رياض البكري أقوى من الموت وأعلى من أعواد المشانق

مرة اخرى يطل وجه الشاعر العراقي رياض البكري من بين ركام من اوراق بل كنز كلمات بقيت في ضمير شعبنا الغالي وفي عهدته . لقد حافظ الاصدقاء من عشاق الوطن والكلمة على اوراق رياض البكري ومنهم الأخ سعدون ابو حيدر وعقيل ابو ذر اذ نقل الأخير اوراق الشاعر لي . وكما اشارت مقالات سابقة اخرى ، فقد جرى اعدام رياض البكري في عام 1976 بعد القاء القبض عليه وهو قادم من لبنان الى العراق ، حيث كان في صفوف المنظمات الفلسطينية . وقد جرت اعترافات عديدة وعلقت على شماعة رياض البكري . رياض الذى وقف بكل اجلال واحترام لذاته ومبدأه في اتخاذ قرار عدم التخاذل والصمود وتحدي المشنقة وهو حقا احد المؤمنين – قولا وفعلا - بان " الشيوعية اقوى من الموت واعلى من اعواد المشانق " . انه رجل الفولاذ في مواجهة الفولاذ ... نعم لقد مات ولم ينكسر . استشهد ولم يعترف . رياض البكري من اول خيوط شمس الحرية في بلدنا المظلوم . ان هذا الشهيد بالذات يقض مضاجع قاتليه وخاذليه ومن قصروا عن التحلي بذرة من قوة شكيمته وصموده . انه مفخرة في ذاكرة وطنه واهله ورفاقه واصدقائه ومحبيه وهو واسطة العقد في صدر النضال والبطولة العراقية. اليوم وفي هذا التقديم لرياض أقوم بنشر مقالة له اكراما لذكراه واكرر مؤكدا على ان الشكر والفضل كل الفضل يعود الى الأحبة ابو حيدر الذي حافظ على اوراق رياض رغم ليل الفاشية الذي طال واستشرى، والى الاخ ابي ذر الذي نقلها لي بصفتي اقرب اصدقاء رياض في شبابه وأيام تكوننا الأدبي والسياسي ورفقتنا في اعوام 1965-1975. ودوري الآن في هذا المستهل هو اني فقط اقوم بطبع مقالة للشاعر الشهيد ولا فضل لي عليه بل هو المتفضل صديقا ومثالا واستاذا ... مع محبتنا لذكراه . والى مقالات وكتابات اخرى .

عنوان المقال :الحقيقة العارية في منتصف الليل
اسم الكاتب : ( ابو نصير )
المجلة : الهدف
تاريخ النشر: 19 تشرين الأول 1974
العدد:374

