر العربي في سن مبكرة , ووجد الأستاذ المرصفي مولعا بالأدب والشعر بين أساتذة الأزهر فلازمه دروسه، ونقل أبحاثه في أوراقه، وصاحبه في سمره ولهوه وجده وشغله، وجعل يعرض عليه ما تجود به قريحته الناشئة من نظم ساذج فيفسح له مجال التجويد والإبداع بما يلقنه من توجيه وتثقيف، وقد بدأ الطالب الأزهري يتصل بالصحف، وينشر إلى جانب قصائده التقليدية فصولا إنشائية يبذل في تسطيرها ما يملك من جهد وإتقان، ودفعه طموحه إلى دراسة اللغة الفرنسية في فترات يختلها من حياته الأزهرية، ثم دفعته عزيمته إلى الجامعة المصرية سنة 1916 فأصبح طالبا يتميز بين طلابها بالنشاط والكفاح، ووجد بين أساتذتها شيخا يشبه أستاذه المرصفي في تعلقه بالأدب وكلفه بالنقد، فأخذ يستمع إلى محاضراته، ويدون في صحائفه جميع ما يصله من أستاذه الكبير محمد المهدي، وقد عكف في هذا الطور من حياته على مختارات البارودي، فحفظ أكثر ما بها من قصائد، ومالت به عواطفه إلى الغزل والنسيب فاستظهر رقائق العباس بن الأحنف، وحجازيات الشريف، وروائع مهيار وجميع ما نقله البارودي عن الشريف وابن سنان والتهامي، وقد خرج من ذلك كله بثروة طائلة في الذوق والشاعرية والأسلوب، وأخذ يجد الغذاء الدسم الذي يوجهه إلى عشاق الأدب في صحيفة الأفكار، فتطلعت الأنظار إلى الأديب الناشئ وعرفت فيه بوادر الألمعية والإبداع.
وحين اشتعلت الثورة المصرية الأولى سنة 1919 جرفت في
تيارها زكيا مباركا، فساهم بقلمه في إذكاء العاطفة الوطنية،
وخطب مع الأستاذ القاياتي في أول احتفال وطني بعيد الجهاد،
ومضى إلى الأزهر الشريف، فجعل من منبره مذياعا قويا
ينشر على الملأ حماسته واندفاعه، وكان الأستاذ أبو العيون
ينتدبه للخطابة بالفرنسية حين يحضر إلى الأزهر بعض
الأجانب من الفرنسيين، وقد أدى ذلك إلى غضب السلطة
الإنجليزية فزجت به في غياهب الاعتقال، وقالت عنه جريدة
الأهرام بعد أن نشرت نبأ اعتقاله بتاريخ 111920 (إنه شيخ
معروف بذلافة اللسان والنظم الرشيق وله في كل مجتمع كلمة
يلقيها أو قصيدة يتلوها، وأصبح في معتقله بالإسكندرية زميلا
للقاياتي ودراز وأبي العيون وغيرهم من خطباء الثورة
الأحرار).
وقد تقدم إلى نيل إجازة الدكتوراه في الآداب سنة 1924 بعد أن نال إجازة الليسانس، فكتب رسالة عن أخلاق الغزالي وكان الشاب الجامعي معتزا بمواهبه فهاجم حجة الإسلام مهاجمة قاسية، وتكشفت أثناء المناقشة جوانب خطيرة أثارت كثيرا من الحاضرين عليه، فتقدم الأستاذ اللبان لمناقشته، واحتدم الحوار احتداما أثار الضجة واللجاج، وأعلن رئيس اللجنة الدكتور منصور فهمي أن الرسالة الجامعية محاولة عقلية يخطئ فيها الطالب ويصيب، وذلك لا يمنع من نجاحه بدرجة مشرفة. ثم انتقل صدى الرسالة إلى الصحف، فأندفع الدكتور مبارك يناظر الأستاذين الشيخ يوسف الدجوي والشيخ أحمد مكي وغيرهما من كبار العلماء مناظرة حادة، مهدت له طريق الشهرة والذيوع، وإن عادت على عقيدته ببعض الأوهام.
والحق أن الدكتور مبارك كان يحرص على مخاصمة الجمهور فيما يكتب ويذيع، فهو يتعمد مزالق الزيغ تعمدا، كأن له حظا في الثورة والضجيج. ألف في هذا الدور كتابيه (حب ابن أبي ربيعة) (ومدامع العشاق) فقذف بنفسه في مطارح مخيفة، إذ أسهب في الحديث عن النبوة والعشق، ومنزلة الهيام من الدين، مما يثير عليه النوازع، وإن جذب بذلك كثيرا من الشباب إلى رياض الأدب العربي، فهاموا بالشعر الجيد، والنظم البليغ، وعرفوا الكثير عن عمر وكثير وجميل!! وقد انتفع الدكتور بمختارات البارودي في فصول كتابه (مدامع العشاق) فنقل باقات عبقة من زهورها اليانعة وقدم إلى القراء كثيرا من رقائق أبن رزيق والطغرائي وابن نباتة السعدي وأبن الخياط، بعد أن كانت الكثرة الغالبة من الشباب لا يتجاوزون البحتري والمتنبي وأبا تمام!!
وقد عين سنة 1925 معيدا بكلية الآداب، وكان يشرح لطلابه كتاب (مغني اللبيب) في النحو بتكليف من الدكتور طه حسين. وأكد صلته في هذه الفترة بجريدة البلاغ فكان يكتب الصحيفة الأدبية بها دون انقطاع. ولم يعش في ماضي الأدب القديم، بل أخذ يتابع الحركة الفكرية في مصر ويتعهدها بالنقد والجدل العنيف. وقد كتب فصولا طويلة عن شوقي ومعارضاته للشعراء، وهي مجموعة في كتابه (الموازنة بين الشعراء) مع أخوات لها تشابهها في التحليل والاستنتاج، وقد لاحظت وأنا أطالع هذه الموازنات تعصبا ملموسا لشوقي من زكي فهو يفضله دائما على من يزنه به، وكنت أعجب حين أجد المبارك لا يستر ميوله الشخصية عن القراء، وأحار في تعليل ذلك، حتى عرفت من بعض ما كتبه الدكتور، أنه أخذ مبلغا كبيرا من ذهب أمير الشعراء، فرفعه إلى السماء. ولست أريد أن أخفض من قيمة المعارضات الشوقية، فهي تحتل مكانها في التاريخ الأدبي دون نزاع، ولكني أعلن أن الدكتور قد خلع عليها من الإطراء ذيولا ضافيات.
