على ضفة واد خصيب في محافظة حضرموت (شرقي اليمن) تتجاور أطلال مبان قديمة مع بنايات حديثة لتشكل لوحة فنية فريدة، حيث بقايا منازل قبيلة كندة وملوكها وشاعرها الجاهلي امرئ القيس شاهدة على حقبة زاخرة بالحياة.
ولد جندح الكندي الذي اشتهر بلقب امرئ القيس في وقت ما من مطلع القرن 5 الميلادي، في نجد بقرية مرات عاصمة مملكة أبيه بجبل عاقل (ديار بني سعد)، ونشأ مترفا لأبيه حجر بن الحارث، الذي كان ملكا على بني أسد وغطفان، بينما كانت أمه فاطمة بنت ربيعة التغلبية أخت كليب ملك التغلبيين والشاعر المهلهل، حيث ورث امرؤ القيس البراعة الشعرية من خاله.
لكن امرأ القيس لم يرث من أبيه وخاله كليب سيماء الملوك، فقد استهواه شعر الغزل الصريح والتشبيب بالنساء ومخالطة الصعاليك، ما جلب عليه نقمة أبيه، فطرده إلى موطن قبيلته في دمون الواقعة بمدينة الهجرين اليمنية التاريخية، ليبقى في دمون الحضرمية سنوات قبل أن تستهويه حياة الترحال، ويعيش عابثا متنقلا مع أصحابه خلف اللهو والطرب.
ويشير أستاذ التاريخ في مدينة الهجرين سالمين عمر بن جبل في حديث سابق للجزيرة نت إلى أن كتب الأدب والتاريخ أجمعت أن امرأ القيس أقام بمنطقة دمون (صيلع)، وأن الجدل يدور حول تاريخ أول ظهور لهذه المنطقة.
وتوصف معلقة الشاعر الجاهلي بأنها من أجود ما قيل في الشعر العربي، واختلف الرواة في عدد أبياتها، وتضم موضوعات الغزل القصصي والوقوف على الأطلال ووصف الفرس والليل والصيد وحياة الترحال والمغامرة، ويقول فيها:
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
وإن تك قد ساءتك مني خليقةٌ
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
أغرك مني أن حبك قاتلي
وأنك مهما تأمري القلب يفعل
وأنك قسمت الفؤاد، فنصفه
قتيلٌ ونصفٌ بالحديد مكبل
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي
بسهميك في أعشار قلب مُقتل
وبيضة خدرٍ لا يرام خباؤها
تمتعت من لهو بها غير معجل
تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا
علي حراصا لو يسرون مقتلي
إذا ما الثريا في السماء تعرضت
تعرض أثناء الوشاح المفضل
عُرف امرؤ القيس بفحش شعره وقصصه الغرامية، وقضى زمنا في التسكع والمجون وصحبة صعاليك العرب، وحتى الصيد والإغارة والسلب، وقال عنه النساب والمؤرخ الأموي ابن الكلبي إنه كان يسير في أحياء العربن ومعه أخلاط من شذاذ العرب من طيئ وكلب وبكر بن وائل، فإذا صادف غديرا أو روضة أو موضع صيد أقام، فذبح وشرب الخمر وسقاهم، وغنت لهم قيانه، ما يزال كذلك حتى يذهب ماء الغدير وينتقل عنه إلى غيره.
الحرب وتحولاتها
لم تدم حياة اللهو التي عاشها امرؤ القيس الذي كان يكنى بأبي وهب، وأبي زيد، وأبي الحارث، وتنقل روايات تاريخية أن رجلا من بني عجل جاء إليه، وهو يلهو مع أقرانه؛ ليخبره أن والده الملك قد قُتل فقال حينها:
أتاني وأصحابي على رأس صيلع
حديثٌ أطار النوم عني فأفعما
فقلتُ لعجلي بعيد مآبه
ابن لي وبين لي الحديث المجمجما.
وبمقتل أبيه تبدلت حياة امرئ القيس ونقل عنه قوله "رحم الله أبي، ضيعني صغيرا، وحملني دمه كبيرا.. لا صحو اليوم ولا سُكْرَ غدا، اليوم خمر وغدا أمر".