الحقيقة العارية في منتصف الليل
أبو نصير – رياض البكري –

لماذا هذه الكتابات الغامضة ؟
لأن الحقيقة في منتصف الليل فقط .... تبدو عارية .
وكانت السيدة ( ب ) تخلع ثيابها ... وتخدر ، وعلى رأس الجسر المؤدي الى قلب " عكا " كانت بعض الأضواء ، الصغيرة الخافته ... والنساء المدججات بالعطور والأسلحة ... يستلقين على رصيف طويل ... بينما كانت المطبعة منهمكة بصف حروف التصريح التاريخي لأحد الزعماء الكتبة ... اما عال همشمار ، فكان رئيس تحريرها المهاجر قبل سنوات يكتب مقالة دو لشفيتيه، حول تلبية الحاجات الفلسطينية واسس السلام الدائم في المنطقة .... وانتفض احدهم من على مقعده الاسفنجي المتحرك بكل الاتجاهات مطالبا بحقوق البروليتاريا ... ووقف العدوانات التي لامبرر لها .
حبيبتي للمرة الثانية ... هل سنلتقي غدا ؟
كان نزيفا متقطعا من الشعر ... والدم ... والموسيقى ... وهواجس الليل المتأخر .... انك تحلم مثل العصفور ... فارحل ... ألا تراودك الرغبة النومية وسط هذه التعاسات المتساقطة على عينيك مثل الجدران ...
جدار ... جداران .... ثلاثة ..
لا للكتائب ... اطلقوا سلاح السجناء ... التأميم لسعادة وحرية الشعب ، لا للجوع والارهاب ...
وسقطت ثلاثة دمعات صغيرة ... حتى انها حرقت خديه من شدة الملوحة ... وكان النزيف مسرعا ومتدفقا ..
ان حبيبتي السمراء الناحلة . تريد الآن اسطوانة ... وسكين .. وقبلة ..
فهل بوسع جميع أغاني العالم ... ان تطفئ هذه الرغبة .. ؟
ألم تكن افراطا في الكشف ... هذا الشريط الدامي من الحزن ... ؟
انني افتش الآن عن بقية التصاريح ... والأوسمة والأناشيد ...
وحيدا حيث ان الموقف لايتجزأ ... مثل قطعة الجبن ..
سياسي .. اخلاقي .. شخصي .. تكتيكي ..
الدمعة هي الموقف ..
وانخرط الجمع المحتشد في ليالي تشرين اول العائدة مع الدورة الثامنة والعشرين ... ودخول مسامير التابوت العشرة الى قاعة الاحتفالات الكبرى وكانت المدى الذهبية تعبث بالجرح ... ويافا مثل قمر محاصر بالغيوم السوداء والاذاعات ... وكانت الخيمة تنصب من جديد في الكيلو 102 على مشارف القاهرة .
الاستعدادات جارية على قدم وساق ... على ساق وقدم ... وشاشات التلفزيون جميعها ضالعة بمؤآمرة نقل الاستعراض العسكري ... وتم تسمية رئيس وفد آخر لمؤتمر القمة .
ونحن في مطبخنا الصغير ... نسلق بيضا مستوردا ونتبادل الأحاديث الودية حول غياب السكر ...
هذه القصيدة او تلك ... الشاعر او الرسام .. تحت جدارية فائق حسن .. الجدارية ماتزال حمراء... و" تحتها " فقط مرت الذبابة بخرطومها الملوث ... ام نصب التحرير ..
أحدهما ام كلاهما .
ام انه فكتور جارا
وقد مات هذا الآخر ... صوتا عنيفا .. خلال معركة الدفاع المنتظرة .. أما المقاعد الاسفنجية ، فقد تحولت الى مماسح لأحذية الضباط ... وخرائط لليورانيوم ...
ولكنها كانت اندونيسيا الغارقة حتى اذنيها بأشياء عائد خصباك حول الملحمة السابقة ، وبهذا يكون الايغال في الكشف قد بلغ منتهاه ..
ولابد من خلط الحصى بالرمل .. لكي تنزع يافا جلده الأخر .. وتبصق بشدة على وجه المحترفين . كانت المرآة تعمق حالة الكشف الصوفي .. والقرآنات والاناجيل يتكومن فوق بعض ... ويتحدرن في سيل .. وسط اشجار الموز واللوز ... وحشائش الوطن المحتل .
كان نقيق الضفادع السوداء الصغيرة ... وكان نشيد " السلطة الوطنية المقاتلة " يتصاعد مثل دخان المزابل ... اوراق " الشدة " الفلسطينية في جيب الممثل الشرعي .. وياقته البيضاء تغطي جبهته ذلك انها قد انتصبت وسط معركة المنافسة الضارية .
حين أزف الليل كنا نبتهج بما تبقى من الفرح في خياشيمنا .. وكانت لنا مناقير واجنحة .. واعصان نضع عليها اعشاشنا وننام ... ذات يوم كانت هناك حكومة لعموم فلسطين ... ذهبت مع الزمن المتحدر ... ومواسم الحج .
سيدتي ايتها السمراء الناحلة الصغيرة ... اننا نريد عموم فلسطين ... ولكننا أبدا .. أبدا ... لم نطالبهم ... بمجلس مرحلي للعموم ... فتعالوا نفتح سجل الذاكرة ...
ونقرأ مطلع قصيدة شهيرة ..
تنبهوا واستفيقوا ايها العرب – فقط طغى الكرب حتى غاصت الركب .
ولنفتش عن مكامن الطباق ..
سكن الشارع ... في الثانية ... اذ ينتصف الليل . وتنعس السيدة ( ب ) المشار اليها في مطلع القافلة تكون كل ابواب الشقق المستأجرة ... مقفلة جيدا .. والشعراء يطالعون بعضهم من النوافذ المشرعة بوجه النجوم .. وثمة نساء هنا وهناك يتبادلن الشبق مع رجال آخرين .
واذ عبرت السيارة مسرعة ... كانت البندقية ساكنة في الركن ... ودوي انفجار مجهول ... ربما البان اوف امريكان ... كان او شيئاً آخر من هذا القبيل .. لا أحد يدري سوى قفاز الحرير ، فثمة في هذا السوق الداجن اسلحة ومخدرات ... وطاقيات للاخفاء ... وصناديق ديبلوماسية أيضا ... وقد تكون ايضا مفرقعة للتسلية ... او ليلة عرس هذا الزعيم او ذاك ...