ولم يقنع مبارك بدرجته العلمية التي نالها من الجامعة المصرية، فسافر إلى باريس، واتفق مع جريدة البلاغ أن يمدها بمقالاته وأبحاثه نظير ما تمنحه من أجر يذلل به صعوبة الاغتراب، وأخذ يوالي البلاغ بآثاره العلمية تارة، وبمشاهداته وخطراته عن باريس تارة أخرى، فوق ما يضطلع به من تحضير رسالة علمية لنيل الدكتوراه من السوربون، وتجمع له من ذلك كتابه المعروف عن ذكريات باريس!! ثم وفقه الله فوضع رسالته عن النثر الفني في القرن الرابع الهجري، وهو كما يعلم القراء أخصب عهود العصر العباسي وأحفلها بالإنتاج الفكري، والشخصيات اللامعة من ذوي النقد والصيال. وقد نال برسالته القيمة إجازة الدكتوراه في الآداب من السوربون. وأقيمت له ثلاث حفلات تكريمية بباريس والقاهرة والإسكندرية. ويخيل إلى أن كتاب زهر الآداب للحصري قد أوحى إليه باختيار موضوع رسالته، فهو سجل حافل بالآثار الفنية لأعيان البيان، وقد شرحه الدكتور وحققه، ووضع فهارسه وعرف بأعلامه، فأتاح له ذخيرة ثمينة تستحق العرض والتحليل، فأندفع إلى تسطير رسالته العظيمة، التي يعدها الأستاذ أحمد أمين أعظم آثار الدكتور وأجدرها بالاهتمام.
ولكتاب النثر الفني - على رغم مكانته المحترمة - نقدات توجه إليه، وقد اعترف بها المؤلف، ولعل أبرزها ما نلاحظه في أسلوب الدكتور عامة من سيطرة عواطفه وأخيلته على يراعه، في الأبحاث الفكرية الدقيقة، فقد ارتضى لنفسه أن يكون شاعرا في تحقيقاته العلمية أو يستمد وقودها من القلب والعقل والخيال. وقد قال زكي عن ذلك (وهذا عيب في التأليف ولكنه عيب جميل يقع من المؤلفات العلمية موقع الخال من خد الحسناء)
وحين عاد الدكتور من باريس لم يركن إلى الدعة والراحة، بل واصل حملاته الأدبية في مختلف الصحف، وكان له مع أكثر أدباء العصر الحاضر صيال وملاحاة، فهو يقرأ القصيدة أو المقالة أو الكتاب لغيره من الأدباء، فتنفسح أمامه طرق واسعة للاختلاف والنقاش ويثيرها معركة عنيفة، ينتشر غبارها في الأفق ويكثر حولها الضجيج والخصام، وقد حاولت أن أحصر جميع من ساجلهم الدكتور مبارك فأدركني العجز الذريع!! ومرت أمامي أسماء كثيرة لهؤلاء المتحاورين مع الدكتور في حومة النقاش، وفي طليعتهم أحمد زكي باشا وعبد الله عفيفي ويوسف الدجوي وسلامة موسى، وحسن القاياتي، ومحمد عبد المطلب، والسباعي بيومي، ومحمد مسعود، وغيرهم. . . ومع هؤلاء أناس ناقشهم الدكتور وآثروا الراحة فلم يعتركوا معه في الميدان كطه حسين وعبد العزيز البشري وأحمد أمين وفريق من أعلام الأدب في الشام والعراق.
ولقد كان زكي فخورا بمعاركه الأدبية، وطالما تحدث عنها في كثير من التيه والإعجاب، وقد قال عن نفسه (أنا لا أرى الحياة إلا في حومة القتال، وليس الأدب عندي مزاحا أتلهى به في الأسمار والأحاديث وإنما هو عراك في ميادين الفكر والخيال) كما نقل في آخر الموازنة بين الشعراء قول بعض أصدقائه عنه (إن مباركا رجل ثائر لا تروقه الحياة، ولا يستطيب العيش إلا بالغزوات العلمية، ولو جاز وصف المساجلة كمعركة حربية، وتشبيه الأدباء بالجيش لتمثلت مباركا ضابطا من الضباط يزدان صدره بالأوسمة والنياشين لكثرة ما نازل من الأقران)
وقد كان مبارك يعتقد أنه طالب علم مدى الحياة، فهو لا يعرف للإجازات العلمية حدا تقف عنده، بل يحب أن يجلس دائما أمام الأساتذة، مهما امتدت به السن، ونال الدرجات، ليجد أمامه فرصة متاحة للصيال والنقاش. وقد تقدم بكتاب ضخم عن التصوف الإسلامي وأثره في الأدب والأخلاق لينال الدكتوراه في الفلسفة من جامعة فؤاد، وتألفت لجنة من كبار أساتذة الجامعة لمناقشته وحسابه، فمنحته إجازة الدكتوراه في الفلسفة بمرتبة الشرف، وكتاب التصوف مشهور متداول، ومزيته الصحيحة - كما قال المرحوم جاد المولى بك (أنه لم يؤلف للدعوة إلى التصوف أو الهجوم عليه، وإنما ألفه مبارك في نقد التصوف فبين ما فيه من محاسن وعيوب، وكشف عما يتضمنه من قوة وضعف، في صراحة رائعة وأسلوب متين) وأجدني مضطرا إلى أن أذكر أن الروح الأدبية قد جمحت بالدكتور في بعض مواضيع الكتاب، فلم تحدد بعض حقائقه العلمية تحديدا يتكشف للقارئ من أقرب طريق. وقد أجهدت نفسي كثيرا لأفهم ما قاله الدكتور عن وحدة الوجود، فلم أخرج بطائل مع أنه ملأ الدنيا تشدقا بما كتبه عنها في التصوف. وقد أكون ذا عقل واهن لم يستطيع السير في هذا المنعرج الدقيق.