وقرر أن يثأر لأبيه ويستعيد حكم كندة وفارق الخمر واللهو، وجمع أنصاره، وحشد قبائل أخواله بكر وتغلب، وعاد امرؤ القيس إلى اليمن، وطلب مددا من قومه، وجمع من قبائل حمير ومذحج نفرا، وأمده الملك ذي جذن الحميري بمدد قاده ليقاتل بني أسد، ونال من سيدهم عمرو بن الأشقر، وقال مزهوا بنصره
قولا لدودان نجد عبيد العصا
ما غركم بالأسد الباسل
قد قرت العينان من مالك
ومن بني عمرو ومن كاهل
ومن بني غنم بن دودان إذ
نقذف أعلاهم على السافل
نطعنهم سلكى ومخلوجة
لفتك لأمين على نابل
إذ هن أقساط كرجل الدبى
أو كقطا كاظمة الناهل
حتى تركناهم لدى معرك
أرجلهم كالخشب الشائل
حلت لي الخمر وكنت امرأ
عن شربها في شغل شاغل
فاليوم أسقى غير مستحقب
إثما من الله ولا واغل
رفض الشاعر الجاهلي عرض الصلح والفدية ما جعل حلفاءه من قبائل بكر وتغلب يتخاذلون عنه، بحسب المصادر التاريخية، واضطر امرؤ القيس لمواجهة المنذر ملك الحيرة الذي كان حليفا لكسرى ملك الفرس، واستنجد بالقبائل لنصرته، فلم ينجده أحد فسمي بالملك الضلّيل.
الرحلة إلى الأناضول
لجأ امرؤ القيس إلى الروم أعداء الفرس التقليديين بعد نصيحة الغساسنة، وقصد القسطنطينية للقاء الإمبراطور جستينيان الأول، مع أحد رجال أبيه الشاعر الكبير عمرو بن قميئة، والتقى بالقيصر الذي رحب به؛ لكن قيل أنه انقلب عليه بعد وشاية.
يقال أن امرأ القيس تعب جسده، وأنهكت قوته بعد الحروب والرحلة الطويلة في ديار العرب وبلاد الروم، وأصيب بالمرض بعد رحلته إلى القسطنطينية.
وينقل المؤرخ ابن الأثير الجزري (توفي 630 للهجرة، 1233) في كتابه "الكامل في التاريخ" رواية مفصلة لمقتل أو وفاة امرئ القيس، ويقول:
سيّر قيصر مع امرئ القيس جيشا كثيفا فيهم جماعة من أبناء الملوك. فلما سار امرؤ القيس، قال الطماح (رجل أرسله بني أسد للوشاية بامرئ القيس) لقيصر إن امرأ القيس غوي عاهر، وقد ذكر أنه كان يراسل ابنتك ويواصلها، وقال فيها أشعارا أشهرها في العرب، فبعث إليه قيصر بحلة وشي منسوجة بالذهب، مسمومة، وكتب إليه إني أرسلت إليك بحلتي التي كنت ألبسها تكرمة لك، فالبسها واكتب إلي بخبرك من منزل منزل. فلبسها امرؤ القيس وسر بذلك، فأسرع فيه السم وسقط جلده، فلذلك سمي ذو القروح، فقال امرؤ القيس في ذلك
لقد طمح الطماح من نحو أرضه
ليلبسني مما يلبس أبؤسا
فلو أنها نفس تموت سوية
ولكنها نفس تساقط أنفسا
فلما وصل إلى موضع من بلاد الروم يقال له أنقرة احتضر بها، بحسب رواية الجزري، وهناك ليقال
رب خطبة مسحنفره، وطعنة مثعنجره،
وجفنة متحيره، حلت بأرض أنقره
ورأى قبر امرأة من بنات ملوك الروم، وقد دفنت بجنب عسيب، وهو جبل، فقال
أجارتنا إن الخطوب تنوب
وإني مقيم ما أقام عسيب
أجارتنا إنا غريبان هاهنا
وكل غريب للغريب نسيب
ثم مات فدفن إلى جنب المرأة، فقبره هناك، وتقول مصادر تركية أن المكان الذي دفن فيه الشاعر الجاهلي يقع في تلة هيديرليك (جنوب شرق) العاصمة التركية.