وقف الحارس الليلي متثاقلا ... وسقط في الدوامة ... ثم استرخى ... وحك اذنه ... واشعل سيجارة .... وعاد فشرب ماء ً كان عطشا من شدة الحزن ... كانت البندقية تغط في نوم بعيد ... وتحلم ... الكابوس الأول كان لحما يشوى في الصحراء ... وكان الكابوس الثاني بحرا من الذهب . أما الثالث فكان سمكة بحرية ... حادة الطبع ... تقاوم .. ولزجة .
ثم ايقظها مطلع الصبح ... اول صحيفة ليبرالية ... تبشر باختيار رئيس جديد للوزراء ... وعلى صدرها صورة بقميص نومه الجميل ... وشعره الأشيب المرتب ... وعينيه الماكرتين .
- فماذا تقول الاذاعة السرية ؟
- كانت النوبة العربية قد اشرفت على الانتهاء ..وضعت في مصطلحات الحرب الانجليزية ... وها انا اجمع نفسي
- اخذوا موقعا هاما وجعلوا الموقع الأهم تحت رحمة مدافعهم القادمة في قطارات الخط القياسي ..
- اما نظار المحطات ! .. فكانوا يبرقون عن مقدم قطاع البضائع الخاص .
قف اقلع القطار الصاعد ( ثيرتي آب ) الطريق ابيض ... ولا مفر من المفاوضات
( ويزيدك عمق الكشف غموضا )
عمق الكشف غموضا
الكشف غموضا
غموضا
البائع اللبن . داهمه الشتاء والامطار .. وذلك الكسندر الصغير ... المتحدر من بقايا ارادة الشعب الروسي ... داهموه في رحلة الموت وقد شارفت على نهايتها ... أما ذلك البروليتاري الغارق في ديونه ... فكان يقرأ .. ويجوب الشوارع ... والمقاهي .. ويحارب بمعطفه القديم الموروث من أيام الحرب .. " شهادة الأطفال في زمن الحرب " ... ملقاة على ارضية الغرفة الواسعة ... الفارغة ... المتسخة ...السجائر ... واراق بيضاء وسمراء ملونة .. واشعار وقميص ... وكانت بردى تشعلها دمعة حب فيروزية ... ولا شئ آخر سوى الليل ...واثنان احدهما يقرأ الزير سالم ... ويصوم ... والآخر يتذكر امه فلا ينام ..
وطفل يبكي في الزقاق الضيق ..
وكان عمق الكشف بسبب التاعب القاسية لقضية الشعر المعاصر ..
والضوء الخافت .. العالي ... وتلك السماء البليدة ... الضعيفة مثل رجل مسلول ... وليس ثمة نجوم . ولا اشياء اخرى ..
على الجدار .. طفل صغير .. رائحة الندى الندية في فمه ... معلقة صورته اشارة الى العلاقة الجدلية بين قنابل الطائرات ... والاطفال الذين مازالوا رضعا ... طرق الباب ... قط في عامه الثاني ... وكان هو الآخر قد صنعته امه في ليلة حب دافئة في احدى مجاري الماء المنتشرة في المخيم ... بحث عن قطعة لحم ... أو فأر ولكنه اكتفى أخيرا بقلب صحن .. وفر خائفا .. مثل الصبح .
المرأة التي ذهبت .. عادت .. والشارع الذي ضج .. هدأ .. والنهار الذي انتفخ ... برزت عظامه من وراء الجلد المشقق .. وها هي احدى ليلات رمضان الفلسطينية القديمة ... واللعب الموروثة لا طعم لها ... وكان احدهم رساما له ريشة وألوان ... ووجوه مكتظة بالعنف ... يسأل امه قطعة من النقود ... وينسل خجلا من باب الدار .. تناول علبة الدخان الأجنبية ... وولى خجلا ايضا الى الشارع ... واتجه الى منعطف وصار يمشي مثل الخائب ... ويردد
" مادام العالم مملوء بالسكر "
مشى حتى خارت قدماه ... التفت الى غصن الشجرة ... وصرخ في السكون المحيط بعينيه ... فلتسقط كل قناني العرق البيضاء ...
وبينما تشير ساعة " بغ بن " الى السادسة .. كانت السيدة ( ب ) تودع آخر ليالي السطوح ... انني احبك حد الكراهية .. وابغض كل الأقلام .. والسياط .. والمسافات .. التي تجعلك حلما في الليل .. وحزنا دامعا للقصائد المطاردة .. انني احبك ..
وانفتق كيس الدمع ..
وفي الصندوق الذي في الزاوية .. بعض الكتب والمجلات الاخرى .. ورسالة قديمة .. ورسالة لم ترسل .. والباب مفتوح .. وهذا الليل المتشدق بشجاعة جنوده الفارعي القامات يوغل في غموضه .. بينما تزداد الحقائق عريا ... في مطباته الثلجية .. ايتها العيون المركبة .. والنواظير المعقرة .. ان حذائي يزداد اتساخا ... واذنان تسمعان اصواتا عالية .. انني اشعر بالوحدة التي لا مفر منها الآن .. فاتركيني .. أضرب الشوارع بأقدامي ... واتجمع ..
رؤوس أقلام ملونة بالأسود والأحمر .. والماء
-------------------------------------
سيقت وجبة جديدة من الجنود الى المقصلة / الصحيفة العاهرة ماتزال بعناوينها الجميلة وخطوطها الحمراء / اتساع نطاق لجان المحافظات والأقضية / الموسيقى هادئة / القصائد مرتخية /ومهرجان الاغنية السياسية في اوج لحظات النشوة بانتظار الليلة القادمة بعض المحاربين القدماء يلعبون النرد ويسبحون / النافذة ماتزال مفتوحة / واحد الجواسيس يسترق السمع الى حوار بين اثنين حول حرية المرأة وبرامج التلفزيون / " فاشية عادية " كان كشفا عميقا /وغامضا غامضا /لكن الفاشية ماتزال عادية ماتزال الفاشية عادية / الفاشية عادية الفاشية /الفاشية / لفاشية / فاشية اشية / شية /ية / ة .



الحوار المتمدن-العدد: 1240 - 2005 / 6 / 26 - 09:16
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...