وكان الدكتور قد خصص جانبا من كتابه للبحث عن المدائح النبوية، وأطال القول في صلتها بالتشيع، كما تعرض إلى الكميت ودعبل والشريف وغيرهم من شعراء البيت الهاشمي، واتجه إلى البردة ومعارضاتها، وما تمخضت عنه البديعيات النبوية من مباحث أدبية هامة، ولكن اللجنة المؤلفة لبحث الكتاب قد أشارت بحذف هذا الجانب من القول لبعده عن مدلول التصوف، فظهرت المدائح النبوية بعد ذلك في كتاب خاص، ولعله أول بحث مفصل يعنى بتاريخ هذا الباب، وقد مزج فيه المؤلف بين العرض والتحليل والتاريخ والاستنتاج في طراز موفق شفاف.
وقد كان انتداب زكي مبارك إلى التدريس بدار المعلمين العالية في بغداد ذا أثر هام في حياته الأدبية، إذ أن الفترة القصيرة التي مكثها بالعراق قد ألهبت قريحته وأذكت نشاطه فسطر مئات الصحف في الدعوة إلى العروبة، وتوثيق الصلات بين القاهرة وبغداد، واتصل برجال الفكر والسياسة في القطر الشقيق فنزل بينهم نزلا كريما، وقد وصف الآثار العربية، بحاضرة العراق وصفا بديعا، كما نقل للقراء في شتى بقاع العربية، صورا خلابة عن غابات النخيل في البصرة، وسجع الحمائم في الموصل، وبقايا السحر في بابل، ورسم تألق القباب العلوية في النجف والكرخ، وألقى عدة محاضرات بنادي القلم العراقي، وقاعة كلية الحقوق، ونادي المثنى , والإذاعة العراقية، حول الثقافة العربية، وجمع كتاب ليلى المريضة بأجزائه الثلاثة كثيرا من آرائه التي تحدد صلة مصر بالأمم العربية، كما شرح معضلات الشباب في مصر والعراق موضحا ما يراه من الحلول والأدواء. . ونحن نحمد للدكتور هيامه بالوحدة العربية، وكفاحه من أجلها أطيب كفاح، وللقارئ أن يستعرض عناوين مقالاته في كتاب وحي بغداد ليعلم أي جهد قام به الدكتور في توثيق الصلة بين القطرين، فقد تكلم عن العروبة في مصر تارة، وعن المذاهب الأدبية المصرية طورا، وعن الجامعة العراقية وما يجب أن يبذل في سبيل إنشائها من مشاق،. . . وحين رجع إلى مصر، تحدث عن الفن المصري في العراق، وعن الأندية الأدبية في حاضرة الرشيد، وعن نهضة التعليم في دار المأمون، وأطنب في ذكرياته عن دجلة والفرات والرصافة والجسر وليلى وظمياء، وفي كتابه (ملامح المجتمع العراقي) أحاديث طيبة عن رجال العراق وقد نشرت أكثر فصوله وفصول ليلى المريضة بمجلة الرسالة الغراء. . .
وقد رجع الدكتور إلى مصر، ومعه فوق ما تقدم من كتبه، مؤلفه عن عبقرية الشريف الرضي، وهو مجموعة محاضرات أدبية ألقاها المؤلف في قاعة كلية الحقوق ببغداد، فكان أول باحث خص الشريف بجزء ين كبيرين، وقد استمع إليها كثير من الأساتذة والطلاب، وصرح الدكتور أنه وقف من الشاعر موقف الصديق، فتحدث كثيرا عن محاسنه وأشار إلى عيوبه برفق ولين، وقد قسم مواضيع الكتاب تقسيما نسبيا لم تتضح معالمه ورسومه، إذ لاحظت أن ما كتبه عن غراميات الشريف يصلح أن يكون بين ما كتبه عن حجازيات الشاعر، وما كتبه عن غرائب الوفاء يصلح أن يندرج فيما يليه من الأبواب دون التباس، وقد أدت سرعة المؤلف وعجلته إلى ذلك، ولست أجد ما أقوله غير أنه سطر أبحاثه بروح الشاعر الذي لا ينسى التحليق والطيران هذا وقد عين الدكتور مبارك بعد عودته من العراق مفتشا للغة العربية بالمدارس الأجنبية، وكان عمله الرسمي لا يكلفه جهدا كبيرا، فتفرغ للنشاط الأدبي، واتخذ من مجلة الرسالة الغراء ميدانا للصيال والحوار، وكانت هذه الفترة من حياته ألمع عهوده الزاهرة، حيث اعتبره المتأدبون في العالم العربي قائدا يتولى توجيه الشباب في صحيفة ممتازة، وأخذوا يتابعون أبحاثه وقصائده ومعاركه في اهتمام، وكان يسأل فيجيب، ويرشد فيطاع.
وقد حلل على صفحات الرسالة كثيراً من الكتب الأدبية التي تقررها الوزارة لأعلام الأدباء في مسابقة التوجيهية، كفيض الخاطر، ووحي الرسالة، ومطالعات في الكتب، والمختار، وإبراهيم الكاتب، وحديث عيسى بن هشام، والمنتخبات، وتحرير المرأة، والشوقيات، وديوان صبري وحافظ، وغيرها من أشهر المؤلفات. وكان يبدأ مقاله بمقدمة عن الكاتب، مشيراً إلى طريقته في التصوير والعرض. ثم يحلل أبواب الكتاب موجهاً الأنظار إلى نقطه الرئيسية وعناصره الهامة، ويختم بحثه بإرشادات للطلاب تهديهم إلى طريقة الانتفاع بالكتاب، وهو بذلك يفتح أمام الناشئة طرق البحث والاستيعاب، وقد كثرت خواطره الطريفة التي كتبها تحت عنوان (الحديث ذو شجون) ورأى فيها الناس فنا صادقاً يعرض خوالج الكاتب ونوازعه في صور مشرقة آخاذة، وينتقل بالعقول من موضوع إلى موضوع كما ينتقل الطائر من غصن إلى غصن، دون أن يجد القراء أثراً للسآمة والتكلف، بل كانوا ينعشون بنسيم هادئ يحمل عبير الرياض، ولو استمر الكاتب بموضعه في الرسالة لأسعد القراء بلطائفه الرقاق، ولكنه هجرها بعد سبعة أعوام، وكنت أسأل عن سبب هذه القطيعة بإلحاح، حتى وجدت الإجابة في ديوان (ألحان الخلود) إذ أعلن الدكتور أنه تضايق كثيراً حين سمح الأستاذ الزيات للأستاذ الغمراوي بنقد الدكتور في بعض أبحاثه بالنثر الفني!! فكان ذلك مدعاة القطيعة والحرمان!! وليت شعري كيف يضيق المبارك بالنقد وقد شب في ميدانه، وصال في حلبته راكباً جواده، وشاهراً سيفه؟ ثم هل يستطيع صاحب الرسالة أن يمنع إنساناً ما من النقد في حدود المنهج العلمي الصريح؟ إني لأذكر أن الأستاذ الزيات قد كتب مقالا عن إصلاح الأزهر بالرسالة فرد عليه أستاذنا المغفور له الشيخ محمود الغمراوي ردا صاخباً، وأبى الزيات أن يحذف حرفاً واحداً مما كتب الناقد العنيف، فكيف يجزع الدكتور من نقد علمي بريء؟!