ولد جندح الكندي الذي اشتهر بلقب امرئ القيس في وقت ما من مطلع القرن 5 الميلادي، في نجد بقرية مرات عاصمة مملكة أبيه بجبل عاقل (ديار بني سعد)، ونشأ مترفا لأبيه حجر بن الحارث، الذي كان ملكا على بني أسد وغطفان، بينما كانت أمه فاطمة بنت ربيعة التغلبية أخت كليب ملك التغلبيين والشاعر المهلهل، حيث ورث امرؤ القيس البراعة الشعرية من خاله.
لكن امرأ القيس لم يرث من أبيه وخاله كليب سيماء الملوك، فقد استهواه شعر الغزل الصريح والتشبيب بالنساء ومخالطة الصعاليك، ما جلب عليه نقمة أبيه، فطرده إلى موطن قبيلته في دمون الواقعة بمدينة الهجرين اليمنية التاريخية، ليبقى في دمون الحضرمية سنوات قبل أن تستهويه حياة الترحال، ويعيش عابثا متنقلا مع أصحابه خلف اللهو والطرب.
ويشير أستاذ التاريخ في مدينة الهجرين سالمين عمر بن جبل في حديث سابق للجزيرة نت إلى أن كتب الأدب والتاريخ أجمعت أن امرأ القيس أقام بمنطقة دمون (صيلع)، وأن الجدل يدور حول تاريخ أول ظهور لهذه المنطقة.
وتوصف معلقة الشاعر الجاهلي بأنها من أجود ما قيل في الشعر العربي، واختلف الرواة في عدد أبياتها، وتضم موضوعات الغزل القصصي والوقوف على الأطلال ووصف الفرس والليل والصيد وحياة الترحال والمغامرة، ويقول فيها:
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
وإن تك قد ساءتك مني خليقةٌ
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
أغرك مني أن حبك قاتلي
وأنك مهما تأمري القلب يفعل
وأنك قسمت الفؤاد، فنصفه
قتيلٌ ونصفٌ بالحديد مكبل
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي
بسهميك في أعشار قلب مُقتل
وبيضة خدرٍ لا يرام خباؤها
تمتعت من لهو بها غير معجل
تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا
علي حراصا لو يسرون مقتلي
إذا ما الثريا في السماء تعرضت
تعرض أثناء الوشاح المفضل
عُرف امرؤ القيس بفحش شعره وقصصه الغرامية، وقضى زمنا في التسكع والمجون وصحبة صعاليك العرب، وحتى الصيد والإغارة والسلب، وقال عنه النساب والمؤرخ الأموي ابن الكلبي إنه كان يسير في أحياء العربن ومعه أخلاط من شذاذ العرب من طيئ وكلب وبكر بن وائل، فإذا صادف غديرا أو روضة أو موضع صيد أقام، فذبح وشرب الخمر وسقاهم، وغنت لهم قيانه، ما يزال كذلك حتى يذهب ماء الغدير وينتقل عنه إلى غيره.
الحرب وتحولاتها
لم تدم حياة اللهو التي عاشها امرؤ القيس الذي كان يكنى بأبي وهب، وأبي زيد، وأبي الحارث، وتنقل روايات تاريخية أن رجلا من بني عجل جاء إليه، وهو يلهو مع أقرانه؛ ليخبره أن والده الملك قد قُتل فقال حينها:
أتاني وأصحابي على رأس صيلع
حديثٌ أطار النوم عني فأفعما
فقلتُ لعجلي بعيد مآبه
ابن لي وبين لي الحديث المجمجما.
وبمقتل أبيه تبدلت حياة امرئ القيس ونقل عنه قوله "رحم الله أبي، ضيعني صغيرا، وحملني دمه كبيرا.. لا صحو اليوم ولا سُكْرَ غدا، اليوم خمر وغدا أمر".