هذا ما كان!!
وقد التحق الدكتور بتحرير البلاغ بعد الرسالة، وواصل نشر أحاديثه ذوات الشجون، ويؤسفني أن أذكر أنه حاد كثيراً عن النهج الذي سلكه بالرسالة، فبعد أن كان يذكر طرائف الأدباء وينقد آثارهم الأدبية وحدها، أخذ ينقد السلوك الشخصي ويتتبع ما يصله من الهنات صدقاً أو كذباً، وقد يختلق - غفر الله له - المثالب اختلاقاً ويلصقها بالناس. وقد هاجم وزير المعارف إذ ذاك مهاجمة أدت إلى فصله من الوزارة، فتعرض للبؤس تعرضاً مؤلماً. . . ثم تداركه الأستاذ علي أيوب فألحقه بالقسم الأدبي في دار الكتب المصرية، ومكث عدة أشهر لا يقبض مليما واحداً، فتشعبت همومه، وعيل صبره، واستسلم إلى السكر والتبذل والاستخفاف!! وكأنه حن إلى الإنتاج الأدبي فجمع أشعاره الكثيرة في ديوان شامل أسماه (ألحان الخلود).
ولن أتعرض إلى منزلته الشعرية الآن ففي نيتي أن أكتب عنها بحثا مستقلا بعد حين، ولكن أذكر أن الدكتور قد مهد لأكثر قصائده بمقدمات مؤلمة كان الأفضل ألا يكتب منها حرفا واحدا، فهي - في أكثرها - تجريح شنيع لأناس أفاضل يحتلون منازل كريمة في عوالم السياسة والأدب والاجتماع. والعجيب أن مؤلفات الدكتور السالفة تحفل بالثناء عليهم وتعدد مآثرهم البيض في شتى ميادين الحياة!! كما لم يدخر وسعا في التحدث عن نزواته ولحظات ضعفه، كأنه مولع بفضيحته والتشهير بنفسه على رءوس الأشهاد. وأنا حين أعلل ما انحدر إليه الدكتور في خريف حياته من إسفاف، أحيل ذلك إلى ما وقر في ذهنه من أن الأدب لا يبلغ ذروته إلا إذا كشف عن النزوات البشرية وجلا للقراء ما يكمن في أعماق الكاتب من رواسب هابطة، وشهوات مسفة!! وذلك مذهب محرج لاحت بوادره - بصورة خافتة - قبل ذلك في بعض مؤلفات الدكتور، ثم اشتعلت على صفحات البلاغ وفي ديوانه ألحان الخلود بنوع خاص!!
وقد كان الدكتور ذا صلات كبيرة بأعلام عصره في الأزهر والجامعة ودار العلوم والصحافة والجمعيات العلمية، فسجل عن تاريخهم الشيء الكثير في مؤلفاته، حتى لتصلح أن تكون مرجعا للحركة الفكرية في العصر الحديث! وفي كتاب الأسمار والأحاديث تشريح هام لآراء المفكرين من أدباء وشعراء، وقد أجرى الدكتور على ألسنتهم كثيرا من المعاني التي يحتمل أن تصدر عنهم، إن لم يكن بعضها صورة حقيقية لما قالوه. وقد اختص المدرسة الاتباعية في الشعر بحوار كبير، ونقل كثيرا من آراء الهراوي والأسمر والجارم والزين وعبد الجواد رمضان والقاياتي وعبد الله عفيفي، وكلها تدور حول الشعر والشعراء في نسق مؤتلق وضيء. ومهما يكن من شيء فسيظل القراء يذكرون لمبارك أسلوبه الجميل الرقراق، ويشهدون أنه قد نقل الغزل الرقيق من ميدان الشعر إلى ميدان النثر، فوصف في مقالاته العواطف الثائرة، وشرح الأحاسيس الملتهبة، ونقل للقراء زفرات مبثوثة من الوجد الصارخ، إذ تحدث عن مسارح لهوه وملاعب صباه في سنتريس وأسيوط وباريس ومصر الجديدة وبغداد وحلوان، وأحسن القول في صدود الحسان، ومعاقرة الكؤوس، ونزق الصبا، ومفاتن الشباب، في طراز فاتن يأخذ بالألباب.
لقد كان الدكتور مبارك - رحمه الله - حركة دائبة مؤثرة في الأفق الأدبي، ولو قدر له أن يجتاز الأعوام الثمانية التي مرت عليه في خريفه كما اجتاز عمره السالف بين الصحف والأوراق لكان ذا شأن عظيم، ولكن القدر شاء أن يأسف عليه الأدباء مرتين، فهم يأسفون لما غمره في أخريات أيامه من القلق والاضطراب، كما يأسفون لرحيله الصامت الساكن بعد أن ملأ الدنيا وشغل الناس، فجف الغدير المترقرق، وصوح الزهر الناضر، وطار البلبل الصداح
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
أبو تيج
محمد رجب البيومي
مجلة الرسالة - العدد 972
بتاريخ: 18 - 02 - 1952
قابل المتأدبون في العالم العربي نعي الدكتور زكي مبارك بمرارة لاذعة، فقد سمعوا قلمه البليغ منذ أربعين عاما يرن في مختلف الصحف، فيثير العواصف الهوج ناقدا مصاولا، ويرسل النغم العذب شاعراً ملهما، ويتابع الأحداث الأدبية والاجتماعية مؤرخاً فاحصاً، ويدبج الأبحاث العلمية والفكرية مؤلفا باحثا، ثم شاءت طبيعته أن يترك جهاده الدائب في دنيا الأدب والفكر، ويستريح بعض السنوات مما كابده في نضاله الذهني، حتى أدركه الموت في زلة قدم شجت رأسه ومزقت أعصابه، فطارت روحه إلى السماء تاركة وراءها عبرات تترقرق في محاجر الأدباء، وزفرات تتصاعد من صدور تلاميذه وزملائه على السواء.
ولقد بدأ الدكتور حياته - كأكثر أدباء عصره - طالبا بالأزهر الشريف، وكانت لديه حافظة قوية ساعدته على استيعاب كثير من روائع الشعر العربي في سن مبكرة , ووجد الأستاذ المرصفي مولعا بالأدب والشعر بين أساتذة الأزهر فلازمه دروسه، ونقل أبحاثه في أوراقه، وصاحبه في سمره ولهوه وجده وشغله، وجعل يعرض عليه ما تجود به قريحته الناشئة من نظم ساذج فيفسح له مجال التجويد والإبداع بما يلقنه من توجيه وتثقيف، وقد بدأ الطالب الأزهري يتصل بالصحف، وينشر إلى جانب قصائده التقليدية فصولا إنشائية يبذل في تسطيرها ما يملك من جهد وإتقان، ودفعه طموحه إلى دراسة اللغة الفرنسية في فترات يختلها من حياته الأزهرية، ثم دفعته عزيمته إلى الجامعة المصرية سنة 1916 فأصبح طالبا يتميز بين طلابها بالنشاط والكفاح، ووجد بين أساتذتها شيخا يشبه أستاذه المرصفي في تعلقه بالأدب وكلفه بالنقد، فأخذ يستمع إلى محاضراته، ويدون في صحائفه جميع ما يصله من أستاذه الكبير محمد المهدي، وقد عكف في هذا الطور من حياته على مختارات البارودي، فحفظ أكثر ما بها من قصائد، ومالت به عواطفه إلى الغزل والنسيب فاستظهر رقائق العباس بن الأحنف، وحجازيات الشريف، وروائع مهيار وجميع ما نقله البارودي عن الشريف وابن سنان والتهامي، وقد خرج من ذلك كله بثروة طائلة في الذوق والشاعرية والأسلوب، وأخذ يجد الغذاء الدسم الذي يوجهه إلى عشاق الأدب في صحيفة الأفكار، فتطلعت الأنظار إلى الأديب الناشئ وعرفت فيه بوادر الألمعية والإبداع.
وحين اشتعلت الثورة المصرية الأولى سنة 1919 جرفت في
تيارها زكيا مباركا، فساهم بقلمه في إذكاء العاطفة الوطنية،
وخطب مع الأستاذ القاياتي في أول احتفال وطني بعيد الجهاد،
ومضى إلى الأزهر الشريف، فجعل من منبره مذياعا قويا
ينشر على الملأ حماسته واندفاعه، وكان الأستاذ أبو العيون
ينتدبه للخطابة بالفرنسية حين يحضر إلى الأزهر بعض
الأجانب من الفرنسيين، وقد أدى ذلك إلى غضب السلطة
الإنجليزية فزجت به في غياهب الاعتقال، وقالت عنه جريدة
الأهرام بعد أن نشرت نبأ اعتقاله بتاريخ 111920 (إنه شيخ
معروف بذلافة اللسان والنظم الرشيق وله في كل مجتمع كلمة
يلقيها أو قصيدة يتلوها، وأصبح في معتقله بالإسكندرية زميلا
للقاياتي ودراز وأبي العيون وغيرهم من خطباء الثورة
الأحرار).
وقد تقدم إلى نيل إجازة الدكتوراه في الآداب سنة 1924 بعد أن نال إجازة الليسانس، فكتب رسالة عن أخلاق الغزالي وكان الشاب الجامعي معتزا بمواهبه فهاجم حجة الإسلام مهاجمة قاسية، وتكشفت أثناء المناقشة جوانب خطيرة أثارت كثيرا من الحاضرين عليه، فتقدم الأستاذ اللبان لمناقشته، واحتدم الحوار احتداما أثار الضجة واللجاج، وأعلن رئيس اللجنة الدكتور منصور فهمي أن الرسالة الجامعية محاولة عقلية يخطئ فيها الطالب ويصيب، وذلك لا يمنع من نجاحه بدرجة مشرفة. ثم انتقل صدى الرسالة إلى الصحف، فأندفع الدكتور مبارك يناظر الأستاذين الشيخ يوسف الدجوي والشيخ أحمد مكي وغيرهما من كبار العلماء مناظرة حادة، مهدت له طريق الشهرة والذيوع، وإن عادت على عقيدته ببعض الأوهام.
والحق أن الدكتور مبارك كان يحرص على مخاصمة الجمهور فيما يكتب ويذيع، فهو يتعمد مزالق الزيغ تعمدا، كأن له حظا في الثورة والضجيج. ألف في هذا الدور كتابيه (حب ابن أبي ربيعة) (ومدامع العشاق) فقذف بنفسه في مطارح مخيفة، إذ أسهب في الحديث عن النبوة والعشق، ومنزلة الهيام من الدين، مما يثير عليه النوازع، وإن جذب بذلك كثيرا من الشباب إلى رياض الأدب العربي، فهاموا بالشعر الجيد، والنظم البليغ، وعرفوا الكثير عن عمر وكثير وجميل!! وقد انتفع الدكتور بمختارات البارودي في فصول كتابه (مدامع العشاق) فنقل باقات عبقة من زهورها اليانعة وقدم إلى القراء كثيرا من رقائق أبن رزيق والطغرائي وابن نباتة السعدي وأبن الخياط، بعد أن كانت الكثرة الغالبة من الشباب لا يتجاوزون البحتري والمتنبي وأبا تمام!!