وقرر أن يثأر لأبيه ويستعيد حكم كندة وفارق الخمر واللهو، وجمع أنصاره، وحشد قبائل أخواله بكر وتغلب، وعاد امرؤ القيس إلى اليمن، وطلب مددا من قومه، وجمع من قبائل حمير ومذحج نفرا، وأمده الملك ذي جذن الحميري بمدد قاده ليقاتل بني أسد، ونال من سيدهم عمرو بن الأشقر، وقال مزهوا بنصره
قولا لدودان نجد عبيد العصا
ما غركم بالأسد الباسل
قد قرت العينان من مالك
ومن بني عمرو ومن كاهل
ومن بني غنم بن دودان إذ
نقذف أعلاهم على السافل
نطعنهم سلكى ومخلوجة
لفتك لأمين على نابل
إذ هن أقساط كرجل الدبى
أو كقطا كاظمة الناهل
حتى تركناهم لدى معرك
أرجلهم كالخشب الشائل
حلت لي الخمر وكنت امرأ
عن شربها في شغل شاغل
فاليوم أسقى غير مستحقب
إثما من الله ولا واغل
رفض الشاعر الجاهلي عرض الصلح والفدية ما جعل حلفاءه من قبائل بكر وتغلب يتخاذلون عنه، بحسب المصادر التاريخية، واضطر امرؤ القيس لمواجهة المنذر ملك الحيرة الذي كان حليفا لكسرى ملك الفرس، واستنجد بالقبائل لنصرته، فلم ينجده أحد فسمي بالملك الضلّيل.
الرحلة إلى الأناضول
لجأ امرؤ القيس إلى الروم أعداء الفرس التقليديين بعد نصيحة الغساسنة، وقصد القسطنطينية للقاء الإمبراطور جستينيان الأول، مع أحد رجال أبيه الشاعر الكبير عمرو بن قميئة، والتقى بالقيصر الذي رحب به؛ لكن قيل أنه انقلب عليه بعد وشاية.
يقال أن امرأ القيس تعب جسده، وأنهكت قوته بعد الحروب والرحلة الطويلة في ديار العرب وبلاد الروم، وأصيب بالمرض بعد رحلته إلى القسطنطينية.
وينقل المؤرخ ابن الأثير الجزري (توفي 630 للهجرة، 1233) في كتابه "الكامل في التاريخ" رواية مفصلة لمقتل أو وفاة امرئ القيس، ويقول:
سيّر قيصر مع امرئ القيس جيشا كثيفا فيهم جماعة من أبناء الملوك. فلما سار امرؤ القيس، قال الطماح (رجل أرسله بني أسد للوشاية بامرئ القيس) لقيصر إن امرأ القيس غوي عاهر، وقد ذكر أنه كان يراسل ابنتك ويواصلها، وقال فيها أشعارا أشهرها في العرب، فبعث إليه قيصر بحلة وشي منسوجة بالذهب، مسمومة، وكتب إليه إني أرسلت إليك بحلتي التي كنت ألبسها تكرمة لك، فالبسها واكتب إلي بخبرك من منزل منزل. فلبسها امرؤ القيس وسر بذلك، فأسرع فيه السم وسقط جلده، فلذلك سمي ذو القروح، فقال امرؤ القيس في ذلك
لقد طمح الطماح من نحو أرضه
ليلبسني مما يلبس أبؤسا
فلو أنها نفس تموت سوية
ولكنها نفس تساقط أنفسا
فلما وصل إلى موضع من بلاد الروم يقال له أنقرة احتضر بها، بحسب رواية الجزري، وهناك ليقال
رب خطبة مسحنفره، وطعنة مثعنجره،
وجفنة متحيره، حلت بأرض أنقره
ورأى قبر امرأة من بنات ملوك الروم، وقد دفنت بجنب عسيب، وهو جبل، فقال
أجارتنا إن الخطوب تنوب
وإني مقيم ما أقام عسيب
أجارتنا إنا غريبان هاهنا
وكل غريب للغريب نسيب
ثم مات فدفن إلى جنب المرأة، فقبره هناك، وتقول مصادر تركية أن المكان الذي دفن فيه الشاعر الجاهلي يقع في تلة هيديرليك (جنوب شرق) العاصمة التركية.