وقد عين سنة 1925 معيدا بكلية الآداب، وكان يشرح لطلابه كتاب (مغني اللبيب) في النحو بتكليف من الدكتور طه حسين. وأكد صلته في هذه الفترة بجريدة البلاغ فكان يكتب الصحيفة الأدبية بها دون انقطاع. ولم يعش في ماضي الأدب القديم، بل أخذ يتابع الحركة الفكرية في مصر ويتعهدها بالنقد والجدل العنيف. وقد كتب فصولا طويلة عن شوقي ومعارضاته للشعراء، وهي مجموعة في كتابه (الموازنة بين الشعراء) مع أخوات لها تشابهها في التحليل والاستنتاج، وقد لاحظت وأنا أطالع هذه الموازنات تعصبا ملموسا لشوقي من زكي فهو يفضله دائما على من يزنه به، وكنت أعجب حين أجد المبارك لا يستر ميوله الشخصية عن القراء، وأحار في تعليل ذلك، حتى عرفت من بعض ما كتبه الدكتور، أنه أخذ مبلغا كبيرا من ذهب أمير الشعراء، فرفعه إلى السماء. ولست أريد أن أخفض من قيمة المعارضات الشوقية، فهي تحتل مكانها في التاريخ الأدبي دون نزاع، ولكني أعلن أن الدكتور قد خلع عليها من الإطراء ذيولا ضافيات.
ولم يقنع مبارك بدرجته العلمية التي نالها من الجامعة المصرية، فسافر إلى باريس، واتفق مع جريدة البلاغ أن يمدها بمقالاته وأبحاثه نظير ما تمنحه من أجر يذلل به صعوبة الاغتراب، وأخذ يوالي البلاغ بآثاره العلمية تارة، وبمشاهداته وخطراته عن باريس تارة أخرى، فوق ما يضطلع به من تحضير رسالة علمية لنيل الدكتوراه من السوربون، وتجمع له من ذلك كتابه المعروف عن ذكريات باريس!! ثم وفقه الله فوضع رسالته عن النثر الفني في القرن الرابع الهجري، وهو كما يعلم القراء أخصب عهود العصر العباسي وأحفلها بالإنتاج الفكري، والشخصيات اللامعة من ذوي النقد والصيال. وقد نال برسالته القيمة إجازة الدكتوراه في الآداب من السوربون. وأقيمت له ثلاث حفلات تكريمية بباريس والقاهرة والإسكندرية. ويخيل إلى أن كتاب زهر الآداب للحصري قد أوحى إليه باختيار موضوع رسالته، فهو سجل حافل بالآثار الفنية لأعيان البيان، وقد شرحه الدكتور وحققه، ووضع فهارسه وعرف بأعلامه، فأتاح له ذخيرة ثمينة تستحق العرض والتحليل، فأندفع إلى تسطير رسالته العظيمة، التي يعدها الأستاذ أحمد أمين أعظم آثار الدكتور وأجدرها بالاهتمام.
ولكتاب النثر الفني - على رغم مكانته المحترمة - نقدات توجه إليه، وقد اعترف بها المؤلف، ولعل أبرزها ما نلاحظه في أسلوب الدكتور عامة من سيطرة عواطفه وأخيلته على يراعه، في الأبحاث الفكرية الدقيقة، فقد ارتضى لنفسه أن يكون شاعرا في تحقيقاته العلمية أو يستمد وقودها من القلب والعقل والخيال. وقد قال زكي عن ذلك (وهذا عيب في التأليف ولكنه عيب جميل يقع من المؤلفات العلمية موقع الخال من خد الحسناء)
وحين عاد الدكتور من باريس لم يركن إلى الدعة والراحة، بل واصل حملاته الأدبية في مختلف الصحف، وكان له مع أكثر أدباء العصر الحاضر صيال وملاحاة، فهو يقرأ القصيدة أو المقالة أو الكتاب لغيره من الأدباء، فتنفسح أمامه طرق واسعة للاختلاف والنقاش ويثيرها معركة عنيفة، ينتشر غبارها في الأفق ويكثر حولها الضجيج والخصام، وقد حاولت أن أحصر جميع من ساجلهم الدكتور مبارك فأدركني العجز الذريع!! ومرت أمامي أسماء كثيرة لهؤلاء المتحاورين مع الدكتور في حومة النقاش، وفي طليعتهم أحمد زكي باشا وعبد الله عفيفي ويوسف الدجوي وسلامة موسى، وحسن القاياتي، ومحمد عبد المطلب، والسباعي بيومي، ومحمد مسعود، وغيرهم. . . ومع هؤلاء أناس ناقشهم الدكتور وآثروا الراحة فلم يعتركوا معه في الميدان كطه حسين وعبد العزيز البشري وأحمد أمين وفريق من أعلام الأدب في الشام والعراق.
ولقد كان زكي فخورا بمعاركه الأدبية، وطالما تحدث عنها في كثير من التيه والإعجاب، وقد قال عن نفسه (أنا لا أرى الحياة إلا في حومة القتال، وليس الأدب عندي مزاحا أتلهى به في الأسمار والأحاديث وإنما هو عراك في ميادين الفكر والخيال) كما نقل في آخر الموازنة بين الشعراء قول بعض أصدقائه عنه (إن مباركا رجل ثائر لا تروقه الحياة، ولا يستطيب العيش إلا بالغزوات العلمية، ولو جاز وصف المساجلة كمعركة حربية، وتشبيه الأدباء بالجيش لتمثلت مباركا ضابطا من الضباط يزدان صدره بالأوسمة والنياشين لكثرة ما نازل من الأقران)
وقد كان مبارك يعتقد أنه طالب علم مدى الحياة، فهو لا يعرف للإجازات العلمية حدا تقف عنده، بل يحب أن يجلس دائما أمام الأساتذة، مهما امتدت به السن، ونال الدرجات، ليجد أمامه فرصة متاحة للصيال والنقاش. وقد تقدم بكتاب ضخم عن التصوف الإسلامي وأثره في الأدب والأخلاق لينال الدكتوراه في الفلسفة من جامعة فؤاد، وتألفت لجنة من كبار أساتذة الجامعة لمناقشته وحسابه، فمنحته إجازة الدكتوراه في الفلسفة بمرتبة الشرف، وكتاب التصوف مشهور متداول، ومزيته الصحيحة - كما قال المرحوم جاد المولى بك (أنه لم يؤلف للدعوة إلى التصوف أو الهجوم عليه، وإنما ألفه مبارك في نقد التصوف فبين ما فيه من محاسن وعيوب، وكشف عما يتضمنه من قوة وضعف، في صراحة رائعة وأسلوب متين) وأجدني مضطرا إلى أن أذكر أن الروح الأدبية قد جمحت بالدكتور في بعض مواضيع الكتاب، فلم تحدد بعض حقائقه العلمية تحديدا يتكشف للقارئ من أقرب طريق. وقد أجهدت نفسي كثيرا لأفهم ما قاله الدكتور عن وحدة الوجود، فلم أخرج بطائل مع أنه ملأ الدنيا تشدقا بما كتبه عنها في التصوف. وقد أكون ذا عقل واهن لم يستطيع السير في هذا المنعرج الدقيق.
وكان الدكتور قد خصص جانبا من كتابه للبحث عن المدائح النبوية، وأطال القول في صلتها بالتشيع، كما تعرض إلى الكميت ودعبل والشريف وغيرهم من شعراء البيت الهاشمي، واتجه إلى البردة ومعارضاتها، وما تمخضت عنه البديعيات النبوية من مباحث أدبية هامة، ولكن اللجنة المؤلفة لبحث الكتاب قد أشارت بحذف هذا الجانب من القول لبعده عن مدلول التصوف، فظهرت المدائح النبوية بعد ذلك في كتاب خاص، ولعله أول بحث مفصل يعنى بتاريخ هذا الباب، وقد مزج فيه المؤلف بين العرض والتحليل والتاريخ والاستنتاج في طراز موفق شفاف.
وقد كان انتداب زكي مبارك إلى التدريس بدار المعلمين العالية في بغداد ذا أثر هام في حياته الأدبية، إذ أن الفترة القصيرة التي مكثها بالعراق قد ألهبت قريحته وأذكت نشاطه فسطر مئات الصحف في الدعوة إلى العروبة، وتوثيق الصلات بين القاهرة وبغداد، واتصل برجال الفكر والسياسة في القطر الشقيق فنزل بينهم نزلا كريما، وقد وصف الآثار العربية، بحاضرة العراق وصفا بديعا، كما نقل للقراء في شتى بقاع العربية، صورا خلابة عن غابات النخيل في البصرة، وسجع الحمائم في الموصل، وبقايا السحر في بابل، ورسم تألق القباب العلوية في النجف والكرخ، وألقى عدة محاضرات بنادي القلم العراقي، وقاعة كلية الحقوق، ونادي المثنى , والإذاعة العراقية، حول الثقافة العربية، وجمع كتاب ليلى المريضة بأجزائه الثلاثة كثيرا من آرائه التي تحدد صلة مصر بالأمم العربية، كما شرح معضلات الشباب في مصر والعراق موضحا ما يراه من الحلول والأدواء. . ونحن نحمد للدكتور هيامه بالوحدة العربية، وكفاحه من أجلها أطيب كفاح، وللقارئ أن يستعرض عناوين مقالاته في كتاب وحي بغداد ليعلم أي جهد قام به الدكتور في توثيق الصلة بين القطرين، فقد تكلم عن العروبة في مصر تارة، وعن المذاهب الأدبية المصرية طورا، وعن الجامعة العراقية وما يجب أن يبذل في سبيل إنشائها من مشاق،. . . وحين رجع إلى مصر، تحدث عن الفن المصري في العراق، وعن الأندية الأدبية في حاضرة الرشيد، وعن نهضة التعليم في دار المأمون، وأطنب في ذكرياته عن دجلة والفرات والرصافة والجسر وليلى وظمياء، وفي كتابه (ملامح المجتمع العراقي) أحاديث طيبة عن رجال العراق وقد نشرت أكثر فصوله وفصول ليلى المريضة بمجلة الرسالة الغراء. . .
وقد رجع الدكتور إلى مصر، ومعه فوق ما تقدم من كتبه، مؤلفه عن عبقرية الشريف الرضي، وهو مجموعة محاضرات أدبية ألقاها المؤلف في قاعة كلية الحقوق ببغداد، فكان أول باحث خص الشريف بجزء ين كبيرين، وقد استمع إليها كثير من الأساتذة والطلاب، وصرح الدكتور أنه وقف من الشاعر موقف الصديق، فتحدث كثيرا عن محاسنه وأشار إلى عيوبه برفق ولين، وقد قسم مواضيع الكتاب تقسيما نسبيا لم تتضح معالمه ورسومه، إذ لاحظت أن ما كتبه عن غراميات الشريف يصلح أن يكون بين ما كتبه عن حجازيات الشاعر، وما كتبه عن غرائب الوفاء يصلح أن يندرج فيما يليه من الأبواب دون التباس، وقد أدت سرعة المؤلف وعجلته إلى ذلك، ولست أجد ما أقوله غير أنه سطر أبحاثه بروح الشاعر الذي لا ينسى التحليق والطيران هذا وقد عين الدكتور مبارك بعد عودته من العراق مفتشا للغة العربية بالمدارس الأجنبية، وكان عمله الرسمي لا يكلفه جهدا كبيرا، فتفرغ للنشاط الأدبي، واتخذ من مجلة الرسالة الغراء ميدانا للصيال والحوار، وكانت هذه الفترة من حياته ألمع عهوده الزاهرة، حيث اعتبره المتأدبون في العالم العربي قائدا يتولى توجيه الشباب في صحيفة ممتازة، وأخذوا يتابعون أبحاثه وقصائده ومعاركه في اهتمام، وكان يسأل فيجيب، ويرشد فيطاع.
وقد حلل على صفحات الرسالة كثيراً من الكتب الأدبية التي تقررها الوزارة لأعلام الأدباء في مسابقة التوجيهية، كفيض الخاطر، ووحي الرسالة، ومطالعات في الكتب، والمختار، وإبراهيم الكاتب، وحديث عيسى بن هشام، والمنتخبات، وتحرير المرأة، والشوقيات، وديوان صبري وحافظ، وغيرها من أشهر المؤلفات. وكان يبدأ مقاله بمقدمة عن الكاتب، مشيراً إلى طريقته في التصوير والعرض. ثم يحلل أبواب الكتاب موجهاً الأنظار إلى نقطه الرئيسية وعناصره الهامة، ويختم بحثه بإرشادات للطلاب تهديهم إلى طريقة الانتفاع بالكتاب، وهو بذلك يفتح أمام الناشئة طرق البحث والاستيعاب، وقد كثرت خواطره الطريفة التي كتبها تحت عنوان (الحديث ذو شجون) ورأى فيها الناس فنا صادقاً يعرض خوالج الكاتب ونوازعه في صور مشرقة آخاذة، وينتقل بالعقول من موضوع إلى موضوع كما ينتقل الطائر من غصن إلى غصن، دون أن يجد القراء أثراً للسآمة والتكلف، بل كانوا ينعشون بنسيم هادئ يحمل عبير الرياض، ولو استمر الكاتب بموضعه في الرسالة لأسعد القراء بلطائفه الرقاق، ولكنه هجرها بعد سبعة أعوام، وكنت أسأل عن سبب هذه القطيعة بإلحاح، حتى وجدت الإجابة في ديوان (ألحان الخلود) إذ أعلن الدكتور أنه تضايق كثيراً حين سمح الأستاذ الزيات للأستاذ الغمراوي بنقد الدكتور في بعض أبحاثه بالنثر الفني!! فكان ذلك مدعاة القطيعة والحرمان!! وليت شعري كيف يضيق المبارك بالنقد وقد شب في ميدانه، وصال في حلبته راكباً جواده، وشاهراً سيفه؟ ثم هل يستطيع صاحب الرسالة أن يمنع إنساناً ما من النقد في حدود المنهج العلمي الصريح؟ إني لأذكر أن الأستاذ الزيات قد كتب مقالا عن إصلاح الأزهر بالرسالة فرد عليه أستاذنا المغفور له الشيخ محمود الغمراوي ردا صاخباً، وأبى الزيات أن يحذف حرفاً واحداً مما كتب الناقد العنيف، فكيف يجزع الدكتور من نقد علمي بريء؟!
هذا ما كان!!
وقد التحق الدكتور بتحرير البلاغ بعد الرسالة، وواصل نشر أحاديثه ذوات الشجون، ويؤسفني أن أذكر أنه حاد كثيراً عن النهج الذي سلكه بالرسالة، فبعد أن كان يذكر طرائف الأدباء وينقد آثارهم الأدبية وحدها، أخذ ينقد السلوك الشخصي ويتتبع ما يصله من الهنات صدقاً أو كذباً، وقد يختلق - غفر الله له - المثالب اختلاقاً ويلصقها بالناس. وقد هاجم وزير المعارف إذ ذاك مهاجمة أدت إلى فصله من الوزارة، فتعرض للبؤس تعرضاً مؤلماً. . . ثم تداركه الأستاذ علي أيوب فألحقه بالقسم الأدبي في دار الكتب المصرية، ومكث عدة أشهر لا يقبض مليما واحداً، فتشعبت همومه، وعيل صبره، واستسلم إلى السكر والتبذل والاستخفاف!! وكأنه حن إلى الإنتاج الأدبي فجمع أشعاره الكثيرة في ديوان شامل أسماه (ألحان الخلود).
ولن أتعرض إلى منزلته الشعرية الآن ففي نيتي أن أكتب عنها بحثا مستقلا بعد حين، ولكن أذكر أن الدكتور قد مهد لأكثر قصائده بمقدمات مؤلمة كان الأفضل ألا يكتب منها حرفا واحدا، فهي - في أكثرها - تجريح شنيع لأناس أفاضل يحتلون منازل كريمة في عوالم السياسة والأدب والاجتماع. والعجيب أن مؤلفات الدكتور السالفة تحفل بالثناء عليهم وتعدد مآثرهم البيض في شتى ميادين الحياة!! كما لم يدخر وسعا في التحدث عن نزواته ولحظات ضعفه، كأنه مولع بفضيحته والتشهير بنفسه على رءوس الأشهاد. وأنا حين أعلل ما انحدر إليه الدكتور في خريف حياته من إسفاف، أحيل ذلك إلى ما وقر في ذهنه من أن الأدب لا يبلغ ذروته إلا إذا كشف عن النزوات البشرية وجلا للقراء ما يكمن في أعماق الكاتب من رواسب هابطة، وشهوات مسفة!! وذلك مذهب محرج لاحت بوادره - بصورة خافتة - قبل ذلك في بعض مؤلفات الدكتور، ثم اشتعلت على صفحات البلاغ وفي ديوانه ألحان الخلود بنوع خاص!!
وقد كان الدكتور ذا صلات كبيرة بأعلام عصره في الأزهر والجامعة ودار العلوم والصحافة والجمعيات العلمية، فسجل عن تاريخهم الشيء الكثير في مؤلفاته، حتى لتصلح أن تكون مرجعا للحركة الفكرية في العصر الحديث! وفي كتاب الأسمار والأحاديث تشريح هام لآراء المفكرين من أدباء وشعراء، وقد أجرى الدكتور على ألسنتهم كثيرا من المعاني التي يحتمل أن تصدر عنهم، إن لم يكن بعضها صورة حقيقية لما قالوه. وقد اختص المدرسة الاتباعية في الشعر بحوار كبير، ونقل كثيرا من آراء الهراوي والأسمر والجارم والزين وعبد الجواد رمضان والقاياتي وعبد الله عفيفي، وكلها تدور حول الشعر والشعراء في نسق مؤتلق وضيء. ومهما يكن من شيء فسيظل القراء يذكرون لمبارك أسلوبه الجميل الرقراق، ويشهدون أنه قد نقل الغزل الرقيق من ميدان الشعر إلى ميدان النثر، فوصف في مقالاته العواطف الثائرة، وشرح الأحاسيس الملتهبة، ونقل للقراء زفرات مبثوثة من الوجد الصارخ، إذ تحدث عن مسارح لهوه وملاعب صباه في سنتريس وأسيوط وباريس ومصر الجديدة وبغداد وحلوان، وأحسن القول في صدود الحسان، ومعاقرة الكؤوس، ونزق الصبا، ومفاتن الشباب، في طراز فاتن يأخذ بالألباب.
لقد كان الدكتور مبارك - رحمه الله - حركة دائبة مؤثرة في الأفق الأدبي، ولو قدر له أن يجتاز الأعوام الثمانية التي مرت عليه في خريفه كما اجتاز عمره السالف بين الصحف والأوراق لكان ذا شأن عظيم، ولكن القدر شاء أن يأسف عليه الأدباء مرتين، فهم يأسفون لما غمره في أخريات أيامه من القلق والاضطراب، كما يأسفون لرحيله الصامت الساكن بعد أن ملأ الدنيا وشغل الناس، فجف الغدير المترقرق، وصوح الزهر الناضر، وطار البلبل الصداح
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
أبو تيج
محمد رجب البيومي
مجلة الرسالة - العدد 972
بتاريخ: 18 - 02 - 1952